
الجزء الأول 1️⃣ والثاني
صخب وضجيح ورقص وضحك ..سكر وعربدة ..كانت مجدولين تراقب كل ذاك ..وتشعر أنها لا تنتمي إلى هذا العالم ..فلماذا قدرها جعلها تغوص في بحر عميق من التيه والضياع لدرجة أنها ابنة إحدى الراقصات المشهورات؟؟! ..الكل يسعى إلى الشهرة تقريبا ويستأنس بها ..ولكن شهرة و شهرة تختلف من حيث نظرة المجتمع ..فأن تكون مشهورا بالتمثيل أو الغنى أو السياسة ذات الكف النظيف النادر يختلف عن شهرتك في السرقة أو الرقص المبتذل !!..كل الوقت كانت مجدولين تشعر أنها غريبة عن هذا العالم وتشعر بالنفور كلما قام أحد زبائن المحل بالتصرف بطريقة غير لائقة ..وعندما واجهت أمها بحقارة عملها ..أجابتها:
-هذا الحقير هو من جعلك تصلين إلى الجامعة ..هذا الحقير هو من أمن لك اللباس والمسكن والمأوى ..هذا الحقير جعلك إنسانة محترمة بمالك ..
-لكني لا أريد كل ذاك ..أنا أريد أن أفتخر باسم أمي.. فزملائي في الجامعة لا يعرفون من أكون ..وأتهرب منهم دوما عندما يطلبون مني زيارتي ..لا أريدهم أن يروا هذا العز الذي يغرقني ..
-مجدولين !!كل ما أستطيع أن أقدمه لك قد فعلته ..إن كنت تخجلين بعملي فاستأجري منزلا خاصا بك ..وابتعدي من هنا !!
وعندما سمعت مجدولين تلك الكلمات شعرت أنها جرحت مشاعر والدتها التي أخفت دمعتها بينما كانت تحاول الخروج من الغرفة ..فلحقت بها مجدولين وعانقتها بشدة وقالت :
-أنا آسفة لم أقصد إيذائك أبدا ..ولكن أرجوك أن تتركي هذا العمل ..وأنا سأجد عملا مرموقا ..ونتخلص من هذا العبء الثقيل الذي يثقل كاهلك قبل كاهلي ..
-لن تجدي ما يسد احتياجاتك ..أما عن نفسي فأنا راضية بهذا ..وقد اعتدت على النظرات والشتائم ..
-حسنا لن أحدثك عن عملك مجددا ولكن حدثيني عن أبي ..أين هو؟؟!!
-لقد مات !!
-أين أهله ؟؟
-ماتوا جميعهم !!
فصرخت من ألم الفضول والشغف وأجابتها بانكسار:
-أمي!!!
-ليس لدي أي كلام آخر ..
-بكل الأحوال أنا آسفة ..لن أخرج من المنزل قبل أن أرى ابتسامتك ..
-لا تقلقي أنا بخير ..
وخرجت مجدولين من المكان وهي لا تعلم أين وجهتها.. صحيح أنه لديها الكثير من الأصدقاء والصديقات ولكنها لم تخبر أحدا عن وجعها يوما خشية الذل والعار وتركها بطريقة مقيتة ..فما كان منها إلا أن ذهبت إلى الحديقة العامة وجلست تتأمل الأشجار الوارفة الظلال والتي تعانق السماء.. ولم تلتفت إلى صراخ الأطفال كعادتها ..أو مراقبة المارة ..فقد كانت تفكر في حالتها وحالتها فقط ..إلى أن اقترب منها بائع الورد وقدم إليها وردة حمراء وهو يقول لها :
-كوني شجرة يا وردة الحديقة !!
فحدقت به باستغراب ..ما بال هذا البائع يخفي وجهه بقطعة قماش سميكة في هذا الحر ..أتراه يخفي ما يخجل منه كما فعلت هي ؟
فتسمرت عيناها للحظات توقف الزمن عندها ..ثم همست:
-شجرة !!ووردة الحديقة !!ماذا تقصد أيها البائع ؟
-ستعرفين هذا قريبا أعدك بذلك ..ولكن ابتسمي الآن كي يبتسم الكون معك ولأجلك ..
-يا إلهي وهل ابتسامتي تعني لأحد ..بكل الأحوال أشكرك من كل قلبي ..وليس دائما ما يُرسم على الوجوه يكون مصدر القلوب !!
-بلى ..إن ازلت الغبار عن بصيرتك وقلبك ستجدين الكون كله يتفاعل معك ..أشعر بك جيدا ..تقبلي مني هذه الوردة كهدية ..إنها معطرة ورائحتها زكية جدا ..مع أنها صامتة ..
وبعد أن أمسكت الوردة ..غادر البائع الغريب ..ليتركها تتأمل تفاصيل التي بين يديها وكأنها تلامس وردة لأول مرة في حياتها ..ثم تنهدت بعمق ..وعادت إلى منزلها وهي تفكر بكلام البائع ..طبعا معه حق في كل ما يقول أو يخطر إلى باله فهو لم يعش مكانها يوما ومن مثلها؟؟!!
ارتمت إلى سريرها وهي لا زالت تسمع صوتا خافتا من الموسيقى وضحكات حركتها كؤوس الخمر ..وتمتمت لنفسها وهي تحتضن وردتها :
لابأس يا مجدولين ..سترتاحين يوما ما أعدك بذلك ..
ثم استسلمت لنوم عميق ولا زالت الوردة تزين يدها ..وها هو الصباح يطل بهدوئه في ذلك المكان ..ليخبرها أن الجامعة قد فتحت أبوابها.. ونظرت إلى هديتها الغريبة القريبة ..ثم وضعتها بين كتبها ..وحضرت نفسها لتذهب إلى جامعتها ..وما إن خرجت من غرفتها حتى وجدت أمها.. نائمة على الكنبة وهي لا تزال ترتدي بدلة الرقص ..وفوضى السهر تعم المكان ..فأدارت وجهها وتمنت لو يختفي هذا المشهد من ذاكرتها إلى الابد ..وانطلقت إلى جامعتها ..وهي تنظر إلى الأشجار التي تحيط حرم الجامعة ..وتتأملها بعمق وكأنها تراها لأول مرة ..وتدحرجت دموعها دون أن تفهم السبب ..ثم قالت :ليتني كنت مكانك ومثلك ..
وفجأة اجتمع زملاؤها وزميلاتها حولها ..ويبدو أنهم قرروا قرارا خطيرا وهو زيارتها في منزلها ..وشعرت بالإحراج ولم تعرف بماذا تجيبهم ..حتى قال أحدهم :
-تعالوا إلى منزلي غدا ..ولنؤجل ذهابنا إلى منزل مجدولين ..!!
ولكن مهلا هذا الصوت ليس غريبا عنها ..وكيف عرف اسمها.. .لقد سمعته من قبل بالرغم أنها لم تنتبه لزميلها هذا ولا تعرف اسمه حتى ..كل ما تعرفه هو صورة وجهه من البعيد ..ما باله يلتف حولها مع المقربين منها الآن.. ولكن اقتراحه أنقذها ..حيث وافق الجميع على ذلك ..وقال أحدهم :
-لا تظني يا مجدولين أنها ستهربين منا ...نريد أن نتعرف إلى عائلتك ..
-حسنا ..يوما ما سيكون ذلك ..
وقال زميلها :
-أرجو حضورك غدا إلى منزلي معهم ..هذا يسعدني حقا بالمناسبة اسمي سامر إن كنت لا تعرفين ..
- سأحاول ..
-بل ستحضرين ..فأنا أوقن أنك تستطيعين ذلك !!
واستغربت مجدولين كلام سامر ..كيف يحدثها بهذه الطريقة وكأنه يعرفها منذ زمن ..
ثم استأذنت من الجميع ..وتوجهت نحو القاعة بجسدها إلا أن تفكيرها في مكان آخر ..فهي مسجونة بحالة والدتها وطريقة عيشها وكيف ستتخلص من هذا المأزق الآن ..ماذا لو كان والدها حيا هل كانت أحوالها ستتحسن ..ولماذا أمها ترفض التحدث عنه ..وقد سجلتها باسم خالها الذي توفي منذ فترة قصيرة ..بسبب جرعة زائدة من المخدر ..يا إلهي ها هي تغرق في بحر ملوث مجددا ..كيف ستخرج منه الآن ومن سينقذها ؟؟
وبعد عدة ساعات انتهى الدوام ولا زالت الدوامة تحيط بها ..وخرجت من المكان بخطوات متثاقلة ..لقد أنقذها سامر هذه المرة ..ولكن ماذا بعد ذلك ؟؟ووقع نظرها على الوردة الحمراء.. وابتسمت متذكرة قول ذلك البائع بأن تبتسم ليبتسم الكون معها ..
البائع !!!يا إلهي لقد تذكرت الآن ..صوت البائع يشبه صوت سامر إلى حد بعيد ..أيعقل أن يكون هو ؟؟؟!!ونظرت حولها لتجده جالسا على إحدى المقاعد ..وإلى جانبه أحد زملائه ..فاقتربت منه بخجل ..ثم قالت :
-هل يمكننا التحدث قليلا لو سمحت ..
فوقف أمامها وهو يدرك أنها عرفته ..وإن أخفينا الملامح أحيانا لا بد وأن تفضحنا بصماتنا ..
ثم قال بثقة وقد بدأ يمشي إلى جانبها:
-أعلم ما ستقولين !!
-تعلم!!
-نعم!!!
-هذا يعني أنه أنت!!
-نعم!! وقد فرحت كثيرا عندما رأيت وردتي بين كتبك !!
-وهل أنت بائع ورد حقا !!
-بل واهبا لها لمن يستحقها فقط ..
-لكنك لا تعرف عن حياتي شيئا !!
-ومن قال لك ذلك ..أعرف من تكونين ..وأعرف مما تخجلين ..لذلك أنقذتك اليوم ..ولكن عليك إنقاذ نفسك من تفكيرك هذا ..
-أتعلم عني كل شيئ ..ولا زلت تريد التحدث إلي ؟؟
-ولماذا لا أفعل ؟؟!أنت فتاة مؤدبة ..ومجتهدة ..وجميلة ..والكل تواق ليعرف عن حياتك الخاصة ..
-وكيف عرفت عني !!
فقاطعها قائلا :
-مجدولين !!!إياك أن تخجلي من أي شيئ في حياتك ..سواء اقترفته بيدك أو كنت بريئة منه ..فمن يريدك بصدق ..سيبقى إلى جانبك ويتقبلك كما أنت ..ومن لم يفعل فهذه مشكلته ..
-ولكني أنا نفسي أتضايق مما أنا فيه ..
-تستطيعين تغيير أمور كثيرة في حياتك ..عندما تقررين أن تصادقي نفسك ..
-وكيف أفعل هذا ..ما هذه اللغة الغريبة !!
-لماذا تريدين أجوبة سريعة ..ألا تريدين التفكير قليلا ..
-آسفة ..أنا مشوشة التفكير الآن ..وأعتذر إن سببت لك الإزعاج ..
ثم همت لتغادر مسرعة وهي تحبس دموعها بين مقلتيها ..ليرميها بكلمته مجددا ..كوني شجرة يا مجدولين ..!
وأكملت مجدولين طريقها ..لتتأمل الأشجار مجددا ..وتهمس :مجنون كيف أكون شجرة ؟؟
وفجأة هبت ريح خفيفة لتحرك أوراق الشجرة التي أمامها ..وتعيش مجدولين في لحظة صمت وتأمل مع حفيف الأوراق ..ثم أخذت نفسا عميقا ..وبدأت تنساب أنفاسها شيئا فشيئا لتقترب من الشجرة التي أمامها وتعانقها دون أن تلتفت حولها وكأن الزمان والمكان قد توقفا هنا ..وبكت وبكت وبكت حتى أسقت الشجرة من دموعها الحرة ..ثم أخذت نفسا عميقا ..وتلذذت بلحظة السكون تلك ..وشعرت بارتياح عجيب.. ترى ما الذي حصل وما هذا السكون الذي حل عليها فجأة ..إنها كالشجرة ساكنة لا تحركها إلا الرياح ..نعم الرياح هي أفكارها السوداء ومع ذلك بقيت صامدة ثابتة ..تعطي الثمر والفيء وإن تلقت صفعات المحبين ..وفي فصل الشتاء تأخذ هدنة لتستعيد عافيتها ..فيأتي الربيع لتزهر مجددا ..إنها تعلمنا أن الوقت عامل مهم جدا في انسياب المشاعر داخلنا ..فلا داعي لنقمع أنفسنا عن أي شيئ ..ولنفكر بوعي مثل تلك الشجرة التي ورثت الحكمة عن أجدادها وعايشت الأجيال مند بدء الخليقة ..واحتفظت بأسرارهم داخل جذورها على الرغم من بعض الآلام التي يسببها لها البشر ..وليس هذا وحسب ..فعندما تموت الشجرة يستفيد من حولها من حطبها بأمور شتى من زينة إلى تدفئة ♨ إلى حاجيات أساسية ..فهي لم تعش عبثا حتى بعد موتها… الآن بدأت مجدولين تفهم ما معنى الشجرة ..وماذا كان يقصد سامر بذلك ؟؟ولكن من أين له بكل هذا الهدوء والصبر والحنان ..إنه شاب متصالح مع نفسه بلا شك ..وإلا لما طلب منها أن تصادق نفسها ..
اوووووه صداقتها مع نفسها أمر آخر لا بد منه..
والآن لا بد أن تعود إلى منزلها ..وإن كانت الأجواء مشحونة بالطاقات السلبية لكنها ستعود فليس لديها اي مكان آخر تذهب إليه ..وهنا ستحاول أن تتقبل واقعها كما هو وتتعايش معه ..فما معنى أن تكون حزينة ومستاءة ومنزعجة كل الوقت ..ما فائدة كل هذا ؟؟بالطبع لا فائدة من ذلك ..ولكنها مشاعر لا بد أن تأخذ حجمها وطوبى لمن عرف كيف يتعامل معها.. وما إن وصلت إلى المنزل حتى شعرت باختناق مميت يكاد يفتك بها ..ألقت تحيتها على أمها التي يبدو عليها التعب باقتضاب ..وأكملت طريقها ..فنادتها أمها :
-ألا تريدين أن تتعرفي إلى عائلة. والدك ؟؟أو إلى والدك حتى ؟؟
فنظرت خلفها وهي لا تصدق ما سمعته أذناها للتو ..وقالت بهمس :
-أنا
أسمع!! والدي لا زال حيا؟؟هذا ما كنت أشعر به منذ زمن !!!أين هو؟؟