روايةمتعة السالكين 9..
الجزء التاسع
بقلم ليلى مظلوم
وأكملت جدتي :وصيتي لك يا نور أن تطالبي بحقك دوما ..ولا تفعلي ما فعلته معي ..فالمسجون البريئ يضيع حقه إن لم تعلُ صراخاته ..ولم أنتبه إلى
هذا الامر إلا منذ شهر تقريبا ..وأنا أفكر في حالنا أنا وأنت وأم أحمد ..إن مت أنا فكيف ستكملين حياتك ..وأنت ضعيفة ..نعم ضعيفة بسببي أنا لأنك لم تتعرضي لقساوة الحياة وجمالها كما يجب ..
لم أصدق نفسي بعد سماع هذا الكلام ..هل عادت الجدة إلى رشدها ..هل سأرى النور ..وأخرج إلى المنتزهات مع أصدقائي ..هل سأتعلم السباحة
وأمارس الرياضات المختلفة ..والأهم من كل ذلك هل سأكمل تعليمي ..نعم أنا أستحق كل ذاك ..لم أدرِ حينها ..هل أضرب جدتي
بسوط عذاباتي ووحدتي ..أم أشكرها لأنها قررت إخلاء سبيلي ..هل أنا مصابة بداء متلازمة ستوكهولم ..أم أن الأمر يختلف هنا ..فجدتي خائفة علي حقا ..ومصابة بداء متلازمة ليما ..
لقد. تذكرت البحر .نعم البحر كم أتوق لرؤيته وجها لوجه ..لم أعرفه إلا من خلال الصور
وأحاديث الشعراء والكتاب والعشاق.. تركت الحضن الذي بات دافئا ..وتوجهت إلى غرفتي مباشرة كالمنتصرين في الحروب ..وفتحت النوافذ على مصراعيها ..
.ها هي أشعة الشمس تزور غرفتي ربما للمرة الاولى في حياتها ...حملت قطعة قماش صغيرة. ..وبدأت أنفض الغبار عن السرير والأثاث الباقي ..لم أر شيئا يتطاير فأم أحمد كانت كفيلة بجعل المنزل يعج من النظافة
بسبب التعليمات الصارمة من جدتي ..نظرت من النافذة إلى الشارع لأراقب المارة وابتسامتي لا تفارق وجهي ..ثم أشغلت المذياع وبدأت أرقص فرحا… أردت أن يعلم العالم أجمع أنني أصبحت حرة ..ولكن ما أحزنني أنه كان يمكنني فعل
ذلك بكل بساطة ..ماذا ستفعل تلك العجوز لو خرجتُ رغما عنها ..أو حتى خفية عنها ..لقد اكتشفت في لحظة متأخرة أنني حبيسة تفكيري وليس المنزل ..وهذا أصعب سجن قد يَزُج به الإنسان نفسه عامدا متعمدا ..
لم أكن أعلم أنه لدينا حديقة جميلة بهذا القدر إلا عندما خرجت إليها.. وعند خروجي من الباب ورؤية النور لم أستطع أن أفتح عيناي على مصراعيهما فقد ضايقتني أشعة الشمس لبرهة من الزمن ..ولا أبالغ إن أخبرتكم
أنني تنشقت رائحة الورود وردة وردة ..وأمسكت التراب بيدي ثم نثرته حولي ..ياااااه كم هي جميلة رائحته ..احتضنت نفسي واحتضنت الأشجار ..ورأيت أرجوحة قديمة قد عُلقت بين شجرتين عجوزتين ..فجلست عليها وبدأت أسابق الهواء وأنا أتذكر عندما كانت تلاعبني بها جدتي ..قبل الحادث
الأليم… أغمضت عيناي علي أنسى ..إلا أن صوت سهى المتلهف قد أيقظني مما أنا فيه .:نووووور ماذا تفعلين هنا ..هل تعرف جدتك بهذا ؟؟
-نعم هي من طلبت مني ذلك !!
-أنت تمزحين أليس كذلك ؟
-لا بل سمحت لك الحضور إلى هنا ساعة تشائين ..المهم ألا تقتربي من غرفتها الخاصة ..حتى أنا أستطيع الخروج وكل ما علي فعله هو تعقيم يداي
أمام عيناها إن أردت الدخول إلى غرفتها كما تفعل أم أحمد ..اووووه أم أحمد لقد تذكرت ..علي أن أوقظها من نومها الآن حتى تراني وأنا في هذه الحالة ..بالمناسبة هناك أمل كبير في رؤيتها لولدها..
-يبدو أن مفاجآتك كثيرة هذا اليوم ..
-نعم ..وهناك أمر آخر سأخبرك به بعدما أوقظ أم أحمد ..انتظريني المفاجآت كثيرة ..
ثم توجهت نحو الباب ..وما إن وصلت إليه ..حتى نظرت إلى الوراء وتنفست بعمق غير مصدقة أنني خطوت خارجا ..وأكملت طريقي وأنا أدندن .
.حتى وصلت إلى الغرفة وكانت المفاجاة ..لقد تبددت فرحتي بعد المشهد الذي رأيته ..أم احمد ملقاة على سريرها وصورة
ولدها بين يديها ..اقتربت منها بقلب مذعور وناديتها ..ولكنها لم تجبني ..زاد خوفي وتسارعت نبضات قلبي ..ثم هززتها بقوة وقلت بصوت مخنوق :أم أحمد ..أم أحمد ولكن لم ألق
منها إلا الصمت ..لقد فارقت الحياة. ..وصرخت بأعلى صوتي حتى حضرت سهى إلى المكان ..وجدتي نادت من غرفتها :ماذا هناك يا نور ؟؟اجيبيني ..
استسلمت لبكاء عميق وقلت: لقد ماتت المسكينة على أمل لقاء ولدها ..ربااااه ما هذه الحياة الغريبة ..لقد فات الأوان ..
لم أدرِ ماذا أفعل ..واتصلت سهى بخالي وصوتها يرتجف من الألم ..وحضر إلى المكان ليقوم بواجب العزاء.. وبقيت جدتي وحيدة في غرفتها ..ولم
تواجه أي أحد من المعزين .بقيت حبيسة غرفتها وهي تبكي صديقتها الدائمة بحرقة ..وتذكَرت أبي حتى ساءت حالتها النفسية ..ولم أشأ أن أتركها لوحدتها فذهبت إليها ..وقلت بصوت خجول: هل أستطيع النوم إلى جانبك هذه الليلة ؟؟
أجابتني بصوت تختقه العبرة :مسكينة ..مسكينة ..كان تطمح أن ترى ولدها العاق ..وهو لم يدرِ لحد الآن بوفاتها ..أليس الأجدر أن يكون هنا في هذه الظروف ؟؟
وبعد عبارة جدتي تذكرت هاتفي لقد نسيته في غرفتي.. كنت مشغولة. كل الوقت بحزني وبواجب العزاء ولم يتسنّ لي فتحه ..لا بد وأن سامي قد اتصل بي مرارا ..وهو الوحيد القادر على إخبار صديقه بفاجعة والدته ..
ثم توجهت نحو غرفتي.. لأجد الطبيب وقد اتصل بي مرات عديدة ..وأرسل لي رسالة :لا أعلم سبب عدم ردك عليّ..ولكن إن كان بسبب رف
ضك إياي أجيبيني ...ولا تتركيني لحيرتي ..في نهاية المطاف هذا حقك ..ولكن ليس من اللائق أن تتجاهلي اتصالاتي ..
فاتصلت به مباشرة وأجابني بصوت قاسٍ:الحمدلله على سلامتك أيتها العروس ..
