رواية 🌹هيلينا 🌹
الجزء الأول .. والثاني
بقلم ليلى مظلوم
كان أسعد في الخمارة يرقب القادمين والراحلين فردا فردا ..تناول الكأس الأول والثاني والثالث ..إلى أن خارت قواه ..وخارت معها ملاحظته الشديدة ..وعاش في عالمه الخاص ..وزوجته المسكينة كانت في
المنزل خائفة وتترقب حضوره الغير مرغوب فيه عندما يكون في حالة سكر شديد ..لأنه في تلك الحالة يتحول إلى وحش كاسر ..لا يلتفت إلى أي شيئ يكون في طريقه ويرغب
في تكسير الأشياء والصراخ الشديد بالرغم من حنانه الملفت عندما يكون في وعيه.. وهذا ما جعل الزوجة المسكينة تتحمل الأذى إضافة إلى ارتباطها به بوثاق متين ألا وهو الأولاد ..كيف ستتركهم وترحل وهم ثمانية بنات وشابان في مقتبل العمر ..
ها هو أسعد يعود إلى منزله فاقدا عقله ..ولكن ربما للقلب كلاما آخرا ..فبمجرد أن وصل إلى المنزل حتى بدأ يصرخ ويصرخ كعادته ويرمي كل ما يعترض طريقه ..ووصل به الأمر إلى أن بدأ بضرب زوجته بشكل
جنوني ..ووقف الأولاد مجتمعين خائفين وينقصهم أختهم الصغيرة هيلينا التي تبلغ من العمر سبع سنوات وكانت غارقة في نوم عميق ..إلا أن الصراخ
والعويل حال دون ذلك ..فاستيقظت مذعورة وكانت ترى ذلك المشهد للمرة الأولى في حياتها فهي قد نهلت من عطف أهلها وإخوانها ..ولم يخطر إلى بالها يوما أن الرجل الذي يلاعبها نهارا ..قد يضرب أمها ليلا ..وكانت الأشجع بين إخوانها ..حيث هرعت إلى والدتها وبدأت تصرخ بصوت عال :أتركها… دعها!!!!!! أترك أمي !!حرام عليك!! أنظر إلى الدماء تسيل منها ..
ولكن أسعد لم يكف عن ذلك ..إلى أن احتضنت هيلينا أمها وهي لا تزال تصرخ بأعلى صوتها: دعهاااااااا!!!!!!!!
وتلقت ضربة قوية من والدها لتقع أرضا ..ويغمى عليها ..وغمر البيت في تلك الأثناء لحظات من السكون ..وعاد الوالد إلى رشده كمن نال صفعة قوية ..وصرخت أمها ليس من الألم الجسدي هذه المرة بل من الخوف على ابنتها حيث ظنت أنها فارقت الحياة ..ونادت بلهفة :هيلينا !!هيلينا!!!! استيقظي يا ابنتي !!!هيا قومي ..
ثم هرعت إلى المطبخ لتحضر كأسا من الماء وبدأت ترشه على ابنتها بحنان وعجلة ..كل هذا والكل يرقب ذلك المشهد بحذر ..وأسعد يتمتم :ماذا فعلت ؟ماذا فعلت يا أسعد ؟؟
ولكن الله شاء أن تستيقظ الصغيرة على رشقات حبيبات الماء ..ألم يجعل الله من الماء كل شيئ حي!! ها هو الماء ينقذ الفتاة مجددا ..وينقذ العائلة ..حيث كانت هيلينا تتمتم :أمي !!أمي!! أحبك يا أمي !!
فاقترب منها أسعد واحتضنها بين ذراعيه والدموع تجري على خديه وهو يقول :هذه آخر مرة أذهب بها عقلي !!!!يا إلهي لقد كدت أقتل فلذة كبدي بلحظة
طيش بسبب ذلك السم الهاري الذي لا يقتصر سمه على الجسد فحسب بل على الروح أيضا ..يا الله سامحني أنا آسف ..أقسم أني لن أعود إلى ذلك مجددا مهما كلف الثمن ..
ثم أشار إلى أولاده بالاقتراب منه واحتضنهم واحدا واحدا وهو يقول :أنا آسف ..آسف حقا ..سامحوني ..
ثم نظر إلى زوجته بندم وهو يقول :كيف استطعت أن تتحملي كل ذلك الأذى ..ماالذي يجبرك على ذلك ؟؟
فأجابت باختصار :الذي أجبرني على ذلك هو الذي أجبرك على عدم فعل ذلك يا أسعد.. هنيئا لنا بعودتك !!
-هل كنت قاس الى تلك الدرجة؟؟!!
-بل وأكثر. ..حتى بتنا نكره وجودك في المنزل ليلا ..ولكن للإنصاف فأنت نهارا شخص آخر تماما ..ومن يراك بالحالتين يظن أنه مصاب بالإنفصام ..
أكملت كلامها ثم حملت منديلا وبدأت تمسح الدماء عن وجهها ..فأخذت هيلينا منها المنديل وقالت لها:
دعيني أساعدك يا أمي ..
فتدخل أسعد وأخذ المنديل من الصغيرة ..وبدأ يمسح الدماء عن جسد زوجته ..وهو يترقب الحالة التي أصبح المنزل عليها ..ثم نظر إلى أولاده المختلفي الأعمار وقال بحماس :
هيا لننظف المنزل سوية !!
وشعر الأولاد بأمان ..كانت أكبرهن ثمانية عشرة عاما وأكبرهم عشرون عاما ..وبالرغم من أنهما بهذا العمر إلا أنهما كانا يخافان كثيرا من ردة فعل والدهم لو تجرأ أحدهم على التدخل ..وفعلت هيلينا بطفولتها البريئة وردة فعلها الفطرية ما عجز عن فعله الجميع طوال تلك
السنين التي مضت ..أيعقل أنهم استيقظوا جميعا من ذلك الكابوس ..أم أنه حلم جميل مؤقت ..وعلى ما يبدو أن أسعد اتخذ قراره ..وبدأت بوادر هذا
القرار تظهر عندما أخبر ابنته الكبرى أن هناك خاطبا يريد خطبتها ..وقد قبلت على الفور
..وهذا ما كانت تتمناه… التخلص من هذا المنزل !!!عل والدها يرجع لعادته القديمة فوافقت
بحياء دون أن تعرف من هو الخاطب حتى.. وازدادت إصرارا عندما عرفت أنه رأفت جارهم الوسيم ..وكيف لهذا الجار أن يتقدم بالزواج لابنة شخص كان مدمنا
على الخمرة في يوم من الأيام ..ألا تدين المجتمعات العربية هذا الفعل وتحرمه الأديان ؟ !!!بالرغم أن بعض الصوفيون يعتبرونه إكسير الحياة ..قد أتقبل حبهم للخمر من باب الحرية
العقائدية ..ولكن بشرط ألا يتعدى ذلك حريات الاشخاص الآخرين ..فلا غضب ولا تمرد ولا تحطيم أجساد أو قلوب ..والباقي ليس من شأننا أليس كذلك ؟
؟
وتزوجت الفتاة الكبرى من جارها ..وقد كانت الخطبة مدتها قصير
ة جدا ..ويجدر الذكر أن هيلينا بعد تلك الحادثة أصبحت مدللة العائلة فهي السوبر وومن
التي أنقذت عائلتها من ذلك السم الذي يسم العلاقات عندما يدخل إلى المنزل ..
وقد مرت خمس سنوات هادئة تخللها الكثير من الحب والحنان ..إلى أن ذهبت هيلينا ذات يوم إلى ملعب كرة القدم حتى تشجع فريقها المفضل
برفقة إخوتها ..وبينما كانت تصفق بحرارة ..ومشغولة بالتشجيع اقترب أحد أصدقاء إخوتها منهم وهو يقول :من تلك المجنونة ؟؟!!!
وعندما سمعت هيلينا بتلك الكلمات بالرغم من كل الضجيج الذي يحدثه المكان وتحتمه
المناسبة ..توقفت فجأة ..ونظرت إلى الرجل باستغراب ثم قالت لأخويها: ما بالكما أجيباه من تكون تلك المجنونة !!
فضحك أخويها وقالا بصوت واحد :إنها أختنا هيلينا المدللة !!
-يا لجمال اسمها ..ولكن كم تبلغين من العمر يا هيلينا ؟؟؟ستة عشر سنة ؟؟
فأجابت باقتضاب: ناقص ثلاثة ..
-أووووو تبدين في سن الزواج ..ولكن يبدو أنك مدللة فعلا !!بالعموم أنا إسمي هادي… ويسرني التعرف إليك !!!
ثم التفت إلى صديقيه وأكمل :
كنت أفكر حقا في زيارتكما الفترة المقبلة ومن حسن حظي أني رأيتكما هنا !!ولكن أخبراني كيف حال والدكما ؟؟
فأجابت هيلينا ببراءة :ومن أين تعرف والدي ؟؟
-لقد كان صديقا لوالدي منذ زمن ..وكانا يسهران سوية ..ولكنه ترفع عن ذلك منذ خمس سنوات تقريبا ..ولم أعد أرى أخويك حتى… .لا أدري ما هذا التخاطر بيننا ..؟
فأجاب أحد الأخوان بابتسامة :أنت مرحب بك في أي وقت يا هادي ..نحن بانتظارك ..
وأشاحت هيلينا بنظرها عنه وأكملت تشجيع الفريق بصوت طفولي بريئ ..لقد كانت طفلة حقا ..ولكن على ما يبدو أن هادي كان ينظر إليها بطريقة
مختلفة ..وشعر تجاهها بشيئ من الجاذبية ..وقد أصر على زيارة أخويها من أجلها هي لا من أجلهما هما !!..
بعد عدة أيام ..كانت هيلينا تستمع إلى الموسيقى وتحاول أن تتعلم الرقص ..وذلك داخل المنزل ..أمها مشغولة في المطبخ ..وأخواها في الحديقة
الخلفية ..وأخواتها يتوزعن ما بين الجيران والصديقات..ووالدها في العمل ..ودق الباب عدة. طرقات ..ولكنها لم تسمع في بداية الأمر ..إلى أن اقتربت برقصها من الباب ..وفتحته صدفة لتجد هادي أمامها ..فخجلت منه وقالت له :ألست ذلك الشاب ..؟
-بلى أنا هادي ..هل أنت معتادة على الرقص هنا وفي الملعب أيضا لا أدري لماذا تغضبين عندما أقول لك مجنونة !!
-وهل الفرح ضرب من الجنون ..إن كان كذلك فأهلا بالجنون ..
-أين أخواك ؟
-إنهما يتسامران الأحاديث في الحديقة الخلفية ..
-وهل أعرف أنا أين تكون ؟؟
فحدقت به للحظات ثم قالت: حسنا الحق بي يا سيد هادي !!
وووصلت إلى هناك بخطوات سريعة ثم نادت :مصطفى ..أيمن تعاليا ..انظرا من أتى لزيارتكما !!
ورحب الشابان بضيفهما ..ثم طلبا من أختهما أن تقوم بواجب الضيافة ..فتذمرت باطنيا
ثم قالت لنفسها :صغير القوم خادمهم ..ستة أخوات في المنزل وكلهن خارجه وأنا من علي الاهتمام بالضيوف ..ولكنه شاب وسيم لابأس بذلك ..
وترددت زيارات هادي إلى ذلك المنزل كثيرا ..ولاحظت هيلينا ذلك ..بل وأحبت ذلك أيضا ..وكانت تنتظره أحيانا ..وترقب طلته البهية ..يبدو أنه حب
المراهقة ..فكيف لفتاة في عمر الثالثة عشر أن تميز بين الحب والإعجاب والاهتمام ..والأخير كان يرمقها بنظرات حب وشوق ..ويحضر إليها الهدايا من ورود وقارورات عطر ..
فاستساغت ذلك كثيرا ..وذات يوم ..كانت تنتظره كعادتها ..فهي تعرف متى سيحضر بناء على قوله هو ففي كل مرة يقول عند رحيله سأحضر
في اليوم كذا ..قاصدا إسماع هيلينا ..ووقعت في فخه ..وعندما أطل بجسمه الرياضي وابتسامته العريضة ..أصابتها عدوى الابتسامة مباشرة ..وعندما اقترب منها قالت له :أيمن في الداخل بانتظارك ..
-ومصطفى ؟
-لقد خرج لزيارة أختي ..لن يتأخر ..
-هيلينا ..أتعلمين كم أنت جميلة ؟؟
وهنا احمرت وجنتا التي أصابها الغزل ..فأكمل ..
-وتصبحين أجمل عندما تحمرّ خدودك ..!
-شكرا لك ..
-أتعلمين أن أكثر زياراتي إلى هنا بسببك !!
-بسببي ؟
-نعم!!
-لماذا ؟؟
-لأني أحبك يا هيلينا المجنونة !!هل يوافق أهلك على أن تخطبي وأنت في هذه السن ؟
-الرأي رأيي وأبي لا يرفض لي طلبا ..وابنة عمي قد تزوجت في مثل عمري أيضا !!
-مممم حسنا ..أتقبلين بي شريكا لحياتك .؟؟
فأجابت ببراءة :نعمممم أقبل ..
-هلا أخبرت أهلك في الأمر ..ولكني رجل فقير !!هل سيؤثر هذا على علاقتنا ؟؟!!
-المهم أن تكون حنونا معي وتساعدني في تنظيف المنزل وتحضر لي الشوكولا ..
فضحك هادي ثم اقترح على هيلينا أن تخبر أهلها عن الموضوع حتى يأتي بوالدته لتخطبها له ..وقبلت اقتراحه ..
وبينما كانا يتحدثان حضر أيمن ليقطع عليهما الحديث ..وهو يقول: هادي!!! تفضل ..
-حسنا ..شكرا لك ..
ثم التفت إلى هيلينا وقال لها:
-أمي تناديكِ ..لم أنت واقفة هنا ؟؟
-حسنا سأذهب إليها ..أظن أن أختى منى ستحضر مع مصطفى ..كم أنا مشتاقة لها !!
ولم تكمل كلامها حتى أطلت منى وهي تحمل طفلة بين ذراعيها.. وتجر ولدا آخر عمره أربع سنوات ..ومصطفى يحمل حقيبتها الخاصة ..وهو يرحب بهادي ..ويعرّفه إلى منى ..التي نظرت إليه باستغراب ..ورحبت به ..وبعدها دخلت إلى المنزل طالبة من هيلينا اللحاق بها.. وما إن دخلتا حتى قالت لها :
ماذا تفعلين خارجا ..لقد أصبحت في سن عليك الانتباه لتصرفاتك ..
-لم أفعل شيئا ..كنت أتحدث إليه فحسب ..وقد طلب مني إخبار أهلي بأمر خطوبتنا !!
-خطوبتك ؟؟!لا زلت صغيرة على مثل هذه الأمور
-ما بالك أنت لقد حيرتني هل أنا صغيرة أم كبيرة وعلي الحذر
