رواية من أنت
الفصل الرابع
أجابتني الواقفة أمامي بهدوء ..ولا أعلم كيف استجمعت قواها في تلك اللحظات ..فتارة أشعر أنها ضعيفة ومنكسرة ..وأخرى أشعر بقوتها ..يا لسحرها وجاذبيتها إنها تجمع النقيضين ..تعرفت إليها البارحة ..وها أنا اليوم منجذب لكل تفاصيلها ..أريد أن أعرف عنها كل شيئ ..ماذا تحب أن تأكل ..وماذا تحب أن تشرب ..هواياتها المفضلة ..هل لديها أولاد ...أين هو منزلها ..هل تتشاجر مع زوجها ..
ثم وقفت هنيهة مع نفسي وقلت :مالي ومالها ..بكل الأحوال هي امرأة متزوجة ..ولا تبدو لعوبا ..والوصول إلى قلبها أو جسدها شيئ صعب جدا ..ما أغباني كيف أحضرتها إلى مكتبي لأشغل نفسي بها ..وها هي تجيبني بحزم وسخرية :وهل تظنني عارضة أزياء ..أنا مرتاحة بهذا اللباس ..!!
-يبدو أنه ينقصك الكثير يا سيدة لمى حتى تتعلمي ..ألم تري ثياب سماهر كم هي أنيقة ..
-لا ..
-لا؟؟
-أقصد لم أنتبه لأن اللباس لا يعنيني ..بكل الأحوال ..ما رأيك أن تبدل بيني وبين سماهر ..فهذا يرضيها ويرضيني.
-ولكنه لا يرضيني أنا ..ولا أحب أن يتتدخل أحدهم في اتخاذ القرارات التي تخصني ..
ثم قلت بجدية أكثر وأنا أحاول الجلوس على مقعدي :خذي هذه الورقة سترشدك إلى كل ما يتوجب عليك فعله ..وأرجو أن يكون لباسك غدا أكثر ملاءمة ..
فأخذت لمى الورقة ..ولم تعلق على كلامي ..وخرجت من مكتبي ..وهي لا تعلم وجود كاميرا مراقبة في مكتبها.. وحدثتني نفسي أن أراقب ردة فعلها عندما تقرأ الورقة بعيونها وتلتهمها روحها ..
كانت صامتة ساكنة ..واتبعت التعليمات كمن يقرأ كتابا مقدسا ..من ترتيب الأوراق والحاسوب ..وتوضيب أغراضها الخاصة ..ولا بد انها تصفحت كيفية التعامل مع الأشخاص الذين يطلبون رؤيتي ..وكيف تتواصل معي عبر الهاتف الذي يصل بيننا فقط ..
ها هو أحد الزبائن قد قدم ..لأرى كيف ستتواصل معه ..لأن العمل وإتقانه هو لعبتي المفضلة في هذا العالم الواسع..
****************
كنت منهمكة في توضيب مكتبي الصغير ..وأتابع التعليمات الموجودة على الورقة ..وقد نسيت العالم الخارجي بكل ما فيه من منغصات أو أفراح ..انصب اهتمامي هنا وهنا فقط لأكون الموظفة النشيطة ..فأنا صاحبة ضمير صاح من جهة. .وأحتاج إلى الترقية من جهة أخرى ..
وفجأة سمعت أحدهم يلقي تحيته :مرحبا !!
فوقفت بسرعة متأهبة لتنفيذ طلبات القادم أو لمساعدته :أهلا..
-هل أنت جديدة هنا ؟
-نعم ..هذا اليوم الأول لي ..
-هل لي برؤية السيد حامد؟
-بالطبع سأتحدث إليه ولكن هل لي بمعرفة اسمك لأخبره به؟؟
-علي البيروتي ..
وهنا حملت السماعة التي تصلني بالمدير وأخبرته بأمر الزبون ..فقال لي: دعيه يدخل ..
فنظرت إلى السيد علي البيروتي بابتسامة التأهيل بالزبائن وقلت له: تفضل . السيد في انتظارك...
مضت نصف ساعة تقريبا حتى خرج الرجل وهو يرمقني بابتسامة الشكر ..وما إن أفل أمامي ..حتى جاءني صوت المدير مناديا :
أحضري لي الملف الذي يخص السيد علي البيروتي ..
فقفزت من مكاني كمن أصابه السحر ..ثم بدأت أبحث عن ذلك الملف ..حتى وجدته أخيرا ..وحملته بين يدي بإحكام ..وتنفست الصعداء ..ثم طرقت الباب طرقات خفيفة.. وبعدها دخلت وسرت بخطوات بطيئة سريعة إلى المكتب ..ونظرت إلى السيد حامد وهو منغمس بقراءة ورقة كانت أسيرة بين يديه ..وقلت له: هذا الملف تفضل !!
فحرر الورقة ..ليسجنني بنظراته الغير مفهومة وقال لي :أعطني المستند رقم خمسة ..
ففتحت الملف وبحثت عن الورقة بيدين مرتجفتين ..وأخيرا وجدت ضالتي ..وقلت له بصوت منتصر :هذه هي تفضل !!
فأجابني باستهزاء :ولم أنت فرحة هكذا ..ابن أختي الذي يبلغ من العمر ثلاثة أعوام قادر على إنجاز ما أنجزته !!
بصراحة فاجأتني ردة فعله ..كيف سأتحمل ردات الفعل تلك لمدة سنة كاملة ..هل هذا هو طبعه أم يخصني بتلك المعاملة ..فأجبت بصوت عادي :
-حفظه الله لكم ..يبدو أنه ذكي مثل خاله !!
صمت الرجل هنيهة مفكرا في كلماتي ..ثم قال وهو يقرأ المستند :لا أدري إن كانت كلمتك إطراء أم مذمة ..
فتجاهلت ما قاله وقلت بصوت حازم هادئ: هل تحتاج شيئا آخر ..؟
فأجابني وهو لا زال ينظر إلى الورقة :ابقي واقفة أمامي ..ريثما أطلب منك الذهاب ..
وأردف قائلا :الآن يمكنك العودة إلى مكتبك ست لمى .عندما آمرك أنا بذلك ..
-تأمرني ؟؟!!!
-ايم ..
فلم أعلق على كلمته الجارحة لي وسرت بخطوات هادئة مغلقة الباب ورائي ..وجلست على الكرسي واضعة يدي على وجهي مستاءة من المعاملة التي تهين كرامتي ..
ثم عاد ليناديني ثانية ..وعدت إليه ووجهي عبوس ليقول لي :أخرجي المستند رقم ثمانية ..
وكان الملف أمامه وباستطاعته إخراجه دون مناداتي ..بدا واضحا لي أنه يريد التلاعب بأعصابي.. ولكني خمنت في تلك اللحظة أنه يريد اختبار صبري إن كنت من النوع المتمرد الذي لا يحبذه المديرون ..فأخرجت الملف في صمت وأعطيته إياه ..
وبدأ يتصفحه كسابقاته من المستندات ..ولم أحرك ساكنة ...فويلي إن سألته المغادرة ..وويلي إن صمتت...بقيت متجمدة بضع دقائق ..إلى أن قال :المستند رق
م أربعة ..وأيضا أعطيته إياه بصمت… وأيضا بقيت كالصنم واقفة أمامه ..ومرت دقائق ثم قال :اذهبي إلى مكتبك الآن ..
وما لحقت أن وصلت إلى مكتبي حتى ناداني مجددا عبر الهاتف ..فشعرت أنه يفعل ذلك عمدا فقط ليستفزني وقد فعل ..فبمجرد أن طلب رقم المستند هذه المرة حتى قلت له :أيهما أقرب إلى يدك ..زر الاتصال أم الملف ..؟
