"وداع يا دنيا وداع على اللي باع ومكملشي، الحياة لو بيك أو من غيرك دي هاتمشي."
كانت تلوح بيديها في الهواء وتتمايل بجسدها برشاقة وخفة وهى تدندن مع أصدقائها على كلمات الأغنية التي رغم بساطة كلماتها إلا أنها وصفت حالها بالتحديد.
أما هو فكان يجلس مع والديه وجدته على طاولة ليست ببعيدة عن موقعها فكان يشاهدها بهدوء وعلى وجهه علامات امتعاض وغضب مما تفعله ومن ذلك الفستان اللعين ذو اللون الأحمر الذى أبرز جمال جسدها ومنيحاته ببراعة..زفر للمرة الألف وهو يتابعها بعينيه التي تشبه الصقر في حدته وهى تتمايل بأريحية وابتسامة كبيرة على وجهها، استفاق من تأمله على لكزات والدته، فانحنى بجسده ناحيتها يحاول أن يسترق السمع لما تقوله بسبب ارتفاع صوت المكبر بطريقه مستفزة.
_ ما تقوم يابني ترقص مع أدهم بدل ما أنت قاعد متخشب كدة.
التوى جانب فمه بتهكم واضح قائلًا وهو يشير على فريدة بسخرية : وأرقص ليه ما كفاية فريدة هانم قايمة بالواجب وزيادة.
امتعض وجه والدته لتقول برجاء : خالد بالله عليك، مش ناقصين نكد، سيبها براحتها.
رفع كلتا يديه قائلًا : منا سايبها براحتها...
ثم اسطرد حديثه بشر : بس والله لأعلمها الأدب لما نروح، على المسخرة دي.
لاحظ ابتسامة والدته ونظراتها مصوبة في اتجاه ما، حول بصره هو الآخر وجدها تتبختر في مشيتها بجانب ذلك الفظ عمار، جز على أسنانه وهو يقوم من جلسته حتى يلحق بهما فوجد يد والده تعيقه ونظرات تحذيرية: خالد لو سمحت اهدى شوية، متبوظش فرحتها.
هتف بتهكم واضح على ملامحه وهو يميل عليه بجذعه العلوي ويقترب من أذنيه : ده أنا هاقتل فرحتها، مش هابوظها بس.
غادر القاعة و جاب المكان بعينيه الحادة باحثًا عنها، حتى وجدها أخيرًا تقف معه وهى تلتهم حلوى غزل البنات بسعادة وطفولة، اقترب منهما وهو يضع كلتا يديه في جيب بنطاله ووقف بطوله الفارع وجسده القوي ينظر بتحدٍ لعمار ثم قال : خدي البتاع اللي بتاكليه ده وادخلي جوه يالا.
تجاهلت حديثه ولهجته الآمرة لتقول لعمار بامتنان حقيقي : حقيقي شكرًا يا مارو، أنا كدة خلاص مش زعلانة ومبسوطة كمان.
تحركت أعين عمار بصعوبة عن أكثر شخص يبغضه، ونظر إليها بحب ليقول بنبرة هادئة : أنتي عارفة إن مفيش حد يشغلني عنك، بس دي حالة إنسانية وكان لازم اتصرف..
قطع حديثه يد خالد وهى تقبض بعنف على مرفقها ويجرها خلفه : متقربش ورانا عشان مزعلش أمك وأبوك عليك يا حيلتها.
حاولت الأخرى التملص منه ومن قبضته لتهدر بعنف : خالد اوعى أنت اتجننت، اوعى بقولك.
وصل بها لمكان جلوس عائلته وألقاها بعنف على أحد الكراسي فكانت يد جدتها تتلقاها بلهفة وهى ترمق خالد بقوة، فجلس الآخر بجوارها ثم وضع سلاحه الناري بوقاحة كبيرة على الطاولة ومع هدوء صوت الأغانى وصل صوته جيدًا لهم : وربي وما اعبد، إن ما عديت الليلة دي على خير، وقعدت زي الكرسي اللي هي قاعدة عليه هافرغ البتاع ده فيها وأخلص منها.
وقبل أن يبوخه والده كان عمار تقدم منهم وجذب أحد الكراسي وجلس بجانبهم وسط ترحاب كبير منهم، فكانت نظراته ترسل شرارت التحدي له، وكأنه يقول فريدة حقي أنا ولست أنت أيها البغيض، أما خالد فحاول ضبط انفاعلاته حتى لا يقوم بتفريغ سلاحه به أو إخراج كل غضبه فيه ويقتلع عينيه تلك التي تتحداه بقوة، لاحظ يديها التي تحاول أن تتحرك بسرعة على مرفقها تحاول تهدئته من ألمه الحاد بسبب قبضته القوية، أمعن النظر لدقيقة ثم دقيقتين ثم ثلاث،حتى التفت إليها وهو ينظر لها بصدمة قوية على ملامحه وعيناه تنتقل بينها وبين يداها وتلك الشامة التي تظهر بوضوح من تحت ذلك الفستان،أين كان عقله وهو يسمح لها بتلك" المسخرة" هذا المسمى الذي أطلقت عند رؤيته ليديها..انتبهت على نظراته لتهتف وهى تتحاشى النظر لعينيه : في حاجة إن شاء الله!..
اقترب منها وهو يجز بغيظ واضح على أسنانه : ده في حاجات، حاسبنا في البيت اهدي أنتي بس، هاتقعدي مكانك واياكي تقومي، هاقتلك صدقيني.
ارتعدت أوصالها من نبرته الغاضبة التي تحمل الشر بين طياتها، ولكنها أرسلت له ابتسامة باردة ونظرات حادة، ولكن في النهاية امتثلت لأمره، فهي تعرف مدى جنونه، وما سيحل بها إذا عاندته وقامت من مكانها، جلست على مضض وهى تتابع رقص أصدقائها بفرحة، فتنهدت بحسرة على فساد تلك الليلة التي خططت مليًا في إخراج ما لديها بها، ولكن مهلًا أيتها الغبية كنتِ متأكدة من فشل تلك الخطة بسبب عناد وغضب ذلك العنيف والغليظ والوقح ظلت ثانية أخرى تحاول في إيجاد لقب جديد له ينضم لقائمتها!!.
وصل بسيارته أمام منزله، ثم هبط منها متوجهًا بخطوات واسعة نحو شقة جدته الأولى، طرق الباب بعنف، فتحت له جدته بعد عدة دقائق قد نفذ صبره بهم، وجد تلك الابتسامة الباردة التي أقسم بداخله أنها الوحيدة التي تستطيع هياج غضبه ووصوله لعنان السماء، وقبل أن يتفوه بكلمة، كانت هي تسبقه بحديثها :_ خالد، عمار جوه بيتعشى معانا وهينام هنا كمان ..
خرجت سبة نابية من فمه، فاتسعت عيناها بصدمة وهتفت موبخة : يا قليل الأدب يا سافل، أنت نسيت نفسك يا واد أنا جدتك.
وقبل أن يتحدث ويحاول التبرير عما تفوه منه، كانت هى تسبقه بلهجتها الحاسمة وهى تشير للأعلى : على فوق يا قليل الأدب أنا هاقول لأبوك يريبك من جديد.
زفر بحنق ثم تحدث محاولًا تهدئة الوضع : يا تيتة هو أنا عيل صغير، تقولي لأبويا إيه بس!.
جذبت ياقة قميصه لأسفل فانحنى قليلًا وقامت بصفعة بخفة عدة مرات على إحدى وجنيته : أنت الظاهر فاكر نفسك كبرت عليا، امشي يا واد اطلع فوق ياقليل الأدب .
قامت بدفعه للخارج وأغلقت الباب في وجهه، فرفع أحد حاجبيه معترضًا على ما حدث، صعد الدرج وصل أمام شقته وجد أمامه والدته تهبط للأسفل، ابتسم بتهكم : رايحة فين يا ماما أنتي كمان.
عقدت حاجبيها وهتفت : نازلة تحت أنام مع ماما وفريده وعمار يطلع ينام هنا!.
قهقة عاليا فزدات من تجعيدة جبينها، فوضعت يديها على جبهته تتحسسه بقلق : خير يابني مالك.
أبعد يديها بضيق وتبدلت ملامحه حتى هتف بهمس يصل إلى مسامعها : كويس أنكوا فاهمين في الأصول والصح، أنا بدأت أشك فيكوا والله.
تخطاها وهو يرمقها بضيق، فهزت رأسها بأسف وقالت : الواد اتهبل ولا إيه!.
وقفت مع عمار في بلكون المنزل واستندا على حافة السور ينظران أمامهما والصمت سيد الموقف، حتى قطع عمار هذا الصمت بقوله : كنتي قمر في الفستان النهاردة.
ابتسمت بخجل وقالت وهي مازالت بصرها أمامها متعلق بلاشئ : شكرًا.
عاد وتحدث مجددًا : فريدة هو أنتي ده كله مش ناوية تديني فرصة!.
التفتت له وقالت متلعثمة بعض الشئ : عمار أنا، يعني..
فاجأها بقوله : لسه بتحبيه؟!.
نظرت أمامها مجددًا وتنهدت : أبقى بكدب لو قولت لأ ده هما أربع شهور بس اللى عدوا ، عمار ...خالد ده حب الطفولة والمراهقة وكل وقت، مش سهل أنسى، بس الأكيد إن مبقتش زي الأول بجرى وراه، أنا هادفن حبه في قلبي واحدة واحدة لغاية ما يموت جوا.
لمع بريق الأمل لديه وقال : طيب إيه رأيك نتخطب مثلًا وأنتي هتنشغلي بيا وهتنسيه.
هزت رأسها بنفي لتقول موضحة بعقلانية : ده يبقى أكبر غلط، اليوم اللي هاحط دبلتك في إيدي هيبقى قلبي ده ملكك، غير كدة لا ياعمار هابقى بظلمك وأنت هتظلمني كمان!.
أشار على نفسه متعجبًا : أنا هاظلمك، إزاي بقى؟!.
هزت رأسها بإيجاب : لما تشك فيا كل لحظة والتانية لو خالد كلمني مثلًا!.
صمت لبرهة، ثم رمقها بإعجاب قائلًا : يمكن.
ابتسمت ونظرت أمامها، فعاد هو وتحدث بشئ من الضيق : والله أنتي خسارة في واحد زيه أصلًا، ده واحد همجي ...
لم يكمل حديثه بسبب دلو من الماء سقط فوق رأسه على حين غرة، شهقت بصدمة قوية وهي ترفع عينيها بصعوبة بسبب شدة اندفاع المياه عليهما، فوجدته ينظر لهم من الأعلى وعلى وجهه ابتسامة سمجة!.
ليقول بصوت مرتفع نسبيًا : أوبس هو جه عليك يا عمار ده أنا كنت أقصد أرميه على كلب نتن في الشارع قارف أمي ، فقولت أربيه بطريقتي .
جزت على أسنانها بعنف وغادرت الغرفة متجهه إلى الأعلى وشرارات الغضب تتصاعد بداخلها، أما عمار فوقف مكانه ثابتًا ومازالت الصدمة تؤثر عليه بقوة.
وصلت لباب شقته ودفعته بقوه لتقف في منتصف الصالة قائلة بصوت مرتفع وغاضب : خاااالد.
خرج إليها من البلكون وهو يطفئ سيجارته قائلًا ببرود : نعم!.
اقتربت منه وهي تقول بحنق : نعم إيه يابارد ، أنت اتجننت عشان تعمل كده.
هز رأسه ببرود قائلًا : اديكي قولتي مجنون، فعادي يطلع مني كده٥.
زفرت بحنق، ثم أشارت بإصبع السبابة في وجهه : والله ياخالد لو ما بعدت عني، وشلتني من دماغك أنت حر.
وضع يده على صدره وهتف بتمثيل : يامي خفت أنا كدة...
صمت لبرهة، ثم أزال قناع البرود واحتل مكانه الغضب فتقدم منها وهو يقول : والله أنتي لو ما لميتى نفسك، وبعدتي عن الواد الملزق ده، لأوريكي النجوم فى عز الضهر، أنتي لسه مشوفتيش وشي التاني.
قالت بغضب : ولا يفرق معايا تهديدك ده.
عقدت ذراعيها أمامها لتقول بتهكم : إيه هتعاقبنى بإيه، هاتخطب البت اللي كانت معاك في الكافيه، طب والله أحسن دي حتى شبهك ومن نفس عينتك.
ابتسم فظهرت غمازته قائلًا : طب وأنتي مضايقة أوي كدة ليه وأنتي جايبة سيرتها، بالراحة على نفسك.
نظرت له بصدمة، فرفعت يديها للسماء قائلة بشئ من القهر : يارب خده، يارب.
غادرت الشقة بضيق بالغ، فوصل إلى مسامعها صوته : هياخدني شهيد متقلقيش.
تراجعت عن خطواتها، ألم اعتصر قلبها بقوه فوقفت تنظر لأعلى : يارب لأ، أنا مقصدش.
رجعت تكمل خطواتها وتهبط الدرج فعادت تقف وهى تقول : مش عشاني، عشان خالتي وجوزها وتيتة.
جلس أمام التلفاز بأريحية وابتسامة سعيدة تعلو ثغره، فقطع سعادته دخول عمار، رفع خالد أحد حاجبيه ثم قال بوقاحة : شايفك أخدت على البيت كأنه بيتك، داخل طالع براحتك .
جلس عمار على الأريكة بجانبه متجاهلًا وقاحته ليقول ببرود : عادي، بيت بنت عمى زي بيتي.
كادت أن تخرج من فمه قذائف لتوبخ ذلك المعتوه، ولكنه تراجع وحاول أن يتسم ببعض البرود، قلب في التلفاز بملل، حتى جذب عمار الريموت من يده وأغلق التلفاز تحت صدمة خالد من جرأته قائلًا : أنت عاوز إيه بالظبط من فريدة يا خالد؟!.
وقبل أن يتحدث خالد، كان هو يستكمل حديثه : عاوزها تفضل تجري وراك، عاوز ترضي غرورك بيها، عاوز تحس إن كل البنات بتعشقك، بس أنا عاوز أقولك إن كلهم غير فريدة، وفريدة غيرهم كلهم.
اقترب منه خالد ثم تحدث بغضب مكتوم : أنت أكتر واحد، عارف إني بعاملها غيرهم كلهم، أنا عمري ما تعديت حدودي معاها حتى بحبي ليها، عمري ما اديتها ريق حلو ورجعت سحبته منها، أنا عمري ما كنت بوشين معاها، هي بالذات اللي حقيقتي كلها قدامها، مبحاولش أجمل نفسي، أو أخلي نفسي شيخ السجادة مثلًا، وأنا من جوايا بلاوي، أنا قدامها أنا زي ما أنا ياعمار، ده الفرق اللي ما بينى وبينك.
هتف عمار بعدم فهم أو لنقل أنه تصنع ذلك : قصدك إيه؟!.
ابتسم خالد باستنكار : مش عليا ياعمار، أخبارك كلها عندي، أنت بتكلم بنات وعايش حياتك عادي، وأنا بردو كذلك، بس الفرق إن أنت قدامها قد إيه محترم، قد إيه خلوق، قد إيه بتخاف تجرحها، أنت بوشين وبتتلون، أما أنا حاجة واحدة، شخص واحد قدامها مبتغيرش شايفة فيا عيوبي قبل مميزاتي.
ابتسم عمار بتهكم ثم قال باستهجان : آه وده يديك الحق إنك تعمل اللي أنت عاوزه، وترجع تقول آه منا بحبها وهي بتحبني ومبكذبش عليها وهي عارفة عيوبي، دي تبقى متخلفة لو كانت هتفكر كدة.
هتفت بشراسة من خلفهما وهي تحمل أكواب العصير في يديها : أنتوا اللي تبقوا متخلفين بجد لو فكرتوا إن ممكن أفكر فيكوا يا شوية حيوانات...
قالت جملتها الأخيرة بصرخة عالية وألقت تلك الأكواب أرضًا لتتهشم تزامنا مع تهشم قلبها وتحوله إلى قطع حطام صغيرة من شده جرحهاا!.
رواية حطام فريده
الفصل الثامن
استقل سيارته عائدًا إلى الإسكندرية، وملامح وجهه حزينة بعدما فقد آخر ذرة أمل في توطيد علاقته بها، تذكر انهيارها، وصراخها بهما، لم يقوَ على مواجهتها، وجد أنه من الأحسن الهروب من عينيها التي كادت أن تقتله بعدما رأى بهما الغضب والخذلان، زفر بحنق وقام بضرب المقود بيديه بقوة وهو ينعت نفسه : غبي، مكنش لازم تنساق معاه في الكلام...
.....
أما خالد فكان في حالة هياج شديدة، يحاول الوصول إلى غرفتها ووالديه وجدته يقفون له بالمرصاد، لم يتزحزحوا ولم يؤثر بهم تهديداته وكلامه اللاذع، أما هي فكانت تنتحب بقوة في غرفتها...
_ بقولكوا اوعوا، هو أنا هاكلها، أنا هاتكلم معاها بس.
دفعته والدته قليلًا وقالت : يابني اطلع فوق أنت مش سامع عياطها وصراخها، مش وقته.
ردد والده مؤكدًا على حديث زوجته : آه كلام أمك صح، ابعد يا خالد، البنت عاوزين نشوفها مالها.
عقد ذراعيه وهو يحاول الحفاظ على صبره ليقول : آه طيب يالا خلوني اعدي وندخل نشوفها.
تدخلت جدته بحديثها الحاد : ما هي عمرها ماتفتح طول ما حضرتك موجود، اتفضل اطلع فوق .
حسنًا، لم يعد يستطيع السيطرة على نفسه أو لجم لسانه حتى، فهتف بصوت جهوري قوي حاد وغاضب : أنتوا مالكوا أصلًا، بتدخلوا في حياتنا ليه، مالكوش دعوة بينا، اطلعوا بقى برة حياتي وحياتها، قوتوها عليا بعد ما كانت تحت طوعي، بتخرجوني عن شعوري بمخططاتكوا دي، عاوزين عمار الزفت يخطبها وفاكرينه مثالي وهو ازفت وألعن مني مليون مرة، ابعدوا بقى.
تقدم والده منه ووقف أمامه وهو يتحدث بغضب : أنت شخص مش محترم، والظاهر إن فعلًا معرفتش اربيك.
تقدمت سميرة من رأفت وجذبته بعيدًا عن ذلك الثائر،ثم وقفت هي أمامه لتهمس بكلام يرشق بصميم قلبه : لو عاوز تدخل، ادخلها، بس متبقاش تزعل ولا من كلامها ولا نظراتها ليك، وعلى فكرة بقى احنا ولا خططنا ولا نيلنا وهي قويت وبعدت عنك، لما حست إنه مفيش رجى منك، وديل..
التوى فمها بتهكم وتحدثت بسخرية: أظن أنت فاهم.
اختصر هو الآخر تلك المسافة بينهم، ثم تحدث بهمس حاد ووجه أحمر من شدة غضبه : وعشان أنتي جدتي، مش هاعقب على كلامك اللي زي السم ده.
أنهى كلامه ثم تقدم من باب غرفتها، ثم أخرج مفتاح من جيب بنطاله وقام بفتح الباب بكل سهولة، تحت دهشتهم وأعينهم الجاحظة من وقاحته وجرائته، استفاقوا على إغلاق الباب بقوة في وجوههم، ففزعت سميرة ثم قالت : طب والله يا رأفت فعلًا أنت معرفتش تربيه، شوفوا الواد عمل إيه!.
...
أما في الداخل..
فكانت تلك المسكينة تقف في منتصف الغرفة والصدمة تعتلي ملامح وجهها، لتشير على المفتاح الذي بيده وتقول من بين دموعها: إيه ده!، أنت معاك مفتاح أوضتي.
توقفت لبرهة لتتذكر شيئًا ما ثم قالت بصوت مرتفع : أنت سرقته مني!، ياحرامي.
جلس على فراشها ثم قام بإلقائه أمامها بإهمال ليتحدث باستنكار: حرامي!، لأ طبعًا، هو وقع بس في عربيتي، فأنا احتفظت به مش أكتر.
اقتربت منه لتجذبه عن فراشها وهي تقول بحدة غير معهودة منها : اطلع برة، مش عاوزة أشوف وشك،أنت سبب كل حاجة زفتة في حياتي.
لم يهتم بيديها التي تجذبه بقوة، ولم يتزحزح من جلسته ثم سألها بشئ من الهدوء: أنا سبب كل حاجة زفتة في حياتك، عشان عرفتك حقيقة عمار، زعلانة منه وعليه صح!.
توقفت للحظة ترمقه بصدمة من تفكيره المتخلف، بعد كل ماحدث، وما يجرى لها من عذاب وقهر بسبب حبها له، يدرك هذا الأبلة هذه النتيجة في آخر الأمر، حقًا اللعنة على غبائك، ولكنها وجدت أنها فرصة جيدة حتى تنتقم منه، فقامت بالاقتراب من وجهه وتحدثت : آه يا خالد، بعد ما بدأت أحبه، جيت أنت وهدمت كل حاجة، إيه مستكتر عليا أحب وأتحب.
صمت لثوانٍ يستشف صدق حديثها الذي كان بمثابة سكينٍ قوٍ يغرس بقوه في قلبه، فحركت هي بؤبؤ عينيها بسرعة، فابتسم بمكر، ثم جذبها لتجلس أمامه وهو يقول : كدابة طبعًا، عشان قلبك ده ليا بس.
دفعت يديه التي كانت ممسكة بها، ثم قالت : كتر الإهمال والأسية بيعلموا الجفا، وأنا قلبي ده بقى كله جفا بسببك، رغم إنه كان بدأ يلين تاني بسبب عمار.
أخرج لسانه ثم أشار عليه ليقول بعدها : أنتي عارفه ده، ممكن يغسلك دلوقتي بسبب كلامك الأهبل ده، بلاش اسيبه عليكي هتزعلي مني.
ابتسمت بتهكم : ماهو طول عمره أنت سايبه عليا وبيسمعني كلام زي السم، إيه الجديد يعني، شوفلنا حاجة جديدة.
جذب يديها ليتحدث بهدوء : فريدة سيبك من الخناق دلوقتي، وتعالي نتكلم بهدوء شوية، احنا كبار وعاقلين صح نقدر نتكلم بهدوء ونوصل لحل.
ظهرت علامات الاستفهام على وجهها لتقول : حل!!، ؟.
هز رأسه ليقول بتوضيح : نتخطب قبل ما أسافر.
انتفضت من جلستها، لتقول بعصبية : ده بعدك، فاهم ياخالد، ده بعدك .
حاول لجم لسانه وتهدئة نفسه ثم تحدث مستعطفًا إياها : أنا آه فعلًا لفيت وكلمت بنات كتير بس ولا واحدة حبتها ولا واحدة فكرت أقولها بحبك، وكلهم كانوا عارفين كدة، مكنتش بضحك على حد، أنا كنت واضح وصريح، وأنتي عارفة كويس إني بح...
قاطعته وهى تشير بيديها ثم قالت بغضب : مش عاوزة أسمعها، لأنها حاليًا متهمنيش، فوفرها لنفسك أحسن.
أغلق عينيه بقوة ثم قال وهو ينهض : طيب يافريدة أنتي حرة
كاد أن يخرج من الغرفة ولكنه توقف في اللحظة الأخيرة وتحدث بنبرة غريبة لاشك أنها أثارت الفوضى بداخلها، والصراع ما بين عقلها وقلبها عندما قال : السفرية المرة دي في الشغل عندنا مأموريات كتير ، الله أعلم مين هايعيش ومين هايموت، كنت عاوز لما أموت تبقى دبلتك في إيدي.
كان يتحدث وهو موليًا لها ظهره، أما هي فكانت تقف خلفه وهى تقبض بشدة على طرف بلوزتها، انسابت الدموع من عينيها بسرعة وغزارة لتقول بين شهقاتها : اطلع برة.
توقف للحظة يستشعر بفريدة أخرى غير التى أحبها ويعرف مدى براءو وصفاء قلبها، التفت بنصف جسده يرمقها بحزن لآخر مرة، ثم غادر الغرفة وصعد إلى شقته دون التفوه بأي حديث، قام بحزم حقيبته وقطع إجازته التي لم يقضِ منها سوي يوم واحد، هبط الدرج بسرعة، فوجد والده يقف على أعتاب شقة جدته : خالد أنت رايح فين يابني.
تحدث بكلمات مقتضبة : رايح الشغل، سلام.
خرجت نبيلة وسميرة على صوتهما، حاولت سميرة أن توقفه ولكنه استقل سيارته وقادها بسرعة البرق، أما هي فكانت تجلس في غرفتها تبكي بقوة ، دلفت جدتها لتتحدث بلهفة : حصل إيه يافريدة خلى خالد يمشي ويرجع شغله تاني!.
رفعت وجهها وتحدثت بصوت مبحوح : محصلش حاجة ، هو بس عرف نهاية الموضوع ده إيه!.
قالت الجدة بحزن : ونهايته إيه يابنتي!.
رقدت على فراشها وهي تغلق عينيها وهمست : الفراق....
بعد مرور شهر..
جلست نهال على فراش صديقتها تتأمل دبلتها بحب وسعادة، وذهنها عالق بأدهم بعدما استدعته قيادته بعجاله، وقطع إجازته وسط غضبها وحزنها، قطع شرودها دخول فريدة وهى تحمل أكواب القهوة...
_ القهوة يا نهال.
جذبتها نهال لتجلس أمامها متحدثة : ها وبعدين في حالتك دي، ولا بنطلع ولا بنخرج، وقاعدين زي ما إحنا كدة، أنا عروسة وعاوزة أجهز بقى .
ابتسمت فريدة بحب على عفوية صديقتها ثم قالت : متهيألي لسه سنة على الجواز.
شهقت نهال بتمثيل لتقول بعدها : بيعدوا هوا وحياتك اسأليني أنا!.
هزت فريدة رأسها لتقول : حاضر، اديني شوية وقت أعرف أخرج وأفك وبعدها نشوف عاوزة إيه!.
ابتسمت نهال بمكر لتقول : مش عاوزة تخرجي قبل ما خالد يرجع صح، خايفة وقلقانة عليه.
أشارت على نفسها وقالت باستنكار مزيف : مين أنا، لأ طبعًا وأنا مالي بيه أصلًا.
قالت نهال : يا شيخة ده على أساس إنك مبتتمنيش إن أكلم أدهم دلوقتي عشان تعرفي تطمني على خالد.
نهضت من أمامها بارتباك ثم ذهبت صوب سراحتها وقامت بتمشيط شعرها لتقول : بطلي جنان، قولتلك الموضوع ده مات وانتهى.
ابتسمت نهال بتهكم على صديقتها فبراءتها وعيناها تفضحاها بقوة، جذبت هاتفها وقامت بإجراء اتصال بأدهم، تحت أنظار واهتمام فريدة.
_ دومي وحشتني، والله.
كان صوته جاد وهادئ : وأنتي كمان، كنت لسه هاكلمك.
قطبت جبينها لتقول : تكلمني!، في إيه، مالك؟!..
_ مفيش، كنت عاوز أقولك بس إني بحبك أوي.
اتسعت ابتسامتها لتقول بهمس : أنا مع فريدة.
أدركت فريدة الوضع، فقامت من جلستها وذهبت صوب الباب لتعطيها قدر من المساحة لتتحدث مع حبيبها، لتفاجئها بقولها الذي جعلها تتسمر مكانها : فريدة، خالد عاوز يكلمك.
التفتت إليها لتقول وملامح الصدمة بادية على وجهها : نعم! .
أعطتها نهال الهاتف وقالت بهمس : معرفش أدهم قال إنه عاوز يكلمك، هاروح أبوس في جدتك شوية.
خرجت من الغرفة تحت نظرات فريدة المصدومة، وضعت الهاتف على أذنها ليصل إلى مسامعها : فريدة.
كان صوته هادئ بعض الشئ يتخلله حزن ومشاعر أخرى لم تفهمها أو لم تعهدها منه، حاولت تنظيف حلقها فقالت : ن.. نعم.
فاجأها بهمسه الذي اخترق أذنها بقوة : وحشتيني.
استندت على الباب بقوة قبل أن تهوى على الأرض، لتلجم الصدمة لسانها ولم تجعلها تتفوه بأي حديث، فاستمر في حديثه : هو أنتي لسه زعلانة مني؟.
لا هذا ليس خالد بالتأكيد، نعم لقد قاموا بتبديله في المعسكر، هذا ليس الفظ الذي أحبته، لتقول ببلاهة : أنت خالد!..
تخيلت ابتسامته الهادئة كما لو كان أمامها ليقول : أنا والله .
استمرت في بلاهتها : أومال مالك.
استمعت إلى صوت يستعجله : يالا ياسيادة الرائد، العربيات جهزت...
تحدثت هى في لهفة وقالت : خالد أنت طالع مهمة صح.
_ اممم، المهم إني عاوز أقولك إنك وحشتيني وبتوحشيني وهتوحشيني أوي، فريدة.
قالت بلهفة : نعم.
_ أنا بحبك أوي، رغم كل حاجة غلط عملتها زعلتك وجرحتك بس أنا بحبك أوي، سلام.
أغلق الاتصال قبل أن تتحدث هي، فخرجت شهقة من صدرها وهى تضع الهاتف بجانب قلبها، وهوت على الأرض وهي تجثو على ركبتيها متمتمة : ربنا هيرجعك سالم إن شاء الله..
اختلط حديثها بالدموع خوفًا من فقدانه...ففقدانه يعني حطامها حقًا.
وصل للمكان المستهدف وعلى وجهه ابتسامة هادئة يتذكر وجع قلبها الظاهر على صوتها وهي تتحدث معه يؤلمه ، وحبها الواضح يسعد قلبه رغم ما حدث بينهما وتوتر علاقتهما سعادة تملأ قلبه ، قلع الواقي الخاص به تحت دهشة أدهم فردد بصدمة : خالد أنت بتقلع الواقي ليه ؟!
هتف بضيق : حاسس نفسي تقيل بيه متقلني كأني شايل كل لحظة عملت فيها ذنب قلعته وخليني أخلص المأمورية دي من غيره مش طايق ألبسه مش قادر
ردد أدهم بقلق : خالد فريدة مش هتستحمل أي حاجه تضرك البس الواقى ربنا يهديك
سهم أصاب قلبه عند سماع اسمها فقال بصوت يغلبه البكاء : مش هلبسه وسبني في حالي أرجوك
قال مرة أخري : استعدوا
هجووووووووووووم
دقائق فقط وكانت معركة تبادل الطلقات النارية وبركة من الدماء والضحايا وأخر الضحايا كان هو رصاصة رحمة بالنسبة له اخترقت صدره سقط وهو يبكي من وجع قلبه وصراخ قوي من أدهم وهو يقترب : خااااااااااالد
خالد لأ ، خالد فوق قولتلك متقلعش الواقي ليه كده حرام عليك حرام
ردد بصوت متقطع : قول لفريدة إني بحبها والله بحبها يارب دي تكون رصاصة الرحمة والمغفرة ليا وربنا يسامحني على اللي عملته في قلبها
نطق آخر كلماته وأغمض عينيه باستسلام متمنياً صعود روحه إلى ربه بسلام غير مبالياً بصراخ أدهم : خالد
خالد فتح عينيك متستلمش كدة إحنا انتصرنا عليهم والله انتصرنا وفريدة هتسامحك والله هتسامحك فوق هنروح المستشفى أهو وهنلحقك بس متستلمش كدة
قوم ، قوم يا صاحب عمرى
بكاء مزق قلب الجميع من أدهم على صديقه
