أخر الاخبار

رواية عبث باسم الحب الفصل الثاني والثالث بقلم رحمه سيد


 عبث باسم الحب 


الفصل الثاني :- والثالث

بقلم رحمه سيد 

لم تنطق رهف وإنما كانت تحدق بعينين مهتزتان في قناع 


زائف من الثبات، في عيناه التي بدت لها وحشية وهو يرمقها 


بنظرة حادة مُحذرة، فابتلعت ريقها بتوتر والخوف كالزلزال 


يهاجم دواخلها حتى فقد قلبها القدرة على الاستقرار والهدوء، 


ثم حاولت بصعوبة أن تُجلي صوتها الذي كان وكأنه يأبى الخروج:

-سامعة. 

حينها عاد مروان خطوة للخلف، وكأنه يعلن هدنة في الحرب 


الصامتة التي دارت بين عيناهما، قائلًا في خشونة:

-اول حاجة لازم تعرفي إني متجوزك عشان أنا عايز أتجوز وأستقر، مش عشان أي أسباب تانية في دماغك.

ثم رفع اصبعان من أصابعه يشير لتلك الاهتزازة المستفزة في عينيها متابعًا:

-يعني الخوف اللي في عينيكي دا ملهوش داعي. 

فحاولت رهف أن تهتف مناقضة ما تبوح به عينيها:

-أنا مش خايفة على فكرة.

ثم هزت كتفاها وأكملت وهي تتحاشى النظر لعيناه المترقبة:

-بس الطبيعي إني أكون متوترة زي أي واحدة من تجربة جديدة وحياة جديدة بالنسبالي. 

-فعلًا ؟ 

تمتم بها مروان متهكمًا كداخل رهف والذي ناصر مروان فسخر منها ومن حروفها التي كانت مُغطاه بالثبات والثقة بينما وجهتها الأخرى مُصداه بالخوف الذي أصابها منذ ظهر مروان في منزلهم لأول مرة.. 

انتبهت لمروان الذي تنحنح وهو يخبرها بنبرة رجولية هادئة ثابتة:

-أنا عايز ابدأ معاكي حياة جديدة هادية يا رهف زي أي زوجين طبيعين. 

صمت برهه ثم اكمل معترفًا وهو يهز رأسه:

-أنا عارف إننا جوازنا جه في ظروف مش حلوه خالص بالنسبالك، وإنك كنتي مضطرة توافقي عليا حتى لو في اعتراض من جواكي ناحيتي. 

ثم حان كلامه قليلًا نحو الضفة التي انغرست فيها رهف مكتومة الأنفاس ولم تخرج منها حتى تلك اللحظة، فقال:

-لكن أحنا خلاص اتجوزنا، عايزك تنسي كل اللي فات، وهنبدأ صفحة جديدة، وكأن النهارده أول يوم هنعيشه. 

-بس أنت أصلًا آآ...... 

كادت رهف تتمتم معترضة بالشيء الذي سيبهت مؤكدًا على بياض الصفحة الجديدة التي سيحاول كلاهما فتحها... 

ولكن مروان قاطعها دون أن يجعلها تكمل:

-عارف هتقولي إيه، بس اعتبريه محصلش، عشان انا وانتي نكون مرتاحين. 

لم ترضى كل الرضا بما قاله، ولكن شيء خفي انبعث من كلامه محررًا نفسها المُقيدة بسلسال الخوف قليلًا.. 

فسألها مروان مؤكدًا وكأنه يود التأكيد على الميثاق الذي خطه منذ دقائق فقط بينهما:

-هتقدري تعملي دا يا رهف ؟ 

كان يقصد هل ستستطع نسيان كل ما مضى، وطريقة زواجهم، وتبدأ معه صفحة جديدة، ولكنها اعتقدت أنه يقصد قدرتها على نسيان النقطة الاخيرة التي قاطعها فيها والتي تؤرقها، فهمست تهز رأسها في خفوت:

-هحاول. 

لم تؤكد... لم توثق الرابط الذي يحاول خلقه بينهما، مازالت تُقدم قدم نحوه وتؤخر الاخرى! 

هكذا فكر قبل أن ينفث الشيطان النار على بارود أفكاره؛ هامسًا له أن ترددها هذا ليس له إلا سبب واحد..! 

فلم يشعر مروان بنفسه سوى وهو يقبض على ذراعها في شيء من العنف يسألها بهسيس خافت خطير:

-لسه بتحبيه ؟ 

بوغتت حرفيًا من سؤاله وحركته المباغتة، لم تتوقع أن يطرحه اليوم... بل الان تحديدًا !! 

يبدو أنه يحاول طي صفحة الماضي بكل لطخاتها... 

مرت في عقلها لمحة سريعة من الماضي كانت نواة الكره التي تفجرت بين حروفها وهي تجيب مروان الذي كان متهافت لتلك الاجابة:

-أنا دلوقتي مابكرهش في حياتي قده، وأكيد أنت متخيل كويس حاجة زي دي. 

بدأت أصابعه تنساب من على ذراعها ببطء، واجابتها كانت المياه التي اطفأت ذلك الحريق المشتعل داخله، فزفر بعدها مبررًا سؤاله المندفع في غضب:

-كان لازم كل حاجة تبقى على نور من أولها، عشان من النهارده مفيش أي حاجة هتستخبى بينا مهما حصل. 

قال أخر كلماته بشيء من التحذير الذي استبطنته رهف المستعمة في صمت وتركيز لكل حرف.. 

فأومأت برأسها مؤكدة، رافعة كافة رايات الاستسلام لكل ما يُرضيه ويُريحها في حياتهما القادمة.. داعية الهدوء والسكينة ليغمرا حياتها التي عاث فيها الماضي فوضى ضارية..! 

فارتفعت شفتا مروان في ابتسامة مرتاحة؛ معلنة نجاحه في "الحبو" في منطقة علاقتهما.

ثم أردف وهو يشير برأسه نحو الفراش، ملقيًا اشارة مُبطنة بين كلماته، لم تخفى عن رهف:

-يلا غيري هدومك و ننام شوية بقا عشان نرتاح من المجهود. 


اومأت رهف برأسها ولم تنطق، ثم تحركت نحو الدولاب تنوي انتشال اقرب "منامة" محتشمة نوعًا ما تستطع ارتدائها بدلًا من قميص النوم الذي لا يستر شيئًا والذي جهزته لها والدتها مسبقًا.. 

وما إن لمحها مروان وقفت أمام الدولاب وكادت تفتحه، حتى تحرك نحوها وأصبح خلفها مباشرةً، فباغته رد الفعل باهتزاز جسدها تلقائيًا ثم تصلبه كالشمع ما إن مسها جسده الذي كان شبه ملتصق بها، ثم همسه الرجولي عند اذنها مباشرةً وأنفاسه تداعب جانب وجهها ورقبتها فتترنح نبضات قلبها مُثقلة بشعور غريب يدغدغ الأنثى داخلها مذيبًا عنها الجليد الذي يغلفها منذ بداية تلك الزيجة:

-رعشة جسمك كل ما أكون قريب منك دي ملهاش داعي لأني بقيت جوزك.  

ردت رهف في صوت مرتعش مبحوح كجسدها الذائب أمامه:

-ماشي بس غصب عني لازم أتوتر لأني مش متعودة إن أي راجل يقرب مني.

فأحاط مروان خصرها بذراعه يحتوي جسدها الغض بجسده الصلب متعمدًا الاقتراب منها أكثر، يتحداها ليقتل تلك الرعشة المستفزة بجسدها وكأنه يعلن الرفض الذي لم تنطقه، فيما تهدجت أنفاسها هي مبتلعة ريقها بتوتر اكبر.

ليتابع هو في خشونة رجولية:

-بس أنا مش أي راجل، أنا جوزك، يعني من حقي أقرب منك في أي وقت وبأي طريقة وماحسش إنك خايفة وكأني هاكلك! 

فناطحته بجملتها المُصرة رغم نبرتها التي كانت واهنة بعض الشيء:

-قولتلك انا مش خايفة. 


قرر مروان أن يُغير الموضوع فسألها مستفسرًا:

-انتي كنتي بتعملي إيه؟ 

أجابت في تردد:

-كنت بجيب بيچامة عشان ألبسها. 

قال مروان بحزم قاصدًا انتشالها من بقاع الرهبة والخجل المطلق تجاهه:

-متهيألي إنك عروسة، والعروسة ليلة فرحها بتلبس اللبس اللي متجهزلك على السرير دا . 

شعر بالتجهم متبوعًا بشيء من الاعتراض والتردد يتشعبا بين ثنايا وجهها، فأكمل دون تردد بصلابة وإصرار:

-من يوم ما أسمك إتحط جمب أسمي، وخلاص كده أنسي أي حواجز او حرج بيننا. 

فشعرت رهف حينها أن التوتر جعل أحبالها الصوتية كالعقدة لا تستطع فكها لتنطق بأي كلمة، ولم تكن تملك سوى تلك الايماءة الموافقة من رأسها..


فتحرك مروان نحو الفراش يبدأ هو بالخطوة الاولى ويُحدد لها باقي الخطوط التي ستسير عليها كالطفل.. 

ثم تمدد على الفراش، يضرب على الفراش برفق جواره مغمغمًا وهو ينظر لها مازالت واقفة:

-يلا غيري وتعالي. 

فأومأت برأسها، ثم تشدقت بـ:

-تمام.

هز مروان رأسه مُريحًا جسده على الفراش مغمضًا العينان يتنهد في ارتياح.. 

بينما رهف ما إن أغلقت باب المرحاض عليها حتى بدأت تتنفس بصوت مسموع، تعلم أنه محق في كل ما يقوله ويفعله، ولكن ماذا تفعل في ذلك الحاجز النفسي بينهما والذي يأبى أن يزول بسهولة، ولكنها رغم ذلك تحمد الله أن مروان بدد مخاوفها وشكوكها، لتحاول هي المضي قدمًا في تلك الحياة الجديدة دون أي عرقلة من الماضي. 


خرجت من المرحاض وتوجهت نحو الفراش، لتتمدد جوار مروان الذي أحس بحضورها، وقاوم حدقتيه التي كانت تجاهد لتفصل بين جفنيه  هيئتها الجديدة حتى على خيالاته!.. 


بينما هي نظرت لأعلى الغرفة للحظات صامتة تحاول أن تستدعي النوم، وبالفعل بعد دقائق قرر النوم العطف عليها منقذًا إياها من بؤرة أفكارها. 


                                ****


صباح اليوم التالي...


تفرق جفنا "رهف" حين شعرت بشفتا مروان التي كانت تداعب كل إنش بوجهها كالفراشات الخفيفة، فتحركت رأسها تلقائيًا نحوه وما إن قابلت عيناها عينيه حتى رأت فيهما ما كان يلمح به منوهًا بالأمس.. 

احتضن كفه الخشن وجنتها الناعمة يتحسسها بحركة دائرية ماهرة رقيقة من إبهامه، وعيناه السوداء مُسلطة على عينيها في لهفة ملتاعة بالشوق مقروءة بين سطور عينيه، وأصابعه لا تكف عن العبث وكأنه يتعمد إرخاء أعصابها المشدودة لتذوب تمامًا في استسلام انثوي بحت. 


أغمضت عينيها حين مال بوجهه نحوها مستسلمة لقبلاته الخفيفة التي بدت وكأنه يستأذنها متسائلًا عن أي رفض؛ رغم يقينه بحتمية الحدوث. 

ورغم أنها لا تجد أي سبب عاطفي بين جنبات قلبها للاستسلام له، إلا أنها أيضًا لا تجد سبب للرفض، هو ليس بشخص سيء بل هو أفضل رجل قابلته؛ هو مَن أنقذها من وصمة سوداء كادت تلتصق بها مدى الحياة. 

بالإضافة لكونه زوجها وهذا حقه شرعًا، لذا لم ترغب أبدًا أن تبدأ حياتها الجديدة بمعصية لله. 


ولأول مرة وبسيطرة من عقلها استطاعت لملمة بقايا التردد المتناثرة بين ثنايا عقلها، ودفنها في أعمق نقطة داخلها لتكتم ذبذباتها التي تشوش على سيطرة عقلها.. لتستسلم راضية بكل ذرة فيها. 

وقد كانت تعي أن استسلامها هو أول نقطة في صفحات الحاضر، وأنها ربما لو رفضت لكانت ضربت عكر شياطين أي رجل، وأخرجت منه أعتى شياطينه ألا وهو "الغيرة والشك"... 


بينما شعر هو وكأن أعاصير متضادة تتضارب داخله؛ أن شيء مهتاج مشتاق يحرق أوردته بحثًا عن الكمال؛ كمال نيل حقه وصك ملكيته. 

وشيء أخر كالمفرقعات كان يهز قلبه هزًا مهددًا بإنفجار مشاعره المكتومة.. ولكنه دكها دكًا بسيطرة مُذهلة معيدًا إياها لنقطة اللاظهور، عالمًا أنه لو حرر تلك المشاعر، ربما تتصادم بهالة الجمود التي تحيط بـ رهف فتعود سهامها لتنغرز بقلبه مدمية إياه.


ازدادت لمساته جرأة في ظل استسلام رهف التام، لتقترب شفتاه بحثًا عن شفتاها في قبلة لم تكن مجرد قبلة؛ بل كانت دمغة... دمغة لقلبها المرتجف معلنًا صاحبه ومالكه الجديد. 


                              ****


ليلاً.... 


كانت رهف في المطبخ تعد شيئًا للعشاء، فارتفع رنين هاتفها معلنًا وصول إتصال من والدتها.. 

أجابت رهف على الفور هاتفة في اشتياق:

-الو السلام عليكم. 

-وعليكم السلام، ازيك يا رهف؟ 

ثم سارعت في لهفة واضحة كعين الشمس تسألها:

-عاملة إيه يا حبيبتي؟ 

فهزت رأسها تطمئنها بهدوء:

-انا الحمدلله يا ماما كله تمام، انتوا عاملين إيه؟ وبابا ؟ 

نظرت "ثناء" تجاه "عماد" الواقف في صمت أمامها منتظرًا أن تبثه الاخبار ليطمئن قلبه، فهو رغم كل شيء ومهما حدث يظل أب. 

ثم عادت لتسأل رهف في نبرة مبطونة بالشك والقلق:

-احنا كويسين، المهم طمنيني عنك، عامله إيه انتي وجوزك؟ حصل حاجة عكس الطبيعي يا رهف؟ وبيتعامل معاكي حلو ولا عمل حاجة؟ 

فنفت رهف بحرج:

-لا يا ماما كل حاجة تمام متقلقيش زي أي اتنين متجوزين، واحنا كويسين مع بعض الحمدلله. 

فتمتمت والدتها مرتاحة:

-الحمدلله يا حبيبتي، ربنا يهدي سركوا ويسعدكوا ويبعد عنكم كل سوء. 

-امين يارب يا أمي. 

تنحنحت والدتها ثم بدأت تخبرها مبررة:

-احنا كنا هنجيلك أنا وباباكي النهارده لكن حبينا نسيبكم اسبوع على الاقل تكون حياتكم استقروا وبدأتوا تتفاهموا مع بعض.

-فهماكي يا ماما. 

-طيب انتي بتعملي إيه دلوقتي؟ 

أجابت رهف متنهدة وهي تنظر للطعام الموضوع على رخام المطبخ:

-المفروض هبدأ أحضرلنا عشا. 

-ماشي يا حبيبتي مش هعطلك، روحي خلصي وانا هتصل بيكي كل يوم اطمن عليكي، واوعي لو حصل أي حاجة ماتقوليليش يا رهف أنا أمك يا حبيبتي. 

-لا متقلقيش يا ماما، ان شاء الله خير ومش هيحصل حاجة. 

-ماشي يا حبيبة ماما في رعاية الله. 

-مع السلامة.


أغلقت ثناء الهاتف رافعة وجهها نحو عماد الذي هتف في زهو يهز رأسه:

-شوفتي بقا إن كلامي صح وإن نظرتي في شخصية بني ادم عمرها ما تخيب، وإن أنتي وبنتك اللي خوافين. 

فهزت ثناء رأسها متنهدة ثم تشدقت بـ:

-الحمدلله يا عماد، أنا الفترة اللي فاتت مكنتش بدعي إلا إن ربنا يخيب ظني ويطلع ابن حلال. 

غمغم عماد مرددًا بعدها:

-ربنا يهديهم لبعض ويجبر بخاطرها. 

فرددت ثناء خلفه:

-آميين. 


ثم بدأت ذكرى من الماضي القريب تقتحم عقلها مذكرة إياها بسبب خوفها هي و رهف تجاه مروان...... 


خلال اليوم الثاني بعد زيارة مروان لرهف قبل الزواج حين كان يعرض عليها بعض نماذج غرف النوم... 

كانت رهف في حالة مُثيرة للشفقة من إنفلات الأعصاب، وصدمة الجملة التي سمعتها من مروان تفتت أي تماسك قد يتشكل داخلها، ترددت كثيرًا ولم تدري ماذا عساها تفعل، وفي النهاية لم تجد مفر من اخبار والدتها بما سمعته، وبالفعل ركضت لوالدتها تفرغ في احضانها كل ما بجبعتها.... 

تلونت ملامح ثناء بداء الخوف والقلق الذي نقلته لها رهف عبر حروفها المُبطنة، ثم قالت بشك تسألها:

-انتي متأكدة من الكلام دا يا رهف ؟ 

اومأت رهف مؤكدة بسرعة وعيناها البُنية المشطورة بالدمع والخوف تناشدها بالتصديق:

-ايوه طبعًا يا ماما، والله العظيم سمعت بودني صدقيني. 

فأسرعت ثناء تربت على كتف ابنتها وهي تستطرد قائلة لتسد فجوة الخوف من التكذيب التي كانت تكبر داخل رهف مع مرور الوقت، فهي لا تود خسارة رهف تمامًا وإنسداد كل الطرق الممكنة بينهما :

-مصدقاكي يا رهف، بس قصدي يعني يمكن انتي فهمتي غلط او كده. 

عضت رهف على شفتاها مفكرة، ثم نطقت فارشة هياج أفكارها المشوشة أمام والدتها:

-مش عارفة يا ماما، بس خايفة. 

ثم زفرت وهي تفرك جبهتها في إرهاق نفسي حقيقي:

-او يمكن أنا اللي من بعد اللي حصل بقت أقل حاجة تخوفني. 

ربتت ثناء على كفها تحتضنه بين يديها هامسة في حنو تحاول بثها ذريعة الاطمئنان التي اهتزت داخلها اصلًا رغمًا عنها:

-متقلقيش يا حبيبتي، أنا هقول لأبوكي، وأنتي صلي استخارة كتير، وبأذن الله خير. 

-باذن الله يارب. 


وبالفعل بعد فترة، أخبرت ثناء عماد بكل ما قصته عليها رهف، فتغضنت ثنايا وجه عماد في قلق نوعًا ما، ولكنه جادلها قائلًا:

-طب وانتوا لية افترضتوا سوء النية يا ثناء ؟ مش يمكن كان بيقول لحد صاحبه بيطمنه إن الجوازة هتتم، ومثلًا حد كان بينصحه زي باقي الشباب فبيقوله إنه مسيطر على كل حاجة ومفيش حاجة تقلق او مشكلة بخصوص شخصية رهف.

-تفتكر كده ؟؟ 

سألته بعينين موخوزتين بالشك والقلق، راجية أن يكون كلامه هو الصحيح، فهز عماد رأسه مؤكدًا وأكمل:

-ايوه طبعًا، أصله إيه جو المخابرات اللي عاملينه أنتي وبنتك دا، وهنقعد كلنا ورا شك نفكر ونعقد نفسنا وماشوفناش من الراجل حاجة وحشة او تشكك وعارفينه من زمان. 

فهزت ثناء رأسها في محاولة لإقناع الأم القلقة داخلها بكلامه:

-صح عندك حق يا حاج. 

فتابع هو في نبرة حازمة يخبرها مشددًا على حروفها:

-عقلي بنتك، وفهميها إن ربنا هو دليلها ووكيلها، وإن مش كل حاجة بنسمعها بتبقى صح، وأكيد ربنا مش هيجيب حاجة وحشة، حتى لو في حاجة وحشة من وجهة نظرنا كبشر حصلت بس بنتعلم منها. 

في طاعة وهدوء هزت ثناء رأسها ورددت:

-ونعم بالله. 


عادت ثناء من ذكرياتها مغمضة عينيها، وأخيرًا وجدت الراحة مسكنًا لها بين ضلوعها، فهمست بصوت يكاد يسمع:

-الف حمد وشكر ليك يارب. 


                            ****


بينما على الطرف الآخر... 


أغلقت رهف الهاتف وهي تضعه جوارها على رخامة المطبخ، ثم بدأت في اعداد الطعام، وهي تتذكر مروان الجالس في غرفة الاطفال يقرأ بعض الكتب؛ هوايته المفضلة، لحين انتهائها من اعداد الطعام. 


مرت دقائق، ودلف مروان المطبخ، ليراها واقفة أمام الرخامة معطية ظهرها له، والذي يتناثر عليه شعرها الأسود الطويل والذي تركته منسدلًا كعادتها لأنه لم يكن قد جف بالكامل من المياه، اقترب منها ببطء حتى أنها لم تلحظ تواجده خلفها، أصبح على بُعد خطوات قليلة منها، فنفضت رهف شعرها بتلقائية للخلف وهي تزفر بحدة، فباغتت قطرات المياه الخفيفة وجه مروان الذي أغمض عينيه وتلك القطرات سقطت كالندى على دواخله القاحلة لتسقي فيها رغبة مُلحة باستكشاف خصلاتها السوداء بيداه وتمريغ أصابعه فيه! 

اقترب اكثر ليصبح خلفها مباشرةً، ثم وببطء نفخ عنذ اذنها حيث خصلاتها الملمومة، لتشهق رهف متفاجئة تضع يدها على قلبها وهي تردد في تلقائية تامة:

-حرام عليك خضتني. 

فهمس في نغمة رجولية اثارت داخلها ذبذبات غريبة أربكتها:

-سلامتك من الخضة. 


ثم لمعت عيناه حين وقعت على خصلاتها المبتلة نوعًا ما والتي إلتصقت برقبتها المرمرية البيضاء، فازدرد ريقه وعيناها تراقب تفاحة ادم التي تحركت، فانتقل لها داء التوتر على الفور، ولم يشعر هو بيداه التي تحركت تجاه رقبتها وأصابعه الخشنة تبعد خصلاتها الملتصقة بجلد رقبتها الناعم، نعومة تغري شفتاه المتلهفة وبإلحاح أن تستكشف نعومتها بدلًا من أصابعه.. 

لم يكن يدري أنه ودون شعور كان يتحسس رقبتها ببطء شديد ومُهلك وهو يزيل تلك الخصلات، بينما المسكينة مغمضة العينان ترتجف وملمس أصابعه العابثة لا يرحم أوتار أنوثتها فيتلاعب بها مذيبًا خلاياها ببطء... 


بدأ يشعر أنه يسقط تدريجيًا من برج التحكم العقلي والسيطرة الذي كان يحبس نفسه به، فأخذ نفسًا عميقًا مستعيدًا سيطرته ثم ابتعد خطوتان للخلف معطيًا المساحة لرهف للتتنفس قليلًا...! 

ثم تنحنح محاولاً اخراج حروفه بنبرة عادية وهو يقول:

-بتعملي إيه؟ 

فتمتمت رهف مجيبة بصوت مبحوح:

-بعمل عشا. 

أومأ برأسه ثم استطرد مشاكسًا بابتسامة خفيفة:

-المهم يكون عشا حلو يرم العضم كده. 

فهزت رهف رأسها نافية وهي تجيبه برقة:

-لا متقلقش ماما قالتلي هعمل إيه. 

فأكمل مروان وقد بدأ يحرك أقدامه لخارج المطبخ:

-ماشي انا هروح اكمل قراية الكتاب اللي بقرأه عقبال ما تخلصي وابقي ناديني. 

-تمام. 


وبالفعل بعد وقت ليس بطويل إنتهت رهف من إعداد العشاء، وقدمته بشكل لائق على طاولة الطعام، ثم توجهت نحو الغرفة التي يقطن بها مروان ونادته ليأتي، وتناولا الطعام سويًا وقد كان لا يخلو من بعض العبارات العابرة كمحاولة مستمرة من مروان أن لا يترك للحاجز النفسي بينهما المساحة الكافية لينمو، بل يستمر ويستمر في حسره حتى يأتي الوقت الذي ربما يكون قد إقتلعه تمامًا خارج منطقة حياتهما. 


بعد انتهاء العشاء، عاد مروان للغرفة يتسلى في قراءة كتابه في حين توجهت رهف لتصنع كوب من مشروب ساخن بعد أن اخبرها مروان بعدم رغبته في شرب أي مشروب... 

وبالفعل إنتهت وحين كادت تأخذه متوجهه للخارج دلف مروان، لينظر للكوب متسائلًا في هدوء:

-دا إيه دا بقا ؟ 

فأجابته رهف مبادلة نفس النبرة الهادئة العملية:

-دا كاكاو باللبن، أنا بحبه وعلى طول بعمله، لو عايز ممكن أعملك. 

هز مروان رأسه نافيًا، ثم أردف بابتسامة هادئة كالطفل حين يستأذن لينل شيء:

-لأ انا هادوق بتاعك الاول وأشوف هحبه ولا لا. 

اومأت رهف مؤكدة، ثم استدرات وكادت تسكب له من كوبها في كوب آخر ليتذوقه، ولكنه اوقفها قبل أن تفعل بقوله مستنكرًا:

-استني انتي هتعملي إيه؟ 

فهزت كتفاها تجيب في تلقائية:

-كنت هحطلك في كوبايه تانية، أصل في ناس مابتحبش تشرب مكان حد. 

نفى مروان برأسه ثم مد يده يتناول الكوب من يدها ورغمًا عنهم تلامست أصابعهم في ثانية سريعة ولكنها كانت كالشرارة الخافتة بينهما.  

ثم سألها وهو يشير لأحد أطراف الكوب:

-انتي شربتي من هنا صح؟ 

اومأت رهف مؤكدة متوقعة أنه سيعكس المكان الذي شربت منه، ولكنه فاجأها حين شرب من نفس مكانها دون أن تلمح أي طرف للاشمئزاز او التقزز على ملامحه، بل كانت ملامحه مرتخية متلذذة وهو يتذوقه، وداخلها تتسائل عن سبب فعلته تلك! 

أحست أنه يريد أن يخبرها أن لا خصوصية، لا تقزز بينهما، بل كل شيء وأصغر شيء سيتشاركونه سويًا..! 


وحين رفع عينيه ينظر لها أحست للحظة أن شفتاه تطبع على شفتاها وليس مكانها فقط!... 

فاندفعت الحمرة تفترش قسماتها البيضاء، ابتلعت ريقها بتوتر، ثم قطع هو هذا الصمت حين سألها:

-هو انتي حاطه سكر قد إيه؟ 

فأجابته هادئة:

-حاطه معلقة واحدة. 

ليهز رأسه نافيًا يتصنع الاستنكار:

-لا مش معقول، دا مسكر خالص. 

ثم ضيق عينيه محدقًا بها للحظة هامسًا:

-إيه دا استني كده. 

وبحركة مباغتة وقبل حتى أن يصحو عقلها مدركًا مقصده، كان مروان يطبع قبلة سريعة سطحية على شفتيها المنفرجتين، قبلة قصيرة المدة ولكن كان لها الأثر الأكبر والأطول في غفوة مسكرة لذيذة لعقلها الذي بدا وكأنه توقف عن الاستيعاب مؤقتًا، فظلت ترمش للحظات محدقة به ببلاهه..! 

بينما هو قال في ابتسامة جانبية تقطر رجولة ومكر:

-اه دلوقتي عرفت هو مسكر ليه

بدت رهف وكأنها استوعبت ما فعله للتو فرفعت يدها على الفور تضعها على شفتيها وكأنها تستكشفها إن كان قبلها فعلًا في حركة مباغتة عابثة داعبت شيء باهت داخلها !... 


                               ****


في اليوم التالي.... 


كان "مروان" في المرحاض يستحم، فيما كانت رهف تقوم بترتيب بعض الاشياء الخفيفة في المنزل، حين طُرق الباب عدة مرات متتالية، فعقدت رهف ما بين حاجبيها في تعجب من الإصرار والسرعة في الطرق، وصاحت:

-ايوه ياللي بتخبط ثواني. 

توجهت نحو اسدال الصلاة الخاصة بها ترتديه مسرعة ومن ثم سارت نحو الباب، فتحته لتتفاجئ بسيدة شابة ذات ملامح متجهمة وعينان مهاجمتان يطفوهما الغضب.. 

فسألتها رهف بتعجب جلي:

-ايوه مين حضرتك ؟ 

فرفعت "غادة" حاجبها الأيسر مستنكرة وفي سخرية تامة ردت:

-حضرتي مين! دا على أساس إنك متعرفيش حضرتي. 

هزت رهف رأسها نافية وبنبرة مماثلة من السخرية:

-لأ محصليش الشرف. 

فباغتتها الاخرى باجابتها الصادمة التي ضربتها في مقتل:

-أنا مراته الاولى يا حبيبتي!... 


                              ****


عبث باسم الحب 


الفصل الثالث :- 


للحظات لم تستطع رهف التفوه بحرف، وكأن الصدمة حجمت طيات ادراكها، فلم تجد ما يسعفها للرد على الاخرى التي تقف تطالعها في تشفي وابتسامة سمجة جعلت رهف تتمنى لو تمزق شفتاها حتى لا تستطع الابتسام مرة اخرى!.. 

خاصةً حين ازدادت ابتسامتها تهكمًا وهي تتابع:

-يا حرام شكلك متعرفيش حاجة واتاخدتي على خوانة. 

واخيرًا استطاعت رهف الخروج عن طوع حالة التيبس المصدوم من تواجد "غادة" في هذا الوقت تحديدًا ومباغتتها بطلب زوجها، فهتفت ببرود متعمد وهي تقابلها بابتسامة اكثر سماجة:

-لا يا حبيبتي متقلقيش عليا انا متاخدتش على خوانة ولا حاجة، انا عارفة كل حاجة ووافقت بمزاجي. 

ثم ضيقت عينيها تَدعي تفحص غادة التي بهتت ابتسامتها على وجهها، واردفت:

-شكلك انتي اللي اتاخدتي على خوانة بصراحة. 

كزت " غادة" على أسنانها، والغضب يحترق جليًا في عينيها، وفاح دخان هذا الغضب من حروفها حين راحت تردد في حدة:

-فين مروان، أنا عايزه جوزي. 

فرفعت رهف حاجبها الأيسر مستنكرة:

-أنتي جايه تاني يوم جواز ليا وتقولي عايزه جوزي! 

عادت تلك الابتسامة تتعلق بأطراف ثغر غادة التي استطردت في نغمة حملت نوايا شتى، لم تستطع رهف تمييزها، ولكن رن بأذنها الخبث الذي صدح فيها:

-انتي مفكره إن انتي عروسة بجد بقا وكده، شكلك متعرفيش اللي فيها وهتتصدمي بالواقع.


ثم أشارت نحو الداخل وأكملت باستفزاز:

-ياريت تنادي جوزي ضروري، يا... عروسة! 

طحنت رهف ضروسها، وتأهبت لتناطحها برد فاحم، ولكن قاطعها حضور مروان الذي عقد ما بين حاجبيه في استغراب:

-غادة ؟! 

نظرت له رهف ولكن لم تلحظ أي تواجد للصدمة من تواجد غادة على وجهه! 

فيما قالت غادة في لهجة هادئة رقيقة مختلفة عن الاخرى التي كانت تحادث بها رهف مائة وثمانون درجة، فلم تستطع رهف كبت دهشتها من هذا التحول الجذري: 

-صباح الخير يا مروان، بعد اذنك عاوزاك ضروري. 

فسألها مروان بملامح متجهمة غير مقروءة بالنسبة لرهف:

-في إيه ؟ 

أشارت غادة برأسها للخلف نحو الشقة التي تقطن بها، متمتمة في خفوت:

-بعد اذنك عاوزاك في شقتنا. 

اومأ لها مروان مؤكدًا موافقته برأسه، ثم توجه بنظراته نحو رهف قائلًا بهدوء:

-ادخلي انتي جوا يا رهف وانا شوية وجاي. 

ثم استدار دون أن ينتظر ردها وسار خلف "غادة" متوجهان نحو تلك الشقة، بينما رهف مازالت تقف مكانها تحملق بالفراغ... ولمَ كانت تتوقع أن يرفض أصلًا ؟! 

هل لأنهم بثاني ليلة زواج لهما مثلًا!.. 

-وانا مالي هما احرار هوجع دماغي لية. 

غمغمت بها وهي تهز رأسها نافية ثم تحركت لتغلق باب المنزل بعنف غير مقصود، وغيظ كالموقد كان يشتعل داخلها، موقد تشكل من كونها أنثى هزمتها أنثى اخرى في حرب كيدية بدأت لتوها...! 


                              ****


بينما داخل الشقة الاخرى... 


بمجرد دخولهم سويًا، إندثرت قشرة الجمود والهدوء التي كانت تغطي ملامح مروان، وتأججت مشاعره الحقيقية المشحونة بالغضب والنفور وهو يسألها بصوت أجش:

-ممكن افهم إيه الضروري اللي انتي عايزاني فيه بقا. 

عضت غادة على شفتيها للحظات تلعن تسرعها وإندفاعها في مواجهته، ثم دارت عيناها بعيدًا عن حصار عيناه السوداء الوحشية المُخيفة ذات النظرات القاتلة التي صار يرشقها بها مؤخرًا؛ وبدأت تتمتم في توتر :

-طب أنت متنرفز لية دلوقتي يا مروان، أنا عملت إيه؟ 

هز مروان رأسه مجيبًا في هدوء ظاهري خالطه التهكم الصريح:

-معملتيش حاجة خالص، بس متهيألي إني قايلك مش عايز أشوف وشك ولو بالصدفة، تقومي جيالي بيتي وتطلبي تشوفيني! 

ابتلعت ريقها بازدراء ثم بدأت تبرر:

-لا أنت مش فاهم، أصل في حاجة. 

نظر لها متسائلًا، فتنحنحت تبحث في باطن عقلها عن حجة يسهل تصديقها، وفي نفس الوقت تأخره عن رهف لتحرق أعصابها أكثر.. 


ليزجرها مروان بنفاذ صبر:

-ما تخلصي هنفضل واقفين طول النهار عشان تقولي عايزه إيه ؟ 

حينها لم تجد حلًا تلجأ له سوى التمثيل! 

الفن الذي تجيده من صغرها عندما يُحاصرها الواقع؛ أمسكت رأسها وهي تغمض عينيها وتفتحها وكأنها تقاوم دوار شديد، ثم همست في وهن قبل أن تسقط ارضًا تدعي الإغماء:

-مروان الحقني. 

هبط مروان على الفور نحوها يتفحصها مصدومًا، ثم بدأ يحاول جعلها تستعيد وعيها....


                            ****


مرت ساعات قليلة... 


كانت رهف تحاول شغل وقتها الذي تركه مروان فارغًا بمشاهدة التلفاز، تنهدت بعدها وهي تنظر للساعة في هاتفها، مرت أكثر من ساعة وهو مع تلك الماكرة المدعوة بزوجته.. 

تأففت وهي تمسك جهاز التحكم، لاعنة تلك الغصة الأنثوية التي تأبى مغادرة جوفها وتركها خالية البال..! 

مر وقت قليل ثم سمعت طرقات على الباب، فنهضت متوقعة مَن هو الطارق، وبالفعل كان مروان الذي هتف هادئًا:

-السلام عليكم، عامله إيه؟ 

فأجابته بنفس السكون الذي كان يتلبسها:

-الحمدلله بخير. 

ثم تحركت تسبقه لتتجه نحو غرفتهم، جلست أمام المرآة ثم بدأت تمشط شعرها في هدوء، دلف مروان للغرفة خلفها ليجدها تمشط خصلاتها، فسألها بينما يجلس على الفراش متنهدًا:

-اتغديتي ولا لسه؟

فردت نافية دون أن تنظر له:

-لا لسه. 

فسألها مستفسرًا:

-لية ماتغدتيش كل دا ؟ 

هزت كتفاها ومن ثم همهمت في خفوت:

-عادي يعني اتلهيت وانا بتفرج على التلفزيون.  

وقف مروان خلفها يسألها بينما ينظر لإنعكاس وجهها في المرآة ملاحظًا صمتها وسكونها الزائدان عن حدهما:

-مالك؟؟ 

هزت رهف رأسها نافية بلا مبالاة، متمتمة:

-عادي يعني مالي؟! 

اقترب مروان منها ثم وقف خلفها مباشرةً لينحني لمستواها، أحاط جسدها بذراعاه برفق ثم بدأ يُبعد خصلاتها السوداء عن رقبتها الناعمة، ليطبع عليها قبلة دافئة عميقة كانت كلسعة الكهرباء التي جعلت خلايا رهف تنتفض في ارتباك لذيذ فطري، بينما يصلها همسه الرجولي الذي يثير فيها نزعة الأنثى رغمًا عنها:

-وحشتيني. 

لم تستطع حينها إخضاع عقلها الذي كان في حالة استنكار تام لكل ما حدث الساعات الماضية، فحاولت ابعاد مروان وهي تردد متسائلة في ارتباك به شيء من الضيق الخفيف:

-أنت استحميت؟ 

للحظة لم يستوعب مروان سؤالها الغريب في الوقت الأغرب، ثم ابتعد وبدأ يتشمم ملابسه مغمغمًا في استغراب:

-هو انا للدرجادي ريحتي وحشة!! دا انا لسة مستحمي الصبح.

نهضت رهف لتصبح أمامه تواجهه بكلها، ثم تابعت وهي ترمقه بنظرة ذات مغزى:

-أنت فاهم قصدي كويس يا مروان. 

وكأنها بنظرتها رمت نرد الاستيعاب مبعثرة التصلب العقلي الذي أصاب مروان للحظات معدودة.. 

فالتوت شفتاه بما يشبه الابتسامة والتي لا تمت للمرح بصلة، ثم تشدق بإجابة ملتوية :

-لأ متقلقيش أنا مستحمي. 

لم يُريحها ويعطها الرد الذي كانت في انتظاره؛ لم يخبرها صراحةً إن كانت تلك الخبيثة زوجته قد استرقت حقها الطبيعي في قربه؛ في أولى أيام زواجهما ام لا.

ثم تحرك نحو الفراش يمسك بهاتفه بشيء من التجاهل، بينما هي تهز قدماها من هدوءه المستفز، ولم تحكم السيطرة على لسانها حين اندفع قائلًا:

-بس المدام شكل عفاريتها مش راضية عن الجوازة دي. 

رفع مروان عينيه عن هاتفه ببطء محدقًا بها بنفس الهدوء، ثم تركه ونهض مقتربًا منها كأسد على وشك إلتهام فريسته، حتى وقف أمامها، وبنظرة صلبة تليق بالقذيفة التي إنطلقت من وسط حروفه، تابع:

-ترضى ولا مترضاش، أنا الراجل وأنا حر أتجوز مرة اتنين تلاتة اربعة. 

رفعت رهف حاجبها الأيسر في اعتراض مكتوم سمع صياحه من بُنيتيها؛ حين ذكر التعدد وكأنه شيء أكثر من عادي، وربما يفعله في أي وقت. 

ليردف بعدها بلهجة أكثر جمودًا بها شيء مُبطن من التحذير:

-وأعتقد إننا أتفقنا إنك هتتجاهلي موضوع جوازي دا تمامًا وكأنه محصلش عشان أنا وانتي نكون مرتاحين. 

صاحت رهف منفعلة وذاك المشهد يتكرر في عقلها فيزيد من شرارة إنفعالها:

-أنساه ازاي انت مش شايف هي بتعمل إيه، بكل بجاحة جايه تاني يوم جواز تقول عايزه جوزي. 

فقال مروان في خشونة يحذرها:

-على فكره لو مش واخده بالك هي لسة مراتي.


-امال اتجوزتني ليه لما هي لسة مراتك ودا الطبيعي وحقها والدنيا جميلة؟! 

زمجرت رهف بها في استنكار حقيقي وحاجة مُلحة للإجابة، وثباتها قد أُصيب بعقم في ظل كل هذا الغموض الذي فُرض عليها. 

بينما بدأ الغضب يندلع في بؤبؤي عينيه، واحتدت نبرته وهو يقول واضعًا حدًا لذلك الحوار الذي بدأ يخرج عن زمام سيطرة العقل والهدوء:

-اولًا اعرفي انتي بتتكلمي ازاي يا هانم، ثانيًا تقريبًا أنا لسة من كام ثانية قايلك إني راجل وحر، والشرع محلل ليا الجواز بدل مرة اربعة كمان، ومافيش حاجة تمنعني. 

ثم إلتقط هاتفه وتحرك ليخرج من الغرفة متجاهلًا حقها في الرد. 

فأمسكت رهف بالفرشاة التي كانت تمشط بها منذ قليل لترمها على الفراش بعنف وهي تغمغم بما يشبه الهذيان:

-ما أنا اللي عملت في نفسي كده أنا استاهل، كان في إيدي أتجوز واحد أكون أنا الست الوحيدة في حياته من غير ما تطلعلي واحدة ترازي فيا وتحرق دمي. 


وفي نفس الوقت كان مروان يقف أمام باب الغرفة يتنفس بعمق عله يستطع تنفيث دخان الغضب الذي تصاعد داخله.

سيكون هو المُسيطر والمتحكم في تلك العلاقة؛ لن يسمح مرة أخرى أن يكون هين لين وحين ترتفع الأمواج من أمامه يكون هو أول مَن يُضرب بها، يجب أن يكون أعلى من كل الأمواج..

لن يكون مروان الطيب الخلوق فتعتقده أخرى أنه ضعف شخصية فتتجرأ عليه لدرجة أن تود وشمه بالعار طيلة حياته.. ولكن كل هذا سيكون تحت ظلال الهدوء. 

وحين سمع رهف تغمغم بتلك الجملة، وكأنها أعادت تحرير كافة شياطينه التي كان يحاول حبسها في أبعد نقطة داخله، فاندفع للداخل مرة اخرى وبحركة مباغتة كان يجذب رهف من ذراعها بقوة نحوه فشهقت بفزع، فيما استطرد هو بلهجة عنيفة حادة يسألها مستنكرًا:

-هو مين دا اللي كان ممكن تتجوزيه؟ 

لم تتوقع رهف أن يكون قد سمع جملتها التي نفذت للمرة الثانية مخترقة هالة تحكمها الواهية، وإنكمشت للخلف مصدومة مرتبكة من هجومه المفاجئ، ثم حاولت إرغام لسانها المعقود على النطق، لتخرج حروفها متلعثمة:

-لأ أنت فاهم غلط. 

تجاهل جملتها وهو يحاوط خصرها بذراعه بشيء من العنف، وجذبها نحوه حتى ألصقها به وتقاربت وجوههم حتى تشاركا لهاث الأنفاس، ضغط مروان على خصرها وهو يجذبها نحوه أكثر وكأنه يؤكد ملكيته الحصرية لها، ثم همس بنبرة تملكية بحتة تشع عنفًا:

-دا قدرك، أنتي بقيتي بتاعتي ومراتي خلاص، ياريت تقبلي الواقع بكل اللي فيه زي منا قبلته. 


كان يقصد أن تتقبل ماضيه والذي لم يكن سوى زواجه، كما تقبل هو ماضيها وغض النظر عن كله. 


ولكن الجملة وصلت لرهف على محمل اخر، أحست أنه بكلماته ذات المغزى الجارح يتعمد إهانتها والتقليل من شأنها مستخدمًا في ذلك السلاح الأسود المُسمى بالماضي!.. 

فرمشت عدة مرات وقد إختنقت أنفاسها وكأنها تحارب غصة تود التحول لبكاء، تركها مروان مبتعدًا عنها ليغادر الغرفة صافعًا الباب خلفه بعنف، 

وتهاوت هي على الفراش محيطة وجهها بكفيها تأخذ شهيقًا وزفيرًا لتقتل هجوم البكاء المُلح على عينيها. 


                              ****


اليوم التالي صباحًا.... 


بوجه مُلطخ بالحزن الذي شق قلبها شقًا واجدًا طريقه فيه؛ كانت رهف تعد الإفطار بخطى آلية، تعلم في قرارة نفسها أنها تؤدي مجرد واجب كزوجة ولولا ذلك لما كانت غادرت غرفة الاطفال التي أخذتها ملجأ مؤقت لها. 


دلف مروان للمطبخ، ومن ثم صدح صوته الأجش هاتفًا:

-صباح الخير. 

لم تلتفت له حتى وهي تجيبه في وجوم:

-صباح النور. 

إنتهت من إعداد الفطور، ووضعته على المنضدة الصغيرة الموضوعة في وسط المطبخ، ثم تحركت متوجهه نحو الخارج، فأوقفها سؤال مروان المستفسر:

-انتي مش هتفطري معايا ولا إيه؟ 

فهزت رأسها نافية بنفس النبرة الواجمة:

-لأ انا فطرت خلاص، أفطر أنت. 

ثم أكملت طريقها متجهة نحو غرفة الأطفال، ليتنهد مروان بقوة، ثم نفض رأسه وهو يبدأ في إفطاره؛ مقتنعًا أنه بذلك يحرص على بناء أرض صلبة له في تلك العلاقة، حتى يسير كل شيء حسبما يريد وتحت سيطرته. 


في حين دخلت رهف غرفة الأطفال مرة اخرى، جلست على الفراش تستند بذارعيها على فخذيها وهي تهز أقدامها بقوة وداخلها مُهتاج من ذلك الهدوء المُستفز وكأنه لم يقل او يفعل أي شيء بالأمس..!! 


وفي اللحظة التالية إتسعت عيناها حين وقعت  على "دمية" تعرفها جيدًا موضوعة على الطاولة الصغيرة المجاورة للفراش، نهضت كالملسوعة تنتشلها بسرعة لا تصدق عينيها، تتحسسها وكأنها تتأكد إن كانت حقيقة ام أن عقلها المشوش بين الماضي والحاضر يختلق صورًا خيالية!.. 


لا تدري حتى مَن الذي أتى بتلك الدمية إلى منزلهما هي ومروان، فهذه هي المرة الأولى التي تنتبه لها، ولكنها خمنت أنها ربما تكون والدتها التي تولت مهمة القيام بنقل جميع اشيائها واثاثها لمنزلها الجديد. 


ابتلعت غصة مريرة في حلقها وهي تنظر لتلك الدمية؛ سبحان مقلب المقلوب، فبالأمس كان قلبها ينبض حبًا لذلك الشخص، واليوم ذكراه الماضية تكاد توقف سير دقاتها مُميتة هذا القلب. 


كادت تتركها وهي تتنهد، ولكن فلتت نبضة مرتعدة من قلبها حين لمحت "مروان" الذي لا تدري متى جاء أمام الغرفة وبالتأكيد رآها وهي شاردة بهذه الدمية، وحاولت طمأنة نفسها أنه بالتأكيد لم يرى هذه الدمية من قبل ولا يدري مَن صاحبها. 

ولكن إتسعت عيناها رعبًا حين مد يده ينتشل الدمية من بين يداها مزمجرًا بغضب أرعبها:

-الزفتة دي بتعمل إيه هنا ؟! 

هزت رأسها نافية بسرعة:

-معرفش يا مروان والله. 

فصرخ فيها بعروق بارزة تنتفض غضبًا، والغيرة الحارقة جعلت اوردته تغلي في تلك اللحظات:

-يعني إيه متعرفيش امال مين اللي جابها هنا. 

هزت رأسها نافية تردد وكأنها لا تجيد سوى النطق بتلك الكلمات:

-صدقني أنا معرفش، أنا آآ.... 

قبض على ذراعها في عنف مقصود جاذبًا إياها نحوه جعلها تتأوه ألمًا وهي تنهض لتصبح أمامه مباشرةً، على مرمى عيناه السوداء المُخيفة التي كانت تصرخ بغضب أهوج يهدد ببطش كل مَن أمامه. 

وما زاد من هلعها في تلك اللحظات هسيسه المرعب وهو يهمس أمام وجهها بلهجة خطرة:

-انتي لسه بتفكري فيه؟ واحشك؟ 

هزت رأسها نافية بقوة، تشعر أن قلبها سينفجر في اللحظة التالية من كثرة الضغط عليه.. 

-لا طبعًا أنت ازاي تفكر كده.

بينما مروان كان في وادٍ آخر، كان يعاني ويلات تجربة سابقة أحيت رهف أشباحها في تلك اللحظات لتبدأ بمطاردته فتخرج اسوأ ما فيه. 


فدفعها على الفراش بعنف ثم انحنى نحوها يضرب على الفراش عدة مرات بعصبية مفرطة مزمجرًا بما يشبه الجنون:

-امال عايزاني أفكر ازاي لما اشوف حاجة كان هو جايبهالك انتي لسه محتفظة بيها وجيباها بيتنا، بيت جوزك يا هانم يا محترمة. 

ثم نظر لوجهها المرتعد بدموعها الحبيسة في عينيها، ليقترب بجسده منها وملامحه كلها تنضح بالإجرام، كز على أسنانه وضغط على باطن يده بعنف وكأنه يحاول مقاومة نفسه...


بينما هي تتراجع للخلف في قلق حقيقي، هامسة بحروف مُشردة خرجت بصعوبة:

-مروان أنت هتعمل إيه! 

أنقذها الهاتف في اللحظة التالية حين بدأ يرن بإصرار دون توقف، فاضطر مروان أن يبتعد عنها متوجهًا نحو هاتفه.. 

بينما هي تتنفس محدقة في اثره وكأنها لا تصدق أنه لم يلتهمها حية! 


في نفس الوقت الذي كان مروان قد رأى المتصل والذي لم يكن سوى حماه " والد غادة " فبدأ يتنفس بعمق مغمضًا عيناه يحاول استحضار التعقل والهدوء. 

وبالفعل تم، فأجاب المكالمة المُصرة، بصوت أجش قائلًا:

-السلام عليكم. 

فأتاه صوت حماه الذي كان به شيئًا من التهكم:

-وعليكم السلام، أخيرًا قررت ترد عليا يا مروان. 

-معلش يا عمي عريس بقا أنت عارف. 

قالها مروان في سماجة متعمدة، فأحس أن "فايز" يعصر على نفسه مائة ليمونة ليتابع ولم تخفى عن مروان لهجة التهكم:

-اه طبعًا، مبروك يا عريس! 

-الله يبارك فيك يا عمي، مش هقولك عقبالك بقا أحسن حماتي تدعي عليا. 

-أنا عايز أقعد معاك يا مروان، لازم نتكلم في حاجات كتير. 

دفع فايز بمغزى تلك المكالمة سريعًا بنبرة جامدة، فهز مروان رأسه وكأنه يراه، ورد:

-اه طبعًا طبعًا هنقعد ونتكلم براحتنا، بس معلش يا عمي اعذرني أصلي مسافر شهر عسل بكره. 

وقبل أن ينطق فايز كان مروان يكمل ببراءة لا تليق به في الوقت الحالي ابدًا:

-بس اوعدك اول ما أرجع تكون أنت اول حد أشوفه. 

لم يكن أمام فايز سوى الرضوخ والموافقة فغمغم موافقًا على مضض:

-ماشي يا مروان بس ياريت متتأخرش ومتنساش. 

-اكيد. 

-سلام. 

-مع ألف سلامة. 

أغلق مروان الهاتف، وشيء ماكر يشبه الابتسامة كان يتعلق بحبال ثغره، وعيناه تحمل لمعة تنبئ بنجاح مخططه.. 

سيتأخر في تلك المقابلة التي يعلم جيدًا ما الذي سيدور بها، ثم حين تصير رهف "حامل" سيأتي بها ليُفجر قنبلته في وجوه الجميع.... 


                     الفصل الرابع من هنا

لقراءة باقي الفصول من هنا



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-