CMP: AIE: رواية لعبة الهوي الفصل الاول والثانى بقلم زيزي محمد
أخر الاخبار

رواية لعبة الهوي الفصل الاول والثانى بقلم زيزي محمد


رواية لعبة الهوي 

 الفصل الاول.والثاني 

بقلم زيزى محمد

ما بين البدايات والنهايات خطوط طويلة، تملؤها أحداثًا أحياناً 


مريحة للنفس، وأخرى مرهقة، نحتفظ بحلاوة البدايات 


ونستمتع بها لأقصى درجة، حتى إنها تظل معلقة بقلوبنا 


لفترات، أما النهايات فلها طريق مختلف موجع، قاسٍ، مرارته 


تتعلق بعقولنا، وأحيانًا تطمس معها متعة البدايات!.

في ليلة شتاء قارسة، تتساقط بها حبات المطر فوق شوارع 


القاهرة، في مشهد يتكرر إلى حد ما في فصل الشتاء، وكالعادة 


يفر المارة إلى بيوتهم، يحتمون بها من صعوبة الجو، إلا هي 


سرقها الوقت معه في الكافية الخاص الذي يملكه في إحدى مناطق القاهرة الراقية..

استندت رقية ذات الرابعة والعشرين على الزجاج الذي كان 


يمثل جزءًا كبيرًا من تصميمات الكافية، راقبت بعيناها الزرقاء 


تساقط حبات المطر في تناغم رهيب مع هدوء المكان الذي أثار بعض الريبة والقلق بداخلها.

وأثناء انغماسها في تفكيرها، انتبهت إلى تلك الساعة التي 


أصدرت صوتً مزعج فسرقت انتباها، حولت بصرها نحوها 


وحقًا لم تفهم سبب تعلق حمزة بها، فالمكان أساسه راقي وعصري، وهي قديمة وكبيرة، تحتل جزءًا كبيرًا من الحائط، غريب حمزة ذاك هو وأفكاره، رغم أن خطبتهم مرت عليها أكثر من شهران، إلا أن عيناه مازالت


 تدفن بها الكثير من الأسرار والغموض التي تحاول اكتشافه يومًا بعد الآخر، ظهوره في حياتها غريب وتقربه منها أغرب، ولكن... خرجت من تفكيرها 


على الأضواء التي تقفل واحدًا تلو الآخر، راقبت الإغلاق التدريجي بقلق، حتى توقف تمامًا وبقي النور الذي يقبع فوقها مضاء، التفتت حولها تبحث عن العاملين لم تجد أحد، إلى هذا الحد شردت ولم تنتبه بخلو المكان!.

نادت بصوت مهزوز وضعيف : 

- حمزة.

وانتظرت ثوان بسيطة رده، ولكن السكون هو سيد الموقف، كررت ما تفعله والرعب يدب في قلبها، حتى ظهر حمزة من آخر الردهة الخاصة بالمطبخ، تنهدت براحة وهي تقول في ضيق بالغ : 

- حمزة ايه الرعب ده، بتقفل الانوار ليه؟!.

اقترب منها حمزة وهو يضع يده في جيب بنطاله ببرود : 

- علشان ميحصلش ماس وفي مطر بره، ومفيش حد هنا أصلاً، فسبت النور ده بس نقعد عليه.

شهقة غبية صدرت منها تعجب هو لها، وهي تهتف في تساؤل غريب : 

- ياعني إحنا لوحدنا دلوقتي؟!، لا لا أنا هامشي.

لم تنتظر إجابته بل انطلقت تجذب حقيبتها بسرعة واتجهت صوب الباب الرئيسي، إلا أنه قطع طريقها حينما مسك يدها يحاول إيقافها.

- رايحة فين؟!.

ابتعدت عنه وهي تجذب يدها من قبضته بعنف، مردفه بصوت غاضب لم تتحكم به : 

- قولتلك مليون مرة، متمسكش ايدي، أنت إيه مبتفهمش.

- مـ.... إيه، عديها كده.

قالها وهو يقترب منها بطريقة أفزعتها، فجعلتها تبتعد عدة خطوات للخلف كالبلهاء، وصوتها يخرج مهزوزًا رغم محاولاتها  بأن تجعله ثابتًا بقدر الإمكان : 

- مقصدتش، متفهمش كلامي غلط.

وفي لمح البصر كان يحاوطها بيده ويحتجزها بينه وبين الحائط من خلفها، مصححًا لها بطريقة حادة أربكتها : 

- اسمها، أنا أسفه.

وضعت الحقيبة بينهم وعيناها تزداد عناد وقوة، وكأنها غير عابئة بنظراته التي تلتهم أدق تفاصيل وجهها، مما زاد من احمرار وجهها، فبدت كحبه الطماطم في أوانها، لم تعلم أنها في تلك اللحظة وبنظراتها تلك اندلعت بسببها نيران به، لم يعلم هويتها، كل ما يعرفه الآن، هو مدى استمتاعه بقربها ذلك، فقرر الاستمتاع بتلك اللحظة غير مراعيًا لمشاعرها التي كانت في حالة صراع قوي مع معتقداتها وأفكارها، وخاصةً حينما دق ناقوس الخطر بعقلها يحثها على الابتعاد بأي طريقة، ولكن كيف؟!، وهو يحاوطها كالأسد الذي يود التهام فريسته.

نظراته لم تكن مخيفة لها بقدر ما كانت تسبب لها الخجل والإحراج لانعدام المسافة بينهم، تمسكت أكثر بحقيبتها، وكأنها تتمسك بآخر حبل للنجاة من السقوط في غرامه أكثر والاعتراف له بحبها الذي بدأ في الاندلاع بقلبها الغض منذ أول مقابلة معه، ولكن أفكارها كانت لها السلطان الأكبر في التحكم بمشاعرها ورسم حالة الجمود على وجهها بحرفية كما اعتادت معه أو مع غيره.

ولكن مع ذلك الوميض الذي يأسرها بعينيه، جعلها تترك عد الدقائق، وتنسى وضعهما ذلك وتنغمس معه للكشف عن ذلك الغموض الذي يحتل عيناه، وكأنه حاجز قوي ومنيع يمنع حقيقته عنها، ربما تلك الحقيقة مخيفة وموجعة، وربما هي تتعلق بشخصيته، كم تمنت أن تتحلى بقدر أكبر من الذكاء، لفك شفراته وتستطيع الاعتراف بشيء كاد أن يصبح مستحيل البوح به يومًا ما.

ارتفع رنين هاتفه بنغمه صاخبة جعلتها تنتفض بقوة وتبتعد عنه بعنف كاد أن يوقعه للخلف بعدما فقد تركيزه تحت تأثير عيناها التي تحمل زرقة البحر وصفاء السماء، مع تورد وجهها الجميل، لم يكن جريء من قبل بتلك  الطريقة، ولكن هي استطاعت سلب أنفاسه، وخاطره للتعلق بها.

راقب اندفاعها نحو الخارج، فارتفع صوته في نبرة رخيمة : 

- استني في العربية وأنا هقفل كل حاجه وهاجي.

                                 ***

وقفت أيسل أمام الجهاز الكهربائي، تضع حبات الفراولة ثم السكر وهي تعد ملعقة خلف الأخرى.

- واحد، اتنين، تلاته...هي ماما قالت أربعة ولا ستة.

_ أربعه كبار ودوقي الأول يا هبله.

التفت أيسل في سرعة حتى أنها أفلتت السكر من يدها وتناثر على الأرض في طريقة عشوائية أثارت غضب الأم فقالت بغضب مكتوم كاد ينفجر من حروفها : 

- انتي عبيطة يابت، هتشليني ولا ناويه على موتي، تصدقي بالله شهاب هيطلقك من تاني يوم.

زفرت أيسل في غيظ، وهي تنحني بجسدها الضئيل نحو الارض، قائلة : 

- ياعني هو كده مش هيسمعك وهو بره، وبعدين شهاب ميهموش الكلام الفاضي ده.

ضربتها والدتها " زينات " بخفه خلف رأسها، مردفه في توبيخ : 

- بقى أنا بقول كلام فاضي يا قليله الادب، يام لسان طويل..

واستكملت زينات حديثها وهي ترفع

 يدها إلى السماء كحال جميع الأمهات المصرية، تمتم بضيق : 

- اعمل إيه بس، واحده لسانها طويل وتانية ماشية تنقط الناس بكلام دبش، وأنا أصلح وراهم.

نهضت أيسل في خفة وقامت بطبع قبلة فوق وجنة والدتها رغم اعتراض زينات لها : 

- مالك بس يا زوزو، من الصبح مضايقة ليه.

- خايفه على رقية، كل يوم أعد في الأيام واشوف هاطول مع العريس ده ولا ايه.

كتمت أيسل ضحكة قوية بصعوبة، قائلة : 

- هي كانت اتخطبت قبله علشان تعملي كده، ده أول عريس.

زفرت زينات في تفكير وشرود : 

- ماهو علشان أول عريس يابنتي، اختك محدش يستحملها، وأنا نفسي أطمن عليها، وبعدين اول مرة تطول معاه في الخروجه كده.

- متقلقيش هتكمل معاه إن شاء الله، وبعدين هو اللي خاطبها بمزاجه مش جاي عن طريق أمه ولا أخته زي باقي العرسان، وأنا حاسه أنها معجبه به بس مبتقولش.

انفجرت أسارير " زينات" في فرحة عارمة مردفه : 

- قولي بسرعة قالت حاجه، انتي شوفتي حاجه.

هزت أيسل رأسها بنفي قائلة بلامبالاة : 

- بقولك حاسه، وبعدين فكري كده ده تقريبًا اول واحد توافق تتخطبله، ياعني في مؤشرات حلوة.

دفعتها زينات بغيظ من أمامها قائلة : 

- مؤشرات، ابعدي يابت بعيد عن وشي، ما اطلع أشوف خطيبك وابوكي.

خرجت زينات تحت اعتراض أيسل في تركها في تلك المعركة وحدها ما بين السكر الملقاة أرضًا والفراولة في الخلاط، زفرت بحنق وهي تعاود مرة أخرى تنغمس بين الأشياء هنا وهناك، ولم تنتبه للشخص الذي يقف خلفها مباشرةً، سوى على لمسه يده لجانب وجهها في خفة.

كتم شهاب صراخها بأعجوبة، هامسًا عدة مرات بجانب أذنها بخفوت : 

- اهدي، أنا شهاب.

ابتعدت عنه بعدما أدركت مدى اقترابه منها بهذا الشكل غير المقبول بالمرة: 

- شهاب مينفعش كده، إيه دخلك المطبخ.

التقط حبه فراولة من الطبق ووضعها في فمه، متجاهلاً تحذيرات عيناها والتي تحثه على الخروج.

- قولت لمامتك عاوز أدخل الحمام، وأنا داخل لقيتك قولت أشوفك علشان وحشتيني في الشويتن دول.

أشارت على فمها في سرعة كبير حتى يصمت، أو يخفض صوته، قائلة بفزع : 

- شهاب هتودينا في داهية بعمايلك السودة دي.

اقترب منها شهاب ممازحًا : 

- عفريت رقية أختك لبسك تاني أهو.

حاولت رسم ملامح الجدية والجمود على وجهها، وعدم الانسياق خلفه كعادتها، متذكرة تنبيهات وتحذيرات رقية لها حول شخصية شهاب، فهو شخص متهور من وجهه نظرها، حاولت بقدر الإمكان إبعاده عنها، ولم تفلح بسبب تمسك أيسل به، وعلى الرغم أن رقية اعترضت اعتراض قاطع عن علاقتها به وقصة حبهما قبل الخطبة، إلا أن أنها استطاعت الاستمرار وقطعت مسافة ليست بهينه بعلاقتهم، إلى أن وصلت لارتباط رسمي، وهذا لا يعيني الا شيء واحد، ألا وهو أن أفكار رقية عن الحب خطأ، فشهاب ليس بالخائن، ولا يحمل صفات سيئة، هو فقط أفعاله مجنونة وغير متوقعة يعيش حياته كما هي ولا يحب التجمل، كما أنه صادق جدًا بحبه لها، ولكن رقية دائمًا تقف لها بالمرصاد، وتعلق على جميع تصرفاته وأفعاله، وكالعادة هي بكل ساذجة تخبر شهاب بحديث أختها ونصائحها، ولا تدرك أن سذاجتها تلك لها تأثير كبير على رأي كلاً من شهاب ورقية في الآخر، حتى إنها لم تستطع إنهاء تلك الفجوة بينهم، بل اتسعت تدريجيًا، وهي أصبحت كالضائعة بها، لا تملك سوى خيار واحد هو إرضاء الطرفين، لا تستطيع الابتعاد عن شهاب حبيبها، ولا كسر خاطر شقيقتها، في النهاية رقية تحبها وتفعل ذلك من دافع الأخوة والحب.

استفاقت من شرودها اللحظي على حركه يده أمام عيناها، قائلًا : 

- انتي جاية تسرحي في الوقت ده.

حمحمت بخفوت، ثم قالت بعتاب : 

- متتكلمش كده عن رقية، وبعدين بجد أفعالك دي هتودينا في داهية، أبوس أيدك يا شهاب ركز كده، وبلاش فضايح.

لم يعبأ بحديثها بل اقترب منها أكثر، ثم جذب يدها وطبع بهما قبلات صغيرة، هاتفًا بنبرة أثارت الخجل والشوق لديه : 

- بحبك اوي.

أنهى جملته بإرسال قبله لها في الهواء، ثم خرج من المطبخ بهدوء كما دخل، والمسكينة أيسل تاهت في بحور عشقه التي لم يبخل أبدًا في إغداقها بها.

تنهدت بعمق ثم عاودت مرة أخرى في استكمال ما كانت تفعله، ولكن تلك المرة أصابتها الهمه والنشاط، مع ابتسامه بلهاء يتزين بها ثغرها الصغير.

                                 ****

راقبت الطريق بملل، ملل تقنع نفسها به، حتى لا تتذكر كيف كانت حالتها وهي تحت سطوة عينيه، وآه من عيناه البنية، تحمل مرارة القهوة، وحلاوة الشكولا، بها مزيج غريب، تجعل من يقترب منها ينغمس بهما، وخاصةً مع رموشه الكثيفة تلك، فشعرت وكأنها أمام حصن قوي يمنعها من السبر والوصول إلى أعمق نقطة بهما .

ضغطت فوق شفتاها بعنف، وكأنها تجاهد مشاعرها، فشعرت وكأنها مثل السجين الذي حصل على الحرية ولكن في صحراء جدباء، يركض باحثًا عن النجاة.

 لم ينقطع المطر أبدًا منذ هطوله، حتى أن شوارع القاهرة بدت وكأنها بحورًا صغيرة، لم تعرف سبب بطيء السيارة أهو بسبب كثافة المياه، أم هو من يتعمد ذلك ويريد إرباكها.   توقفت للحظات مع نفسها وبدأت تسأل نفسها سؤالاً مُهم لِمَ تعامله وكأنه عدو، أو يريد أذيتها، لِمَ يتجه تفكيرها نحو الاسوء، وسوء الظن به، سؤالاً واحدًا كان كفيلاً في تدفق الباقي،  أسئلة أرهقت عقلها وقلبها، وما يجعل الأمر أكثر صعوبة هو معرفتها للإجابة ومحاولتها لدفنها في سراديب عقلها، صراع غريب إذا أوقع الإنسان به لن يتعافى قلبه، ولن يهدأ عقله، وهي من أوقعت نفسها به بكل غباء ظنً  منها أنها تفعل الأصح والأفضل.

أجفلت على توقف السيارة بمنتصف الطريق، التفتت له في ذعر : 

- لا متقولش إن العربية عطلت.

رمقها من الأسفل إلى الأعلى بسخرية، جعلت شرارة الغضب تندلع بعيناها : 

- بطلي أفورة بقى، هو أنا خاطفك، أنا نازل أجيب حاجة وراجع.

أصابتها الصدمة من حديثه ذلك، فـ لم يعد لديها القدرة على الرد، رغم أنها تستطيع الحصول على جائزة فن الرد، إلا أنه تحديدًا يتفوق عليها، لِمَ تشعر وكأنه والدها في تصرفاته معها، وعادت الأسئلة مجددًا لذهنها، ولكن ما جعلها تتعجب هو وقوفه أمام محل صغير لبيع المثلجات، عقدت حاجبيها بتفكير إلى أن جاء ومعه علبة صغيرة بها المثلجات التي تعشقها.

جلس مكانه مرة ثانية وقدم لها العلبة ضاحكًا : 

- ايس كريم في ديسمبر، خدي عارفك مجنونة وبتحبي الحاجات الهايفة دي.

فتحت فمها متعجبة من كم التوبيخ الذي سقط فوق رأسها من العدم، فقالت بتسرع : 

- انت اللي مجنون بجد، حضرتك هي دي الرومانسية.

صمتت لبرهة بعدما تفوهت بذلك، ووضعت أصابعها فوق فمها بطريقة عجيبة، وكأنها تفوهت بشيء غير مناسب، فبادر هو بالتحدث متهكمًا : 

- شفتي أهو لما بقولك بتأفوري بتزعلي، في إيه يا رقية، ناقصك حنان، قوليلي وأنا اظبطك.

- تظبطني!، بس يا حمزة بجد انت النهارده غريب، وتصرفاتك أغرب، جايبلي أيس كريم في الشتاء، غريب آوي بجد.

قالت جملتها الأخيرة بحرقة، وهي تضع العلبة بين يده، ولكن ما جعلها تتجمد مثل المثلجات بين يدها، هو  إمساكه بكفيها بقوة، متحدثًا وهو ينظر في عينيها : 

- عارفة أنا مقدر إنك مضايقة، علشان أنا أخدت بالي عن حاجه بتحبيها، اللي زيك بيحب يكون زي البيت المقفول محدش يعرف عنه حاجه، لكن أنا بقى قدرت افتح الباب وأعرف عنك حاجات كتير جدًا.

ابتلعت ريقها وهي تسأله في توتر : 

- زي إيه؟!.

- زي إنك خايفة أن تكون علاقتنا طبيعية بين اي اتنين مخطوبين، على طول بتوقفيني وكأنك قاصدة أن الموضوع يبوظ، مع إنك موافقة بإرادتك ومحدش غصبك.

ابتعدت عنه بعدما داهمها حالة ارتباك قوية:

- وايه اللي خلاك متأكد كده، ما يمكن بابا هو اللي غصبني.

عاود تشغيل المحرك، وبدأ في القيادة كما كان وهو يجيبها بتسلية : 

- مش رقية اللي حد يغصبها على حاجة، عيب أنا قريت في عينك من أول مرة شوفتك فيها، إنك موافقة عليا بكامل إرادتك.

ضحكت ساخرة وبدأت في التلاعب بالإجابات كعادتها دومًا:

- أوقات بقلق عليك يا حمزة من ثقتك دي، الغرور هو بداية الهزيمة.

- لما تعرفي الفرق بين الثقة والغرور، ابقى تعالي اتكلمي، خدي كُلي يالا.

تناولت منه العلبة بغيظ وبدأت في أكلها وكأن شيء لم يكن، أو هي من أقنعت نفسها بذلك.

                               **** 

خرجت من المرحاض وهي ترتدي ثياب أخرى مجففة، مسحت بالمنشفة أثار المياه من على وجهها، جلست أمام المرآة وهي تتأمل منظرها الجذاب، أحقًا ترى نفسها جاذبة وجميلة، ولكن لِمَ لا يراه الأناس ذلك، حتى أن حمزة لم يعترف مرة بجمالها ولا بجمال عيناها، كل من يقترب منهما هي وأيسل يثني على جمال أختها، وينجذبوا لها رغم أنها ليست بيضاء وعيناها لا تمتلك زرقتها، هزت رأسها باستياء حينما وصلت إلى الإجابة ألا وهي الروح، هي تنقصها الروح التي تمتلكها أيسل، ورغم شبابها وتورد وجهها، إلا أنها شعرت وكأنها عجوز أنهكها الزمن وأرهقتها الصدمات.

- رقية، تعالي بسرعة بابا وشهاب أقنعوا حمزة يسهر معانا، دي هتبقى سهرة حلوة اوي.

أنهت حديثها بسعادة، وخرجت مرة أخرى، التفتت رقية نحو المرآه وحاولت رسم ابتسامة واسعة مثل أختها، تحاول إقناع نفسها بأنها تمتلك نفس جاذبية أيسل وابتسامتها المميزة، ولكن ظهر انعكاسها بابتسامة باهتة مصطنعة، تلاشت فورًا كالعادة وظهر جمود مغلف بالبرود وسيطر على ملامحها.

نهضت فورًا وارتدت حجابها ولم تحكمه لأول مره، خرجت بتسرع وكأنها تهرب من شيء ما يلاحقها.

تقدمت منهم وجلست بجانب أختها في صمت تام، وانفصلت بعقلها بعيدًا عن حديثهم، انفصلت في بقعة أوقعت نفسها بها، تتخبط هنا وهناك كورقة خريف ضائعة،   أفكار عديدة ومشاعر أكثر تتأجج بصدرها.

انتبهت على أصابع أختها التي تغرزها بجسدها في خفة: 

- في ايه يا أيسل، بتهببي ايه!.

مالت أيسل نحوها هامسة : 

- حمزة بقاله ساعة بيبصلك جامد، وانتي ولا هنا.

حولت رقية بصرها نحوه، فوجدته يشير لها بعينيه نحو خصلات شعرها المتمردة من حاجبها، ارتبكت كثيرًا وهي تحاول احكام حجابها مجددًا، وعيناها لم ترفض الابتعاد عنه وعن ابتسامته التي تزين ثغره ونظرة الرضا التي احتلت عيناه.

التقط حمزة كوب العصير، وبدأ في الارتشاف قليلًا، غير منتبهًا لحديث شهاب سوى بآخره : 

- بس ياعمي أنا بقى حابب الصراحة اقدم معاد جوازي أنا وأيسل، ياعني بالكتير شهرين، نكتب الكتاب الشهر ده، وبعده الجواز.

حمحم والد رقية وأيسل في جدية، بعدما أخذ وقت قصير في التفكير ثم قال : 

- على بركة الله، بس هيبقى كتب كتابكوا أنت وأيسل، ورقية وحمزة خلال الشهر ده، لكن الفرح  بعد تلات شهور لو انتوا ترضوا ان فرحكوا يبقى واحد، علشان نلم المصاريف شوية وانا بجهز بنتين بردوا.

وعند هذه النقطة اندفع العصير من فم حمزة دفعة واحده، واتسعت عيناه في فزع وكأنه يشاهد فيلم مخيف

رواية لعبة الهوى 

 الفصل الثاني.

بقلم زيزى محمد

وصلت إلى الكافية في وقت باكر، وبداخلها نيران منذ البارحة، 


لم تعرف عينيها طريقًا للنوم، منذ ذهابه بالأمس بعد أن ساد 



التوتر والقلق في الجلسة وهي في وضع صامت تفكر فقط، 



وقعت في حلقات من الأسئلة، التي لم تجد لها إجابة قط، 


تصرف أحمق، ساذج، لا يليق به، أو بشاب مثله، لم تنكر أن 



هناك شعورًا لأول مرة تعرف مذاقه احتل صدرها، ألا وهو 



الغيرة، حروف تلك الكلمة لم تكن في قاموسها أبدًا، بسببه 



ظهرت، وللأسف غيرتها تجسدت في أختها، فمنذ البارحة وهي 



في مقارنة ما بين شهاب وذلك المدعو خطيبها، توالت الشتائم 


بداخلها، متمنية أن تطلقها في وجهه، علها تهدأ السنة نيران 


الغضب التي تزداد كلما تذكرت ما فعله.

اختارت هذا الوقت تحديدًا، لعلمها خلو المكان من العمال، 


دخلت تبحث عنه فوجدته يجلس أمام فتاة، وأمامهم قدحين 



من القهوة، رفعت أحد حاجبيها وهي ترمقه في غيظ وانفعال، 



ووقفت دقيقة بجانب الباب الرئيسي تراقبهم بتركيز، وخاصةً إن كانت تلك الفتاة لم تراها من قبل.

ضغطت فوق شفتاها في غيظ، عندما لم يلاحظها، لهذه الدرجة ينصب تركيزه عليها فقط!، حركها فضولها نحوهم، لترى من تلك الفتاة بوضوح أكثر، وعندما اقتربت وقف حمزة متفاجئًا بوجودها، أو لنقل تصنع ذلك، منذ دخولها من الباب الخارجي، مرورًا بالحديقة الصغيرة حتى وصلت إلى الباب الرئيسي، وهو يراقبها بطرف عيناه، لا شك أنه أصابته الصدمة حينما وجدها تمر من الباب الخارجي في هذا الوقت الباكر، ولكنه تعمد أن يتجاهلها، فلا بأس بقليل من التسلية معها، معترفًا أن انفعالها واحمرار وجهها مع توهج لون عيناها أصبح يعشقهما.

- رقية، إيه جابك؟!

نظرت له بتحدٍ وكأنها في حلبة مصارعة قائلة بجمود : 

- ايه مينفعش اجاي لخطيبي.

ارتفع جانب فمه في ابتسامه خبيثة، فقرأتها هي جيدًا، وندمت على ما تفوهت به، بلعت باقي حروفها، وهي تضغط فوق لحم شفتاها السفلي.

حمحم حمزة وهو يحاول كتم ضحكه، فمد يده مشيرًا نحوها قائلًا : 

- بشمهندسه سمر، اقدملك رقية خطبتي.

هزت المدعوة سمر رأسها في تحية صغيرة، ثم نهضت في خفة وهي تردف بصوت ناعم رقيق، أثار الغضب والغيرة أكثر لدى البلهاء التي كانت تقف تقبض فوق يدها بضيق بالغ وتحديدًا بعدما شملتها بنظرة سريعة من بداية شعرها الأسود الطويل، وملابسها الأنيقة والملتصقة بجسدها قليلًا .

- فرصة سعيدة، هكلمك بعدين يا حمزة، سلام.

 لم تستطع عيناها الابتعاد عنها، فراقبتها حتى خرجت من الكافيه، ومازال رأسها مصوب نحو الاتجاه التي خرجت منه، شاردة بتفكير، تفكير بات يأخذ منحنيات لن تتقبلها أبدًا.

- رقية، روحتي فين، رقبتك هتتلوح يا ماما..

- ها، بتقول إيه.

اتسعت ابتسامته أكثر، ولكنها كانت مستفزة، يقصد بها مضايقتها، فعادت بسرعة لطبيعتها وقالت : 

- مين دي، وازاي تقعدوا كده لوحدكوا، وليه يعني بتتقابلوا في وقت زي ده.

جلس حمزة مرة أخرى، ثم رمقها ببرود : 

- دي بشمهندسه اللي صممت الكافيه، كان في كام حاجه عاوز اعملهم زيادة وبقولها عليهم، أما بقى ليه نقعد لوحدنا، وفي الوقت ده ليه!.

صمت لبرهة قبل ان يجيبها بتحدٍ مماثل للذي ينطلق من عدستيها كالأسهم : 

- ده شيء ميخصكيش.

- نعم ؟!، ده اللي هو ازاي.

وقف حمزة أمامها مباشرةً، وهو يجيبها ببرود صقيعي، بعدما قرر بأنه لن يتهاون بعلاقتهم أكثر من ذلك، فيكفي مشاعره التي تأخذ منحنى تجاهها حتمًا سيجعله غارق في بحور عشقها، ولن يعرف بعدها طريق للنجاة : 

- الإجابه دي عندك مش عندي، ولا انتي بتنسي بسرعة، ولا هو حلال عليكي، وحرام عليا، فاكرة لما سألتك في أول خطوبتنا مين الشخص اللي واقفه معاه، رديتي بكل برود أنه شيء ميخصنيش!.

زفرت في حنق، عندما لاح بذهنها ذكرى شجار قديم لهم هي حقًا لا تود التفكير فيه حالياً، زمت شفتاها في ضيق وهي تعقد ذراعيها أمامها مردفه : 

- براحتك، أنا جاية هنا علشان نقطة واحده، وعاوزة إجابه صريحة، ليه عملت كده امبارح لما بابا قال نتجوز مع أيسل وشهاب.

رفع كوب المياه ليرتشف منه القليل، بعدما علم أن ذلك التحدي الذي يحتل عيناها لن يمر مرور الكرام.

- زي ما قولتلك امبارح، شرقت، إيه أول مرة تشوفي واحد بيشرق.

التوى فمها ساخرًا وهي تقول : 

- أنا مش غبية يا حمزة، أنت خوفت.

وضع الكوب على الطاولة في غضب، لم تستطيع تبريره.

- ايوه غبيه، ومش شرط كل حاجة اعملها تفكري فيها مليون مرة، وبطلي كلامك المستفز ده بقى، علشان حقيقي أنتي أكبر مستفزة شفتها في حياتي.

لأول مرة تجمعت الدموع في مقلتيها أمامه، وما جعلها تنفجر كالشلالات هو ظهور شهاب المفاجئ، لملمت بقايا كرامتها التي بعثرها حمزة بكلماته القاسية لها، وخرجت من الكافية تركض بسرعة، تبتعد عن مرمى بصره الذي كان يحرقها بعدما لمحت شيء من الكراهية به.

                              ***

في منزل رقية...

وضعت أيسل الأطباق فوق طاوله الطعام، وهي تستمع لحديث والدتها لوالدها في صمت تام .

- أنت يا محمد غلطت لما قولتله كده امبارح، شهاب يطلب يقدم جوازه هو حر، لكن حمزة مالوش دعوه، الصراحة صغرت نفسك معاه.

التفت محمد نحوها يحدجها بغضب، فتراجعت على الفور في حديثها، وحاولت تصحيحه بعد تلك الزلة الغير مقصوده : 

- أقصد هو ممكن يفكر كده يعني، بس أنا عارفة أنك اتكلمت عادي وبدافع ان الفرح يبقى فرحين.

- لا بدافع ان بنتك مش ناوية تجيبها لبر، أنا ملاحظ معاملتها معاه جامدة، وردودها زي الدبش، بتعند في كل صغيرة وكبيرة، وكأنها داخله تحدي.

قال حديثه بصوت مرتفع إثر انفعاله وضيقه، لاحظت أيسل توتر الوضع بينهم، فقررت أن تمتص غضب والدها، فقالت بهدوء : 

- أنا شايفة انه معملش حاجة أوفر، الراجل كان بيشرب وشرق عادي، وبعدين هو اعتذر وبالعكس مرفضش، يبقى احنا بنعمل حكاية ليه.

أشار محمد نحو زينات زوجته متهكمًا : 

- قوليلها يا أيسل، من امبارح وهي كل شوية تغلطني.

نهضت زينات من مقعدها ثم طبعت قبله فوق رأسه، متمتمة باعتذار : 

- والله ما أقصد، بس أنا خوفت أننا نكون بنضغط عليه، حقك عليا، وربنا يهديها بنت بطني.

تمتم كلاً من محمد وأيسل خلفها : 

- أمين.

                                    ****

- أنت السبب يا شهاب، إزاي تفكر في حاجة زي دي من غير ما تقولي وتعرفني حتى.

طرق حمزة بيده فوق الطاولة بعصبية، وتحديدًا بعدما لاحظ برود شهاب معه.

- أقولك إيه!، أنا عاوز أتجوز، هو إيه الغلط في كده، أنت هتحجر عليا.

اندفع حمزة نحوه، يجذبه من ياقته، مشددًا عليها، وهو يجز فوق أسنانه، فخرجت الحروف غليظة : 

- متخلنيش اعمل حاجات هتندم عليها اوي، أنت اللي ورطتنا، وأحنا الاتنين في مركب واحده، فتظبط كده معايا، أحسنلك.

- متهددنيش يا صاحبي، علشان اللي بينا ميوصلناش للوضع ده.

قالها شهاب بهدوء محاولاً امتصاص غضب حمزة، وهو يجاهد في فك أصابعه القوية القابضة فوق قميصه بقوة، فابتعد حمزة عنه وهو يحرك أصابعه في جانبي رأسه قائلًا بصوت قاتم، يحمل مشاعر مكبوتة، وصراع نفسي وحده من يعلم بمساوئه.

- ربنا يسامحك، أنا من امبارح منمتش، أنت حطتنا كلنا في دوامه كبيرة اوي، مش هنخرج منها إلا وكلنا خسرانين.

ابتسم شهاب في ثقة، تعجب لها حمزة : 

- مفيش خسارة، انت بس اللي قلوق بزيادة.

بادله حمزه ابتسامته بأخرى ساخرة : 

- ماهو من كتر قلقي، جيت عليها وهي مكنش ليها ذنب.

ارتفع ضحك شهاب عاليًا، وهو يطرق كف بآخر في انبهار : 

- بس انت جاحد، أنا أول مرة أشوف رقية بتعيط في حياتي، واشوفها ضعيفة كده، دي كانت لازم تتصور وتنزل على النت والله.

أغلق حمزة عيناه في ضيق لِمَ فعله بها، وهي لا تستحق ذلك، غضب غير مبرر، ولكنه كان كطوق النجاة للهروب من إجابة موجعة، آلام اجتاحت صدره وقلبه بعدما تذكر سقوط عبراتها بضعف، ضعف لأول مرة يراه بعيناها الحادة، حقًا لو انتظر دقيقة أخرى دون أن يركض خلفها، ويقوم بمراضاتها، لن يسامح نفسه قط، فانطلق لسان عقله في الحال يوبخه على مدى ثباته الانفعالي معها، بدأت قرارته الهامة تتبدد كجندي انهزم في حرب ظن بها الانتصار، والآن هو يهدم كل أفكاره، تاركًا لمشاعره حرية التصرف اتجاهها.. جذب متعلقاته وهم بالخروج سريعًا تحت تساؤلات شهاب له، ولكنه اكتفي بإجابة قصيرة، بالطبع لن ترضى فضول شهاب .

- مالكش دعوة رايح فين، عقابًا ليك هتقعد مكاني النهارده لغاية ما ارجع. 

  

                                ***

خطوة خلف الأخرى، ودموعًا تتسابق فوق صفحات وجهها، حتى أن الرؤية أصبحت مشوشة لديها بسبب ذلك الغلاف الرقيق الذي تكون في مقلتيها، هدوء الطريق في هذا الوقت الباكر جعلها تسير في أحد جوانبه تستنشق الهواء العليل، فذلك الضجيج الذي يعتلي صدرها يحتاج إلى هواء نقي يدخل رئتيها لعلها تهدأ لو قليلًا، ولكن كلماته كانت تتشبث أكثر بذهنها فجعلتها تنصهر في حزنها وضعفها الذي لأول مرة ظهر كوضوح الشمس أمامهم.

التقطت أذنها رنين الهاتف، ولكن عقلها أبى أن يخرج من تلك العاصفة، فتجاهلته عن قصد، مقررة أن تحظى ببعض من الوقت مع نفسها لتعود كما كانت، وتتخلى عن ذلك الضعف الذي ينهش في كرامتها.

جلست فوق إحدى المقاعد الخشبية المرصوصة على جانب الطريق، يغطيها الأشجار الكثيفة، سلطت بصرها على نقطة ما، وأطلقت العنان لنفسها في التفكير في رسم خطوط خطبتها من حمزة بهدوء.

ولكن من أين ذلك الهدوء ومازال هاتفها يصر على إخراجها من تفكيرها، أخرجته من الحقيبة وهي تقرر أن تصب كامل غضبها على المتصل، دققت بالشاشة فوجدت اسمه ينيرها، دق قلبها بعنف، وقررت أن تغلق في وجهه الهاتف.

وحقيقةً لم تمنع نفسها من سبه بغل : 

- حيوا...

ابتلعت باقي الحرف في جوفها، بعدما وجدت سيارته تصف بقوة أمامها، وترجل منها بكل عصبية منطلقًا نحوها : 

- أنتي إزاي مترديش عليا، أنا لولا المطب ده مكنتش هاخد بالي منك، وهفضل ادور عليكي زي المجنون.

بكل هدوء رمقته بنظرة مطولة جهل تفسيرها، ثم أخرجت منديلاً ورقياً من حقيبتها ورفعته بطرف أصابعها مسحت به دموعها التي مازالت متعلقه بجفونها، وكأنها تزيل آخر بقايا هزيمتها، ومن ثم ألقته أمامه في حركة مقصودة، رفع هو حاجبه لها، وبصوتها الحاد الذي حاولت أن تخفي خلفه قهرًا منه ومما فعله بها، قالت : 

- وتاعب نفسك ليه، احتفظ بعقلك وكنت خليك مكانك.

ضغط فوق أسنانه محاولاً ضبط انفعالاته من تلك الخرقاء التي تصر على إخراج أسوأ ما لديه، فقال : 

- بقولك إيه، هتستفزيني هستفزك وهنزعل من بعض، وهيبقى يوم مهبب على دماغك، هنحترم بعض اشطا اوك، هيبقى يوم لطيف ويعدي.

وقفت في لحظة أمامه بتحدٍ، مردفه : 

- وماله أنا بقى مش عاوزة يعدي، ما نشوف أخرتها معاك.

فرك وجهه في يده، متمتمًا ببعض الكلمات بصوت خافت وهو يكور يده بغضب منها ومما فعله، ومما يخفيه!.

مرت الدقائق عليهم وهما على ذلك الحال، حتى أبعد يده عن وجهه، ثم قال بهدوء زائف : 

- ما تيجي ناكل، أنا جوعت.

نظرت له ببلاهة غير مدركة لِمَ يقوله، حتى إنها نظرت للخلف تتأكد من خلو المكان، قطع عليها تعجبها بقوله الذي أثار جنونها، وفقدت أخر ذرة هدوء وعقلانية لديها : 

- حقيقي أنا مش فاهمك، انت مدرك عملت إيه، أنت زعقتلي بدون أي وجه حق، كرامتي اتهانت ولأول مرة، وقدام شهاب كمان، مش كفاية أحرجتني امبارح لا جاي تكمل عليا النهارده، والمفروض تتأسف، تصلح على الأقل اللي أنت عملته، بس لا إزاي لازم تكابر وكمان تزعقلي وكأني جارية عندك مثلاً.

- أنت ليه مش قادرة تقتنعي إن شرقت فعلا، بدليل معارضتش بباكي، رقية عارفة إيه نقطة الخلاف، إن ببساطه على طول بتشككي في كل تصرف أو كلمه بقولها، لازم يكون في بينا ثقة أكتر من كده.

ألسنة من النيران اندلعت بصدره بعد هذا الكم من الكلمات الخادعة، تصرف أهوج أوقعه في خداع أصبح يتقنه جيدًا، ولو استمر على هذا النحو حتمًا سيخسر من روحه واحترامه لذاته.

تنهد حمزة بعمق، ثم أردف بنبرة استسلمت لنداء خفي كان يحركه منذ خروجه للبحث عنها : 

- حقك عليا متزعليش مني، صدقيني أنا عمري ما أفكر أهين كرامتك، بالعكس إحنا اتنين مخطوبين مش أعداء، ياريت يا رقية لو تحاولي تهدي، ونظبط أمورنا مع بعض بطريقة ألطف من الخناق على كل حاجة.


زمت شفتها بضيق، وهي تفكر في حديثه الذي كانت تعرفه عن ظهر قلب، وتدرك سبب تلك الفجوة القابعة بينهم، وقعت في حيرة ما بين القبول بكلامه، أو التشبث أكثر بما يدور بها.

- أظن أنه عيب ترفضي، عزومتي ليكي واحنا اتنين مخطوبين، أنا مش خاطفك يابنتي.

أغلقت عينيها بنفاذ صبر، قائلة : 

- على فكرة مينفعش تكلمني كده..

اقترب منها خطوة قاصدًا مشاكستها وهو يقول : 

- امال اكلمك إزاي؟!.

عادت للخلف خطوة كبيرة، فالتصقت بالمقعد الخشبي، وكادت أن تتعثر من فوقه، فأمسك بها حمزة في ثوان، دفعته رقية برفق للأمام قائلة بحزم : 

- عيب، إحنا في الطريق، وبعدين مينفعش أنا اللي اقولك تكلمني ازاي، المفروض دي تكون زوقيات منك.

ابتسم حمزة لها، وهو يغمز بطرف عيناه قائلًا : 

- اممم قصدك ان انا معنديش زوق.

- ما تخلصونا ياعم انت وهي بكلامكوا الغريب ده.

صرخت رقية في فزع حينما ظهر رجل ثلاثيني أشعث الشعر، يرتدي ثياب ممزقة ورديئة من وسط الأشجار..ولا إراديًا منها التصقت بحمزة في خوف، بينما سمح لها حمزة بالاقتراب موجهًا حديثه للرجل : 

-معلش ياعمنا قلقنا نومك بمشاكلنا، كمل نوم انت.

وبصوت هامس وهو يميل نحوها في خبث : 

- تحبي نحكي مشاكلنا أكتر معاه، هيتبسط اوي منك.

- لا لا، يلا بينا نمشي.

انطلقت صوب السيارة، تختفي بها من نظرات ذلك المجذوب، وما إن تحرك حمزة بها، هدأت قليلًا وعادت بسرعة لطبيعتها الجامدة.

- رقية هو أنتي مبتعرفيش تضحكي.

رفعت أحد حاجبيها باعتراض قائلة : 

- نعم؟!، هو إيه مناسبة السؤال ده!.

هز كتفيه ببرود مجيبًا : 

- عادي فضول، شوفي احنا قد إيه مع بعض وقليل لما بشوفك بتضحكي.

جذبت نفس طويل قبل أن تجيبه في حدة : 

- لاحظ إنك بتلمح لحاجات هتزعلني منك أكتر.

أوقف السيارة جانبًا ثم التفت نحوها وهو يسألها في جدية : 

- أحب افهم ايه الحاجات اللي بلمح ليها.

اعتدلت نحو أكثر قائلة بضيق بالغ : 

- أنت قاصد إنك توضحلي إن أنا نكدية مثلاً.

- مثلاً، أنتي مش متأكده من كده.

قالها في سخرية ولم يستطع منع ضحكه بعدها، فاغتاظت هي من طريقته معها، وزادت وتيرة أنفاسها العالية، وعقلها يحثها علي نشب شجار معه، أو غرس أظافرها في وجهه اللعين بابتسامته الألعن.

- اهدي، على فكرة دي كلها محاولات ان أضحكك.

اتسعت عيناها وهي تعود ببصرها نحوه مجددًا غير مصدقة قائلة : 

- انت فاكر إن أنا ممكن أضحك بالطريقة البايخة دي.

عبس بوجهه قاصدًا ليقول متسائلًا : 

- أنت قصدك إن أنا بايخ مثلاً.

- مثلاً مش متأكد يعني.

قالتها وهي تعقد ذراعيها أمامها في عناد طفولي.

- أنا شايف أن حد يجي يولع في أم العلاقة القذرة دي ونخلص.

شهقت بصدمة قائلة : 

- أحنا علاقتنا قذرة.

انفعل حمزة في ضيق وعصبية وهو يعاود تشغيل السيارة : 

- يمين تلاته مانتي متكلمه كلمة زيادة، انا حاسس إننا هنولع في بعض كمان ثانية، اقعدي ساكتة بقى لغاية ما نوصل.

                                ***

بعد عشرون دقيقة مرت عليهم في صمت، كلاً منهما غارق في تفكيره، خاصةً هو وجلد الذات، لن يستطع تقدم خطوة جديدة وهناك نوائب تقهر حياته، تذكره بموافقته على لعبة ظن بها النجاة، ولكنها ليست سوى هلاك يدمر حياته تدريجيًا، وقع في حالة من الشتات والضياع ما بين عقله وقلبه، عقله يحثه على الهروب تاركًا مشاعره تتلوى في البعاد، ولكن القلب كان له رأي آخر، حينما صور له بعض المشاهد في حال ابتعاده عنها، لاح على ذهنه فكرة حتمًا ستهدأ من حالته المضطربة، سيوافق على عقد قرانهم معطيًا لنفسه مساحة يتجرأ بها على مصارحتها بكل شيء يكنه بداخله، وبالتأكيد سيفعل ذلك قبل حفلة زفافه بها، مقنعًا نفسه بأنها لن تستطيع الهروب منه بعدما تصبح زوجته، سيكون مصيرها له حتى وإن كان أخر نفس يلفظه بالحياة كان على يدها.

وصلوا أخيرًا أمام أحد المولات الشهيرة، فتعجبت رقية قائلة : 

- هو إحنا جينا هنا ليه؟!.

حمحم حمزة ثم هتف بنبرة خشنة وكأنه يصارع شيئًا ما بداخله : 

- أنا شايف إن أنا زعلتك كتير النهارده، فقررت  أننا نقضى وقت لطيف مع بعض من غير عناد ولا زعل.

- مكنش له لزوم علشان شغلك والكافية.

قالتها في حرج وخجل من عرضه الذي خالف توقعتها، ومما زادها خجلاً هو إجابته التالية التي كانت لها أثر واضح على وجنتيها.

-  أنتي أهم من أي حاجه يا روكا انزلي.

وكيف لها أن تترجل بعدما فقدت طاقتها واتزانها بعد حديثه ذلك، فالبرغم من بساطة الجملة إلا أنها كانت لها أثر كبير في نفسها، وتحديدًا بذلك العضو الذي ينبض بصدرها، فأقسمت أنه كان يقرع كطبول الحرب.


تحركت بجانبه وعقلها يكرر بلا انقطاع جملته الأخيرة، فلم تستطيع منع ابتسامتها من الظهور، ابتسامة هادئة صافية بقدر صفاء جملته التي بعثرت ثباتها معه.

ولكنها لم تقدر على كتمان تلك الهواجس المنبعثة بين حين وآخر داخلها، فاندفعت تخبره في هدوء : 

- حمزة، أنت لو مش حابب نكتب كتابنا مع أيسل وشهاب عادي أنا...

- لا انا موافق، وقولتلك إنها كانت مجرد شرقة بسيطة، ده أنا حتى فكرت أن كتب الكتاب هيكون مع الافتتاح التاني في الكافية عندي إيه رأيك!.

صمتت بخجل، وهزت كتفيها بالموافقة فلا يوجد لديها أي اعتراض على كلامه، يكفي إصراره بالزواج منها، هذا وحده يجعل قلبها كالطير الذي يحلق عاليًا فرحًا بقدوم الربيع.

لاحظ حمزة خجلها وتورد وجنتيها، فابتسم بعذوبة عندما شعر براحة تجتاح صدره بعد هذا القرار الذي اهتدى له مؤخرًا حاسمًا الجدال لقلبه، فقلبه لن يستطع الابتعاد عنها، فقد أيقن أن عشقها هو السبيل الوحيد لتمسكه بالحياة بعدما كانت  لديه ليست سوى مجرد حياة كئيبة لا روح بها!.

ساد الصمت بينهما، فاتجه حمزة يبحث بعينيه عن محل لبيع الهدايا حتى يقتني لها هدية تعبيرًا عن أسفه لِمَ فعله معها اليوم، وأخيرًا وقع بصره على هدفه، فاستئذانها وابتعد ليدخل المحل بحماس حاول احكامه خوفًا أن تحبطه هي بآرائها، فدائمًا ما كانت ردود أفعالها تبهره، وأحيانًا أخرى تصدمه.

أما هي فانشغلت بمراقبته، وتعجبها من دخوله لذلك المحل حتى خرج بعد فترة قليلة يحمل حقيبة هدايا ويبتسم ابتسامة عريضة،  حتى وقف أمامها وقدم لها الحقيبة بصوت خافت لقرب المسافة بينهم، ونبرة دغدغدت تلك الفراشات التي ترفرف داخل أروقة قلبها: 

- متزعليش مني على أي حاجة، أكيد مش عاوز أضايقك، هو ضغط شغل مش أكتر، ويارب الهدية دي تعجبك.

مدت أصابعها الصغيرة نحو الحقيبة تمسكها بفرحة لم تستطع منعها من الظهور له، فارتاح قلبه من لوعته، وبقي ينظر لها مطولاً وكأنه يحفر بعقله ملامحها تلك بسعادتها التي أدخلت البهجة لصدره بعد حربه مع ذاته منذ الأمس.

إلا أن فرحتهم لم تدوم طويلًا؛ بسبب اقتراب شخص ما منهما، لم تتخيل رقية أن صديقتها  قد تراها مع حمزة يومًا ما، فتوترت وأصبحت كالغريقة التي تحاول البحث عن أكثر الطرق سليمة للخروج من ذلك المأزق.

- إزيك يا رقية .

خرج صوت رقية مهزوزًا بعدما ابتلعت ريقها : 

- عفت، وحشـ..، وحشتيني.

                      الفصل الثالث من هنا


لقراءة باقي الفصول من هنا


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-