رواية كاره النساء الفصل العاشر حتى الثالث عشر بقلم سهير عدلي


 الفصل العاشر والحادي عشر 

والثانى عشر والثالث عشر

 رواية كاره النساء

بقلم سهير عدلي

وضع مروان جبينه على باب حجرة العمليات، الندم يمزق أحشائه، هو الذي ظن نفسه ذئب بشري..قد ماتت الرحمة في قلبه، للحظات ظن أنه كفر بكل النساء..وأنهم كلهن في نظره مجرد  أداة للتسلية..للمتعة، للقضاء على الوقت، جومانة وحدها احتلت مكانة خاصة في قلبه، استولت عليه واستحوذت على نبضاته..عينيها أداة التحكم التي تتحكم به كل نظرة منها تزلزله..في لحظة غباء مضى على ثق ذبحها، في لحظة خوف من فقدها قبل أن يمزقها أربا بدم بارد.

همس لنفسه وهو يضرب جبينه في الباب عدة مرات والندم يأكل قلبه:

-ما كانش المفروض أوافق، ما كانش  المفروض أقبل..أنا غبي حمار..وحش مفترس ..ضيعتها قبل ما تبقى ملكي.

ظل يخبط رأسه في باب الغرفة ندما.. ويجلد نفسه ويلومها أشد اللوم.. يشعر أنه يريد أن يضرب نفسه بالرصاص عقابا لها على ما فعلته.


على بعد متر واحد جلس عبد الحميد أبيها على مقعد الأنتظار، وكل شئ بداخله متوقف نبضه ..قلبه الذي لا يخفق.. عقله المشلول ، ضميره الميت ..هكذا كان يشعر..صمت رهيب بداخله ينذر بشئ خطير..يريد أن يلوم نفسه ولا يستطيع..يريد أن يتكلم يعاتب ضميره يحاسبه..لكنه عاجز ..فقط كان لسانه ينطق بكلمة ينطقها بروح تحتضر..تخرج بحروف ضعيفة ميتة:

-بنتي..بنتي..بنتي..بنتي.


ساعتين بعدها خرج من الحجرة طبيب نسائي عمره ثمانية وعشرون عاما..أشقر..شعره أصفر ذو تعاريج..شفتاه غليظتان مقلوبتين باشمئزاز من فعلته، وجهه غاضب مستاء لم يخفى ذلك على مروان الذى أطرق وجهه خجلا من نظراته المحتقرة له وحينما قال له الطبيب:

-أنت جوزها.

أومئ مروان برأسه ايجابا.

استطرد الطبيب بنفس تعبيرات وجهه المستاءة:

-ايه ال أنت عملته في مراتك ده..ال أنت عملته ده جريمة، جريمة بشعة.. يحاسبك عليها القانون.

نبض قلب مروان بخوف ليس خوفا على نفسه بل خوفا عليها..حتى انه سأله وهو يحدق فيه باضطراب:

-حصلها ايه؟؛ قولي حصلها أيه.

وكأن الطبيب الشاب أراد أن يعذبه فلم يريحه بل قال له وهو ينظر له باحتقار:

-أدعي ربنا أن يلطف بيها.

ثم تركه وانصرف..كل ذلك وأبيها لم يتحرك قيد أنملة ولم ينظر حتى للطبيب وهو يتحدث  وحديثه يسلخ قلبه، لم يهم ليسأله عنها.. والصمت بداخله تحول الى براكين من الغضب ونارا تنتشر بداخله حتى كادت أن تحرقه.. لم ينهض الا عندما رأى ابنته تسوقها الممرضة أمامها على السرير المتحرك ..غائبة عن الوعي معلق في ذراعها المحلول.. حينها قام بصعوبة ساقيه مقيدتان كأنه لا يملك ارادة لتحريكهما ينظر لها وقد جادت عيناه أخيرا بدموع غزيرة يهتف بلوعة:

-بنتي ..بنتي..بنتي.

جذبه مروان من ياقته وظل يهزه بعنف قائلا له من بين أسنانه متوعدا:

-دلوقت بنتك..عارف ياعبد الحميد لو بنتك جرتلها حاجة وربنا محخليك دقيقة واحدة على وش الدنيا.

تعجب مروان من ردة فعله أنه لم يقاوم ولم يحاول حتى أن ينزع يديه عنه..أو حتى أن يدافع عن نفسه..بل تركه يفعل به مايشاء..كأنه تمثال من خشب لا يملك لنفسه أي حول، كأنه يستحق لنفسه ذلك.. ظل مروان يتفرس وجهه الذي بدأ يشحب بشدة ..شفتيه أصبحت سوداء..عيناه اغلقت بأعياء شديد ..ثم سقط فاقد للوعي..رغم عنه صرخ  مروان باسمه فزعا:

-عبد الحميد.

حمله بين ذراعيه وتوجه به نحو طبيب ليفحصه..والذي شخص حالته أنه تعرض لجلطة قلبية دخل على أثرها العناية المركذة.

************************************

كان مالك عائد من عمله فوجد نريمان جالسة على مائدة الطعام، دافنة وجهها بين ذراعيها تبكي بحرقة فسألها منزعجا:

-ايه عتبكي ليه؟؛ ايه الحوصل؟؛

رفعت رأسها كان وجهها أحمرا بشدة مبتلا بدموعها قالت بكلمات سريعة:

-جومانة صحبتي حتموت يامالك ..حتموت.

-طب اهدي إكده وفاهميني مالها صاحبتك دي حوصلها ايه.

قالت وهي تشهق:

-معرفش أنا كلمت عزيزة بطمن عليها قالتلي انها في المستشفى، وفي العناية بس مقالتش مالها وايه ال حصلها..عشان خاطري يامالك وديني ليها عايزة أشوفها عشان خاطري أنا قلقانة عليها قوووي.

ثم ارتمت في حضنه وقد تفاجأ بذلك فتسمرت ذراعيه.. حائر هل يضمها اليه أم يبتعد كما يأمره عقله، وبالفعل استجاب لعقله فقال لها وهو يبعدها عن صدره برفق:

-طب ماشي روحي غسلي وشك .. عشان نطمن عليها.

ابتسمت له في امتنان وركضت في حماس بعد أن قبلته في خده.

بعد أن اختفت من أمامه وضع يده على أثر القبلة زافرا بضيق رافضا  اياها.


*******************************

-خلاص يابنتي من ساعة ما جيتي من المستشفى وانتي حتموتي نفسك من العياط.


قالتها وداد وهي تشدد من ضمها لابنتها ..ولكن نريمان لا تكف عن البكاء والشهلقة تقبض على حضن أمها بقوة تحتمي بها من مصير كهذا قالت وكلماتها ضائعة من كثرة البكاء:

-مش قادرة ياماما مش قادرة من ساعة ماشفت جومانة راقدة ومش حاسة بالدنيا وأنا حموت عليها..الدكتور قال انها بين الحيا والموت لو النزيف موقفش حتموت ياماما حتموت.

ثم واصلت البكاء بهستريا..ووداد تشدد من ضمها وهي تقول:

-بعد الشر عليها ياحبيبتي ربنا يلطف بيها يارب ويشفيها..والله البنت دي صعبانة عليا مش عارفة أب ايه ده..ال يعمل في بنته كده..ربنا يحرقه البعيد.

رفعت نريمان رأسها من على صدر أمها تسألها بانزعاج:

-ماما..فين مالك..سابني وراح فين.

وداد:

-مالك يابنتي بعد موصلك راح الشغل أبوكي عايزه هناك ضروري.

نريمان بتزمر:

-يووووه بقى هو ده وقته ازاي يسيبني في الحالة دي أنا محتجاله قووي.

أشفقت وداد على ابنتها من شدة تعلقها بزوجها فقالت لها وهي تمسح على شعرها:

-حالا يجيلك يابنتي متقلقيش روحي أنتي بس اغسلي وشك ونامي شوية لحد ما مالك يرجع.

انصاعت نريمان لنصيحة أمها وصعدت الى شقتها وهي في أشد الحاجة الى وجوده بجوارها.

*********************************

في حجرة العناية المركزة القابع بها عبد الحميد، راقد على سريره موصول بأنابيب طبية، وأجهزة تشير لنبض ضعيف وحياة على وشك الأنتهاء، رأسه يروح يمينا ويسارا تحت كمامة التنفس كأنه في معركة..نعم هو الآن في معارك وليس معركة واحدة..معارك الماضي الذي حضر وكأنه يحدث للتو شاهدا على فعلته الشنعاء، حضرت أمامه ذكرى ليلة زواجه..تلك الليلة التي كان ينتظرها على أحر من الجمر في هذه الليلة سوف يتحقق أكبر حلم في حياته وهو زواجه من أجمل فتاة في القرية التي عين بها مهندسا زراعيا.. وهي سلمى ابنة عمدة هذه القرية، فتاة كالفرسة العفية..تملك كل مقومات الجمال، حلم كل رجال القرية ومطمعهم في نفس الوقت.. ذلك من أجل أموال أبيها التي سترثها بمفردها..كان عبد الحميد عريس لقطة بالنسبة للعمدة فهو مهندس، وسلمى لا تجيد حتى القراءاة والكتابة،( العمدة سيناسب المهندس يابلد ) هكذا كان يتحدث العمدة بين رجال  القرية.

اقيم عرس كبير بالطبل البلدي، عرس يليق  بالعمدة ونسيبه الباش مهندس، في مثل هذا الوقت كان من عادات هذه القرية أن يدخل العريس على عروسه ( دخلة بلدي) لكي يخرج أبيها  بعد ذلك بعلم الشرف مرفرفا عاليا أبيا بين أهالي البلدة.. ولكن عبد الحميد رفض تلك العادة المتخلفة، فهذه الليلة ملك له لا يجب أن يتعدى عليه أحد، وأصر عبد الحميد على أن تكون ليلة زفافه له وحده بينه وبين عروسه لا شريك بينهما، ولكن العروس ليست بكرا، يالعارك ياعمدة..خرج عبد الحميد في تلك اللحظة هائجا..سائر وعلم الشرف ناصع البياض..منتكسا بين يديه، يضعه أمام وجهه وهو ينظر لعيناه المزلولة قائلا:

-هو ده الشرف ياعمدة..بتغشوني بتضحكو عليا هي دي بنتك البكر المصون.

لم يستطيع العمدة التفوه ببنت شفة.. كان عرقه يسيل على جبينه بغزارة يشعر أن روحه تزهق بالبطيئ قال له بصوت محشرج:

-استر عليا ياعبد الحميد وال عتطلبه انا حدهولك.. أنا حكتبلك ثروتي كلتها.

توراى الشرف خلف سلطان المال..لمعت عيون عبد الحميد طمعا.. أمام الثروة تنازل عن كل شئ حتى الشرف.

وعاشت سلمى معه مكسورة مقهورة، مسجونة بجريمة عارها، كان عبد الحميد يعاملها معاملة العبيد..لم يغفر لها خطيئتها حتى ابنته التي جاءت بعد عام من زواجها لم يتقبلها، شك بها ولولا التحاليل التي أثبتت بنوتها له ، لكان ألقى بها في الشارع، أو في ملجأ، رحم الله سلمى عندما قبض روحها أثناء ولادتها..ولم يرحمها زوجها.. ذنبها الذي ارتكبته جعلها موصومة بالعار حتى مماتها، بل أنه لم يرحم أبنته التي ليس لها ذنب، عاش بوهم هذا العار ويقينه أن ابنته سوف ترث من أمها سلوكها السيئ..وحتما ستجلب له العار كأمها، فضيق عليها الخناق، وأغلق عليها الأبواب، حبسها في سجن الماضي، كان متزمتا معها..يعد عليها أنفاسها، ويحسب لها خطواتها كل ذلك لكي يحميها أو يحمي نفسه من عارا ظن أنه واقع لا محالة..ولكنا دمائها العفيفة الغزيرة التي فرشت الأرض أحييت ابوته بعثت حنانه من جديد..وولدت أيضا ندما شديدا.

ظل يهمس لنفسه بهستريا ودموعه تسقط من جانب عينيه:

-ابنتي أشرف من الشرف..أبنتي ضاعت بسببي..ضايعتها ..خسرتها بقسوتي..ظلمتها..بنتي جومانة ..جومانة..

وعلى صوته المحتضر باسم جومانه حتى أن الأجهزة ارتفعت أزيزها تنذر بتوقف قلب المريض.. ركضت الممرضة في عجلة..لتنادي على الطبيب..بعد أن حضر الطبيب وبذل كل ما يمكن لأنعاش قلبه.. مرة أخرى دون جدوى فالروح لفظت أنفاسها الأخيرة.


الى اللقاء غدا باذن الله حلقة جديدة.

#سهير عدلي


الفصل الحادي عشر


أربعة أيام وجومانة هاربة في غيبوبة ..عقلها الباطن الذي يشجب ما حدث لها، أراد أن يريحها من عذاب الدنيا..فأخذها لعالم الأحلام..دنيا نظيفة خالية من شرور البشر وقسوتهم..استطاع الطبيب الشاب بكل ما أوتي من قوة أن يوقف النزيف ليس من أجل زوجها ذلك القابع بجوارها ليل نهار. والذي يزرف دموع الندم من أجلها دموع تشبه لدموع التماسيح..لقد أنقذ حياتها من أجلها هي..من أجل زهرة شبابها المقهور، كانت رموشها ترتعش..تجاهد أن تفتح عيونها، لكنها خائفة أن تصطدم بواقعها المؤلم، عندما لمح مروان تململها وعيونها التي تحاول فتحهما ابتسم بفرحة وراح ينادي أسمها:

-جومانة..جومانة أصحي..أنا جمبك اهو ..اصحي ياحبيبتي.


كانت ما بين النوم واليقظة..صوته يتسلل لأذنها فينقبض قلبها بخوف..انه هو صوته صوت الذئب الذي نهشها..فتعود للنوم من جديد.

عندما وجدها عادت لغيبوبتها اختفت فرحته فركض لكي يستدعي الطبيب عله يساعدها للعودة الى الحياة من جديد فصرخ بلهفة:

- دكتور أكرم ..يا دكتور.

دلف الى حجرته باندفاع..واستطرد وهو يعتذر:

--أنا آسف..بس جومانة فاقت شوية كانت حتفتح عنيها وبعدين أغمى عليها تاني.


خطف اكرم سماعته وخطى بنشاط نحو حجرتها.. ظل يتفحصها، يفتح عيونها ويسلط عليها ضوء من كشاف طبي صغير..ثم حقنها بحقنة لتنشط خلاياها..بعد لحظات بدأت بالفعل تفيق ..فاقت على صوت مروان وهو يهتف باسمها:

-جومانة ..اصحي..فوقي ياحبيبتي.

عندما اتضح لها صوته الذي باتت تكرهه..ووقعت عيناها على صورته المهزوزة أمامها.. حضر مشهد ليلة زفافها وهو ينقض عليها كالذئب المفترس.. فاختنقت أنفاسها..وشحب وجهها.. وراحت تصرخ وتصرخ..وتبتعد عنه منكمشة كأنها رأت عفريتا يريد أن يتخطفها.

انزعج مروان لرعبها منه وقال محاولا أن يهدأ من روعها:

-جومانة مالك ..جوما.......

ولكن اكرم اوقفه وهو يحذره قائلا:

-من فضلك يا أستاذ مروان لازم تخرج حالا ..واضح أنها بتنهار لما بتشوفك.

مروان معترضا:

-أزاي أخرج و أسيبها بالحالة دي.

اكرم وهو يشير على جومانة:

-لازم تخرج وحالا أنت مش شايف حالتها..لو عايزها تخف لازم تبعد عن وشها..لحد ماتعدي مرحلة الخطر..وجودك قدامها بيسببلها انهيار..لو يهمك يعني مصلحتها.. وعلى فكرة هي محتاجة لدكتور نفسي يتابع حالتها وانا رشحت واحد من أصدقائي.

زفر مروان بضيق..واضطر أن يخرج.

في تلك اللحظة حقنها دكتور أكرم بحقنة مهدئة حتى تهدأ.


جلس مروان على مقعد الأنتظار..يمسد جبينه بضيق..فانتقلت يده نحو رقبته عسى أن يمحو الأختناق الذي انقض عليه..فهمس لنفسه:

-منك لله كله منك يا عبد الحميد..الله يسامحك ياشيخ.

وصدح صوت بداخله يلومه ويقوله له:

( وهل عبد الحميد وحده مسئول عن ما حدث لتلك المسكينة)

وهنا أدرك أنه طرف في ذنب عظيم..لقد أصدر عبد الحميد الحكم بالأعدام..وكان هو عشماوي الذي نفذا هذا الحكم.

-أنت مذنب أيضا يامرون..يكاد ذنبك يكون أعظم.

هكذا هتف ضميره..واستطرد يعاتب نفسه :

-ياترى حتقدر يامرون تصلح ال عملته؟

************************************

ظلت تقلب في يدها جوزات السفر بغير تصديق وهي تهتف بفرحة تخرج من القلب:

-معقول..أنا مش مصدقة عنية.. أخيرا ربنا كتبهالنا وحنروح نزور النبي..ياما أنت كريم يارب..تسلملي ياحج..ربنا ما يحرمني منك يارب.


كان يتأمل سعادتها الطاغية ويبتسم لفرحتها قائلا وهو يربت على ظهرها:

-كل شي لما يعوز ربنا يا أم نريمان..وآهه ربنا رايد أننا نبجى زواره.

قالت وهي ترفع عيناها اللامعة بدموع السعادة للسماء:

-ونعم بالله.

استطردت وهي تنظر له بامتنان:

-بس بصراحة دي مفاجأة حلوة قوووي.


-أنا كنت مأجلها لما نريمان تتدوز واهاه بجت في عصمة رادل..اعتمد عليه..عشان لما أسافر أبجى مطمن عليها. 

وداد بابتسامة حامدة: 

-بس ياترى نريمان حيكون رد فعلها ايه؟

خالد:

-حتجول ايه يعني  حتفرح لينا ..همتك أنتي عاد وجهزي الشنط.

قالت وداد وهو تنظر للجوازات كأنها تتأكد أن الأمر حقيقة وليس أحلام:

-متقلقش يا حج اعتبر كل حاجة جهزت خلاص ان شاء الله.

*********************************

عندما علمت نريمان بأمر سفرهما فرحت من أجلهما ولكنها شعرت بوحدة..وخوف رهيب هجم على قلبها فجأة..ومما زاد من وحدتها اهمال مالك لها وعدم ادراكه لحبها له.

 بعد أيام ذهبت مع مالك ليودعا أبيها وأمها وفي العودة وهي جالسة بجواره كان يقود السيارة وكأنها غير موجودة بجواره، شارد أمام الطريق لا يكلمها كلمة واحدة..زفرت بضيق وأجبرت نفسها على النظر من نافذة السيارة..في هذه اللحظة بالذات ودت لو تبكي في حضنه، علها تصب حزنها ووحدتها وخوفها داخل صدره..ضمت نفسها بيديها ولا تعلم اهي تحتمي من هواء النافذة أم من برد مشاعرها.

-يلا أنزلي ..وصلنا.

ترجلت من السيارة دون تعليق منها ركضت صوب حجرتها، وارتمت على فراشها تفرغ كل انفعالاتها على  وسادتها.

أما مالك عاد الى عمله دون حتى أن يلقي عليها السلام، كان عقله مشغول في حديث عمه الذي قاله لها قبل أن يسافر.


بعد أن أعياها البكاء رفعت رأسها، مسحت دموعها بأصابعها، وضعت الوسادة على فخذيها وظلت تفكر، تحاور نفسها قائلة:

- هو انتي يعني يانانا عايزاه يحبك وانتي بتتعاملي معاه كده بقرف ..من أول ما جه البيت وعاش معانا وانتي مطهقاه في عيشته وعالطول مقالب فيه لما زهقتيه ..عايزاه بقى يتعامل معاكي ازاي بعد ده كله..مستحيل طبعا يحبك ولا يفكر فيكي أصلا.

أسندت رأسها على السرير ثم استطردت تقول لنفسها كأنها تحلل علاقتها به وتحاول ايجاد حلول له:

- أكيد كرهك من كتر عاميلك فيه عشان كده لازم تصلحي ال أنت هببتيه فيه. . بخيبتك القوية.

طب أعمل ايه دلوقت أنا بجد تعبت من كتر الشد والجذب البينا ..هو دلوقت جوزي نفسي يحبني ويحس بيا.. آاااه ياربي حاسة اني ضايعة من غيره..لما بيبقى جمبي بحس بالأمان مع أنه مش طايقني ..نفسي بقى أشوف نظرة حب في عنيه أمتى ده يحصل؟


تركت فراشها وهي تزفر في يأس تتجول في حجرتها على غير هدى..ثم توقفت خطواتها أمام المرآه تنظر لصورتها المعكوسة ترى الحزن على وجهها..والبؤس في نظراتها.

 داعبت شعرها بأصابعها في ملل..ثم ابتسمت فجأة وهي تتمايل يمينا ويسارا في دلال انثوي تهمس لنفسها بأمل:

-طب ليه مفحتش صفحة جديدة معاه..وأحسسه بحبي واسبني بقى من كبريائي ده..والعند ال بيبعده عني أكتر .


 اتسعت ابتسامتها وكأن ما قالته لنفسها راق لها، فشعرت بحماسة لأن تتخذ  مثل هذه الخطوة..مشوار الحب يبدأ بخطوة..اتجهت لخزانتها وتناولت منها قميصا عاريا يجسد جسدها القد المتناسق..صففت شعرها وجمعته كله على كتفها الأيمن، وضعت عطرها طلت شفتيها بلون وردي زادها جاذبية.

وفي الأخير راق له حسنها وشكلها النهائي، وباتت تتخيل نظراته الولهة المعجبة بجمالها حتما لن يقاوم فتنتها.. سمعت صوته فخفق قلبها وضعت يدها عليه لتهدأ من دقاته.

لا تعلم سر خفقاته اهي فضولها لمعرفة رد فعله عندما يراها هكذا لأول مرة..أم خفقات حب واشتياق .. أم خفقات لشئ مجهول تخشى حدوثه.

فتح مالك باب الحجرة ولما لمحها بذلك المنظر تسمر مكانه ولم يكمل دخوله، أطرقت برأسها خجلا، من نظراته تلك.. رفعت رأسها علها تلمح الأعحاب في عينيه..لكن نظرات عينيه ليست حب..ولا وله ولا أعجاب..بل نظرات نارية، قاسية، نظرات حاقدة كأنها عدائية، حتى انها جعلتها ترتبك وتتراجع للخلف في خوف، خاصة عندما تقدم هو الآخر نحوها في تحفز.. حاولت أن تتماسك وتبتسم له..لكن رغم عنها وجدت نفسها تبتلع ريقها بصعوبة، لا تستطيع أن تتنبأ برد فعله ترى ماذا سيفعل بها.. وعندما أصبح أمامها تمام لا يوجد غير خطوة واحدة تفصلهما.. وجدته يضم شفتيه بغيظ الدنيا كلها وظل يصفعها على وجنتيها صفعات مجنونة..غبية كأنه فقد السيطرة على نفسه يردد:

-مجرفة..مجرفة..كلتكم زي بعض كلتكم زي بعض..كلتكم زي بعض.

تصد صفعاته بذراعيها ،وهي تضرخ متعجبة لا تعلم ما الذنب الذي اقترفته لكي تستحق كل هذه الصفعات:

-بتضربني لييه..بتضربني ليه..عملت ايييه آااااااه؟؛

وكانت صفعاته لها بدون وعي..لم يكف عن صفعها الا بعد أن غابت عن الوعي وخيوط الدماء تنسال من جانب شفتيها..بعدها شعر بداور من فرط الانفعال.. وعيناه أرتخت في تعب وكلل..ثم تركها وانصرف  بخطوات مترنحة كأنه سكير أسكره الغضب.. وهو يردد

كسحة تاخد الحريم كلتها.

********************************

 في صباح اليوم التالي فاقت جومانة كانت تشعر بخواء ..ضعف يتملكها، قوتها متلاشية..ظلت تتأمل الحجرة حولها وهي تقول باعياء شديد:

-أنا فييين؟؛؛؛

رأت وجه يبتسم لها ويقول:

-متخافيش أنتي في المستشفى.

بنظرة مريضة ونبرة ضعيفة..سألته:

-أنت مين؟؛

-بنفس الأبتسامة أجابها:

-دكتور أكرم سليمان .

هتفت عزيزة بسعادة واحتوتها بنظراتها الحنون:

-حمدالله على سلامتك ياضنايا الف حمدالله على سلامتك .

ابتسمت جومانة بضعف لعزيزة ولكنها لم تستطيع التحدث..

 التفتت عزيزة للطبيب عندما قال لها:

-بقولك ايه ياست عزيزة مهمتك بقى انك تأكليها كويس عشان تسترد عافيتها بسرعة .

بحماس هتفت عزيزة:

-من عنية يادكتور حاضر حأكلها.

ثم التفت لجومانة وقال لها باابتسامته العذبة:

-عروستنا بقى الحلوة تقوم وتحاول تاكل.


 قبل أن يخرج أوصى الممرضة أن تعطيها الدواء في مواعيده ..وأن تمنع زوجها مروان من زيارتها..ذهب الى صديقه دكتور حافظ رجب استشاري الأمراض العصبية،  والنفسية شرح له حالة جومانة فوعده حافظ أن يمر عليه في المساء لكي يراها.


وبالفعل مر دكتور حافظ على جومانة بصحبة أكرم تحدث معها مدة قصيرة وفهم ما هي حالتها.


في حجرة أكرم 


بلهفة سأله أكرام:

-حالتها ايه بالظبط ياحافظ طمني عليها.

ضيق حافظ عينيه وهو يتفرس وجه صديقه والاهتمام البادي على وجهه المبالغ فيه، والذي يبديه لاول مرة لمريضة..فهمس له:

-مالك ياأكرم أول مرة أشوفك قلقان كده على مريضة.

تدارك أكرم قلقه بسرعة فقال سريعا وهو يخفي خوفه:

-اا عادي يعني ياحافظ ..يمكن بس عشان صعبت عليا..المهم قولي حالتها ايه؟؛

-قال حافظ وهو يحاول أن يقتنع بتبريره على الرغم من أن بداخله يشعر أن أكرم به شئ مختلف.. فقال بنبرة طبيب يشرح حالة مريضة:

-شوف ياسيدي..هي اتعرضت لصدمة نفسية عنيفة خلتها ترفض الوقع وتغيب عن الوعي اربعة أيام..بالاضافة الى انهيار عصبي  لما شافت جوزها لأن رؤيتها له بتفكرها بالحادث البشع ال حصلها  على ايديه..دلوقت ياريت تبعدوها عن أي مؤثر يفكرها بالحادثة عشان ميأثرش عليها تأثير سلبي عليها.. ياريت كمان اهلها يحاولوا ان يفرحوها بأي طريقة أو شكل من الأشكال.. وبكده ممكن تخف بسرعة.

استمع أكرم له وهو يهز رأسه بتفهم .

ثم شكره من كل قلبه.

 

الفصل الثاني عشر


كاره النساء 


في عشية وضحاها فوجئت نريمان بمالك يصرف الخدم، ويطلب منها أن تقوم بكل الأعمال المنزلية، تكنس وتمسح وتطبخ كيف لها أن تفعل كل ذلك؟ وهي لا تجيد أي عمل من أولئك، حتى عندما هبت أن تعترض وتقول له:

-ازاي انا اكنس وأطبخ وأمسح وأنا متعوتش أعمل الحاجات دي..الخادمين ال كانوا بيعملوها ولو سمحت بقى ترجعهم.


فكان رده  أنه جذبها من شعرها وظل يهزها بعنف ويصرخ بها ثائرا:

-أسمعي أنا محبش الحرمة بتاعتي تعصالي أمر..وال حجولك عليه تنفذيه من غير مجاوحة..خابرة ولا لاه..والا قسما بالله لو اتعوجتي لحتنضري مني ال عمرك منضرتيه.


ثم دفعها بعنف حتى أنها سقطت على الأرض.

ظلت تبكي على وضعها..وتسأل نفسها ما به?أصبح حاد معها عنيف..أهذا انتقامه منها على ما فعلته به؟ وهل ما فعلته يستحق كل تلك القسوة.. أنها تلعن اللحظة التي فكرت فيها أن تتزين له كأي زوجة تتزين لزوجها حتى تستميله لها.. وكانت تنتظر منه القبول والأعجاب..بيد أنها فوجئت بردة فعله وكانت أقسى مما توقعته..لقد ظل يصفعها دون رحمة..بل الأنكا أنه تركها دون حتى أن يحاول ايفاقتها..تبكي وتولو وتتألم بمفردها دون طبطبة من أحد ، قامت مغصوبة تفعل شغل البيت على قدر استيعابها.

كانت حائرة كالغارقة في شبر من المياه، لا تعلم كيف تتصرف؟ ولا ماذا تعد له من الاطعمة..انها لا تجيد طهي أي نوع من المؤكلات،  فقررت أن تجري تجربة لبعض من الأصناف التي جلبتها من البحث على مواقع المعلومات.. انتهت من اعداد بعض انواع هذه الاصناف..ثم شرعت في التنظيف باقي من الزمن ساعة ثم يأتي هذا الجلف..مر الوقت وعاد مالك ابتسم بسخرية عندما رآها بشكلها المشعث..وثيابها المببلة ووجهها الملطخ بهباب المطبخ..حتى أنه قال في نفسه ساخرا:

-مالكيش غير إكده..كسحة تاخد النسوان كلتها

ثم خطى نحوها واذ بقدمه تنزلق فكانت الأرض مبللة بالماء والصابون، فوجئت نريمان به فانشقت من بين زهولها ضحكة على منظره وهو واقع كالأطفال، فقام لاعنا اياها وعلى وجهه الغضب ضاما شفتيه يخطو نحوها للأنتقام منها.. كفت نريمان عن الضحك وحل محله الخوف منه، تراجعت للخف وهي تبتلع ريقها بقلق..حتى امسكها من ذراعها بقسوة وقال لها بصوت كالرعد:

-أيه ال أنتي مهبابه ديه.. ايه الفوضى دي .

بتلبك أجابت:

-ك كنت بمسح البيت.

بنبرة غاضبة قال:

-وال يمسح البيت ده يشندل حاله إكده يجيب عاليه واطيه..ويكتر الصابون عشان ال يمشي يتزحلج.

طأطأت رأسها تخفي ضحكة عندما تذكرت مشهد سقوطه..ولكنها رفعتها سريعا عندما صرخ بها:

-يلا خلصيني من الفوضى دي..وحطيلي الوكل عشان متدلي تاني ورايا شغل.

-ح حاضر.

لملمت المكان من حولها سريعا..ثم جهزت له الطعام ونادت عليه..وما ان وضع لقمة في فمه..حتى لفظها على المائدة..وراح يسعل بشدة..حتى جحظت عيناه..وبعد أن هدأ صرخ فيها :

-أيه الجرف ال انتي طبخاه ديه..ده وكل ديه ال انتي مسوياه..مليان ملح وشطة أكل ماسخ ملوش طعم زي ال سوته.

قالت وهي تبكي:

-أنا قلتلك معرفش أطبخ ولا أعمل حاجة.

اردف وهو يشهر سبابته امام وجهها في تحذير وتوعد:

-بجولك ايه..أنا مليش صالح تعرفي تطبخي متعرفيش..المهم أجاي الاجي وكل زين..وبيت نضيف ومترتب،  اتعلمي، فاهمة ولا لاه والا ورب العزة لحوريكي ال عمرك ماشفتيه.

 كسحة تاخدك وتاخد الحريم كلتها..نسوان فقر.

بعد قوله هذا دفع بالطعام فسقط على الأرض، جعلها تضم كتفيها نحو اذنيها وتغمض عينيها في انزعاج. .ثم تنفست الصعداء عندما انصرف وزفرت في راحة وراحت تغمغم مع نفسها:

-اعمل ايه بقى انا ياربي دلوقت..اصرف ازاي مع الجلف ده..فينك يابابا عشان تخلصني منه فينك ياماما..جلست على المقعد ودفنت وجهها بين ذراعيها وراحت تبكي بقلة حيلة.

*********************************

دلف أكرم الى حجرة جومانة لكي يتابع حالتها، وجدها شاردة، وبعض الدمعات تتلألأ على وجنتيها، قوس فمه شفقة عليها ..ولكن سرعان ما نفض عنه هذا التأثر وقال وهو يبتسم بعذوبة:

-صباح الخير.

مسحت جومانة دموعها بأصابعها سريعا والتفت له وهي تهمس بضعف:

-صباح النور.

بنفس الابتسامة العذبة:

-عاملة ايه دلوقت.

بنفس الهمس الضعيف:

-الحمد لله.

التقط يدها متأملا ساعته حتى يتابع النبض.. واستطردا في فحصها بقياس الضغط وسماع نبضات قلبها، وأثناء هذا الفحص كانت عيناها بعيدة عنه ود لو نظرت له حتى يغوص في عينيها البريئتين الحزينتين..قال لها حتى تنظر له:

-شكلك مش بتاكلي خالص..طب ده ينفع..مش عايزة تخفي ولا ايه؟

 - صرخت فجأة وقالت وكانت على وشك الأنهيار:

-أنا مش عايزة اخف..مش عايزة أخف..وياريت أموت واستريح.

انزعج اكرم من ثورتها فقال وهو يربت على يدها:

-طب خلاص اهدي..اهدي ياجومانة لو سمحتي.

نادى على الممرضة وطلب منها حقنة مهدئة بعد أن حقنها بها ..دقائق معدودة وراحت في ثبات عميق..ثم قال للممرضة:

- خليكي جمبها ولما تفوق تقوليلي عالطول 

الممرضة وهي تدثر جومانة جيدا:

-حاضر يادكتور.


في المساء حضر أكرم ومعه صديقه حافظ الطبيب النفسي لكي يباشر حالة جومانة النفسية..كان حافظ يحمل بين يديه زهور فهو يعلم مدى تأثيرها على نفسية المريض مدها لها وقال باابتسامة ودودة:

-مساء الخير  ازيك ياست البنات..ممكن تقبلي مني الورد ده.


-ردت جومانة بابتسامة وقد جذبتها الزهور بالفعل:

-مساء النور

كانت تنظر للزهور بسعادة..تستمد منها الحياة تداعبها بعينيها. وتقربها من انفها لتستنشق عبيرها وكأنه أكسير الحياة.

نظر أكرم لحافظ بتعجب ممزوج بشفقة. 

بعد لحظات سألها حافظ وقد اراد أن يستدرجها للحديث عن نفسها حتى يخرجها من اكتئبها:

-بتحبي الورد ياجومانة؟

-قالت وهي تنظر له بعينان متيمتان:

-ايوة..بحبه قووي.

-بابا كان بيجبلك ورد؟

نظرت لنقطة ما واستعاد وجهها الشحوب سريعا وكأنها تتذكر الماضي.

-عمره ما جبلي وورد

وجدت نفسها وبدون شعور تسرد حكايتها ولم يقاطعها حافظ بل است


 كانت تحكي كل شئ عن أبيها وعن قسوته معها..وكيف كان يضيق عليها الخناق..تحكي ودموعها تحكي معها..حتى وصلت لذكرى يوم زفافها بدأت تصفها وتصف احساسها بها وهي ترتعش وجسدها يرتجف كيف شعرت وقتها أنها حيوانة ليس لها شعور ولا احساس، كيف تمرمغت كرامتها تحت وطأة ذكورة متخلفة رجعية، كيف شعرت انها شاة ذبحت وقدمت كربانا في معبد الرجعية، حينها ثارت وتشنجت وظلت تصرخ وتصرخ كأنها تعيش نفس اللحظة القاسية،  تستغيث بالأنسانية وبحقوق المرأة المنتهكة اللى الآن.. لم تشعر في خضم ثورتها بحافظ وهو يحقنها بحقنة مهدأة بعد لحظات بدأت تشعر بان روحها تنسحب الى عالم اللاوعى.

قال حافظ بعد ان نامت وكان أكرم في قمة القلق عليها رابتا على كتفه:

-متقلقش جتكون كويسة.

اكرم وهو يشير عليها بانزعاج:

-ازاي دي انهارت وتعبت.

حافظ بكل ثقة:

-قلتلك متخافش ال حصل ده امر طبيعي..ال حصل انها فرغت كل شحنة الغضب واحساسها بالقهر لما حكت لنا كل الحصلها فخففت عبء كبير من على نفسيتها وروحها..صدقني بمجرد ما تفوق حتكون احسن كأنها اخذت دوش فوقها ونظف قلبها من التعب.

اومئ اكرم براسها تفهما لتحليله الطبي الذي لا يجادل امامه.

خرج حافظ وعاد أكرم يتأملها بعينيه المليئة بالشفقة وشعور غريب يتسلل اليه..يقاومه..يردعه دون جدوى نعم انه يعترف انه شئ قوي يجذبه نحوها برغم كل الحدود والممنوعات..والمحظورات كيف له أن يحب فتاة متزوجة..كل شئ يرفض ويلومه..ولكن قلبه يأمره وبقوة، أنه ولو أول مرة ينبض تلك النبضات النادرة ويدق دقات غير طبيعية..تسللت يده رغم عنه الى شعرها يمسح عنها كل ما تشعر به.

ودون انذار سمع صوت جعله ينتفض ويبعد يده سريعا كأنه ماس كهاربائي اصابه انه صوت مرون وهو يقول بسخرية مطعمة بالغضب العارم:

- ايه يادكتور دي طريقة جديدة للعلاج ولا ايه؟؛

************************************


أسبوع مر على نريمان وهي تقوم بكل أعمال البيت.. كانت أعمال شاقة بالنسبة لها لم تعتاد عليها..لقد فكرت بأن تتصل بمربيتها أم أحمد لكي تأتي لها سرا دون علم مالك حتى تساعدها في شئون البيت..وبالفعل ساعدتها أم أحمد ،وعلمتها كيف تطبخ وكيف تهتم بشئون منزلها ،حتى انها كانت تصطحبها للسوق لكي تشتري الخضروات اليومية، بدأت تتعلم وكانت الأ كلات تخرج من تحت يديها نوعا ما مقبولة، حتى أن مالك تعجب وهو يأكل فقد وجدا أن الطعام تغير مذاقه وأصبح مقبولا وشهيا. 

حتى أنه قال لها ذات مرة هي واقفة على رأسه منتظرة منه أوامره:

-لاه زين الوكل..أديكي بتتعلمي أهاه.

ثم قام بعد أن انتهى من طعامه وقال لها بأسلوب أمر فظ:

-أنا رايح انعس شوي ساعتين إكده بالتمام وتصحيني عشان عندي معاد شوغل فاهمة.

ثم رماها بنظراته المستاءة وقال جملته التي باتت تكرهها،  كسحة تاخد الحريم كلتها.


بعد ساعتين ايقظته نريمان ارتدى مالك ملابسه وذهب الى موعد عمله.. كانت منهكة من أعمال المنزل..مرهقة، شعرت بأوجاع في جميع أنحاء جسدها.. فدخلت الى المرحاض وملئت حوض الأستحمام ونزلت داخله حتى تجلب الاسترخاء لجسدها المتعب..لحظات جلب عقلها لها مشاهد حياتها الأولى قبل أن يدخل مالك حياتها ..كانت حياة باردة بلا هدف بلا لون..عقلها فارغ لا يحمل الا اللهو والتفكير في كيفية خلق مواقف تعزز غرورها وتغذي عنجهيتها..الآن شعور غريب يتسلل اليها تشعر بقيمتها في الحياة انها زوجة تكد وتتعب من أجل أن يكون بيتها في أجمل صورة، حتى التعب الذي تشعر به تجد به حلاوة خاصة بعد انتهاء يومها المليئ بالكد، وعندما يتلقفها فراشها وكأنه يحتضنها لكي يزيل عنها عبئها اليومي.. سعادة تنتشر في خلاياها لا يشوهها غير فظاظة مالك وقسوته عليها كم تمنت وهي في حضن فراشها أن يكون بجوارها زوجها يضمها بحنان وتمتص عيناه العاشقة كل تعبها، انها تتعجب من نفسها كيف تحبه وتشتاقه وهو يعاملها بتلك القسوة..ترى هل تكمن خلف قسوته تلك حنان وحب كبيرين..أنها توقن من ذلك..يوم ما سوف يغدق عليها ذلك الحنان ويصب عليه حبه صبا.

انتهت من حمامها شعرت بعدها بنشاط عجيب دب في جسدها ..قررت أن تنام حتى تستيقظ قبل عودة مالك في المساء بساعة وتعد له العشاء..كانت تصفف شعرها فوجئت بمن يقتحم عليها الحجرة ويفتح بابها بقوة..كان مالك ترى لماذا عاد سريعا؟ نظرت له بتعجب فقد كان شاحب الوجه..عيناه غائرتان، مترنحا كالسكير هيئته غريبة..ما به؟ كان يخطو نحوها في تؤده..خطواته ثقيلة متداخلة في بعضها البعض.. وعندما اقترب منها القى بنفسه بين يديها ثم غاب عن الوعى..فصرخت نريمان باسمه في لوعة وانزعاج:

-ماااااااالك..فيك ايه مالك ياحبيبي؟

ترى مالذي حدث لمالك


الفصل الثالث عشر


كاره النساء


كانت تصفف شعرها فوجئت بمن يقتحم عليها الحجرة ويفتح بابها بقوة..كان مالك ترى لماذا عاد سريعا؟ نظرت له بتعجب فقد كان شاحب الوجه..عيناه غائرتان، مترنحا كالسكير هيئته غريبة..ما به؟ كان يخطو نحوها في تؤده..خطواته ثقيلة متداخلة في بعضها البعض.. عندما اقترب منها القى بنفسه بين يديها ثم غاب عن الوعى..صرخت نريمان باسمه في لوعة وانزعاج:

-ماااااااالك..فيك ايه مالك ياحبيبي؟

اضطربت عند سقوطه بين يديها وقد سقطت معه ..وزادات خفقات قلبها.. وظلت تضرب على وجنتيه ضربات خفيفة عله يفيق لكنه لا يستجيب، حتى قالت بصوت مرتبك حروفه مرتعشة يملؤه القلق:

-اعمل ايه دلوقت يارب مش راضي يفوق..اتصرف ازاي وانا لوحدي ومش معايا حد.

كان جسدها كله يرتعش من فرط خشيتها عليه نهضت وأبعدت رأسه عن صدرها وسارعت الى الهاتف تضرب ازراره بأصابع مرتجفة، فقالت بلهفة عندما أجابها الذي اتصلت به:

-دادة..الحقيني..مالك أغمى عليه فجأة ومش عارفة ماله هاتي دكتور بسرعة وتعالي.

ثم أغلقت الهاتف بسرعة بعد ذلك تناولت زجاجة عطر..ثم عادت الى مالك المسجي على الأرض، قربت الزجاجة من أنفه ولكنه لم يبد أي رد فعل، كانت الدقائق تمر بطيئة ثقيلة تزيد من توترها واضطرابها، ترفع رأسها نحو السماء تتضرع لله أن لا يمسه مكروه..حتى جاءت أم احمد ومن خلفها الطبيب نظرت لمالك وقالت بقلق وهي تضرب على صدرها:

-يلهوي ..سي مالك أيه الحصلك يابني.

نريمان :

شيلي معايا يا دادة نحطه على السرير..وانحنيتا عليه ليحملانه ولكنهما لم يستطيعا فقال الطبيب وهو يضع حقيبته على المنضدة:

-خلي عنكم يامدمات أنا حشيله

وانحنى الطبيب ورفعه من فوق الارض ووضعه على فراشه..وبدأ يفحصه..ثم التفت لنريمان وسألها:

-هو أيه الحصل بالظبط يامدام؟؛

نريمان والكلمات تخرج منها سريعة مضطربة:

-لقيته متغير مش زي عادته..وشه أصفر..وعنيه دبلانه.. وبيطوح كأنه شايل نفسه بالعافية ومرة وحدة اغمى عليه.

لم يعلق الطبيب على كلامها بل راح يستمع بسماعته لدقات قلبه..ويتابع نبضه يفتح عينيه بابهامه وسبابته، ونريمان تنقل بصرها بينه وبين مالك باضطراب شديد، تنتظر بفارغ الصبر ما سيقوله الطبيب، واخيرا أنقذها الطبيب من قلق كاد يقتلها عندما قال بعد أن انهى فحصه:

- معندوش أي حاجة عضوية..ال عنده انهيار عصبي حاد.

قالت نريمان وقد ذاد قلقها:

-يعني ايه يادكتور:

-يعني حضرتك متقلقيش لكن يستحسن تجيبله دكتور نفسي متخصص يتابع حالته.

نريمان وهي تنظر لمالك بانزعاج:

-طب هو ليه مافقش يادكتور.


الطبيب وهو يلملم أدواته ويضعها في حقيبته:

-لانه في غيبوبة نفسية.

قالت وكأنها على وشك البكاء:

-يعني مش حيفوق خالص.

-بنبرة هادئة وباابتسامة وديعة كي يطمئنها:

-لا هو ممكن يفوق في أي وقت بس هو محتاج لطبيب نفسي ضروري عشان يشخص حالته بالظبط..أنا حديكي كارت لواحد صديقي..دكتور كويس جدا حيعرف يشخص حالتة كويس ويعرف يعالجه.

تناولت منه الكارت وما ان خرج حتى اطلقت العنان لدموعها..ترمي رأسها على صدر مالك وتبكي بحرقة، قالت وهي تضمه بذراعيها:

-قوم يامالك..قوم ياحبيبي..حصلك ايه بس؟أنا مش حعرف أعيش من غيرك ولا أعمل أي حاجة.


 انتابها خوف شديد..واجتاحتها وحدة فظيعة جعلتها تشعر بخوف من المجهول ولا تعلم لماذا؟ وكأن ما سيأتي سوف يحمل في طياته عذاب كبير لها وآلام لم تعهدها..شعرت بيد تربت على ظهرها في حنان..وصوت همس لها بدفئ:

-متخفيش ياست نريمان ان شاء الله حيكون كويس.. قومي اغسلي وشك واتصلي بالدكتور النفسي وخليه يجي عشان يطمنا عليه.

رفعت نريمان رأسها وصدرها يعج بالتنهدات  الموجعة، نبضاتها تصرخ تترقب المستقبل بخوف هيستري..وأفكار سيئة تملأ عقلها، اتصلت على الطبيب وطلبت منه الحضور على الفور.

بعد ساعة حضر الطبيب النفسي، وبعد أن فحصه طلب منها أن يتحدث اليها.. حتى يستفسر عنها عن بعض المعلومات التي ستفيده في علاج المريض فسألها بعملية:

-ممكن يامدام تحكيلي عنه شوية؟

-حضرتك عايز تعرف ايه؟ 

-كل حاجة..كل ال تعرفيه عن جوزك..وازاي اتجوزتو.. وهل كان جوازكم جواز سعيد ولا في مشاكل.

أطرقت بأسف ثم راحت تحكي له بنبرة حزينة كل ماحدث.. منذ أن اتى مالك الى بيتها وحتى لحظة غيابه عن الوعي..حكت له عن مضيقاتها له وتحديها وكلماتها المهينة التي ترميها في وجهه والتي كان يتلاقاها ببرود مستفز..كيف كانت تكرهه وتتمنى طرده في أي لحظة..وكيف وبدون انذار وجدتت نفسها واقعة في غرامه. حكت له كل شئ ..كانت تحكي والطبيب يدون في أجندته ملاحظاته.


*********************************

انه الآن اعترف أن هناك شئ قوي يجذبه نحوها برغم كل الحدود والممنوعات، والمحظورات . 

كيف له أن يحب فتاة متزوجة؟؛ 

كل شئ يرفض ويلومه 

..ولكن قلبه يأمره وبقوة، أنه ولأول مرة ينبض تلك النبضات النادرة ويدق دقاته الغير طبيعية..تسللت يده رغم عنه الى شعرها يمسح عنها كل ما تشعر به.

ودون انذار سمع صوت جعله ينتفض ويبعد يده سريعا كأنه ماس كهربائي أصابه.. أنه صوت مراون الذي صدح بسخرية مطعمة بالغضب العارم:

- ايه يادكتور دي طريقة جديدة للعلاج ولا ايه؟؛

ابتلع أكرم ريقه محاولا السيطرة على هدوءه، معدلا من معطفه الأبيض قائلا بثبات مفتعل :

-ايه يا أستاذ مروان هو في حد يدخل كده من غير استئذان.


مروان بضحكة سخرية من جانب شفتيه:

-لا والله عايزني أستئذن وأنا بدخل أوضة 

 مراتي.

أكرام بنظرات ثابتة متحدية :

-أوضة مراتك في بيت حضرتك لكن هي هنا في مستشفى يعني حضرتك لازم تراعي الأصول قبل ما تدخل.

احمرا وجه مروان بفعل الغضب وتحدي اكرم السافر له فاشتعلت عيناه غيظا فقال وهو يمسك بتلابيبه:

-أنت بتتكلم عن الذوق والأصول يادكتور؛

وهو من الأصول بردو انك تحط ايدك على شعر مراتي..هي دي أخلاق الدكاترة؟


وبعينان مليئة بالتحدي والأحتقار أيضا أردف أكرم:

-أنا عشان دكتور لازم يبقى في قلبي رحمة خاصة لبنت اتعاملت بحيوانية.


 مروان وقد احتقن وجهه واتسعت عيناه بشدة:

-أنت تقصد ايه؟

أكرم: شيل ايدك لحسن أخلي الأمن يرميك بره.

وكاد أن يحتد الشجار بينهما لولا صريخ جومانة الذي انطلق في الهواء كأنه طلقات نارية جعلتهما يتوقفا وينظران لها في انزعاج.

لقد تسلل صوت مروان لأذني جومانة ..عندها استيقظت وعندما فتحت عيونها ورأته يتشاجر مع الطبيب راحت تصرخ وتصرخ..وتزحف على فراشها وتحبس نفسها في أخره.. وعندما تطور الأمر تخلت عن فراشها وركضت نحو النافذة تريد أن تلقي بنفسها منها..لولا أن لحقها أكرام وهو يهتف باسمها في صرخة تحذير:

-لا يا جومانة اوعي تعملي كده أنت لازم تعيشي ..فاهمة لازم تعيشي.

وجومانة تصرخ وتعافر تتلوى كالحمامة بين ذراعيه تحاول أن تحرر أسرها منه بالقوة لكي تتلخص من حياتها:

-اوعى سبني..سبني أموت..أنا عايزة اموت.


رأى مروان ذلك المشهد فتمزقت أحشائه من الغيرة..كاد قلبه أن يلفظ دقاته الأخيرة فضم قبضته بقوة ضاما شفتيه بغضب ..ضاربا الهواء بتلك القبضة الغاضبة.. ترك الحجرة يركض ركوض الليث الغاضب.

أما أكرم فضم جومانة الى صدره يحكم قبضتها بين ضلوعه يحميها من نفسها.. ولكن من يحمي قلبه من هواها؟.

********************************

دلفت الممرضة الى الحجرة بعد ان اذن لها أكرام قائلا لها:

-في ايه منال؟

منال:

-المدير عايز حضرتك يادكتور.

-انا رايحله..خلي بالك منها يا منال متسبيهاش لحظة.

قالها وقد ألقى نظرة أخيرة عليها قبل أن ينصرف.

طرق باب حجرة المدير الذي سمعه يأذن له بالحضور قال بعد جلس أمامه

-ايوة يا  افندم تحت أمرك.

المدير بنبرة عاتبة ممزوجة ببعض الحدة:

-ايه يأاكرم ال أنت عملته ده.

-أنا عملت ايه ياافندم.

 المدير وعيناه تحذره:

-ياأكرم..ياأكرم مروان خارب الدنيا ومصمم انه ينقل مراته مستشفى تانية وده من حقه طبعا.


 هنا نهض أكرام بحركة حادة وقد خشى أن ينفذ مروان تهديده بالفعل.. فماذا يفعل إن أخذها الى مستشفى أخرى..أو اصطحبها الى بيته فصرخ رافضا:

-لا ياافندم مينفعش ..ازاي ينقلها مستشفى تانية.

نهض المدير بدوره واردف:

-هو ايه ال مينفعش..دي مراته يعني محدش يقدر يمنعه.

-يا افندم حضرتك عارف حكايتها كويس وعارف ان جوزها ده حيوان ازاي نقبل أنه ياخدها..دي كانت حتنتحر من شوية.

-منقدرش نمنعه يااكرم..كل ال نقدر نعمله اننا نمضيه على اقرار.. بانه مسئول عن أي أضرار يحصلها لو خدها من هنا.

-يا افندم..ياافندم. ......

قاطعه المدير قائلا بنبرة حاسمة ليس فيها رجعة:

-خلاص يا أكرم..كل ال اقدر اعمله اني أحاول أقنع مروان أنه يخليها على شرط انك مش حتابع حالتها بعد كده.. ودكتور تاني هو ال حيتولى حالتها الطبية.

فكر أكرم لدقائق ووجد أن هذا أفضل حل لكي ينقذ جومانة من قبضة هذا الحيوان..على الاقل انه سوف يكون متواجدا في نفس المستشفى القاطنة بها..فأومئ برأسه موافقا على الحل الذي طرحه المدير.

******************************

يومان ومالك في غيبوبته لم يفق بعد.. كان راقدا على فراشه وهي بجواره، دموعها لا تنضب..تتأمله بحب وافتقاد..أنها تفتقده بشدة وتشتاقه بقوة..تشتاق حتى لقسوته عليها..لجملته التي باتت تعشقها (كسحة تاخد الحريم كلتها) تغمض عينيها بقوة فتفيض دموع على وجنتيها بسخاء..التقطت كف يده تقبلها بتضرع..وتضعها على موضع قلبها لعل دقاته تنعش روحه الغائبة عن الوعي.

طرقات الباب أنتشلتها من حزنها الذي كاد يقضي عليها..مسحت دموعها وقالت:

-مين؟

-أم احمد من الخارج:

-انا يا ست هانم الأستاذ سامر تحت وعايز يقابلك ضروري.

-طيب يادادة قدميله حاجة لغاية ما أنزل.

-من عنية.

قبلت جبهة مالك ومسحت وجنتيه بكفها في بحب قبل أن تتركه.

تجردت من شخصيتها المنهارة لسقوط زوجها الحبيب..وارتدت شخصيتها الأولى القوية الغير مبالية بمن حولها..لكن بغير عنجهية ولا تكبر كانت تتقدم نحو سامر بخطوات واثقة وكأن عمرها زاد أضعافا.. حتى أن سامر نفسه قد لمح تلك الجدية التي تحيطها فنهض وكأنه ينهض احتراما لها مدت يدها قائلة له بترحاب رزين:

-أهلا أستاذ سامر .

-أهلا بيكي ياست البنات

حينما جلس قالت وقد وضعت ساق فوق ساق ..ثم أشارت له بالجلوس: 

-اتفضل اقعد..خير يااستاذ سامر 

-خير يا ست ياالبنات ان شاء الله..بس طمنيني الأول على الأستاذ مالك عامل ايه دلوقت.

اجابت با اقتضاب ولم تستطيع أخفاء حزنها عليه:

-الحمد لله أحسن.

-تمام ..ربنا يعجل له بالشفاء ان شاء الله..طيب دلوقت حضرتك الشغل هناك متعطل..وفيه حاجات كتير احنا محتاجنيها من الاستاذ مالك..فبقول يعني حضرتك صاحبة المال ..وتقدري تشرفينا وتتابعي مالك بنفسك.

-أيوة بس أنا حفهم ايه في الشغل..واقدر افيدكم بأيه؟؛

لمعت عيناه بشئ خفي يدبر له فهمس بحماس:

-ياافندم مجرد وجودك وسط العمال والموظفين حيحمي اموالك من السرقة..ويخليهم يعرفوا أنه مش مال سايب ووحدة وحدة تتعلمي الشغل ماشي ازاي..لحد ما الأستاذ مالك يخف ويرجعلنا بالسلامة.

شردت قليلا في كلامه فوجدته منطقي..يجب أن تباشر أموالها بنفسها..شئ آخر طرأ على عقلها يضخ بداخلها الحماس اكثر وأكثر..شئ يريد أن يثبت لمالك بعد شفائه ويرى كم هي على قدر المسئولية وأنها ليست من النساء التافهات قد يجعل ذلك الأمر يقترب منها ويغير نظرته لها ..نظرت له في ثقة وقالت:

-خلاص أوكي أستاذ سامر من بكرة حكون في الشغل.

ابتسم سامر في انتصار اخيرا سوف يحقق ما خطط له بالتأكيد.

*********************************

بالفعل وافق مروان على أن تظل جومانة في المستشفى، لقد خشى أن يحدث لها مكروها ويكون هو السبب.. لا يريد أن تتسع الفجوة بينه وبينها أكثر من ذلك.. صحيح أنه يتمزق بداخله..ونار الغيرة تحرق فؤاده لكنه سوف يصبر حتى تتماثل للشفاء، سوف يحاول ويستميت لكي يكتسب قلبها من جديد..من داخله يعلم أن الامر صعب بل أنه مستحيل ولكنه سيبذل أقصى جهده لأنه يحبها..لولا سفره هذا الذي حتمه العمل لكان اصطحبها الى البيت فورا ولكن لا ضير..أسبوع واحد وسيعود ويعيدها لبيته مهما كان الثمن.

عندما علم أكرم أن مروان سافر تنفس الصعداء اخذ سماعته وذهب الى حجرة جومانة ليتفقدها، وجدها شاردة تبكي في صمت فزفر في أسف من حالها زين وجهه باابتسامة وقال:

-مساء الخير .

التفتت له ولم تجيبه ..هي لا تستطيع أن ترد تحيته فكل شئ بداخلها صامت كبيت مجهور خرب..تجاهل صمتها هذا وراح يكلمها حتى لو لم تبادله الحديث كل همه أن يسري عنها بأي طريقة، استطرد وهو يلتقط يدها لكي يتفقد نبضها:

-عاملة ايه دلوقت؟؛

-أنا عايزة أموت..أديني سم أو حاجة تموتني بسرعة..عشان خاطري يادكتور.

أنها تكلمت اخيرا وليتها صمتت..هنا ترك يدها وتأملها بضيق، وانزعاج أنها في حالة رفض تام للحياة، ولو ظلت هكذا سوف تبحث عن أي فرصة لكي تقتل نفسها ولم تتوانى حتى تحقق أمنيتها تلك..فماذا عساه ان يفعل..هل يعطيها محاضرة عن حرمة الأنتحار..هل يعطيها نصائح يوصيها أن لا تقدم على قتل نفسها وهي صغيرة.. وان الدنيا مليئة بالمصائب وعليها أن تتحمل وتصبر حتى يعوضها الله..لأن الله يوفي أجر الصابرين..هل فتاة بمثل سنها؟ تستوعب هذا الكلام وتعمل به ..وجد نفسه وقد حدق بها  بقسوة..نظراته حازمة غاضبة منها..وصوته رافضا استسلامها فهتف في حدة:

- ايه مالك كل شوية عايزة اموت..عايزة اموت..ايه الأستسلام ال أنتي في ده..ايه الضعف ده، ليه ترضي بواقع انتي مش عايزاه..قومي كده وارفضي واصرخي..لكن متستلسميش بالشكل ده..وكأنك طفلة عندك سنتين مش عارفة تروحي فين ولا تيجي منين..اقفي في وش جوزك وارفضيه..اخلعيه حتى القانون دلوقت في صفك..قومي كده ومتضيعيش حياتك في اليأس والبكا.


 صوته المحتد ونبرته القاسية..ونظراته الصارمة ويديه اللتان وكأنهما على وشك صفعها..كل ذلك جعلها تنكمش على نفسها تلملم جسدها بين ذراعيها، تتراجع في خوف ودموعها تسيل بغزارة على وجنتيها. 

اطرق رأسه  بندم على ما تفوه به ماكان عليه ان يحدثها في تلك اللحظات..تنفس بعمق ثم قال:

-متخافيش ياجومانة ..انا بقول كده عشان تبقي قوية..مش عشان تخافي مني متزعليش مني.

فوجئ بها تقترب وتلقي نفسها في حضنه وتقول وهي تتشبث بذراعيه تشبث الغريق الذي يأمل في النجاة:

-متسبنيش خليك جمبي..عشان خاطر ربنا..أنا خايفة لما يرجع مروان من السفر ياخدني معاه في البيت زي ما قالتلي دادة أنا مش حقدر أستحمل اعيش معاه.


لقد زغرط قلبه بداخله..لأن حديثه أتى بنتائجه..وحقق ما اراد..لقد ايقظها من نوبة الضعف التي كادت أن تهوي بها الى هوة الأنهيار..لكنه ارتبك خشى أن يدخل أحد ما ويرى هذا الوضع ويفهمه خطأ..فأبعدها عن صدر برفق وقال لها باابتسامة حنونة..ونظرات مفعمة بالود:

-متخافيش انا معاكي أوعدك واني مش حتخلى عنك..ومش حسكت غير لما أعملك كل ال أنتي عايزاه..وأخلصك من اي حد عايز يأذيكي..بس بشرط توعدينك أنك متفكريش في الموت أبدا ..ها توعديني.

 أومئت برأسها ثم همست:

-حاضر

بهمس ودود هتف أكرم:

-حاضر أيه.

-أوعدك..اني مش حفكر اموت نفسي.

حدق فيها لثواني في حب وابتسامته العذبة كادت ان تصرخ بكلمة احبك.

لقد بدالته تلك الأبتسامة..باابتسامة امتنان..وثقة كأنها تقول له لقد وضعت ثقتي بك فلا تخذلني.

سريعا انتشل نفسه بعد أن ابتلع ريقه بصعوبة وقال وهو يدثرها:

-نامي دلوقت ومتفكريش في أي حاجة..كله خير باذن الله.

وتركها بخطوات سريعة حتى يلحق نفسه قبل ان تخونه..ويقبلها بين عينيها تلك البريئتين.


             الفصل الرابع عشرمن هنا

لقراة باقي الفصول من هنا


تعليقات



<>