نوفيلا القائمة السوداء الفصل الثانى2بقلم منال محمد سالم


 القائمة_السوداء


-الضحية الثانية-

بقلم منال محمد سالم

تلك الفترة الفاصلة التي ابتعد فيها عن "آشلي" كان ينفذ مخططته بالتقرب من "كيت"؛ الصديقة الأخرى لـ "روزا"، هي فنانة حالمة تُدير معرضًا فنيًا خاصًا بلوحاتها .. لم ينسَ لمساتها المتجاوزة حين كانت ترسم لوحة تجمعه بها، نظراتها إليه، تنهيداتها، وكل شيء في حركة جسدها أوحى له بأشياءٍ رفض تصديقها في البداية، لن ينكر أنها امتلكت من المفاتن ما يلفت النظر .. وبعد قراءته لما ورد في المذكرات بدت الصورة أكثر وضوحًا، كلمات "روزا" كانت تشير لخوفها من انجذابه إليها، اهتزت ثقتها بنفسها وشعرت أنها تفتقر إلى مقوماتٍ أنثوية تثير إعجابه، عبرت عن مخاوفها بأسطر احتوت على معاناتها، توقف عن القراءة ليضع ملامح خطته، وبعد تفكير عميق وجد المناسب.

ولج "ديف" إلى داخل معرضها مُلقيًا نظرات متمعنة في كل لوحة، وكأنه خبير محنك ينتقي الأفضل من بين المعروض، اقتربت منه إحدى العاملات به، وسألته في اهتمامٍ:

-أتبحث عن شيءٍ محدد؟ يمكنني أن أساعدك.

نظر لها من طرف عينه قبل أن يدعي انشغاله بتأمل إحدى اللوحات، وقال بعد برهةٍ:

-أشكرك، أنا أجيد اختيار لوحاتي.

تنحت للجانب حتى لا تزعجه، وبقيت على مسافة قريبة منه فإن احتاج مساعدة أتت إليه، وبالرغم من حركته البطيئة في المعرض إلا أنه كان واثقًا من ملاحظة "كيت" له، فبقائه دام طويلاً، وعن المعتاد، مما دفعها لاستدعاء مساعدتها، سألتها في فضولٍ:

-من ذلك الشخص؟

أجابت في حيرة:

-لا أعرف سيدتي، لكن يبدو أنه جاد في الشراء

أمرتها بصوتها الجاد:

-اتبعيه، وسنرى.

هزت رأسها في إذعان وعادت إلى "ديف" الذي وقف أمام تلك التحفة الفنية التي خطفت أنظاره؛ حيث كانت لعروسٍ ترتدي ثوب عرسها وملامحها شبه واجمة، وكأنها تنتظر الموت، عيناها تنطقان بحزنٍ مريب، لوهلة تخيل وجهها "روزا"، ذكرته لمحات العبوس والألم في قسماتها المرسومة بدقة بما كانت تشعر به في آخر أيامها من مشاعر تعيسة مهمومة عجز عن تفسيرها آنذاك، عاد من شروده المفطر للقلب ليتماسك، وهتف بلهجة شبه رسمية:

-أريد تلك اللوحة.

اقتربت منه المساعدة، وقالت مبتسمة:

-كما تريد سيدي.

تابع موضحًا، وعيناه تنظران للوحة:

-سأدفع بشيك.

أومأت برأسها مرددة بمهنية:

-لا توجد مشكلة، أريد من سيادتك ملء تلك الاستمارة لأرسل اللوحة على عنوانك بعد تغليفها.

أدار رأسه في اتجاهها، وقال موجزًا:

-حسنًا.

تبعها بخطوات متمهلة نحو مكتبها الذي يقع بالقرب من ورشة "كيت"، ويمكن للأخيرة رؤية ما يحدث في ردهات معرضها من خلال كاميرات المراقبة، وأيضًا عبر الحائل الزجاجي الذي يمنحها فرصة للنظر من خلاله .. أحضرت المساعدة لوحًا معدنيًا به بعض الأوراق، وسألته ورأسها منخفض لتقرأ المكتوب:

-ما اسمك سيدي؟

أجابها بنبرة عالية نسبيًا:

-أنا "ديف لوجان"، ومسكني في ...

انتبهت "كيت" للاسم، فطرأ في بالها شخصًا بعينه، رفعت أنظارها لتنظر نحوه، وتلك المرة دققت النظر في ملامحه لتتأكد إن كان هو أم لا، ارتفع حاجباها للأعلى في اندهاشٍ وقد تيقنت من صحة هويته، تحفزت في جلستها وتركت عملها لتتجه إليه .. رسمت ابتسامة لبقة على ثغرها، ومدت يدها لتصافحه وهي ترحب به:

-أهلاً "ديف"، ألا تذكرني؟

ادعى استغرابه منها، وقال ببرود وعجرفة:

-معذرة؟ من أنتِ؟

سألته والشوق يملأ محياها:

-ألست أنت "ديف لوجان" خطيب "روزا"؟

هز رأسه وهو يجيبها:

-نعم.. كنت خطيبها.

مدت يدها لمصافحته معرفة عن شخصها:

-أنا "كيت"، صديقتها.

رسم علامات الانبهار على خلجاته، وقال بنصف ابتسامة:

-أوه، "كيت"، كيف لم انتبه لك؟ كم أنا أحمق!

أشارت بيدها لمساعدتها تأمرها:

-اذهبي أنتِ.

هزت المساعدة رأسها في انصياعٍ، والتفت "كيت" نحو "ديف" تسأله:

-كيف حالك؟

أجاب، وتلك الابتسامة اللطيفة تحتل شفتيه:

-بخير، لقد اندهشت لرؤيتك هنا، أهذا معرضك؟

أكدت له متسائلة:

-نعم، ما رأيك؟

جاب بنظراته على الجدران التي تتزين باللوحات الفريدة، وأبدى إعجابه قائلاً:

-أنا أرى تحف فنية هنا، دومًا ذوقك راقي، ويُعجبني.

ردت في خجلٍ وهي تغرز أصابعها في شعرها القصير:

-أشكرك.

سألته مجددًا في اهتمامٍ:

-كيف هي الحياة معك؟

جاوبها برد محايد بإيماءة من رأسه:

-على ما يرام..

ادعى "ديف" النظر في ساعته، وتابع بوجه آسف:

-معذرة، كنت أود البقاء أطول، لكن لدي المزيد من الأعمال.

عادت لتصافحه وهي تقول:

-أوه، حسنًا، سعيدة لرؤيتك.

رفع يدها إلى فمه ليقبله في لطفٍ مما أدهشها، ثم أسبل عينيه مضيفًا:

-وأنا أيضًا.

تركزت عيناها معه وهو يسير متجهًا نحو الخارج، لكن ما لبث أن تبدلت تعبيراتها المبتهجة لقلقٍ فظيع حين رأته يتعثر في خطواته قبل أن ينهار جالسًا عند أعتاب المدخل .. ركضت نحوه، وجثت على ركبتها أمامه، امتدت يداها لتتحضن وجهه الشاحب، وسألته في قلقٍ مرتعب:

-أأنت بخير؟

أجابها بأنفاسٍ متقطعة:

-أنا.. أعاني..

ثم شهق ساحبًا شهيقًا عميقًا عله يتمكن من التنفس بصورة طبيعية، سألته والخوف مسيطر عليها:

-ما الأمر "ديف"؟

كافح بمجهود زائد ليلتقط أنفاسه، حرك رأسه للجانبين في هيسترية، وأشــار بعينين زائغتين إلى جيب سترته يجاوبها بصعوبة واضحة عليه:

-البخاخ، أحتاج إليه، إنه في جيبي.

هزت رأسها في تفهمٍ، وشرعت تفتش سرته باحثة عن البخاخ، حاولت "كيت" طمأنته حتى لا يصاب بالهلع، وقالت له:

-لا نقلق، ستكون بخير.

وجدت ضالتها فأعطتها له على الفور ليدس فوهتها في فمه، سحب الهواء دفعة واحدة ليملأ به رئتيه، تنفس بعدها ببطءٍ وقد خبت الحمرة المحتقنة التي غزت بشرته. نظر لها في امتنان، ثم بلع ريقه ليعتذر منها بوهنٍ:

-أسف، لقد وترتك معي.

سألته بنظراتها المتوترة:

-أتريد أن أستدعي سيارة الإسعاف؟

رد نافيًا وهو يحاول الابتسام:

-لا داعي، أنا أصبحت أفضل حالاً.

سألته مجددًا، ويدها تتحس جبينه:

-أيمكنك النهوض؟

أجابها بإرهاقٍ ظهرأكثر عليه بعد عنف المجهود الذي بذله ليتجاوز تلك الأزمة:

-نعم، سأستقل السيارة و..

قاطعته رافضة ذهابه بمفرده:

-لا يمكنني أن أتركك تقود وأنت في تلك الحالة.

حاول الاعتراض عليها، لكنها أصرت عليه لتحسم الأمر:

-لن أقبل بالرفض، أنا عنيدة.

*****

سحبت الغطاء عليه بعد أن استلقى على فراشه في منزله الأنيق الذي أثار إعجابها بترتيبه الشديد ونظامه الواضح، جمعت "كيت" ثيابه التي بدلها ووضعتها معًا على المقعد، ثم عادت إليه لتجلس قبالته على طرف الفراش، مدت يدها نحو وجهه لتمسح على جبينه برفقٍ، وابتسمت له تسأله:

-متى أصبت بتلك الحالة؟

أجابها "ديف" مستفهمًا:

-أتقصدين البخاخ؟

أجابت موجزة:

-نعم.

تنهد ببطءٍ راسمًا على خلجاته تعبيرات عابسة، ثم أجابها:

-منذ ما حدث لـ "روزا"، لازمتني الوحدة، وسيطرت علي أحزاني.

احتضنت كفها بين راحتيها، وهمست وهي تضغطت على شفتيها:

-أنا أسفة حقًا.

حاول تبديد الحزن الذي انعكس في عينيه، لكنه فشل، وقال بألم استشعرته في نبرته:

-لا عليكِ، فراقها كان مؤلم جدًا.

علقت عليه:

-أتفهم مشاعرك، كلنا عانينا بعد انتحارها.

وضع "ديف" يده على راحتيها، وربت برفقٍ على جلدها الناعم، رفع عينيه إليها ليضيف:

-كفى تعاسة عزيزتي، يكفي أني رأيتك اليوم لأتذكر لحظات افتقدها كثيرًا.

أشرق وجهها قليلاً وهي ترد مجاملة:

-أشكرك.

أجالت "كيت" أنظارها في المكان، وتابعت:

-منزلك رائع، أتعلم إنه قريب من معرضي!

تقلصت تعابيره معلقًا في استغرابٍ:

-لم أدرك ذلك.

أكملت بسلاسة:

-أنا تقريبًا أعبر من ذلك الطريق خلال ذهابي سيرًا إليه، كما تعلم المشي رياضتي المفضلة.

-جميل.

-وذوقك راقي في اختيار الأثاث.

-أشكرك.

ضغط بيده قليلاً على راحتها ليقول:

-شكرًا "كيت" على مساعدتك، واعتذر إن كنت أفسدت يومك بتعبي.

عبست معترضة على جملته تلك:

-أنا لم أفعل شيء "ديف"، أنت صديقي.

نظر لها في امتنانٍ، وأضاف بتعمدٍ:

-أنتِ مخلصة ومحبة للخير، وهذا ما أعجبني بك.

تهربت من كلماته الأخيرة لتقول:

-حاول أن تستريح.

رد بوهنٍ:

-سأفعل.

ثم سعل بقوةٍ ليظهر تعبه الشديد، توترت من تركه هكذا، واقترحت عليه من تلقاء نفسها:

-"ديف" لا تمانع إن مررت عليك، لا أشعر بالراحة لتركك هكذا.

مازحها بتنهيدة متعبة:

-سأكون بخير، لا تقلقي، وإن لم أكن كذلك، فستكون روحي قد فارقت جسدي.

هتفت تعاتبه برقةٍ:

-لا تقل هذا، سأمر عليك باكر، اتفقنا؟

هز رأسه بالإيجاب قبل أن يوضح:

-إن لم أفتح الباب ستجدين نسخة احتياطية من المفتاح أسفل عتبة المنزل.

ضحكت في نعومة وهي تسأله:

-ألا تزال تفعل هذا؟

رد مبتسمًا:

-نعم.. لم أتغير كثيرًا.

رمقته بنظرة مشرقة وهي تتابع:

-أنا أرى ذلك.

ودعها بلباقةٍ تثير إعجابها:

-أراكِ على خير.

أوصته مرة أخرى بلهجة جادة:

-انتبه لنفسك

-سأفعل.

قالها وهو يبتسم قليلاً لتنصرف بعدها "كيت" وهي تشعر بضرورة تقديم الدعم له، بينما أزاح "ديف" الغطاء عنه لينهض من رقدته المصطنعة شاعرًا بالزهو من نفسه لنجاح خطته وانطلائها عليها .. كان جل ما يشعر به بعد برهة من ذهابها رغبة الانتقام المتعاظمة بداخله، عليه ألا يتعجل حدوثه فقط.

*****

تعددت اللقاءات بينهما على فترات شبه متباعدة، تارة في معرضها، وتارة أخرى في مكانٍ عام حتى لا يثير شكوكها، ومع كل لقاء كان يستدرج مشاعرها المرهفة ويلعب على أوتـــار عواطفها التي تتأثر بالأحاسيس الإنسانية والذكريات المفطرة للقلوب، وفي آخر لقاء جمعه بها خلال سيرهما إلى منزله، استطاعت "كيت" أن ترى احتجاز العبرات الرقراقة في مقلتيه بعد حديث مستفيض عن معاناته من الوحدة المريرة وافتقاده للحضن الدافئ الذي يمنحه الحب والأمان، وجدت نفسها تنجذب إليه تلقائيًا، حاوطت بذراعها ظهره، واستندت برأسها على كتفه، وقالت بنبرة مواسية:

-أنا إلى جوارك "ديف".

تنهد قائلاً بغصة آلمت حلقه:

-أخشى أن أموت بمفردي.

هتفت تحتج على تشاؤمه وهي تنظر إلى وجهه العابس:

-لا تقل هذا، لن أتركك.

عمق من نظراته نحوها، وتابع:

-أنا وحدي "كيت"، ليس لي أصدقاء، منذ كارثة "روزا" وأنا أعمل فقط..

انخفضت نظراته نحو شفتيها هامسًا بعذوبة:

-إلى أن التقيت بكِ

اهتزت شفتاها برجفةٍ مغرية، بينما واصل القول بنفس النبرة المؤثرة:

-أخاف أن تبتعدي، لا أريد المعاناة.

ابتسمت في حبورٍ، وردت عليه:

-لا تقلق، سأظل معك.

أحنى رأسه ليقبلها لكنه تراجع مدعيًا السعال، سعل بخشونة جرحت أحباله الصوتية، سألته "كيت" في قلقٍ:

-أأنت بخير؟

أجابها بحرجٍ:

-يبدو أن المرض يفسد أسعد لحظاتي.

عضت على شفتها السفلى بربكة لطيفة، وقالت بنبرة ذات مغزى:

-لن تفسد.

فهم من نظراتها المتوارية أنها ترغب في تصعيد وتيرة علاقتهما، تنحنحت "كيت" مقترحة عليه:

-ما رأيك بتناول الطعام؟ سأعده لك بيدي.

بدا وكأن دعوتها تمهيدًا للخطوة التالية، فسألها بتسليةٍ:

-وهل تجيدين الطهي مثل الرسم؟

ردت بغرورٍ وهي تتغنج بكتفها:

-أنا محترفة عزيزي "ديف".

قبل عرضها قائلاً بتحدٍ:

-لنرى.

*****

كلاهما جلسا إلى مائدة الطعام متقابلين، وتلك الشمعة المضيئة تنتصفها، دس "ديف" الطعام في جوفه، مضغه في تمهلٍ ليستمتع بمذاقه الشهي، راقبت "كيت" ردة فعله، وسألته في تشوقٍ:

-ما رأيك؟

ابتسم حين أجابها مادحًا:

-الطعام رائع، أنتِ مميزة.

شعرت بالفخر من نفسها، وقالت ممازحة:

-أخبرتك أني ماهرة، ألا أستحق أي مكافأة؟

سدد لها نظرة ذات مغزى وهو يرد:

-بالطبع.

دفع المقعد للخلف لينهض من مكانه، ســار نحوها ثم مد يده ليمسك بكفها المسنود على الطاولة، جذبها برفقٍ إليه ليحثها على النهوض، التف ذراعه الآخر حول خصرها، تطلع إليها بنظرات مطولة ساهمة، ثم أحنى رأسه عليها ليلتقم شفتيها بشفتيه، ومنحها قبلة بث فيها مشاعر تعمد أن تبدو صادقة مليئة بالرغبة والشوق، تراجعت عنه "كيت" لتلتقط أنفاسها التي انحبست في جوفها، بدت غير مستعدة بعد لتلك الخطوة، كانت تناضل لتبدو طبيعية وذلك الصراع الخفي بين مشاعرها المتعاطفة مع صديقتها الراحلة وانجذابها نحو "ديف"، اعتقد الأخير أنها تنبذ اقترابه الحميمي، فاعتذر على الفور:

-أنا أسف.. لقد تماديت قليلاً.

أحست بالارتباك، وردت:

-لا عليك.

أدرك أنه السبب في إرباكها، وأكمل دوره في إظهار ندمه على تسرعه ناطقًا:

-لا تتوتري "كيت"، ربما لا داعي لاستباق الأمور بيننا.

تحاشت النظر إليه، وقالت منهية زيارتها:

-يجب أن أذهب.

استوقفها بالإمساك بها من ذراعها، وهتف بصوتٍ منخفض ليرن في أذنيها:

-اعتذر "كيت"، لم أقصدك أن آ...

قاطعته بلعثمةٍ واضحة في صوتها:

-ليست المشكلة بك، إنه أنا، لا تؤاخذني.

استشعر تلك الرجفة التي تسيطر عليها، وقال متفهمًا:

-حسنًا.

سحبت ذراعها من قبضته، وقالت دون أن تنظر إليه:

-سأهاتفك.

جمد أنظاره عليها موجزًا في الحديث:

-كما تشاءين.

لم يضغط عليها لتبقى إلى جواره، تركها ترحل، لكنه كان واثقًا من عودتها، فهي شخصية مترددة، مذبذبة، لن تقدم على الانتقال للخطوة التالية في علاقتهما التي اتخذت منحنًا آخرًا غير الصداقة إلا بعد تفكيرٍ عميق، ولهذا قرر الاختفاء فجأة من حياتها لتشعر بالوحدة والجفاء، حينها ستأتي له صاغرة تتوق شوقًا له ليملأ الفراغ الذي احتل حياتها.

وبالفعل لم يمضِ سوى أسبوع وكانت تتلوى من ألم الفراق، تسعى للوصول إليه بشتى الطرق، لكنه أغلق عليها كل السبل لتزداد معاناتها .. تعمد أن تطول مدة غيابه لفترة تتجاوز الأسبوعان، وعندما ظهر أمام باب معرضها هرولت تركض إليه لتلاحقه بأسئلتها وبأنفاس مضطربة:

-أين اختفيت "ديف"؟ لماذا لم تجب على اتصالاتي؟ لقد احترقت خوفًا عليك.

نكس رأسه يجيبها على مهلٍ، ويكسو وجهه لمحات حزينة:

-كنت مريضًا "كيت"، ولم أحاول أن أكون عبئًا عليكِ، خاصة بعد الـ...

قاطعته مبررة تصرفها المتوتر:

-المرة الأخيرة، شعرت أني....

ضغطت على شفتيها وقد وجدت صعوبة في إتمام كلامها، تنهدت تقول بندمٍ:

-أنا أسفة، كنت بحاجة للوقت.

وضع "ديف" يده أسفل ذقنها ليرفع وجهها إلى عينيه اللامعتين، وقال بتفهمٍ:

-لا عليك.

تأبطت ذراعه بعد أن منحته قبلة سريعة على شفتيه، جذبته ليتبعها للخارج قائلة بمرحٍ:

-هيا بنا.

سألها باستمتاعٍ غطى قسماته:

-أين سنذهب أميرتي؟

أجابته بغموضٍ مشوق:

-لن أتركك تبتعد عني بعد اليوم، أنا مستعدة لأكون لك.

-وماذا عن آ...؟

وضعت إصبعها على شفتيه تمنعه من الحديث، قربت "كيت" ثغرها من أذنه لتهمس له بصوتٍ حرك مشاعره الحسية:

-لا تسألني في شيء. اليوم أنا ملكك فقط.

رمقها بنظرة متيمة بها وهو يعدها:

-وأنا سأعاملك كأميرة رقيقة تحتاج للدلال.

*****

أراحت رأسها على صدره العاري بعد وقت حميمي عاصف استمتع كلاهما فيه بطقوس الحب المشوقة، تركت "كيت" أصابعه تدلك كتفيها، اعتدلت في رقدتها حين رأت وهجًا براقًا بخطف أنظارها، نظرت إليه في حيرة قبل أن تعاود التحديق في القلادة اللامعة وهي تسأله:

-ما هذا "ديف"؟

أجابها بعبثية وهو يطوق عنقها بها لترتديها:

-أريدك أن ترسميني، وتلك رشوتك.

قالت بنعومة بعد أن منحته قبلة عميقة:

-فقط أطلب مني، لا داعي لأن تكلف نفسك.

مسح على جانب ذراعها، وغازلها بنظراته قبل أن ينطق:

-أميرتي تحتاج للتدليل والتقدير، وأنا لن أبخل عليك بشيء.

تنهدت في حرارة، وردت:

-أوه! "ديف"، أخشى أن أقول أني.. وقعت في حبك.

احتضن وجهها بين راحتيه، تبادل معها المزيد من القبلات التي أوقظت الرغبة في كليهما، وأضاف:

-بل أنا أهيم عشقًا بكِ.

انتهى الاثنان من نوبة غرام جديدة ليتقلب على جانبه، وغمغم بنبرة متشوقة:

-أتعلمين، أحد رفاقي يدير معارضًا بالخارج، لقد تحدثت معه بشأن أعمالك.

انتابها حماس مفاجئ، وسألته في عدم تصديق:

-حقًا؟

تابع بتمهلٍ:

-لم أخض معه بعد في التفاصيل، لكن بدا مهتمًا بما أطلعته عليه من لوحاتك.

سألته وقلبها يخفق بقوةٍ:

-أأنت جاد؟ لا تمزح معي، لن أتحمل آ...

قاطعها مؤكدًا:

-قريبًا ستدق الشهرة أبوابك.

هللت في حماس:

-لا أصدق، أنت حقًا معجزة حياتي.

تحسس جانب عنقها قائلاً:

-وأنتِ أميرتي.

التقم شفتيها مجددًا وتراجع عنها مواصلاً القول:

-سأسافر لأتحدث معه وأرتب لزيارة قريبة له هنا، وسأعود في بضعة أيام.

عبست تعبيراتها قليلاً، ثم تنهدت قائلة:

-لا تفعل هذا! لا تبتعد عني!

داعب وجنتها بإبهامه مؤكدًا لها:

-سأحادثك يوميًا..

خبت نبرته قليلاً حين سألها:

-لكن ألن أنال قدرًا من حبك؟

قالت وتلك النظرة المفعمة بوهج الحب تحتل حدقتيها:

-تستحق ذلك.

*****


                    الفصل الثالث من هنا


تعليقات



<>