رواية شغف
الفصل السادس والسابع والثامن
بقلم ضحي حجازي
الفصل السادس :
بعد أن أنهي مكالمته مع تلك المتعجرفة التي تظن نفسها صاحبة فضل عليه ثم ذهب الي البيت الذي تقيم فيه ...بالطبع لم يغفل عن أمر ذلك الأبله الذي يراقبه فتخفي جيداً عن الأنظار ...لا يخفي انه يستمتع بتلك المطاردة كثيراً ...
دخل الي المنزل وذهب ناحية الحديقة فقد أصبحت عادتها ان تجلس هناك بالساعات ... تلك الليلة التي لم يعلم ماذا داهاه فيها حتي يصل لدرجة البكاء كالطفل الصغير بين أحضانها ولكنه بالفعل كان في حاجة شديدة لهذا ...لماذا لا تدرك انها الشئ الوحيد الجيد في عالمه ...لماذا لا تدرك انه قد حُرم من كل ما أحب من قبل ولن يقبل ان يُحرم منها ...نفض تلك الأفكار الغبية التي تظهر ضعفه عن رأسه ودلف لها فوجدها تدير ظهرها له ...قام بدفن وجهه في عنقها البض وتحسس بأنامله خصلاتها القصيرة الغير محببة له قائلاً بلوم لازال يلقيه علي مسامعها : نفسي شعرك يرجع زي الأول ...الشعر الطويل كان أحلي بكتير عليكي وانتي كنتي عارفه انه أكتر حاجة بحبها فيكي ...نظر لها بحنو ونبرته ظلت علي هدوئها لم تتغير مردفاً :قصتيه عشان كنت بحبه مش كده ؟!
ـ عادي يعني من باب التغير زهقت من الشعر الطويل
أبتسم أبتسامة تكاد تجزم انها أشعرتها بكم الدمار الذي بداخله ثم أردف :
ـ فرصة واحدة ...انا مش عايز غير فرصة واحدة ...أنا هحاول أتغير وأنتي هتفضلي معايا وهتبطلي تحاولي تهربي لأنك مش هتعرفي ...أنا مقدرش أطلعك من هنا عشان أنا عارف النتيجة ...أرجوكي أقبلي ده هيبقي أريح ليا وليكي ...
صمت قليلاً ثم أردف :
ـ أنا مش عايز أذيكي انا بتوجع أكتر منك لما بضربك أو بزعقلك ...بس انا شخصيتي كده ..مش بعرف اتحكم في عصبيتي ..بالذات لما ...
وكمشهد مكرر عدة مرات بالنسبة لها تتحول تعابيره للحدة والقسوة فجأة وهو يكمل :
ـ لما بتخيل انك عايزة تسيبيني وتزوحيله ...ليه ؟! هو في أيه انتي شايفاه مش عندي ؟! صمت لبرهة ثم قال بألم حقيقي :
ـ هو يقدر يخلف بس أنا لا
تحدثت بنبرة مرتفعة هيستيرية فجأة قائلة :
ـ أروحله مين انت مجنون ؟! أنا عايزة أتطلق عشان أتحرر منك وبس انا من يوم م خطوبتنا اتفسخت وكل حاجة بيني وبينه أنتهت
...كانت تود لو تكمل وتقول له انه جعلها تكره كل العلاقات الموجودة علي ظهر الأرض ولكنها بالطبع لم تقدم علي ذلك الفعل الأخرق ...فقد أدركت ماهية حالته بالفعل وان ارادت المقاومة عليها إطاعته لفترة لا بأس بها لأن الخطأ قد يؤدي الي نهاية حياتها
أخذت تتنفس بعمق قليلاً ثم أردفت كالقط المطيع :
ـ خلاص انا موافقة ...هديلك فرصة بس هتكون فرصة أخيرة ولو منجحتش هتسبني أمشي مش كده
أبتسم بسعادة قائلاً بمراوغة :
ـ هنبقي نشوف ساعتها يا ملكتي المهم دلوقتي أنك وحشتيني اوي ...كان قد حاوطها بذراعيه وهو يحادثها
لكم تكره قربه منها لدرجة تجعلها تود التقيئ ولكن عليها ان تصمت حتي تستطيع ان ترتاح من ذلك الكابوس المفزع ...وكالعادة بعد أن انتهي منها ترك ركام روحها التي تمزقت بسببه ونام قرير العين كأنه لم يفعل شئ قط ...أخذت ذاكرتها القاسية تعيد لها كل ما حدث في الماضي من ألم كأنها جلادها الأخر الذي لا يرحم ...
......فلاش باك .....
ومر الوقت وانتهت خطبتها ل"أدهم" ولنقل تركها هو ...كان ذلك الوضع ليحطم فؤادها من قبل وتشعر ان كرامتها قد تبعثرت ولكن بالفعل هي سعيدة ...أصبحت تبغضه بسبب أفعاله ...علمت ان شعورها بالحب تجاهه قد تبدد بسبب أفعاله تلك ...كانت ممتنة له بحق علي إنهاء تلك الزيجة التي كانت متأكدة أنها ستكون الجحيم بالنسبة لها ...
وما أكتشفته بعد ذلك انه تركها من أجل أخري فهو لم يراعي مشاعرها حتي وقام بخطبتها بعدها بأسبوع فقط ...لم تحزن قط أو تفر من عينيها دمعة عليه فهو بالفعل لا يستحق بل كانت مشغولة بأمر والدتها التي ازدادت سوءاً بعد انتهاء خطبة ابنتها ...عادت آلامها النفسية الي جوار حالتها التي تزداد تأخراً يوماً بعد يوم ...كانت تحاول قدر الإمكان التخفيف عن والدتها أو حقيقةً كانت تهون علي نفسها وعلي أختها التي كانت قد أكتشفت الأمر هي الأخري ...وأصبح المنزل محاط بهالة من الكآبة والحزن ...كانت تحاول جاهدة ان تتناسي آلامها الكبري وتخفف عن أمها وأختها ولكن دوماً ما كانت تخفق ...
ومرت الاسابيع ومازالت حالة والدتها تسوء يوماً بعد يوم حتي أصبح الجميع متأكداً من دنو أجلها ..
في ذلك اليوم كانت والدتها تتحدث في الهاتف عندما دلفت هي الي الشقة بعد انتهاء يومها الجامعي وما ان دلفت حتي وجدتها تصوب نظرات آسفة حزينة تجاهها ...في البداية هوي قلبها في قدميها مخافة ان يكون الامر متعلق بمرض والدتها ولكن بعدما سمعت مضمون المكالمة فهمت كل شئ وتحولت نظراتها الي التهكم والسخرية
ـ الف مبروك يا مدام كاميليا أدهم شاب كويس ويستحق كل خير ...وإن شاء الله نبقي نحضر الفرح
قالت الأخري بشماتة لم تحاول مداراتها :
ـ أصل يعني انا افتكرت ان ممكن يكون في حساسية بينا عشان خطوبة أدهم وشغف الي محصلش فيها نصيب
ـ أديكي قولتي محصلش فيها نصيب ...همه متفقوش وخلاص الموضوع انتهي بس ده مش معناه ان العلاقة بين العيلتين تتدمر لا بالعكس ده احنا نعرف بعض من سنين
قالت بنوع من السخرية :
ـ ربنا يديم المحبة ...أكيد هنستناكوا اول ناس وكمان ابقي قولي للبنات يجوا بدري عشان يروحوا مع يارا للعروسة الكوافير ..قالتها وهي تتعمد الأهانة
ـ ان شاء الله يا حبيبتي ...كانت "ماجدة" تعرف جيداً عجرفة "كاميليا" ورفضها لابنتها منذ بداية الامر ...وعلمت ان فحوي المكالمة لم يكن سوي إهانتها هي وإبنتها ولكنها صمتت فقط إكراماً لزوجها الذي لم يتركهم قط ووقف بجانبهم دائماً حفاظاً علي أمانة صديقه الراحل ..
علمت أن ابنتها قد سمعت المكالمة فقالت لها بحنو وإشفاق :
ـ معلش متزعليش نفسك راح في داهية وانتي ربنا هيرزقك بالأحسن منه انا عارفه ...انا والله لولا اني خايفة عليكوا م كنت قبلت بيه بأمه الحيزبونة الي كانت هتوريكي النجوم ف عز الظهر دي ..كويس انها جات من عنده واحنا مش مضطرين اصلاً نروح لا فرح ولا زفت عشان انا عارفه دي هتعمل ايه ...هتتعمد انها تهينك بأي طريقة
أبتسمت بحنان وهي تطمئن والدتها بنظراتها :
ـ ماما ...أنا والله م زعلانة زي م انتي قولتي كويس انها جات من عندهم انا كنت مستحملة بس عشان كنت عايزاكي تفرحي غير كده لا ...وبعدين متخافيش هتجوزيني بأيدك للراجل الي تكوني راضية عنه وهتشيلي عيالي وعيال "نور" وهيجننوكي
نظرت لها بحسرة قائلة :
ـ تفتكري
ـ مفيش حاجة بعيدة علي ربنا ...وهو مش هيسيبنا وعالم بحالنا ومش هيختارلنا غير الخير ...مش ده كلامك برضه
أدمعت عينيها فخراً هذه المرة بتربية أبنتها :
ـ ونعم بالله يا حبيبتي ونعم بالله
ـ وبعدين تعالي هنا انتي كنتي خايفة علينا وعايزة تخلي امانتنا بأيد بني أدم و نسيتي ربنا سبحانه وتعالي الي خلقنا و الي عمره م هيسبنا والي قادر يحمينا من أي حاجة ...وربنا ان شاء الله هيديكي طولة العمر وهيشفيكي انتي بس أتوكلي عليه
قالت بتأثر :
ـ استغفر الله العظيم ...ربنا يبارك فيكي يا حبيبتي والله طول م انتو محافظين علي دينكوا انا عمري م هخاف عليكوا ...أستودعتكوا لله الذي لا تضيع ودائعه ...
عانقتها أمها وهي تربت علي رأسها وقد تأكدت أن الله قد منَّ عليها بالذرية الصالحة ...وبعدها بقليل عادت "نور" من درسها وتناولوا طعام الغداء في جو مرح قليلاً فقد هدأ توتر "ماجدة" بعد سماعها لكلمات ابنتها المريحة للنفس ..
وأتي اليوم التالي وذهبت كعادتها لجامعتها ولكن ما كانت غافلة عنه ان هذا اليوم سيكون نقطة فاصلة في حياتها ...سيكون اليوم الذي سيتغير فيه مسار حياتها الي الأبد ...
الفصل السابع :
خرجت من قاعة المحاضرات بعد إنتهاء محاضرتها وقد إعتذرت من صديقاتها فهي لم يعد لها القدرة علي مصاحبة أحد وأصبحت مائلة للعزلة مؤخراً ...ولكن توقفت حينما نادي عليها ..
ـ أنسة شغف ...معلش عايزك ثانية
نظرت تجاهه في صدمة وهي تجيب بسرعة بأبتسامة مهذبة لأنه أستاذها بالجامعة :
ـ أه طبعاً يا دكتور عمر أتفضل
تنحنح بحرج ثم قال وقد ظهرت عليه بوادر الأرتباك :
ـ معلش لو مش هزعجك ممكن نقعد في اي كافيه بس عشان عايز أكلمك في موضوع مهم
بدا عليها التوتر بشدة وهي تقول له بحرج :
ـ انا أسفة جداً لحضرتك بس مش هينفع حد يشوفني معاك هيطلعوا علينا كلام وأشاعات وانت عارف ...حضرتك ممكن تقولي في ايه هنا شعر بالحرج من كلامها لكنها أصابت تماماً وفي داخله أعجبه موقفها فرد بأبتسامة مترددة قائلاً :
ـ احم ...يعني انا كنت ....كنت عايز رقم والدتك
ـ نعم !
ـ يعني ...أنا ....عايز أتقدملك
حملقت فيه بصدمة ...لم تتخيل أبداً حتي وإن كان أخر رجل علي وجه الأرض أن يتقدم لطلبها للزواج ...هي لم تراه أكثر من أستاذ تحب طريقة شرحه وفقط ولكن زوج !
لا تعلم كيف انتهت تلك المحادثة ولا كيف انتهي بها الحال خطيبته ...الأحداث بعد ذلك اليوم مرت بتسارع جنوني فبعد أن جاء لطلبها وكان بالتأكيد "عصام" في أستقباله كواصي عليها رأت الأعجاب الشديد به في عيون كل من والدتها وعصام ...كان من المضحك ان تشاهد والد خطيبها السابق الذي تخلي عنها يقف هو في أستقبال عريسها المنتظر ولكنها تغاضت عن الموقف لحبها لذلك الرجل الذي تراه بالفعل في مكانة والدها ولمعرفتها أنه لا ذنب له فيما حدث ...
كانت تلك الليلة بعد مرور أسبوع من خطبتها له ...أكتسبت والدتها عادة جديدة يومية وهي الحديث عنه وعن ميزاته التي لا تعد ولا تحصي
ـ بجد مش قادرة أبطل أحمد ربنا علي نعمه ... عمر ده مفيش منه أتنين مال وجمال وذوق ودكتور في الجامعة وأملاكهم متتعدش جوه وبره مصروشخصية محترمة جداً وعنده أخلاق ...هو ده العريس الي كنت أتمناهولك بجد
أبتسمت لوالدتها كي تنهي هذا الحديث الذي صارت تبغضه قائلة :
ـ الحمد لله يا حبيبتي بس مش يلا بقي تروحي تنامي وتريحي نفسك ؟! النهاردة اليوم كله كنتي واقفة في المطبخ بتعملي الأكل عشان عمر ريحي نفسك عشان متتعبيش بقي ..
ـ حاضر يا حبيبتي حاضر ...أنا راحتي الحقيقية كانت لما أتطمنت عليكي
قبلت مقدمة رأسها ثم خرجت تاركة اياها تصارع أفكارها ...هو بالفعل الرجل الذي تتمناه أي أمرأة ...شديد الغني والوسامة ولبق وذو بنية رياضية رائعة وخفيف الظل بدرجة لا تتساوي مع كونه أستاذ جامعي ...كل صفاته رائعة لكنها لا تطمئن للأمر ولا تعلم لما؟! ...من الممكن أن يكون أن التجربة السابقة تركت في نفسها جرحاً لا ينضب ...لم تعد لديها القدرة علي الوثوق بأحد ...هي لم تود ان تقبل لعدم إستعدادها الأن لأي تجربة من هذا النوع ولكن أمام إصرار والدتها الدائم لم تستطع سوي أن توافق ...لا تملك سوي ان تدعو الله أن يوفقها للخير ويشفي والدتها فقدرتها علي الأحتمال أوشكت علي النفاذ ..
مرت الأيام وتوطدت معها علاقتها ب "عمر" فهو لم يدخر جهداً في الوقوف الي جانبها في مرض والدتها ولا في التخفيف عنها وإسعادها بالهدايا والرسائل الطريفة التي كان يرسلها لها يومياً ... كان يبثها الأهتمام الذي كانت في حاجة إليه ...كان يخرجها من قوقعة الوحدة التي كانت قد فرضتها علي نفسها بعد مرض والدتها وترك "أدهم" لها وتلك الشائعات التي قامت "يارا" التي كانت بمثابة الأخت لها بترويجها بين اصدقائها حتي أصبحت لا تتمكن من الحديث معهم ...كان ذلك خذلان الأصدقاء الذي جاء في الوقت الذي كانت تحتاج فيه الي كلمة تساندها وفقط ...الخذلان جاء من القريبة التي طعنتها في ظهرها ...ومن الأخريات الاتي صدقنها لتلغي من قاموس حياتها كلمة أصدقاء الي أبد الدهر ..
وتوالت الأيام والأسابيع ...حضرت حفل زفاف "أدهم" دون ان تتأثر ...أو حاولت أن تظهر عدم تأثرها إن كان له أو لأخته التي خيبت أملها ...مر العرس ...ومرت الأيام حتي عقد قرانها هي الأخري ...كانت الفكرة ل"عمر" ولكنها كانت كطوق النجاة ل"ماجدة" للقضاء علي مخاوفها
والفكرة ان يتم عقد القران الأن حتي يستطيع ان يحدثها كما يريد لأنها كانت قد فرضت قيود علي العلاقة قبل الزواج كي يبارك الله في تلك الزيجة فهي حتي وسط همومها الكبيرة التي أثقلت كاحلها لم تنسَ طاعة ربها ...وافقت هي الأخري بعد التفكير في الأمر فقد كانت بحاجة لأن تشعر أن هناك من يساندها في هذا الوقت بالذات...وأتفقوا ان يكون الزفاف عقب إنتهاء إمتحاناتها ...
كان عقد القران في قاعة أحتفالات راقية بالطبع كي يليق بطبقة "عمر" الأجتماعية ...وأخيراً ظهر والده وزوجته كأول ظهور له وكان من الواضح ان الأمر برمته لا يفرق عنده شئ ..
وتكرر المشهد مع أختلاف الأوضاع ...حضر "أدهم" عقد قرانها كما حضرت هي حفل زفافه ...سخرت من الأمر في داخلها فقد مر علي زواجه قرابة الشهرين ...شعرت من مظهره أنه ليس سعيداً البتة وحينما تلاقت عينيها بعينيه للحظات رأت في عينيه نظرة غريبة لم تعهدها ولم تتوقع ان تراها ...نظرة ندم ؟!
مع عقد قرانهما ازداد قربه لها أكثر ...أصبح لا يفارقها في جلسات والدتها عند الأطباء ...يأتي لها في منزلها كي يشرح لها موادها الدراسية كي يسهل عليها مذاكرتها فهو لم يكتفي بمادته فقط بل كان يساعدها في كل المواد ...حتي انه كان يساعد أختها "نور" فيما يصعب عليها فهمه فهي كانت في الصف الثالث الثانوي ...كانت تستغرب أنه يترك أعماله التي لا تنتهي ويفرغ نفسه لها ولعائلتها اليوم بأكمله ...كان هذا ينمي بذرة الحب التي بدأت في الظهور داخل قلبها تجاهه ...
في ذلك اليوم كان في منزلها كعادته فهو أصبح يأتيها يومياً ...أصبحت تحدثه بكل ما يعتمل في صدرها فهي لم تعد تجد لنفسها أماناً سواه
ـ أنا خايفة أوي ...كان هذا صوتها المضطرب الذي شق الصمت الذي كان يخيم عليهما في الشرفة
وضع يديه علي كتفها وهو ينظر في عينيها بعينيه الزرقاء الرائعة التي تبث في نفسها الأمان :
ـ متخافيش ...انا جنبك ...ومامتك بأذن الله مش هيجرالها حاجة ثقي في ده
ـ أفضل دايماً جنبي متسيبنيش ...أنا بجد محتاجالك
قال بمرح محاولاً التخفيف عنها فقد أخبرهم الطبيب اليوم أنه لم يعد هناك أمل في حالة والدتها وأنها يمكن ان تلقي حتفها في أي وقت :
ـ متخافيش هفضل جنبك لحد م تزهقي مني
أبتسمت بحزن ثم أستأذنت منه لتذهب وتوقظ والدتها كي تتناول علاجها ...
كانت تلك هي اللحظات الأصعب عليها في حياتها كلها ...أخذت تناديها وما من جواب ...شعرت بالرعب يملأ أوصالها فأخذت تنادي عليها وهي تهزها ولكن لم تفيق ...لم يصدر منها سوي صرخة شقت السكون المحاوط بها قبل ان تغيب عن تلك الدنيا الظالمة
ـ مــــامــــا
الفصل الثامن :
يقال أن الصدمة حينما تكون قوية يتعامل المرء بصورة طبيعية وكأن شيئاً لم يكن كتعبير للعقل عن الرفض التام لتصديق ما حدث ...كان ذلك هو ما حدث معها بعد ان خرجت من المستشفي فقد مرت بحالة إنهيار حادة بعد موت والدتها انتهت بأنها أصبحت منطوية علي نفسها ولكنها تتصرف بصورة طبيعية ...أصبح يخاف عليها بشدة من صمتها المستمر وإبتسامتها الباردة التي تحاول تقنعه بها أنها بخير ...لم تكن تبكي سوي حينما تري أختها التي لم تكن حالتها أفضل منها قط بل أبشع ...كانت كل منهما تنهار وهي تعانق الأخري وكأنها تطلب منها الأمان في مشهد تكرر أمام ناظريه أكثر من مرة حتي أصبح قلبه يدمي له ...كان يحاول التخفيف عن كلتيهما بأي طريقة ممكنة في الوجود مما زاد نقطة في صالحه في قلبها ...
مر شهر علي وفاة والدتها كانت حالتها النفسية قد تحسنت بصورة جيدة فيهم فقد أصبحت تبكي وخرجت من قوقعة الصمت التي كانت قد فرضتها علي نفسها ...قد أصبحت تشاطره همومها وأحزانها ...لنقل أنه حصل علي ثقتها ...
فاتحها هو في أمر زواجهما وأنه من غير اللائق أن يزورهما وهما فتاتان في مقتبل العمر ووحيدتين وحتي وإن كان زوجها ... ولا يمكن أن يكون هناك حفلة زفاف في ظروف مماثلة لذا أتفق هو و"عصام" علي أن يتم الإشهار بزواجهما ليعلم الجميع بأمره وتذهب هي لتعيش في بيته ومعها أختها وكان الأخر قد حقق رغبته في الاطمئنان عليهما بعد ان تأكد من أخلاق" عمر" ومناسبته ل"شغف"
الأشهر الأولي من زواجهما ...إن قالت أن حياتها كانت جنة لا تنعت بالكاذبة ...كان "عمر" وقتها كالدواء الشافي الذي يطيب جراحها ...كانت تري ان كل طاقاته موجهة لهدف واحد وهو إسعادها ...
ذلك الوقت تزامن مع إمتحانات "نور" التي كانت نفسيتها قد تدمرت بسبب موت والدتها وأهملت دروسها كثيراً فما كان منه سوي أن أخذ إجازة من جميع أعماله ليتفرغ للمذاكرة والمراجعة معها وفعلاً جهوده قد أثمرت بعد إعلان النتيجة
ـ بجد انا مش مصدقة نفسي انا خلاص كنت فقدت الأمل ...أنا لو فضلت من هنا لمليون سنة قدام أشكر حضرتك يا أبيه عمر مش هديك حقك
نظر لها بلوم قائلاً :
ـ يا بت انتي هبلة انتي زي اختي الصغيرة ..أوعي اسمعك تاني تقولي الكلام ده واتفضلي بقي نقي الهدية الي نفسك فيها عشان المجموع الجامد الي جبتيه ده
ـ هدية ايه ده انا والله الي المفروض أجيب لحضرتك هدية مش انت
ـ عمري م شوفت حد يرفص النعمة بأديه ...خلاص هجيب أنا بمعرفتي يختي
كان هذا الحوار أمام ناظري "شغف" التي كانت تبتسم بسعادة حقيقية وهي تحمد الله في داخلها علي ذلك الزوج الذي تخطي حدود أحلامها ...
ومرت الأيام وأراد هو أن يعوضها عن حفلة الزفاف والسفر لقضاء شهر العسل لأنهم لم يتمكنا من أقامتهم ... فأخذها في رحلة كانت فيها ستموت من فرط السعادة ...هما الإثنان لا ثالث لهما فقد رفضت "نور" الذهاب برفقتهما وهي تتحجج بأنها متعبة من الدراسة وتريد النوم والراحة فأتفقا أن يسافرا أسبوعان يقوم فيهما "عصام" بالأطمئنان علي نور كل فترة ...
لا تجري الرياح بما تشتهي السفن تأكدت هي من صدق تلك المقولة في سفرهما ...كانت الأمور تسير علي ما يرام ولكن القدر لم يشأ أن يتركها تنعم بتلك السعادة لوقت أكبر ..
أكتشفت في تلك الرحلة أنه ليس كاملاً متكاملاً كما كانت تظن ...بالأحري أكتشفت أول عيوبه ...
كانا وقتها في روما في الفندق الذي تملكه عائلة "عمر" ...كانت داخل الحمام تستحم عقب ان عادا من جولة رائعة ولكن وقتما خرجت من الحمام كادت عينيها أن تخرج من مقلتيها من الدهشة حين رأته ممسك في يده بكأس تبينت أنه من الخمر حين وجدت الزجاجة بجواره ...
ما أن رأها حتي أبتسم لها قائلاً :
ـ خلصتي يا حبي ...تعالي
قالت له بصدمة :
ـ أنت بتشرب ؟!
ـ أه أيه المشكلة؟
تعجبت من رده بشدة ثم قالت :
ـ أنت مش عارف انها حرام
ـ أكيد عارف بس عادي يعني انا مبشربش كتير ...ساعات بحس أني عايز أشرب فبشرب ...بس سيبك انتي ايه الحلاوة دي ؟!
في تلك الليلة شعرت كأنها لا تطيقه لأول مرة ...لم تحزن من أنه يشرب بقدر ما حزنت من رده وأخذه للأمر بتلك البساطة ...أخذت تقنع نفسها أن الأمر ما هو إلا مجرد وقت وستستطيع أنه تجعله يقلع عنها ويقترب من طريق الله الذي أدركت الأن فقط انه بعيد عنه بدرجة كبيرة ...
بعد تلك الليلة أيقنت أنه ليس هناك شخص كامل ...خصوصاً ان عيوبه الأخري أخذت في الظهور واحداً تلو الأخر
كان قد عاد لتوه من عمله فذهبت هي كي تجهز الطعام وبعدما انتهت وخرجت من المطبخ لتضع الأطباق وتنادي عليه سمعت ما جعل الدماء تتجمد في عروقها ...
ـ أستني بس ساعتين كده مراتي تنام وانا اجيلك ......مش هينفع دلوقتي بطلي زن بقي ......ضحك بشدة ثم قال : خلاص هحاول اتحجج بأي حجة وأجيلك هو انا أقدر علي زعلك برضه ..
كانت قد أبتعدت قليلا عن الشرفة التي كان يقف بها أثناء محادثته ...لا تعلم أفعلت ذلك كي لا يراها ويعلم انها قد سمعته أم فعلت ذلك أثر الصدمة ؟!
علمت أنه ينهي المكالمة فعادت أدراجها الي المطبخ وحاولت قدر الأمكان ان تعيد ملامحها لما كانت عليه ...
ـ حياتي ...معلش "أكرم" صاحبي كلمني وقال انه عايزني ضروي فهروحله ...متستنينيش انتي عشان هتأخر
أجابت بضياع جاهدت كي لا يظهر في نبرتها :
ـ ماشي
قبل رأسها وتركها وذهب وهي تحاول إقناع نفسها ان ما تفكر فيه ليس صواب ...هو لن يخونها أبداً هي تثق به يمكن ان يكون شئ ما يتعلق بالعمل او بعائلته لكنه ليس الخيانة هي أكيدة من ذلك ...او هذه هي الفكرة التي يمكن ان تريح بالها الآن ...
أنشغلت عن ذلك الأمر بخطبة أختها التي لم تتوقعها أبداً في مثل ذلك الوقت فقد تقدم لخطبتها "يوسف" صديق "أدهم" المقرب الذي قال ل"عصام" أنه رآها في عرس رفيقه وأعجب بها وأراد ان يتزوجها لكنه انتظر الوقت المناسب لأنه علم بأمر وفاة والدتها ...قلقت للوهلة الأولي من الامر خاصةً لعمر "نور" الصغير فهي بالكاد كانت قد اتمت الثامنةعشر ...لم تهتم كثيراً لأمر الفارق العمري فالفارق العمري بينها وبين زوجها "عمر" كبير أيضاً ...
رضخت للأمر حينما علمت من "عصام" مدي أخلاق وتدين "يوسف" لدرجة انه كان يحث أبنه "أدهم" علي الأقتراب منه وتقليده في أفعاله النبيلة ...وأيضاً بعدما علمت من أختها بعد الكثير من الألحاح الموقف الذي عرفه بها .
ـ مهو متتخيليش أني هسيبك من غير م تقوليلي ...وبعدين مش انا اختك الي كنتي بتقعدي تقوليلي انتي صاحبتي قبل أختي وسري كله معاكي ولا ده كله كان كلام في الهوا
نظرت لها بإرتباك ثم تنحنحت قائلة :
بصي الحقيقة يعني يوم الفرح ده شنطتي كانت مفتوحة وموبايلي وقع منها وانا ماشية ولما رجعت أخده لقيته مكان ما كنت واقفة وكان ماسكه ...هو كان بيدور علي صاحب الموبايل بس انا فكرته هيسرقه ومقولكيش بقي علي أختك وهي بتشرشح
.......فلاش باك ليوم عرس "أدهم" .....
ـ خلاص يا حاجة انتي خلاص أقسم بالله م سرقت حاجة انا لقيته مرمي في الأرض فقلت احاول أرجعه لصاحبه بكل حسن نية والله انا لو اعرف انك هتعملي كده كنت سيبته
تنحنحت بحرج وهي تقول:
ـ أنا آسفة انا بس أنفعلت شوية
نظر لها بتهكم قائلاً :
ـ شوية ؟!
ـ يعم م قولنا خلاص أسفة
ـ خلاص يخربيتك انتي تفزعي ...في بنوتة رقيقة حلوة كده تتكلم بالأسلوب ده ...كانت نظراته معلقة بها وهو يقول تلك الكلمات بهيام
أحمرت وجنتيها من الخجل ثم تناولت منه الهاتف وجرت بسرعة وتركته ينظر في أثرهاوقد أرتسمت علي شفتيه أبتسامة بلهاء ...
.....باك.....
