نوفيلا القائمة السوداء الفصل الاول1بقلم منال محمد سالم


 القائمة السوداء

المقدمة والفصل الأول 

بقلم منال محمد سالم

انحنى على شاهد قبر الذي حمل اسمها ولم يفارقه منذ تلك اللحظة العصيبة واضعًا باقة جديدة من الزهور عليه، ودموعه الحارقة لم تترك مقلتيه. مسح "


ديف" ما بلل وجهه من عبرات بظهر كفه لينظر بشرود حزين إلى القبر المزدان بالأعمدة الجرانيتية مستعيدًا ما مضى من أمور مفجعة. ففي لحظة جنون منها قررت خطيبته "روزا" الانتحار بعد معاناة من الإدمان، لم يتمكن من نجدتها في الوقت المناسب، تضاعفت


 أحزانه عندما استمر في تذكر ما حدث، كان آنذاك في طريق عودته من العمل، والحماس    يملأوه لإتمام زواجه منها، فقد تلقى ترقية مفاجئة مع مكافأة 


مالية مجزية ستساعده على ترتيب عرس يليق بهما، ظل مشهد بركة الدماء الغارق جسدها فيه مستحوذًا على تفكيره حين فتح باب منزله ليجدها هكذا، انقبض قلبه وانخلع ارتعابًا عليها، هرول إليها ليجثو على ركبته أمامها، رفع جسدها إلى صدره وهو يناديها:

-"روزا"! حبيبتي!

كانت هامدة، لا تتجاوب مع صراخه الملتاع، هزها بعنف وهو يصيح:

-ماذا حدث لكِ؟ ماذا فعلتِ لنفسك؟

ضرب بيده على وجنتها محاولاً إفاقتها، لكن لا استجابة على الإطلاق! أخرج من جيبه هاتفه النقال، وعبث بأزراره طالبًا المساعدة .. وحين أتت كانت   النتيجة المروعة أنها بين الحياة والموت، وربما لن تتمكن من النجاة خلال الساعات القادمة، اهتاج وبكى بجنونٍ غير مصدق ما حدث، أطلعه المحقق الشرطي الذي جاء للتحقيق في ظروف انتحارها المثيرة للشكوك على الرسالة التي تركتها لتخبره فيها بإقدامها على ذلك، وقتها لم يكن في حالة   مزاجية أو نفسية جيدة ليتقصى عن الأسباب التي دفعتها



 لهذا الفعل المؤسف .. أغلقت القضية، ولكنه لم يهدأ! بدأ "ديف" ينظر للأمور من منظور مختلف، حينها فقط ساورته الشكوك .. استقال من عمله ليتفرغ لمهمة واحدة؛ البحث عن الحقيقة الغائبة عن الجميع، 


فـ "روزا" كانت مفعمة بالأمل والحياة، وليست من ذاك النوع المتشائم الكاره لوجوده، تحرى بدقة عما يجهله، وجمع ما يستطيع من معلومات إلى


 أن وصل لحقيقة غير قابلة للتشكيك، أن من يقف وراء تدميرها ثلاثة من صديقاتها؛ "كيت"، "آشلي"، و"ميجان".

-الضحية الأولى-

بقلم منال محمد سالم

وقف على ناصية الطريق يراقبها من بقعة جيدة الرؤية وهي تتنقل بخفةٍ بين الطاولات الخارجية لتلتقط بعدستها لقطاتٍ فريدة لأزواج متحابين، لثنائي عاشق، ولصغارٍ يضحكون ببراءة. "آشلي" إحدى الصديقات المقربات من الراحلة "روزا" ممن ابتعدن عن المشهد سريعًا. كانت تلازمها بشكلٍ دائم، تشرف معها على أدق التفاصيل الخاصة بمظهرها الخارجي لتبدو دومًا فاتنة، مثيرة، وخاطفة للأنظار. وقبيل خطبته منها كانت مهوسة بإعداد كل ما يخص أمورها، وكأنها تعمل كمنظمة حفلات أعراس. مضى عام على انتحار "روزا"، ولم يرها خلال تلك الفترة الطويلة سوى مرة واحدة فقط لتواسيه، عاملها ببرودٍ كقسوة الجليد في ليلة قارصة البرودة، وبالرغم من التطفل الزائد الذي كان يزعجه كثيرًا منها خلال علاقته بـ "روزا" إلا أنها كانت منزوية عنه أثناء وجودها بالمشفى، وكأنها تتحاشاه، اختفت الحميمية الغريبة، نظراتها نحوه كانت متوترة، غامضة، لم يتفقه وقتها لسبب تصرفها الغريب، لكن لاحقًا وحين عثر على مذكرات خطيبته قرأ بين سطورها أمورًا أثارت حفيظته وفضوله،   حيث اكتشف غيرة "آشلي" منها، تحدثت باستفاضة عن ذلك، استطاع أن يستشف من كلماتها المتوترة محاولاتها المستميتة لإفساد علاقتها به، اعتصر عقله بشدة ليستعيد مشاهد المشاجرات معها، كانت تثور لأتفه المسائل بسبب تحفيز "آشلي" الغاضب ضده، وكأنها تضغط عليها بشتى الطرق لتخرج أسوأ ما فيها لينفر منها، ومع ذلك دومًا كان متسامحًا معها، يتفهم طبيعة ما تمر به من ضغوطات مرهقة ذهنيًا، لكنه لم يفهم أبدًا أن مشاعر الغيرة كانت متواجدة في الأفق.

كانت المذكرات كالقنبلة الموقوتة بين يديه، قرر أن يدرس ما دوّن فيها باهتمامٍ كبير، عله يكتشف الحقيقة الغائبة عنه .. أفاق "ديف " من شروده ليتأملها عن كثب، بدت مستمتعة بحياتها، وكأن تأثير فاجعة موت أعز رفيقاتها لم يدم طويلاً. لاحقًا، بدأ في رسم خطته، سيتودد إليها بشكلٍ ما، سيذيقها ألوان الغرام وطقوسه حتى تذوب فيه عشقًا إلى أن يضمن وقوعها في حبه، حينها سيستنزف مشاعرها، سيجردها من مباهج الحياة، سيعذبها بغيرتها. حك "ديف" طرف ذقنه الطويلة مُحدثًا نفسه:

-لنا موعد "آشلي"، وسيكون قريبًا.

*****

انهمكت في تلميع عدسة كاميرتها وهي تتجول برشاقة في الطرقات تحت أشعة الشمس الحارة، بحثت عن الظل لتتوارى أسفله، نظرات خاطفة دارت على من حولها لتعاود التحديق في خاصتها، وحين همت بالانحراف عند ناصية الطريق كان مستعدًا للقائها، تعمدت الارتطام بكتفها بشكل موجع ليحوز على كامل انتباهها، ومثلما خطط صدمها بخشونة مما جعلها ترتد للخلف، على الفور اعتذر بندمٍ ونظرات الخوف الزائدة تغلف عيناه:

-معذرة آنستي، أنا لم أقصد.

ردت "آشلي" مبتسمة:

-لا عليك.

سألها، ورنة القلق ما زالت بائنة في صوته:

-أنتِ بخير؟ هل أصابك مكروه؟

هزت رأسها بالنفي وهي ترد:

-لا.

تنفس الصعداء بشكل جعلها تنظر له بتمعنٍ، تنحنحت متسائلة في جدية وقد تنشطت ذاكرتها بملامحه غير الغريبة:

-يبدو وجهك مألوفًا، هل رأيتك من قبل؟

أجاب بدبلوماسية:

-ربما، وأنتِ كذلك..

ثم مد يده لمصافحتها معرفًا بنفسه:

-مرحبًا، أنا "ديف لوجان".

شهقت في صدمة قبل أن ترد ونظراتها تتلألأ في ابتهاجٍ:

-لا أصدق، أنت "ديف"، إنه أنا .. "آشلي".

تصنع الاندهاش، وقال بحيرة مفتعلة:

-"آشلي"!

تابعت مستفيضة:

-صديقة "روزا"، ألا تذكرني يا "ديف"؟ لقد كنت سأصبح أشبينتها.

هتف مبتسمًا وهو يعبث بشعره المرتب:

-أوه! غير معقول، "آشلي"، لقد تغيرت كثيرًا، أو الأحرى صرتِ أكثر جمالاً.

ردت مجاملة:

-أشكرك، أنت، كيف حالك؟ وماذا تفعل هنا؟

جاوبها وهو ينظر حوله:

-أقضي عطلتي هنا قبل أن أعود لعملي.

مطت شفتيها متمتمة باقتضابٍ:

-حقًا؟ جميل.

أشار "ديف" بيده نحو أحد المطاعم يدعوها بلباقةٍ

-لنجلس سويًا، أدعوكِ للغذاء، أم أنكِ تعملين؟

ردت دون تفكير:

-لا، أنا متفرغة.

ابتسم في رضا ليضيف بعدها:

-تفضلي.

-أشكرك.

سارا سويًا نحو إحدى الطاولات التي تحتل الرصيف الخارجي للمطعم المزدحم برواده، سحب المقعد لتجلس عليه، فابتسمت بامتنانٍ لأسلوبه المهذب. حضر النادل ومعه قوائم الطعام، أسند واحدة أمام كليهما قبل أن ينصرف لينظرا باهتمامٍ للمكتوب. تساءل "ديف" بهدوءٍ، ونظراته ترتكز على وجهها:

-أنتِ ما زالتِ تحبين الطعام المشوي؟

تحمست لسؤاله الذي أظهر اهتمامه بها، وقالت:

-أنت تذكر؟

تنهد قبل أن يجيب:

-بالطبع، أنتِ كنت الأقرب لـ "روزا".

هزت رأسها وطيف وجه صديقتها المتوفية يقتحم عقلها، دمدمت هامسة بربكةٍ طفيفة:

-أها.. نعم.

حاولت أن تغير مجرى الحوار وسألته:

-"ديف"، أين تعمل حاليًا؟

رد بتمهلٍ:

-ما زالت أعمل في مجال العقارات.

قالت مبتسمة:

-جيد.

أضاف مسترسلاً:

-ولكن نلت منصبًا أعلى، صرت المدير التنفيذي لواحدة من أعرق المؤسسات المتخصصة في بيع العقارات.

أظهرت حماسها، وردت:

-رائع!

عاد النادل ليتلقى طلباتهما، وبعد أحاديث عادية خلال تناولهما للطعام، تساءل "آشلي" بقليلٍ من الاندفاع:

-وماذا عن حياتك العاطفية؟ هل التقيت بأحدهم بعد رحيل "آشلي"؟

صمت لبرهةٍ فندمت على تسرعها، واعتذرت:

-لم أقصد و....

قاطعها موضحًا:

-مجرد علاقات عابرة، لا يوجد شيء جدي.

مازحته برقة ومكر:

-ربما لم تجد من تليق بك.

رد وكامل نظراته عليها:

-ربما.

ابتسمت فسألها مباشرة:

-ماذا عنكِ؟

نفخت في سأمٍ قبل أن تجيبه:

-لا تُذكرني، أنا أتعثر بالحمقى فقط، وكأني أجذبهم من على بعد.

ضحك على طرفتها ليرد بعدها:

-لم تتغيرِ "آشلي"، أنتِ مرحة كالعادة.

دبيب الرغبة ناوشها في حضوره، كان له تأثيرًا عليها، هو حلمها البعيد، وعاد للظهور أمامها، والفارق أنه لا توجد منافسة لها، جازفت وسألته بتلعثمٍ محسوس:

-"ديف"، أخبرني .. هل تفتقد "روزا"؟

-لا أنكر أني أفكر بها في بعض الأحيان، لكنها انتهت، لترقد روحها في سلام

مدت يدها ووضعها على كفه المسنود على الطاولة وهي تواسيه:

-أتفهم مشاعرك النبيلة.

سحب يده ليضعها أعلاها، وأظهر اهتمامه بها، فتساءل:

-دعكِ مني، كيف هي حياتك؟

أجابت وهي تهز كتفيها:

-كما ترى، أعمل في مجال التصوير، ولدي بعض العروض في أماكن متفرقة أدرس الأفضل بينهم.

زم شفتيه معقبًا:

-يبدو عملك مشوقًا

أومأت برأسها تؤيد كلامه:

-بالفعل.

انتقل "ديف" بسلاسة للخطوة التالية في تطوير علاقته بها، وهتف مبديًا إعجابه دون استباقٍ:

-لقد بدلت لون شعرك، إنه مثير.

اندهشت من ملاحظته، وسألته:

-لفت انتباهك؟

حرك رأسه موضحًا:

-نعم أذكر لونه الأشقر، كان مميزًا عليكِ، أما الآن فأنتِ مذهلة

عضت على شفتها السفلى وقالت بقليلٍ من الارتباك:

-ليس هكذا، أنا عادية جدًا، "روزا" كانت أجمل.

نظر لها بجدية قبل أن يرد:

-ولكنها أصبحت من الماضي، لا داعي لأن نذكرها.

بادلته ابتسامة مجاملة وهي ترد:

-كما تريد.

استفاضت في الحوار معه، وسألته:

-ما رأيك بالمكان؟

قال بتنهيدة بطيئة، ونظراته مرتكزة على وجهها:

-لم أتجول به بعد.

توهجت عيناها ببريق غريب، واقترحت عليه:

-أعرف بعض المناطق الساحرة به، صدقني ستثير إعجابك.

ابتسم يجاملها:

-أثق بذوقك واختياراتك.

عبثت "آشلي" بخصلاتها المتناثرة، وقالت دون احترازٍ:

-أتعلم أنك أعدت إلي حماسي؟

رد بهدوءٍ:

-شكرًا على إطراءك

أخرجت تنهيدة مليئة بالأشواق وهي تتابع:

-كم أفتقد تلك الأجواء التي تجعلني أحلق عاليًا، ووجودك يُذكرني بأشياءٍ توقفت عن فعلها

استمر كلاهما في الحديث حتى حل المساء تقريبًا، حينها قال "ديف" بعبوسٍ ظهر طبيعيًا على قسماته:

-"آشلي"، يبدو أن الوقت يمر معكِ كالبرق، مضطر للذهاب، لدي رفيق ينتظرني..

تأمل ردة فعلها، وأضاف بحذرٍ:

-لكن هل يمكن أن أهاتفك؟

أجابت دون تفكير، والحماس مسيطر عليها:

-طبعًا، إليك رقم هاتفي.

وضع "ديف" هاتفه المحمول في جيبه بعد أن دون رقمها، وقال بما يشبه الوعد:

-أشكرك، وسأتصل بكِ قريبًا.

رفرفت بعينيها ترد بحماسٍ:

-سأنتظر مكالمتك.

انحنى ليقبل يدها، فتفاجأت من لباقته التي استثارت مشاعرها، أسبل عينيه نحوها يودعها:

-إلى اللقاء.

تنهدت وهي تلوح له بيدها، ظلت أنظارها مثبتة عليه وهو يبتعد مرددة لنفسها بإعجابٍ:

-كم يبدو وسيمًا!

كان واثقًا من متابعتها له، اربد وجهه بوجومٍ غاضب مرددًا لنفسه بوعيدٍ غير قابل للتشكيك:

-لنبدأ اللعب.

*****

تكررت اللقاءات المرتبة بينهما في أرقى المطاعم وأفخمها لمدة لا بأس بها حتى اعتادت "آشلي" على وجوده بقربها طوال تلك الفترة. بالطبع أنفق "ديف" ثروة طائلة ليبدو أنيقًا، سخيًا، ورائعًا معها حتى لا تقاومه حين تحين اللحظة المناسبة، وكالصائد المحترف صبر كثيرًا على فريسته، نجحت خطته الماكرة في استدراجها رويدًا رويدًا، ووقعت في الفخ الذي نصبه لها، يكاد يجزم أنها تحترق شوقًا لتجربة ما يتجاوز حدود الصداقة. وقف كلاهما عند مدخل منزلها الكائن في تلك المنطقة الراقية، تأملها بنظرات هائمة جالت على ثوبها الأسود المثير الذي أبرز مفاتنها وتفاصيلها المشوقة، ظهر الإعجاب في حدقتيه، دون ترددٍ انحنى عليها ليمنحها قبلة حسية عميقة انحبست فيها أنفاسها للحظات، وتجولت يداه على ظهرها ليشعر بتأثيرها عليها، تراجع عنها لينظر إلى وجهها المرتبك وعينيها الساهمتين، ثم قال ببطءٍ، وكأنه يشعرها بأسفه:

-كنت أتمنى لو تطول الليلة أكثر، لكني مضطر للذهاب.

سألته بتجهم يكسو ملامحها:

-هل ستسافر؟

رد بإيماءة خفيفة من رأسه:

-نعم، لدي بعض الأعمال العالقة في العاصمة، ولا بديل عن السفر، لا أعلم كيف ستمر تلك الأيام دون أن أراكِ!

زفير مهموم خرج من جوفها وهي ترد:

-أوه.. عزيزي "ديف.

داعب عنقها مؤكدًا ببسمته الساحرة:

-سأهاتفك يوميًا، اتفقنا، أريد تقريرًا مفصلاً عن يومك.

هزت رأسها في استحسان، وقالت:

-حسنًا.

نظر لها مطولاً، وكأنه ينتظر منها الإشارة ليمضي قدمًا معها، كانت عيناها تناديه في صمت، وحتى لا يترك مجالاً للتردد منحها "ديف" قبلة أخرى أوقظت الرغبة بداخلها، وبنزقٍ مندفع عرضت عليه:

-لما لا تصعد قليلاً ونتناول القهوة؟

ادعى اندهاشه، وسألها:

-الآن؟

هزت رأسها لتحثه على القبول وهي ترد:

-نعم.

شبكت أصابعها في كفه لتسحبه بحماسٍ نحو منزلها، كانت متلهفة لتطوير علاقتهما وتصعيدها لمستوى أعمق، خاصة وأن رغبتها الملحة في الظفر به تلح عليها. ولج الاثنان لداخل منزلها، تركت يده لتشعل الضوء، ألقى "ديف" نظرة عابرة على المكان الذي بدا في حالة فوضى، هناك ثياب ملقاة بإهمالٍ على الأرضية، وعلب الطعام الفارغة مكومة في الحوض، أما القمامة فيبدو أنه لم يتم إخراجها قبل أيام.. واصل السير للداخل وهو ينظر للصحون التي تحتاج للغسل، رأته "آشلي" وهو يدقق النظر في مخلفاتها، ثم عضت على شفتها السفلى، وقالت بحرجٍ وهي تجتهد لصنع القهوة ووضعها في فنجانين نظيفين:

-أسفة "ديف"، المشهد ليس جيدًا، أنا لم أقم بالتنظيف منذ برهة.

مط شفتيه قبل أن يتحول عبوسه لابتسام لطيف، بينما تابعت وهي تصب القهوة:

-التصوير يشغل كامل وقتي، وحين أعود لا أقوى على ذلك العمل الممل.

مسح بأصابعه على السطح الرخامي للطاولة التي تشكل حاجزًا بين الردهة والمطبخ قائلاً بما يشبه التهكم:

-هذا منزلك "آشلي"، يحق لكِ فعل ما تريدين به، ووجب عليّ احترام هذا.

ظهر ذلك الوميض الغامض في عينيها وهي تسأله بحذرٍ، ويدها تمتد لتناوله الفنجان:

-أعتقد أن منزلك منظم عني بكثير، صحيح؟

أجابها بهدوءٍ بعد أن ارتشف القليل:

-أنا أحب النظافة والنظام.

ابتسمت معقبة عليه قاصدة التلميح بشيء ما:

-أعلم ذلك، كانت "روزا" تتحدث عن هوسك بتلك الأمور...

رمقها بنظرة غريبة، وكأنه لا يستسيغ استهتارها بقواعده، فتحاشت النظر نحوه، وعلقت ساخرة:

-ولكن من وجهة نظري أنا أجدها سطحية، لا أجمل من الفوضى، خاصة حين لا تجد من يوبخك لفعلها.

رد بوجهٍ جاد في التعبيرات:

-أتعلمين، "روزا" كانت تُعاقب إن تسببت فيها!

رفعت حاجبها للأعلى مبدية استغرابها، ورددت:

-حقًا؟

أوضح ببسمة ماكرة:

-نعم، كطفلة صغيرة مدللة تحتاج للتوجيه من شخص ناضج.

أثار فضولها بجملته تلك، وسألته في اهتمامٍ:

-وكيف هذا؟

كانت نظراته نافذة نحوها، وكأنه يخترقها، عندما قال:

-مجرد بضعة صفعات تجبرها على عدم الجلوس لبعض الوقت، وبالتالي لا تكرر طيشها.

تركت "آشلي" الفنجان من يدها لتعلق:

-واو .. يبدو جنونيًا.

باغتها بسؤالها مباشرة، ودون مراوغة:

-أتحبين التجربة؟

بدا الاستمتاع واضحًا على خلجاتها، وردت في جدية:

-إن وافقت! ماذا ستفعل بي؟

جاوبها بلهجة جعلت بدنها يجفل لمجرد تخيل الفكرة في رأسها:

-حسنًا، سأترك لكِ ما يذكرك بتجنب الفوضى.

أظهرت شجاعتها وقالت بعجرفة، وكأنها تختبره:

-وأنا مستعدة.

قبض "ديف" على معصمها ليسحبها معه نحو الردهة المتسعة وهو يأمرها بلهجة غير متساهلة:

-تعالي معي.

ضحكت في مرحٍ محاولة مجاراته في جنونه الذي يثيرها، تبدلت تعبيراتها المرتخية للقلقٍ حين رأته يضع قدمه على الطاولة المنخفضة ويرفعها 


من خصرها ليلقيها على ركبته، تأرجحت ساقاها في الهواء، وتدلى نصفها العلوي من الجانب الآخر، حاولت النهوض عنه والهروب من ذلك التوتر الخطير، وسألته بصوتٍ مهتز:

-ماذا تفعل؟ انتظر.

رد، وتلك الابتسامة الماجنة تعلو ثغره:

-"آشلي"، أنا لا أمزح.

لم يتراجع عن قراره الحاسم في استغلال تلك الفرصة التي أتته ليدفعها إلى الجنون، فما قرأه في مذكرات "روزا" عن طبيعة شخصيتها النزقة الجائعة حثه على تطويع الأمور لصالحه، ودون عناءٍ كانت منساقة كالمغيبة وراء شهواتها، وإن كانت ستدفعها نحو الهاوية .. ابتلعت "آشلي" ريقها، وتوسلته:

-امهلني الفرصة و...

توقفت عن الكلام لتشهق صارخة حين منحها أول صفعة قوية جعلتها تنتفض في ذهول .. كان قويًا، حازمًا، يعرف مواطن ضعفها، وأسلوبه الصارم 


يزيدها طمعًا فيه، شردت لوهلة متذكرة حديث "روزا" الخجل عن ملاطفاته الخبيرة التي توقظ كل حواسها، غيرتها منها كانت


 في محلها، لماذا تتمتع "روزا" بقوته الذكورية وبالكاد هي تعافر لتكمل علاقتها الشائكة مع أحمق لا يرضيها؟ امتلأت فضاءات خيالها بأحلامها الجامحة، وبدت متأهبة لتجربتها المثيرة معه .. لم تكن "آشلي" قد تعافت بعد من صفعتها الأولى


 حتى نالت الأخرى فصرخت في ألم ترجوه بالتوقف .. أبى الإصغاء لها .. أصر على تهذيب سلوكها، ومنحها بعض الكلمات التأديبية لتلتقط أنفاسها قبل أن تتوالى الصفعات على عجيزتها بشكل جعلها يئن في ألم لذيذ ورغبة جائعة، التهبت بشرتها،


 واستثيرت كل أعصابها، كانت في حالة انتشاء معه. أجج "ديف" بحرفية مشاعرها الراغبة فيه، بضعة دقائق أخرى وكان جسدها يلهث لإخماد الثورة التي اشتعلت به، نالت مرادها بليلة حميمية عاشتها بكل جوارحها وكينونتها مع فارس أحلامها 


الذي تخيلته لنفسها، وبرع "ديف" في تخليد تلك الذكرى في عقلها تمهيدًا لجعلها تدمن شغفه المحموم.

استمرت اللقاءات بينهما لفترة لا بأس بها حتى باتت مفاتيح علاقتها به بين يديه، عرف كيف يقودها للجنون في الحب، كيف يدفعها لطلب المزيد لتحصل على تلك النشوة العجيبة، انهال عليها بوعود الزواج 


وما بعده، فالتهت كليًا عن عملها وارتبطت ذهنيًا ووجدانيًا به، وفي صباح يومٍ ما، كانت تطوق عنقه بذراعيه وهي تجثو فوق صدره العاري، رفعت رأسها إليه ترجوه بعينين تحتبسان العبرات فيهما:

-سترحل؟

أجابها بخفوتٍ وهو يمسد على شعرها المتناثر:

-لابد من ذلك، لن أطيل الغياب، وسنذهب بعدها في عطلة.

قالت بغصةٍ وهي تتطلع إليه بعينين تعشقانه:

-لا أعرف كيف ستمضي حياتي بدونك طوال تلك الأيام.

أخفض يده ليضعها على ذقنها، دلكه بإبهامه، وابتسم قائلاً لها:

-سأعود، ومعي مفاجآت سارة.

تحمست، وسألته:

-حقًا؟ ما هي؟

غمز لها مرددًا بعبثية:

-وكيف تسمى مفاجأة إن أطلعتك عليها؟

أصيبت بالإحباط، وعبست قائلة:

-أنت محق.

احتضن "ديف" جانب صدغها براحته وشعر بملمسه الناعم عليه، أوصاها بلهجة جمعت بين الجد والهزل:

-انتبهي لحالك "آشلي"، وتذكري لا أحب الفوضى، وإلا العقاب سيكون قاسيًا تلك المرة.

أذعنت لتهديده دون تفكير، وردت:

-أمرك سيدي

أحنى رأسه عليها ليلتقم شفتيها ومنحها قبلة دافئة هامسًا لها بعدها:

-أحبك.

ردت بتنهيدة بطيئة وقد تضاءل وهج فرحتها في عينيها لابتعاده:

-وأنا كذلك.

***** 


                الفصل الثانى من هنا



تعليقات



<>