أخر الاخبار

رواية صفقة حب الفصل الاول والثاني بقلم رضوي جاويش


 
رواية صفقة حب

الفصل الاول والثاني

 بقلم  رضوى جاويش 


تقديم الرواية


هل يمكن أن يكون القلب طرفا فى صفقة ما!؟

هل يمكن أن نعطي الحب بشكل مؤقت، كسلعة تنتهى، بنهاية وقت التعاقد؟

و هل كان في إمكانها الوقوف أمام ذاك المتغطرس، عندما دق بابها يوما ما، من أجل صفقة حب!؟

كل هذه الأسئلة؟ إجابتها في روايتي الجديدة صفقة حب.


رواية صفقة حب للكاتبة رضوى جاويش الفصل الأول


كان ينظر من عليائه، عبر تلك النوافذ الزجاجية لمكتبه، على رزاز الأمطار، الذى بدأت زخاته، تحجب الرؤية، عن العالم الخارجى..

كان يقف فى ثبات، يضع يده فى جيب بنطاله، وباليد الاخرى، يستند على ظهر كرسى مكتبه، وهو يراقب، ما يحدث، بالأسفل، حيث الطريق المكتظ، والكثير من الأشخاص، الذين يهرولون، رغبة فى اتقاء المطر..


الا خيالاً، لم يميزه، فاقترب قليلا يلتصق بالزجاج، ليشاهد تلك الفتاة، وهى تتقافز بفرحة تحت زخات المطر التى، يهرول منها الكثيرين، هى فقط من كانت   تحتضن الأمطار مرحبة، وتقفز مهللة لقطراتها، ابتسم فى حبور، لمرأها، وظل يتابعها، وهى تمرح بكل أريحية، ترفع وجهها للسماء، كطقس مقدس، تتبعه لنيل بركات المطر...


أفاق من شروده، على صوت قرعات سريعة على باب مكتبه، ثم دخول الطارق، دون ان يأذن له، هاتفاً: -صباح الخير، محسن

-صباح الخير، منير..

-الجو بالخارج ممطر وموحل، ما كان لك ان تأتى اليوم، قالها منير، وهو يضع بعض الأوراق على المكتب، ورغم عفوية حديثه، الا انه مس وترا حساسا فى داخل محسن، جعله يهتف فى غضب: -

الم اخبرك الف مرة، ألا تأتى، على ذكر تلك السيرة!؟.

-أى سيرة..!؟، سأل منير متعجباً..


-سيرة مرضى، وما يجب ان افعل، ولا أفعل..

-انا لم أتى على ذكرها، ولن افعل، انا فقط أشفق عليك من جو كهذا ليس اكثر، وأتأسف لو ضايقتك

كلماتى، قالها بصدق شاعرا بالذنب، مما جعل نادر يتراجع عن غضبه، ويقول فى هدوء، : - لا عليك..

يبدو ان حساسيتى المفرطة تجاه هذا الموضوع، تجعلنى دائما فى حالة تحفز للشجار..

اقترب منير منه، واخذ يربت على كتفه متفهماً..


فمنير ليس فقط، المسؤول القانوني عن مجموعة شركاته التى يديرها، لكنه صديق طفولته، وكاتم أسراره، انه بالنسبة له، توأمه، الذى لا يفارقه أبداً

استدرك محسن قائلا، : - فعلا الطقس اليوم، ممطر..

لكن يبدو ان هناك من يستمتع بطقس كهذا، قالها مستديرا مرة اخرى للنافذة الزجاجية، ليشير لفتاة المطر المرحة تلك، الا انه لم يرى فى مكانها سوى الفراغ.


يبدو انها رحلت بعد ان ابتلت تماما جراء، مكوثها تحت المطر لفترة طويلة، يا لها من مجنونة..

-ماذا قلت..!؟، تسأل منير الذى انشغل ببعض الأوراق..

-لا عليك، هات ما عندك فى تلك الأوراق..


دخلت مودة الى حجرة المكتب، حيث تعمل، تنتفض فى سعادة وهى تخلع عنها معطفها المشرب تماما بالماء.


وتنفضه فى قوة لعله يتخلص من بعض القطرات التى علقت به قبل ان يتشربها نسيجه، ثم ابتسمت فى سخرية وهى تراه، وقد تشرب المياه حتى الثمالة، يا لها من متهورة، لا تستطيع أبداً مقاومة الترحيب بزخات    المطر الاولى، انها متعتها التى لازالت تحتفظ بها منذ ايام الطفولة الاولى، وشردت عندما تذكرت ابيها الراحل، وهو يختطفها من بين ذراعىّ امها، ليمرحا سويا تحت زخات المطر، كانت طفلتهما الوحيدة لفترة طويلة، تخطت العشر سنوات قبل ان يرزقهما الله بأخيها، يوسف...


ان المكوث تحت تلك الزخات، يعيد لها ذكريات مضت، ولن تعود، ذكريات تحمل عبق الماضى

الجميل، وروائح الراحلين..

-رقصتِ تحت المطر من جديد!؟، كان سؤالا من رفيقتها، وشريكتها فى نفس المكتب، فى تلك الشركة التى عملت بها، كمتدربة، منذ ما يقارب الشهرين..

-بالطبع، أجابت فى مرح، كيف يهطل المطر ولا أكون فى شرف استقباله..

-لا يمكن ان تكونِ فتاة ناضجة فى الخامسة والعشرين من عمرها، فتلك افعال صبية صغار..


-انا اعشق افعال الصبية، قالتها وهى تنفجر ضاحكة

-الناس تهرول مختبأة من الأمطار، وتحتمى بها تحت مظلاتها، وانت تهرعين اليها، كيف تفعلين ذلك!؟.، سألتها فى استنكار..

-أفعله بكل بساطة، ردت باسمة

-بكل بساطة!؟، استفهمت رفيقتها، متعجبة..


فوقفت مودة واستدارت من خلف مكتبها، وهى وتفتح ذراعيها، وتغمض عينيها فى خشوع، وهى تقول: - نعم بكل بساطة، هكذا، وفردت ذراعيها عن آخرهما، وهى تهمس فى قدسية، هكذا تستقبلين المطر مرحبة، وفجأة..

اصطدمت بجدار بشرى، جعلها تشهق وتفتح عيونها مسرعة، وتتراجع خطوات للخلف   ، لتصطدم بأحد المقاعد، لتتعثر من جديد، فتعود بفعل قوة جذب قوية، لتصطدم بذاك الجدار البشرى من جديد، وكأنها شريط مطاطى، قبل سقوطها المرتقب...


كان هو من جذبها اليه، هذه المرة..

كانت الان، تستند على صدر ما، لا تعرف صاحبه

ولا من أين ظهر فجأة، رفعت هامتها، فهى بطولها

المتوسط، بالكاد ناهزت صدره طولا، لتصدم عيونها...

بذقن مدبب حليق، وأنف اغريقى، وعيون حازمة صارمة، كان وجهه عبارة عن لوحة، تعكس كلمة واحدة، مخيف..

انتفضت هذه المرة مبتعدة عن مجال هذا الرجل الخطر.


مع حرصها، كى لا تصطدم باى مقعد كان، فيكفيها تجربة واحدة، كانت فيها هناك، حيث اللا زمان، بين ذراعيه..

تراجعت بضع خطوات حتى تفسح له المجال ليمر فى هدوء، لحال سبيله، الا انه لم يتحرك قيد انملة، بل نظر لرفيقتها فى الغرفة التى انتصبت واقفة فى احترام بالغ، وهى ترحب به فى قداسة: - مرحبا سيدى..

كيف يمكننى خدمتك..!؟..


-مرحبا أنسة هناء، من هذه!؟، وهو يشيرلخلف ظهره لمودة، والتى تقف خلفه تقريبا، دون حتى ان يستدير...

-انها الانسة مودة، المتدربة الجديدة، هنا فى مكتب السيد منير، أعتقد انه أخبرك سيدى، فهى هنا منذ ما يقرب من الشهرين..

قال ساخرا: - مودة، أهااا، ظهر ذلك فى الترحيب

المفرط عند دخولى...

وقفت مودة تغلى، انه يسخر من اسمها، حسنا، ومن يكون هذا على ايه حال!؟، ذاك المتغطرس..


والآن، يتحدثان عنها، وهى تقف هكذا مثل احد الأنتيكات على المكتب، لا ترد بكلمة، كادت    تصيح بهما، هاى، أنا هنا، تشرفت بمعرفتكما، لكنها آثرت الصمت، خاصة انها لا تعلم من هذا، المتعجرف الذى يتحدث مع هناء بكل تلك الغطرسة، وثانيا، يكفيها موقف محرج واحد اليوم..


خاصة مع شخص كهذا، وثالثا، وهو الأهم، انها لا تريد ان تفقد وظيفتها، التى تحصلت عليها بشق الانفس، فما تحمله من مسؤليات جسام تجاه اخيها الصغير، لايحتمل التفريط فى وظيفة كهذه، مهما كان الثمن، ثم استطرد فى حديثه الموجه لهناء، وقد نسى امرها تماما: -

- أخبرينى، بالمناسبة، هل منير موجود..!؟.

-بالطبع سيدى، تفضل، واندفعت تطرق باب مكتب.


منير، ثم تفتحه فى هدوء، وتتنحى جانبا، ليمر محسن فى ثقة، فتغلق الباب خلفه..

وتندفع لطلب القهوة، فى عجالة، متناسية مودة التى لا تزال مكانها، لم تتحرك، خاصة بعد سخريته منها

-من هذا المتغطرس..!؟، سألت مودة بتأفف

ابتسمت هناء، وهى ترى حال مودة، فقالت: - ألا تعلمين من هذا..!؟، فليرحمك الله..

-لماذا!؟، سألت فى سذاجة..


-ألا تعرفين من هذا!، والذى كدت تطيحين به، وانت تستقبلين أمطارك المزعومة!؟، وقهقهت فجأة، ثم أمسكت ضحكاتها، وأخفضت صوتها..

-من يا ترى!؟، سألت مودة فى فضول

-انه السيد محسن ضرغام، صاحب المجموعة ايتها التعيسة...

ارتبكت، وفركت كفيها فى توتر، وهى تسأل هناء فى ترقب: - أتعتقدين، انه يمكنه، أن..


ردت هناء فى سرعة مقاطعة إياها، : - بل يمكنه، ما لا تتخيليه، الله معكِ، أدع الله ان ينسى أمركِ، ولا يستغنى عن خدماتك، فهو معروف بالحزم والشدة،    وانه لا يتهاون مع أى خطأ مهما كان بسيطاً، وهذا ما جعل مجموعته الاقتصادية تلك التى ورثها عن ابيه، من أقوى الشركات، فالكل يقيم له ألف حساب..


أزدرت مودة ريقها بصعوبة، بعد تلك الكلمات الغير مطمئنة بالمرة، وظلت تدعو الله سراً، ان يتناسى أمرها، فى خضم أعماله الجسام، ويتركها لحالها..

فهى لا قدرة لديها، لتفقد عملها، وتعود من جديد لدوامة البحث عن غيره، وما يستتبعها من مسؤوليات

وإحباطات كذلك، يا الله، فلتدعه ينسى أمرى..

لكن دعاءها جاء متأخراً، فها هو محسن ضرغام، يسأل عنها، رئيسها المباشر، السيد منير..


-من تلك الموظفة الجديدة التى لمحتها، فى دخولى للغرفة..!؟، سأل محسن فى فضول حاول مداراته لكن ليس على منير الذى يحفظه ككف يده، والذى ابتسم بدوره، وهو يرد فى خبث محبب: - أها، محسن ضرغام، يعود من جديد، على يد متدربتنا الصغيرة..


-أعود إلى أين!؟، هتف محسن متصنعا الحنق، مجرد سؤال برئ، فأنا لم أرها من قبل، ثم تغيرت نبرة صوته، لتكسوها الجدية، ثم انك تعلم جيداً يا منير، ان ذاك الباب، أغلقته بألف مفتاح، ولا عودة من جديد..، خاصة بعد أن...

وصمت قليلا، وما كان فى حاجة ليكمل كلماته..


فقد أدرك منير ما كان يريد ان يقوله، وتلك الإشارة الغير مباشرة لمرضه، الذى  ما يحب ان يذكرها، أو أن يذكره بها، أى من كان، لذا قرر منير، تغيير دفة الحوار لوجهة أخرى حينما قال: - المتدربة الجديدة

اسمها مودة شكرى، فتاة مجتهدة، تقدمت لشغل الوظيفة الشاغرة، التى أعلنا عنها منذ أكثر من شهرين

والصراحة، هى تملك كل المؤهلات، التى تميزها، وهى تتعلم بسرعة ملحوظة، و.


فقاطعه محسن: - لكنها، بدت لى، قليلة الخبرة، وطائشة إلى حد كبير..

-هذا جائز جدااا، وخاصة انها شابة صغيرة، فهى لا تتعدى الخامسة والعشرين من عمرها،    وكلنا كنّا اكثر من طائشين على ما أعتقد فى مثل هذا العمر، قالها منير مبتسماً، وهو يتذكر ذكرياته الماجنة مع محسن فى ذاك السن، فكلمة طائشين، لم تكن كافية، لتصف تهورهما، ورعونتهما، كان ذاك، منذ ما يزيد عن عشر سنوات، مرا فيها بالكثير معا..


-حسنا، قالها محسن، وهو يهم بالخروج، فى هدوء من باب الغرفة، الذى ما أن فُتح، حتى صمتت تلك الهمهمات التى كان يسمعها، ليحل محلها الصمت المطبق، ويرى هناء، ثم تلك المتدربة، واقفين فى ثبات تام..

مر بهما، ثم ألقى التحية فى تعال، وتوجه للخروج من باب الحجرة، فتنفست مودة الصعداء، أخيرا..


لكنها، كتمت انفاسها من جديد، عندما عاد أدراجه، مولياً وجهه لها خصيصاً، وهو يقول بنبرة حازمة، وصوت عميق رخيم: - أنتبهى لعملك جيداً، ولا تنسى    انك لازلت تحت التمرين، وأشار بيده، دلالة على سهولة الاستغناء عنها فى أية لحظة..

لم يسعها أمام هذا الوجه الصارم وتلك العينين القاتمتين

بلون الفحم، الا أن، تومئ برأسها إيجاباً، وهى تكتم انفاسها، وقلبها يدق كالطبول فى صدرها..


انصرف فى هدوء، وأخيرا استطاعت ألتقاط أنفاسها

فى تسارع، تجلب لنفسها بعض الأكسجين من خلال تحريك بعض الأوراق أمام وجهها الذى أصبح فى لون حبات الفراولة الناضجة...

استعادت توازنها أخيرا، و هناء تهتف فى سعادة: - يا لكِ من محظوظة، فلقد تغاضى عن فعلتك...


لكن هى لم ترد، على الرغم من شعورها بالفرحة لانه تركها تكمل تدربها، فى مجموعته،    الا أن، هاتفاً داخلياً، يلح عليها الان، بان هذا، ليس نهاية المطاف، مع ذاك المتغطرس...


دخلت مسرعة، لشقتها المتواضعة فى ذاك الحى الشعبى العريق، حيث ترعرع أبويها، وأحب كل منهما الاخر، ليتزوجا فى نهاية المطاف فى تلك الشقة العتيقة، التى لم يبقى لها، هى وأخيها، من حطام الدنيا، غيرها، وبعض ذكريات، هنا وهناك، تطل من بعض الصور الفوتوغرافية التى تحتل جدران الشقة، التى كستها الرطوبة بفعل عوامل الزمن..


دخلت، تنادى على أخيها مدللة أياه، بلفظة الدلال التى يمقتها، امعانا فى أغاظته: - يويو، أين أنت!؟، لا تخبرنى بأنك لازلت نائما...!؟.

-ظهر صبيا فى الثانية عشرة من عمره، يجلس على كرسى مدولب، يشبها الى حد كبير، نفس الوجه القمحى الطفولى، والعيون التى بلون العسل،   بخلاف واحد هو لون الشعر، فهو يملك شعرا كستنائياً، يشبه شعر أمها الراحلة كثيرا، أما هى، فقد ورثت شعر ابيها، الحالك السواد...


ظهر يوسف عابساً، خاصة بعد نعتة ب يويو، والذى يكرهه كثيرا..

-لما الجميل عابساً..!؟، سالت بمرح

-لقد تأخرتِ كثيراً اليوم، وأنا وحيداً النهار بطوله، قالها بحنق تام، وهو يضرب على أحدى ذراعىّ كرسيه المدولب...


كانت تعلم انها تتركه معظم النهار وحيداً، الا من بعض المرات التى يجود فيها أحد أبناء    الجيران متطوعاً، للبقاء معه، لتسليته والترفيه عنه، الا انهم اطفال ايضا، ويملون بسرعة، لذا فسرعان ما يتركوه وحيدا، متحججين، ليذهبوا للعب الكرة..

ليبقى هو بعدها، وحيدا متحسرا...


يوسف، هو كل ما بقى لها، بعد تلك الحادثة التى أودت بحياة أبويهما، وكانت السبب فى ما يعانيه أخيها الأن، فبعد تلك الحادثة المشؤومة، فقد يوسف قدرته

على المشى بشكل طبيعى، والكثير من الأطباء أكدوا.


إمكانية استعادته لتلك القدرة من جديد، اذا خضع، لعملية جراحية ضخمة، تتكلف الكثير مع، علاج طبيعى مكمل، لكن من أين لها، بمصاريف العملية    الجراحية وما يتبعها، فهى لا تملك الا معاش ابيها الذى يكفيهما بالكاد، وخاصة مع ما تبتاعه من أدوية وعقاقير قد تساعد فى تحسين حالة أخيها، وتلك الشقة العتيقة، واخيرا عملها، والذى حتى الأن، ليس مضموناً..


فهى لازالت متدربة، يمكنهم الاستغناء عنها فى أية لحظة، وما عاشته اليوم، كان كفيلاً   جداً، ليؤكد لها تلك الحقيقة المؤلمة...

ربتت على كتف أخيها، والحزن يعتصر قلبها، حزنا على حاله، ثم تنحنى، لتجلس على ركبتيها امام كرسيه وترفع ذقنه بكفها، لتنظر لعمق عينيه الدامعتين.


-أعرف أنى أتركك لفترة طويلة، من النهار، لكن انه عملى الجديد، والذى سيحسن من    حالنا، وعن طريقه يمكننى الادخار من أجل عمليتك الجراحية، كى تعود، لتجرى وتمرح مع أصدقاءك من جديد، فهل تسامحنى، أومأ برأسه إيجاباً، فقالت متصنعة المرح

وهى تندفع لبعض الأغراض التى أحضرتها من أجله.


-انظر ماذا جلبت لك!؟، وأخرجت قميصاً وبنطالاً من أحد الاكياس، لتضعهما عليه، وهى تقول: - ما أروعهما، أنهما مناسبان لك تماما، يا يويو..

-كفى عن مناداتى ب يويو هذه، اسمى يوسف..

-حاااضر يا، يويو، قالتها ضاحكة راغبة فى إغاظته، الا انه ابتسم، عندما ادرك، مقصدها..


وقال مستدركاً. : -، جميل جدا ما أحضرتيه، انهما باللون الذى أحب، لكن عليك بالادخار،   كما وعدتينى أليس كذلك!؟، الا أتحمل بعدك عنى، وبقائى وحيداً، حتى تجمعى المال المطلوب للجراحة..

وضعت هديتها جانبا، و طوقت رأسه بين ذراعيها، تشعر بالالم يعتصرها عصرا، على حال اخيها، ورغبته، وأمله فى تحقيق معجزة، لتحصل على المال المطلوب، ليسير على قدميه من جديد..


ولكن رغم ذلك كله، قالت فى ثقة: - لا تخف، سأحصل على المال، وستعود للسير والركض مع أصدقاءك من جديد، أقسم لك، بان ذلك سيحدث..

ولن أدعك فى تلك الحالة طويلا..


وقف ينظر من النافذة كعادته الايام الماضية، لعله يلمح تلك الفتاة التى تعشق المطر، لا يعرف لما رؤيتها تشعره بالسعادة، وانه لازال هناك من يستمتعون    ببعض النعم البسيطة التى يغدقها علينا المولى سبحانه وتعالى، ولا نعيها، ولا ندرك

حاجتنا للاستمتاع بها، الا عند علمنا، بأننا سنحرم منها عما قريب..

يشعر الان ان نظرته للامور، كل الامور، قد اختلفت تماماً، حد التناقض، عندما علم بمرضه.


بدأ ينظر الى الامور التى كان يتجاهلها، ويجد لها

بريقاً أخر مختلف تماماً، وبدأ يدرك ان ما اضاع فيه

ايام شبابه، وسنواته الاولى، كان قبض ريح، لا يسمن ولا يغنى من جوع، لم يضف اليه، سوى

حسرات، وندم...

تطلع من جديد، الى الطريق، لعله يلمحها، بعد ان

مرت الايام الثلاثة الماضية، دون ان يجد لها أثراً..

وكأنها لا تظهر الا مع ظهور أولى قطرات المطر

معلنة عن نفسها، حورية المطر، انها مثل حورية.


الأمطار، تظهر وتختفى، وفقاً لها...

وها هو، منذ لمح قطرات المطر الاولى تدق بفرحة على زجاج نافذته، حتى قفز فى شوق إلى النافذة متطلعاً للطريق فى لهفة، وعيونه تتعلق بموضع

تواجدها فى المرة السابقة، لكن هل ستأتى!؟.

ربما كانت تمر بالصدفة من هذا الطريق فى المرة

السابقة والوحيدة، التى رأها فيها، أزدادت قطرات المطر دقاً على نافذته، تحجب الرؤية بعض الشئ..

وكاد ان يفقد الأمل، فى ان يراها مجدداً...


حتى ظهر معطفها الوردي، من بعيد، فألتصق بالنافذة ليجدها تقف فى نفس مكانها السابق   ، فى الرصيف المقابل لمدخل شركته، يبدو انها تنتظر الإشارة لتسمح لها بالمرور للرصيف الاخر، وها هى تقف تلاعب قطرات المطر، كعادتها..

ولمعت فى عقله فكرة مجنونة، لما لا يذهب ليراها..

نعم يراها عن قرب، فقط يراها، تلك العاشقة للأمطار، التى بهرته، بذاك العشق، لم ينتظر ليقرر.


بل وضع أفكاره تلك حيذ التنفيذ، فاندفع من مكتبه، فى سرعة، جعلت سكرتيرته الحسناء تجفل، وتقفز فى فزع، لكنه لم يعبأ بها، واستمر فى ركضه، طالما    هو وحيداً، فى الممر المؤدى للمصعد، فاذا ما ظهر بعض الموظفين، يتأنى فى مشيته، ويلقى التحية فى وقار، وأخيراً، وصل المصعد، وضغط

زر الطابق الأرضى، ثوانى مرت، حتى وصل..

لكنها ثقيلة، تعدت الدقائق، فى توقيته المتلهف...


خرج، بوقار، حتى وصل لخارج الشركة، مندفع من بابها، ليصدم بأحدهم، وعيونه على الرصيف المقابل حيث كانت تقف، وللأسف، فقد فقدها..

لم تكن هناك، لقد رحلت، زفر فى ضيق، وتنبه

للكائن الذى يأسره الأن، ممسكاً بذراعيه، عندما اصطدم به، اخفض رأسه فى حسرة يتطلع لتلك الرأس.


المنكسة فى اضطراب، وهو، ينطق بعبارات الأسف، والاعتذار، لترتفع تلك الهامة فى بطء   ، لتقابل نظراته، فتوقفت الكلمات فى حلقه، معطف وردى، انها هى ذات المعطف الوردي، لكن أين رأها من قبل يا ترى...!؟.

لقد اصطدم بتلك النظرات من   قبل..!؟، لكن أين يا ترى..!؟، ذم شفتيه، وانعقد ما بين حاجبيه، وهو يحاول التذكر، وقد اعتراه بعض الصداع، جراء   توتره، واندفاعه، مما شوش قليلا على تفكيره..


وذاكرته، حتى هتفت هى فى ندم: - أسفة، أسفة سيدى، أعذرنى بحق، فلم أقصد أن...

ابعدها عنه قليلا، وتذكر، انها المتدربة الجديدة..

نظر اليها، من قمة رأسها، حتى أخمص قدميها..

هل حقاً، متدربته الجديدة، هى حورية المطر تلك.!؟

نعم، انها هى..

-أنتِ، المتدربة الجديدة، على ما اتذكر..!.

-نعم، أنا هى يا سيدى، قالتها بصوت يحمل نبرة منكسرة، وهى تومئ برأسها إيجاباً..


-هل من عاداتك الاندفاع لتسحقى الناس فى طريقك دوما..!؟، على الرغم من علمه انه    خطاه هو، وان الاندفاع جاء منه، لا منها، لكن لا يعلم لما شعر برغبة ساحقة، فى تقريعها..

-أنا، أنا، ترددت لا تعرف كيف تجيب، فله الحق فيما يدعى، فهى المرة الثانية، التى تصطدم به..


ولعلها الاخيرة، هكذا خطر لها، فلابد انه يفكر فى التخلص منها الان، فهو ذاك الحازم الذى    لا يقبل بمتهورين قليلى الخبرة تحت سقف مؤسسته، يا الله ساعدنى، هكذا هتفت، وهى تغمض عينيها تضرعاً، ولكنها تفاجأت، عندما أخذ يهزها بقلق، متسائلا: - هل أنتِ بخير..!؟، أجيبى، هل حدث لكِ، أى مكروه..!؟..

أضاءت فى عقلها فكرة مجنونة، لعلها منقذها الوحيد.


فأنهارت فجأة، تتظاهر بفقدان الوعى، لكنه ألتقطها سريعاً، بين ذراعيه، وهو يهتف، فى أفراد الأمن..

عند البوابة، والذين هرعوا، فى ثوان، لنجدتها..

لكنه، حملها دونهم، صارخاً فيهم، بطلب طبيب

الشركة، والذى لسوء  حظه، وحسن حظها لم يحضر بعد، مما ساعدها ولو قليلا، لتتقن دورها..

فَلَو حضر الطبيب، فسيكتشف بسهولة، إغماءها المدبر، يا لها من محظوظة، هتفت لنفسها، وهو يضعها، على أحد الأرائك، أخيراً الحظ فى صالحها.


انه يصالحها، بعد مرات عديدة، من مخاصمته لها..

انتفضت عندما قرب من انفها بعض من العطر، بشكل فجائي، فقررت الإفاقة، فتحت عينيها فى بطء، لتفاجئ بعيون فحمية، تتطلع اليها من عليائها،    فأنتفضت فى سرعة، لتقف، لكنه امسك بكتفيها ليعيدها، لمكانها من جديد، وهو يقول بلهجة تحمل بعض من اهتمام، استغربته، : - ابقى حيث انتِ، حتى تصبحى قادرة بشكل تام على النهوض..

-أشكركِ، وأسفة مرة أخرى، فلم..


قاطعها قائلاً فى شرود: - لا عَلَيْكِ، يا حورية المطر

-عفواً، قالت متسائلة عندما لم تدرك ما قال..

-لا شئ، قالها فى سرعة، هل انت بخير الان!؟.

-نعم، نعم، ووقفت فى عجالة..

-حسنا، فلنعود لعملنا..

انتظرت حتى يذهب هو ويتركها، تذهب لحالها، لكنه أشار لها، حتى تتبعه، ليقفا معاً فى انتظار المصعد..

وصل المصعد الخاص به اولا، فقال فى حزم، وقد عاد لطبيعته، يمكنكِ ان تستقلى معى مصعدى..


كادت ان ترفض، فى إشارة شكر مهذبة، فهى لن ترتاح، حتى تكون ابعد ما يكون عن تلك العيون الصارمة، لكنه لم يمهلها وقتا، ليفسح لها الطريق.


أمرا أياها بالدخول، فتنفذ أمره منصاعة، ليقفا متقاربان، فى ذاك الصندوق المربع   ، تشعر هى بالاختناق.، لا يفصله عنها الا بضعه أشبار، أما هو، بلامبالاة، ضغط على ذَر الرقم الخاص بالدور الذى تعمل فيه، وأخذ    ينظر لها، بجانب عينه، نظرات متقطعة، وهو يمسك بمنديله، يمسح به بعض من مياه، ألتصقت به، عند اصطدامه بها، وهى ترتدى ذاك المعطف المبلل..

-أسفة مرة ثالثة، على تلك الفوضى..


هز رأسه متفهماً، دون ان ينبس بحرف واحد، و

قد استعاد غطرسته المعتادة..

وصل المصعد، فخرجت وهى تلقى التحية..

وينغلق باب المصعد ليكمل رحلته، قبل ان يعيرها اهتماماً..

أو حتى، يرد تحيتها

 الفصل الثاني


-يويو، حبيبى أين انت!؟، أظهر وبان عليك الامان...

ظهر اخوها، وهو يستدير بكرسيه المدولب، ليدخل من الشرفة التى يقضى فيها معظم وقته، يشاهد اولاد حيهم، وهم يلعبون الكرة، ليمر الوقت به، سريعاً،    ولا يشعر بالوحدة كعادته، منذ انتظامها فى عملها الجديد، لكن اليوم، الطقس بارد، وممطر، ما كان له البقاء فى الشرفة كل هذا الوقت..

اندفعت اليه، تتأكد انه بخير..


-ما كان لك البقاء فى الشرفة فى مثل ذاك الطقس الممطر، حبيبى قد تمرض..!؟..

-وهل هناك مرض، أكثر مما أنا فيه..!؟.

قالها بحسرة وهو يشير لكرسيه المدولب..

صمتت لا تعرف بما تجيبه، لكنه استدرك قائلا: -

-مودة، هل لى بطلب منكِ، لكن عدينى الا ترفضى..!؟، رجاءاً

-طبعا حبيبى، كل ما تطلبه، سيكون فى متناول يديك

اذا استطعت، وانت تعلم ذلك..

-حسناً، أريد الخروج ولو قليلاً، أرجوكِ..


صمتت ولم تجيب، فأستدرك، والدموع تلمع فى حدقتيه، اشعر بالاختناق أختى، أريد الخروج من ذاك السجن..

-لكن، الجو ممطر، وأخاف حقا، أن تمرض..

-رجاءاً، لا ترفضى، من أجل خاطرى..

-حسناً، أجابت دامعة، ثم اندفعت متصنعة المرح، هاتفة: -ولما لا، ستلبس الملابس الجديدة، وايضاً، صمتت لترى الإثارة فى عينيه، سنتناول البيتزا، قالتها    صارخة بصوت عال، ليهتف هو بفرحة لم تراها مرسومة على محياه منذ زمن طويل..


كان عملاً شاقاً، ان تساعده على أرتداء ملابسه، ثم تقوم بإنزال كرسيه المدولب، وتعود صاعدة، لتعود به شبه محمول، لتأخذه، حيث الشارع الرئيسى، ليتنزها قليلا، ثم يتناولا معشوقته البيتزا، وما ان خرجت من حيهم، حتى بدأت رحلة المرح..

اندفعت تصعد احد الارصفة، التى تخلو تقريبا من المارة، لتدفع كرسى اخيها أمامها فى صخب طفولى

تود تعويضه عن ساعات الوحدة الطويلة التى يقضيها

دونها، تتعالى ضحكاتهما..


خرج من شركته، يفكر فى تلك التى سقطت بين ذراعيه منذ ساعات، حورية المطر، كما    يحب ان يطلق عليها بينه وبين نفسه، استقل سيارته، لم يكن بمزاج جيد، كى يعود للمنزل من توه فأشار على سائقه، بالتنزه قليلا، وربما يتناول عشاءه مبكراً

كان الطريق لحد كبير خال فى تلك الفترة من اليوم

مما سمح للسيارة بالسير فى سلاسة، قاطعة الطريق.


كان يجلس، ورأسه يعج بالكثير من الافكار التى يحاول ان يتناساها، او يتخلص منها، ليته يستطيع جمعها وقذفها من النافذة، ليتخلص منها للأبد،    كان ينظر للجانب الاخر، لعله يصادف مطعماً جديداً يجربه، ويكسر ذاك الملل المسيطر على روحه..

توقفت العربة فى تلك اللحظة، عند احد الإشارات

وفجأة جذب انتباهه، فتاة بمعطف وردى، هل هى.


حقاً!؟، لقد بدأ المعطف الوردي، يسيطر على أفكاره بشكل خطر، هكذا حدث نفسه، الا تملك فتاة غيرها، مثل ذاك المعطف..!؟.

لكنه لم يكن يهزى، أو يتخيل، لقد كانت هى بالفعل

ودقق النظر، ليجدها تدفع أمامها، شخص ما على كرسى مدولب..


انطلقت العربة، فى تلك اللحظة، فهتف محسن فى السائق، ان ينحرف عند اول تقاطع للطريق، وينتظر، وجلس فى هدوء ينتظرها، حتى تصبح فى    مجال رؤيته، وأخيراً ظهرت بنفس حيويتها، كانت تدفع الكرسى بسرعة كبيرة، مستغلة خلو الرصيف من المارة، وكلاهما يتضاحكان فى سعادة كبيرة..

و انحرفت بالكرسى لتدخل

احد المطاعم المخصصة لتناول البيتزا..


-حسنا، انتظرنى هنا، هتف محسن لسائقه، وهو يترجل من العربة، وقد قرر، أين سيتناول طعامه...

دخل المطعم، ليجده مكتظاً عن اخره، كان يدور بعينيه يبحث عنها، عدة مرات، حتى استطاع..

ان يجدها تقبع هى ومن يصاحبها، فى احد الأركان البعيدة، توجه بهدوء، الى حيث تجلس، وقد جذب

أنظار رواد المطعم، بحلته الغالية الثمن، ومظهره

الرسمى الغير مناسب إطلاقا، لمطعم كهذا..

-مساء الخير، قالها من خلفها جعلها تنتفض عند مرآه..


-سيدى، أنت، أقصد، مساء الخير، ردت بعد كل ذاك التوتر الذى شملها، لظهوره المفاجئ، فى مكان كهذا، لا تتوقع ابدا رؤيته فيه..

-هل يمكننى الجلوس بجواركما، فالمطعم بالفعل مزدحم جدا، قالها وهو ينظر لمرافقها، والذى لا يعدو كونه طفلا فى الحادية او الثانية عشرة، على أقصى تقدير ويحمل شبه كبير منها..

-هذا ليس شأننا، نحن نحب الجلوس بمفردنا، هكذا هتف يوسف، فى ضيق من مشاركته غريب الطاولة.


والجلوس بجوار أخته، والتى يعتبر نفسه رجلها الأوحد...

-يوسف، هذا السيد محسن    ضرغام، صاحب الشركة التى أعمل بها، قالتها، محذرة أخوها، ليلتزم حدود التأدب فى حديثه مع الرجل، يكفى ما فعلته هى فى الشركة اليوم...

وأغماءها المزعوم لتتهرب من عقابه لاصطدامها

الثانى به...

-مرحبا، انا محسن ضرغام، ومد يده ليوسف فى تودد جعل الاخير، يمد يده، باحترام، ليقول: - شرفت بمعرفة حضرتك، وأنا يوسف، أخو مودة الأصغر.


اذا فهو أخوها، قالها محدثاً نفسه..

-هل طلبتم ما سوف تتناولونه، سأل فى تودد، وهى تتصبب عرقا، لمجرد جلوسه هنا، بالقرب منهما، انها بالكاد تلتقط انفاسها، انه بكليته غريب عن المكان بما فيه...

-انه مطعم بيتزا، ولا يقدم غيرها، أجاب يوسف ساخراً، ولقد اخترنا بالفعل، وطلبنا فى الطريق..

تنحنحت مودة، من جراء رد أخيها الساخر، لكنه لم يعير ذلك اهتماماً، فتنفست الصعداء، وهو يطلب بيتزا بأنواع مختلفة من الجبن..


جاء طلبهما، فقررت ان تنتظر حتى يأتى طلبه ليبدأوا الطعام معه، لكن يوسف لم ينتظر، وبدأ فى تناول طعامه بشهية، كان ينظر اليه وابتسامة على شفتيه، اما هى، فتحججت بانتظاره، وهى فى الحقيقة لا تستطيع    ان تبتلع أى قضمة، حتى لا تقف فى حلقها من جراء نظراته المحببة تلك، والتى يرمق بها يوسف، انها لم تتوقع ان ترى منه مثل تلك النظرات التى تفيض عطف وتفهم..


وصل طلبه، وبدأت هى فى تناول طعامها، وتنبهت انه يحرك القطعة فى طبقه، لكن لا يتناولها..

-الا تحب البيتزا...!؟، سألت بعفوية، بدون تفكير..

-الحقيقة، لا أفضل المعجنات كثيراً، أجابها بعفوية مشابهة، مما جعلها تسأل فى تسرع ندمت عليه: -

-اذن لما أتيت مطعم كهذا، لا يقدم الا المعجنات..!؟.

عضت على شفتها السفلى ندماً، لما لا تمسك لسانها قليلا فى حضرته، لكن اخيراً أنقذها اخيها الذى هتف.


فى صدمة، : - لا تحب البيتزا، انها رائعة، لابد وان تتذوقها، تناول هذه من أجلى..

ووضع يوسف قطعة من البيتزا فى طبقه، وأكد عليه، ان يتناولها، ولعجبها، بدأ فى تناولها، دون اى اعتراض، بل انه أبدى أعجابه بها، وبدأ فى تناول البيتزا فى شهية جعلتها، تفغر فاها، استغراباً

مما جعله ينظر اليها..

-لما لا تأكلين...!؟، البيتزا بالفعل لذيذة..

انتبهت لنفسها، وبدأت تأكل فى آلية، وهى تبتلع لقيماتها بصعوبة..


كانت اصعب وجبة تناولتها على الإطلاق، لكن أخيرا انتهت على خير..

أشار للنادل الذى أتى مسرعاً، أصرت على دفع ثمن طعامها هى وأخيها، لكن نظرة واحدة من عينيه القاتمة، جعلتها تبتلع أعتراضها، وتشكره فى هدوء

استأذن، ولكن لدهشتها، وجدته بانتظارهما فى الخارج..

-هيا، سأوصلكما للمنزل، قالها فى إصرار لا يقبل المساومة، لكنها أعترضت هاتفة: - لا داعى، فالبيت

قريب جداا، ونحن نفضل العودة سيراً كما أتينا..


-الجو بارد، ولا أعتقد ان ذلك فى مصلحة يوسف..

كان بحق البرد ينخر العظام، وها هى ترى اخيها يتثاءب فى وهن، فأذعنت، فتح السائق الباب الامامى

وعاد ليحمل يوسف، لكن نادر لم يمهله، فلقد عاد حاملا يوسف بنفسه، ووضعه فى المقعد الامامى بجوار السائق، بينما فتح الباب الخلفى لها، لتقف مشدوهة، فيشير اليها، : - ألن تصعدى..!؟.

-بلا، سأفعل، ودفعت نفسها دفعا داخل العربة، وهى مشدوهة، مما يحدث معها..


لا تعرف كيف أعطت الإشارات للسائق حتى وصلت

منزلها، أسندت كفها، لتدفع نفسها خارج العربة الفارهة التى سدت مدخل شارعهم   الضيق، وكان هو يفعل بالمثل، فوضع كفه بلا قصد على كفها، لينتفض كلاهما، ويجذب كفه كالمصعوق..

ألتقت نظراتهما لثوان، وقطعتها هى، وهى تنزل من العربة، فى سرعة عجيبة..

حمل يوسف، رغم اعتراضها المستميت، لكنه لم يأبه له كالعادة، وتوجه لمدخل البيت، يصعد درجاته..


وكأنما يدفعها دفعاً للإذعان، فتوجهت مسرعة، تسبقه، لتفتح باب شقتها المتواضعة على مصرعيه

لاستقبال، محسن ضرغام، بجلال قدره، يحمل أخيها

بين ذراعيه، وكأنما أصبح حمل تلك العائلة قدره

صباحاً يحملها هى، بعد إدعاءها فقدان الوعى..

هرباً منه، ومساءً يحمل أخاها، رغماً عنها، حتى باب شقتها..

أخرجها من شرودها، وهو يهم بالانصراف..

-سعدت بتناول البيتزا معكما، أبلغى يوسف سلامى..


قالها بعد أن عاد من حجرة أخيها، والذى أصر على وضعه فى فراشه، غارقاً فى النوم..

هزت رأسها إيجاباً، لا تستطيع التفوه، بكلمة واحدة

مما دفعه لالقاء التحية، والانصراف من فوره..

أما هى، فقد أغلقت خلفه باب شقتها، الا ان هناك

فى عقلها، فُتح ألف باب، ليطل منهما الف تساؤل..

وتساؤل..

ولم يكن لديها، أى اجابة، شبه منطقية، تجيب على أى منها..


عاد لسيارته، تتقاذفه الافكار، والخواطر، وسأل نفسه فى صراحة، أصبحت هى عادته مع نفسه فى

الأوقات الاخيرة، ما بك!؟، ولما الاهتمام بأمرأة

ليست من ذاك الطراز الذى كنت تفضل!؟.

ما الذى يجذبك اليها..!؟.

انت لا تملك وقتا للحب..!؟، انت تعلم هذا جيدا..

اذن لما التقرب منها، ما الذى تسعى اليه!؟.

ما الذى يمكن ان تقدمه لك، امرأة مثلها، حياتها

ليست بتلك السهولة التى توقعتها، ولديها الكثير.


من الالتزامات والمسؤوليات، تجاه أخيها، ومستقبلهما...!؟.

حورية المطر تلك، ليست تلك الرقيقة، الحالمة التى تتوقعها، انها عنيدة، قوية، وشرسة اذا اقتضى الامر، فهل تع مع من تتعامل..!؟.

انها صنف مختلف من الفتيات..

أحذر، الاقتراب يعنى الاحتراق..

هكذا هتف عقله، فى تحذير أخير، لكن عندما يظهر القلب فى الصورة، يتوارى العقل، تاركاً الساحة

.


دخل لمكتبه، يتأوه ألما، طلب بعض الأعشاب التى تهدأ آلامه، فوجبة البارحة من البيتزا،    قلبت أمعاءه رأسا على عقب، دوما ما كان يكره تناول المعجنات، فتأثيرها عليه، سئ

ماذا فعل بنفسه، أرضاءاً لأخيها، تباً للمعجنات، قالها شاتماً فى غيظ، وهو يتناول كوب الأعشاب

وقف اما نافذته العزيزة، يحتضن كوبه بكلتا يديه..

هى تأتى من هذا الطريق، ففى المرتين السابقتين..


كانت قادمة من هناك، وتقف لحظات، حتى تعبر للرصيف المقابل، وتدخل الى بوابة الشركة، حيث اصطدما البارحة، تذكرها وهى بين ذراعيه..

لكن سريعاً ما نفض هذا الخاطر من رأسه، وسأل نفسه بصدق، هل حقا يهتم لأمرها، هل   ، ينتوى التورط معها، انها ليست كالفتيات التى عرفهن فى الماضى، ايام شبابه الاولى، وليست بالتأكيد شبيهة بتلك التى ربط بها احلامه، وحياته..

وكان يعتقد انه ستشاركه إياها للأبد، ولكن...


كم كان واهما، و لكن، هو ايضا ليس الرجل نفسه، قالها هامسا، فلقد رحل هذا الرجل بغير رجعه، ذاك الرجل الذى كان يضع امور القلب والعاطفة، فى    أولوياته دوما، رجل يؤمن بالحب، ليحل محله، محسن جديد، يعرف قيمة الحياة، وقيمة كل دقيقة فيها، ولن يضيع أشهره المتبقية، فى امور لن تجدى، ان كان يريدها حقاً، فليحصل عليها الان..

او فليدعها..

لا مجال لإضاعة الوقت..

لكن كيف، كيف يصل اليها، كيف، وكيف..


عشرات الأسئلة حاصرته، وهو ينتظر امام النافذة..

ولم يظهر لها أى آثر، هل أتت من طريق أخر، أو ربما جاءت، ولم يلتفت لمقدمها، فى اثناء انغماسه فى أفكاره..

لقد تخطت العاشرة صباحا، ولم تظهر..

تحجج لنفسه، ليذهب لمكتب منير، لعله يراها، فيطمئن قلبه..

دلف للمكتب فى وقاره المعتاد، فانتفضت هناء مرحبة.


ورنت منه نظرة جانبية، وهو يلقى التحية، على مكتبها الشاغر، ويدلف لمكتب صديقه، لابد انها لم تأتى اليوم، ما الذى حدث يا ترى..!؟.

تبادل الكثير من الأحاديث مع منير، حول صفقة جديدة يجهزون لها، لكن نصف    الوقت، فكره يجذبه بعيدا، فيشرد حيث صاحبة المعطف الوردي، أين هى الان يا ترى، وما قد يكون حدث لها..

ووجد نفسه دون تفكير يسأل منير، : - ترى أين المتدربة الجديدة اليوم..!؟.


رفع منير رأسه من بين اوراقه، وقد دهش تماما لسؤال محسن، عن فتاة لم يرها الا مرة واحدة، على حد علمه طبعا ً...

-وما حاجتك اليها..!؟، سأل منير متخابثاً..

-لا شئ، لم أراها على مكتبها عند دخولى، يبدوانك تتهاون معها كثيرا...

ابتسم منير، ولم يجب، رغبة فى استثارة صديقه..

لكن محسن ظل صامتاً على الرغم من تلك الأسئلة التى تطل من عينيه تفضحه، واخيرا أشفق عليه منير مجيباً.


-انها اتصلت فى الصباح الباكر تستأذن فى عدم القدوم

لمرض اخيها الأصغر، بالطبع أذنت لها، فالولد مقعد

وليس له، الا أخته لتعتنى به..

هز محسن رأسه مؤكداً، دون وعى، فالمفترض انه لا يعلم عنها اى شئ، لكن منير، كان رائعاً عندما، تجاهل ملاحظته ذلك، و كم شعر بالامتنان جراء عدم محاصرته بالأسئلة...

نهض مسرعاً، وهو يتحجج ببعض الشؤون التى يجب إنهاءها، خارج الشركة..


مرت عليها الليلة السابقة، كالكابوس، فلقد أرتفعت حرارة أخيها، ولم يكن فى إمكانها، الذهاب به لطبيب، وهو فى مثل حالته، او احضار طبيب له، فى ساعات الصباح الاولى، فقضت ليلتها، تحاول بكل طريقة تعرفها، ان تخفض من حرارته الملتهبة...


واخيرا، انخفضت قليلا، مما سمح لها بالنوم قليلا، نوم متوترا، ملئ بالكوابيس المريعة،    فتنتفض فى كل مرة، تتلمس كفها الطريق لجبهة أخيها، لتطمئن ان حرارته طبيعية، فتعاود الخلود للنوم من جديد، لتعاودها تلك الأحلام المزعجة، التى طل منها، وجه

لم تره، الا منذ عدة ايام، لا تعلم، لما احتل أحلامها عنوة، لابد انها بدأت تهزى، هل التقطت العدوى من أخيها..!؟.


كانت حالتها يرثى لها، وجه مجهد، وعيون ذابلة لم يعرف النوم لجفونها سبيلاً، وجسد يفتقد الحيوية التى يتميز بها، فبدا كتفاها متهدلين، ككتفى عجوز، عندما دق جرس الباب..

سحبت نفسها بالضالين، من جوار أخيها، وهى تعدل

حجابها على رأسها، وتجر قدميها جراً، تجاه باب شقتها، كم الساعة الان يا ترى!؟، كان عقلها لايزال مشوشاً، عندما فتحت الباب، برأس مثقلة ترفعها فوق عنقها بالكاد، لتطالعها بزة رمادية اللون.


رفعت عينيها، لتصطدم بتلك العيون الفحمية الصارمة، انه هو!، هل هو حقا!، ام انها لاتزال تهزى، وتعيش فى أحلامها الليلية، حيث كان قابع هناك، بغير سبب مقنع!، كان هو من قطع الصمت.، وهو يتفحصها، بذاك المظهر الطفولى، المتمثل فى منامتها ذات الرسومات الهزلية، وحجابها الموضوع على رأسها بعشوائية، وعيونها الناعسة، التى اتسعت عن اخرها..، وهى تطالعه أمامها، قال فى هدوء: -   صباح الخير آنسة مودة، أحضرت طبيب الشركة، من أجل يوسف، فهل تسمحين..!؟، قالها وهو ينحيها جانبا، قبل ان يسمع حتى جوابها، ويمرر الطبيب، لحجرة أخيها، التى كان يحفظ طريقها جيداً، منذ ليلة الامس، حين وضعه فى فراشه..


لازالت تقف مشدوهة، تفرك عينيها، وقد استيقظت تماماً، عند رؤيته، وكأنها تناولت جرعات مضاعفة من الكافين، وما ان همت باللحاق بهما، حتى كان الطبيب قد انهى عمله، مغادراً الغرفة..

ليسألها فى تعجب وهو يكتب بعض العقاقير والادوية: -

لا تقلقى، فتلك نزلة برد عادية، وسيشفى منها بسرعة، لكن ما جذب انتباهى، هو موضوع قدميه، لديه فرصة كبيرة للشفاء، لو اجريت له جراحة..


فلما لم تتم للأن..!؟، التأخر ليس فى مصلحته، قال كلماته تلك فى آلية، غير عابئ،    بملامحها التى اعتلاها الحزن، وشعورها الطاغى بالعجز وقلة الحيلة

لكن محسن، وصلت له كل تلك المشاعر، بحزفيرها، وكأنه يقرأها ككتاب مفتوح، مما اثار استعجابه هو شخصياً..

-شكراً لك، يا دكتور، سيوصلك السائق للشركة..

وتناول من يده، روشتة العلاج، قبل ان تطالها يدها

ورحل معه، فى سرعة، كما حضر..


وأغلق الباب خلفه، وهو يتطلع اليها، بنظرات، لم تستطع ان تفسرها، او، بالاصح، لم يكن لديها..

لا القوة، ولا الرغبة فى تفسيرها، فالارهاق، بلغ منها مبلغاً لا يمنحها أى فرصة، للتفكير بشكل جيد

وبذهن صاف..

كانت فى طريقها لرؤية أخيها، الذى يرقد فى فراشه

بلا حول ولا قوة، زال أحمرار وجنتيه، وبدأ تنفسه

فى الانتظام، حتى حرارته عادت لطبيعتها بفضل الله.


لكن، أكان هنا حقاً..!؟، تطلعت حولها، لعله ترك دليل ما يشى بوجوده المزعوم، لكن كل شئ كما كان..

إلا ذهنها المشوش، فقد أضحى أكثر تشويشاً، وعدم الاتزان، يغمرها كلياً...

لكن طرقات جديدة على الباب، أيقظتها من شردوها

لتفتح من جديد، لتجد محسن، يقف فى ثباته المعهود

وهو يحمل بعض الاكياس فى يديه، دخل، دون حتى ان تأذن له، يضع ما يحمل على طاولة فى منتصف.


الردهة، وأستدار اليها، وهو يمد يده بكوب من القهوة الجاهزة، : - خذى تناولى هذا، لتكونِ فى حال أفضل..

وكم كانت ممتنة لعطيته، كوب من القهوة، هو كل ما تحتاجه الأن لتستطيع دفع تشوشها بعيدا، وتستعيد بعضا من تركيزها، لتستطيع مواجهته..

-شكرًا، كانت الكلمة الاولى التى نطقت بها، منذ قدومه، تناولت الكوب، وجلست ترتشفه فى نهم..


لم ينطق بكلمة، وكم كانت ممتنة لذلك، فقد تركها تتجرع قهوتها، فى هدوء، لم ترفع نظراتها اليه..

بينما هو كان يتلذذ بالتفرس فيها، مع كل رشفة، من كوبه..

أنهت قهوتها، وانتهت الهدنة بينهما، بنهايتها، فقد وضعت الكوب الفارغ، على الطاولة   ، واستدارت لتواجهه، فى ثبات استمدته اخيراً: - سيدى، هل لى بان أسألك، لما تفعل معنا كل هذا..!؟.


-لو كنت سألتينى البارحة هذا السؤال، لكنت رفعت كتفىّ، قائلاً لست أدرى، قالها فى هدوء مقيت، وبنبرة تخفى فى طياتها الكثير..

-واليوم، هل أصبحت تعرف لما..!؟.

أومأ برأسه موافقا فى تثاقل وهو يتجرع أخر رشفة فى كوبه، ويضعه جانبا، وهو يستند على حافة الطاولة

يضع قدما على قدم، فى مظهر متغطرس كالعادة..


كان مظهره، لا يناسب شقتها المتواضعة بأى حال من الاحوال، فالتناقض رهيب، ان هذا ليس   مكانه المثالى بلا شك، فهو الان، يشبه أحد الصور المنزوعة من أحدى مجالات الأزياء الراقية، والملتصقة على حائط آيل للسقوط..

-أريدك، قالها بشكل مفاجئ جعلها تجفل، وتنتفض كل خلية من خلاياها، ماذا يقصد بالضبط!؟.

تطلعت إليه بنظرات نارية، قابلها بنظرات مشاكسة

قبل أن يكمل فى بطء قاتل، : - أريد الزواج بكِ..


ألقى قنبلته المدوية، لتصم أذنيها، ولا تسمع غير وجيب قلبها الذى تزايد للضعف، أما هو فكانه يلقى بخبر عادى، يقف فى برود، ينتظر رد فعلها..

-لست بمزاج جيد، للمزاح، او الاستهزاء بى، سيدى من فضلك، عليك الانصرا، لم يمهلها   لتكمل ما تريد قوله، بل هتف فى ذهول: - وهل من عاداتى المزاح معكِ...!؟..

صمتت، وهى تتطلع اليه فى حيرة، هل هو فى وعيه...!؟.


هكذا سألت نفسها، وهى تشيح بنظرها، عندما سمر نظراته على وجهها، محاولاً ان يستشف ما يعتمل بداخلها من تضارب، فى افكارها ومشاعرها..

-أجلسى الان، وستفهمين كل شئ..

لم تزعن لطلبه، هى فى بيتها بالمناسبة، ولا تتلقى الأوامر منه.، قررت أن تعارضه، لكنه هتف بلهجة تحذيرية، : - أنا لست صبورا، ولا أحب تكرار طلبى لأى من كان...


جلست إتقاءا لشره، فهو يبدو غير طبيعى بالمرة، وطلبه العجيب هذا، بالزواج منها، يؤكد ظنها...

جلس هو الاخر، وأخذ نفس عميق، ثم قال بلهجة

واثقة، ونبرة عميقة: - ما سأطلعك عليه الأن، لا أحد يعلم به، سوى منير.، صديقى الذى أعده بمثابة أخ لى...

-تقصد السيد منير، رئيسى فى الشركة..!؟..

-كم منير تعرفين!؟، سأل ساخراً فى نفاذ صبر..


بالطبع هو، وأرجو أن لا تقاطعيني، حتى أكمل ما أنا بصدد قوله، للنهاية، قال كلمته الاخيرة وهو يجز على أسنانه محذرا، فأومأت برأسها مزعنة..

-منذ فترة، أكتشفت أنى مريض، وأنى لن أعيش طويلا، شهقت فى ذعر حقيقى، فنظر اليها فى

ضيق، فوضعت كفها، على فمها تكتم شهقاتها، وهى تنظر اليه بعيون مفتوحة بذعر، كيف يلومها على ردة فعلها، إزاء خبر كهذا..!؟.


أستطرد، محاولا تجاهل ردة فعلها، كل ما أطلبه منكِ أنت تمنحنى عدة أشهر من حياتكِ، تكونى فيها

زوجتى، وفى المقابل، سأمنحك، المال الذى تطلبين

لتأمين مستقبلك، وإجراء الجراحة لأخيك، وتأمين مستقبله ايضا، بضعة أشهر لا غير، وبعدها ستكونين حرة وغنية، و

-أرملة، هتفت مقاطعة له فى غضب هادر...


من تظننى بربك، لأبيع نفسى مقابل المال، لولا ما سمعته الان عن مرضك، ولولا معروفك اليوم مع أخى، وأنك فى بيتى، لكان لى معك شأن أخر..

سيد محسن، تشرفت بحضرتك، وأشارت للباب فى عنف، الا انه لم يرمش له جفن، ولم يتحرك    قيد أنملة من موضعه، مما أثار حنقها فأصبحت أشبه ببركان على وشك إلقاء حممه، وما أن همت بثورتها

حتى وقف بشكل فجائي، قبالتها، وأشرف عليها بقامته المديدة، لتشعر بضألتها، وبتهديده الوشيك.


لها، عندما وضع كفيه على كتفيها، ليجبرها على الجلوس مجدداً، لتجلس على عجل، رغبة فى الهرب

من كفيه، التى كانت تضغط على كتفيها، كأنهما جمرتين من نار..

بدأ يتكلم من جديد، بنبرة أكثر إقناعاً، نبرة رجل الاعمال التى يجيد استخدامها عند عقد صفقاته...

-أسمعى، لم أفكر أبداً، بكل هذا الهراء التى تفوهت به

منذ لحظات، فلنتفق انها صفقة..

-صفقة!؟، هتفت بعدم تصديق، وهى فاغرة فاها..


-نعم، صفقة، أنا أحتاج إمرأة، ما تبقى لى من

أشهر، فى حياتى، وأنت تحتاجين المال اللازم لعلاج

أخيك، ليعود للحياة من جديد..

اعتقد انها صفقة عادلة، فكل منا سينال فى النهاية ما يحتاجه، لا تعطينى رأيك الأن، فكرى، وأنا فى انتظارك...

نهض فجأة من مكانه، ليرحل مغلقا الباب خلفه، دون ان يتطلع خلفه، ولو للحظة..


اما هى، فقد ظلت مكانها، لا تتحرك كدمية شمعية، بلا روح، ضربات قلبها، تعلو وتهبط بجنون، وإنفاسها، متقطعة، تلهث وكأنها، لفت الكرة الارضيّة ركضا، هربا منه..

ولكن، هل من القدر، مهرب...!؟..


عاد لمكتبه، يتسأل فى حيرة، ما الذى فعله، ما الذى دفعه ليعرض عليها عرضا كهذا،   الا يعتبر ذلك نوع من انواع الاستغلال الرخيص، لحاجتها..

هى ترغب فى شفاء أخيها، وقد تفعل فى مقابل ذلك أى شئ، حتى القبول بتلك الصفقة..


حقاً هل ستفعل!؟، هل ستقبل..!؟.

قاطع سيل أفكاره وخواطره دخول منير، الذى أكتشف على الفور، ان هناك خطب ما يشغل فكر صاحبه، ويؤرقه..

-محسن، .!؟، هل هناك ما يشغل بالك..!؟، سأل منير متوترا...

-نعم، هناك، لقد اقدمت على فعلة وانا لا اعرف..

كيف نفذتها هكذا بلا اى تفكير...!؟.

-ماذا هناك، أثرت قلقى...!؟.

-لقد تقدمت بطلب زواج من المتدربة الجديدة، قالها محسن دفعة واحدة، كمن يلقى هما على كتفيه..


فانتفض منير من كرسيه فاغرا فاه فى دهشة..

-تقصد مودة، كيف ذلك..!؟..

-لا أعلم، هذا ما حدث، ذهبت لبيتها بطبيب الشركة عند علمى بمرض اخيها، وساومتها على   الزواج بى ما تبقى من أشهر فى حياتى، على ان تكون قادرة على علاج اخيها، وتأمين مستقبلهما بعد رحيلى..

-هل فعلت ذلك، هل حقا ساومتها، على الزواج بك او علاج اخيها..!؟..

-نعم، فعلت، ولا تنظر إلىّ هكذا، فأنا لا اعرف كيف اقدمت على فعلة كهذه...!؟..


وعلى عكس المتوقع تماما، انفجر منير ضاحكاً...

مما دفع محسن للنظر اليه باستعجاب، هل فقد عقله..

وما الذى يدعو للضحك فيما قال..!؟.

توقف اخيرا منير عن الضحك، وهو يمسح وجهه بكفيه، ويقول فى نبرة يقينية: - أخيراً، يا محسن، فعلتها..

-فعلت ماذا.!؟، لا تتحدث بالألغاز الان، فأنا فى مزاج لا يسمح بذلك...

-حسنا، سأفصح، وسأكون صريحا، لكن لا تتذمر، انت من طلب..


نظر اليه محسن فى نفاذ صبر، فهتف بسرعة: - حسنا، حسنا بلا مقدمات، انت تميل اليها يا صديقى، ولن اقول تحبها، حتى لا تغضب، ألقى القنبلة الاخيرة،    وهو يبتسم فى حبور، وهو يتابع قسمات وجه صاحبه، التى تبدلت وتغيرت عدة مرات فى ثوان معدودة، حتى استقرت على ملامح الغضب المختلطة بعدم التصديق، وهو يقول: - كفاك مزاح...

انا اتحدث بجدية الان، عن اى ميل او حب تتحدث يا صديقى...


قلب محسن ضرغام، لم ولن يخضع لامرأة، بعد ما كان، الحب لعبة خاسرة، انت تعلم تماما انى لم أعد أؤمن به، ربما دفعنى لما فعلت، هو رغبتى فى امرأة ما بحياتى...

امرأة اعلم ان ليس لها مطالب، ولا تتعلق بى، ويكون وجودنا سويا، منفعة لكلانا، دون ايه التزامات..


-لماذا هى بالذات...!؟، سأل منير فى خبث ولماذا ليست واحدة غيرها، فهناك الكثيرات يرحبن بمطلب كهذا، من محسن ضرغام، حتى ولو تصبح اى منهن زوجتك ولو ليوم واحد..!؟، ولم يكن لديه ما يجيب به،    فأكتفى بهز كتفيه، وهو يقول بتهاون. : - ربما، لانها بحاجة لى ولنقودى، كما انا بحاجة اليها، هى صفقة ليس اكثر، لا تشملها المشاعر، او تلك الامور المتعلقة بالقلب...


-حسنا، كما تشاء، قالها منير غير مقتنع، لكن ماذا لو رفضت، عرضك..!؟..

-ستقبل، فأنت لا تعرف كم تحب أخاها..!؟، وكم تتمنى ان تراه يسير مرة أخرى على قدميه..!؟.

-الم أقل لك، انك متعلق بها، للحد الذى يدفعك للمساومة على مشاعرها تجاه أخيها لتبقى قربك...

كانت نظرات محسن له، نارية، لكنه لم يأبه، بل استطرد فى ثقة، وكأنما من واجبه ان ينصحه، حتى ولو رغما عنه، : - لكن أحذر يا محسن.


هى لن تنصاع لك بسهولة، فهى تشعر الان بالمهانة، وانها سلعة تُباع وتُشترى، ويتم المساومة   على مشاعرها فى كفة، ومصلحة أخيها فى كفة أخرى...

انها فى امتحان صعب، كان الله فى عونها، وفى عونك، انت ايضا، فلن تخضع بسهولة، انها مقاتلة

على الرغم من الفترة البسيطة التى عرفتها فيها، الا أننى اقولها لك وبكل ثقة، لن تستطيع إخضاعها لسلطانك بتلك البساطة التى تتوهمها...


-ستخضع، وتكون اكثر من راضية، قالها محسن بغطرسته المعتادة، فابتسم منير، وهو يقول: - اتعشم ذلك، لكنى لا أملك تفاؤلك..


                    الفصل الثالث من هنا


لقراة باقي الفصول من هنا


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-