أخر الاخبار

رواية صفقة حب الفصل الثامن والتاسع بقلم رضوي جاويش


 رواية صفقة حب 

بقلم  رضوى جاويش

 الفصل الثامن والتاسع


كان يقف امام نافذته المعهودة، ينظر من خلالها على

العالم بالأسفل، وخواطره    بعيدة كل البعد عن ما يدور

فى ذاك الشارع، بل كانت هناك، حيث هى..

قابعة بين جدران فيلته العتيقة، مجروحة الروح..

محطمة الكبرياء، من تلك الليلة المشؤومة، والتى مر عليها، أكثر من أسبوع..

لم يعد يطيق البقاء بقربها وهو يراها بتلك الحالة، التى اصبحت عليها، وفى ذات الوقت، لا يقوى على البعد

وان يظل فى منأى عنها..


قربها عذاب، وبعدها عذاب أكبر، أه لو تدرى ما

تصنعه بى، لأرتاحت روحها، وسكنت، فها هو القصاص العادل، لكل ما جناه فى حقها، يتجرعه فى بعدها، وفى قربها...

رشفة، رشفة، حد العذاب...

لم يطيق البقاء فى المكتب، فخرج لا يلوى على شئ

يتمنى بعض الهواء النقى، لعله يسكن سعير روحه

التى لم تهدأ، منذ نأت عنه..

قاد عربته، بغير هدى، حتى توقف فى بقعة هادئة

وترجل، ليسير قليلا، يعب من الهواء المنعش..


على قدر ما يملاء رئتيه، فيزفره فى قوة، تحمل معها، شظايا روح محترقة، وقلب يشتعل..

كيف أمكنك النظر فى عينيها من جديد..!؟.

سأل نفسه، كيف استطعت ذلك..!؟، لم أكن اعلم انك يمكن ان تقسو، بذاك الشكل..!؟.

لم أكن اقسو، كنت خائف، خائف منى، وخائف عليها، لكنى لم أقوى على البعد، كم من الساعات

حاولت النوم دونها، فى تلك الليلة، متظاهرا، بان وجودها جوارى، او بالأسفل، لا يمثل فرقا..


حتى اعترفت أخيرا بالهزيمة، لأتسلل اليها، واعود

للمكتب، لأجدها، متكومة على نفسها، وقد غلبها النعاس، ودموعها لاتزل ندية على خديها..

يا آلهى، كم كان محياها فى تلك اللحظة، يمزقني

يعنفنى، و، الاصعب، ان يعاتبني، فأنا، بلا فخر..

سبب كل هذا العناء، المتجسد حيّا، على ملامحها المستكينة فى حزن، حتى وهى تغط فى نوم عميق..

أهذا هو الشهد الذى تتجرعه على يديك..!؟.


أذلك الذى وعدتها به، يوم ان استكانت بين ذراعيك!؟..

حملتها فى هدوء، لتأن بين ذراعىّ، رافضة أن تعود

لغرفتنا، لكننى همست فى أذنيها، أن تكف عن التذمر، فأنا من أحدد، أين يجب ان تكون..

فاستكانت، وكأن ما عاد لديها القدرة، على الجدال..

لأضعها فى الفراش، واسحب الغطاء عليها..

واشعر، وانا بجوارها، بروحى ترتج، لارتجاف جسدها، وهى تكتم شهقات بكاءها...


لا يدرك، كم من الوقت مر عليه، وهو هائم على وجهه، حتى، شعر بقطرة ماء تسقط على خده..

انها تمطر..!؟، تسائل فى فرحة، وعاد أدراجه

مسرعا، ليعود للفيلا، لعله يراها، تسعد لاستقبال المطر كعادتها، يراها سعيدة، حتى ولو لم    يكن هو سبب تلك السعادة..

اندفع مسرعا بالعربة، لكى يصل بأسرع ما يمكنه..

ليشهد الاحتفال، من بدايته، وربما، تكون تلك فرصة ذهبية، ليحاول إصلاح ما يمكن اصلاحه..


وصل اخيرا، واندفع للفناء الخلفى، حيث تفضل دوما ان تقيم احتفالاتها، بعيدا عن اعين، البواب، او البستانى..

تسلل كعادته فى المرة الاولى، ودفع بجسده، ليقف على مقربة، ينظر بوضوح، ويمتع ناظريه..

لكن، لدهشته، لم يكن هناك اى احتفال يذكر..

لم يكن هناك الا السكون..

وصوت الأمطار يجلده، لكونه السبب فى غياب حوريته..

اندفع، يحتمى من الأمطار، ليصعد درجات السلم.


ليدلف للداخل، ليفاجئ بوجودها، فى احد الأركان، تجلس شاردة، تحتضن أحد الكتب، وعيونها شاخصة

لمكان بعيد، أبعد ربما، مما يتخيل..

اقترب فى هدوء منها، لينحنى بقربها مستندا على يد مقعدها، لتنتبه هى لوجوده اخيرا، فترتبك، وتُسقط

كتابها من أحضانها، فيلتقطه هو، ويعيده من جديد

لتلك الأحضان التى يشتاقها، ويعذبه البعد عنها، حد الغيرة من هذا الكتاب، الذى يحتل مكان يخصه وحده.


تطلع اليها، وهو يسأل فى نبرة دافئة، حاول ان يكسوها بالمرح: - لم تستقبلى الأمطار، بالاحتفال كعادتك..!؟.

-أشعر انى لست على ما يرام، أجابت فى هدوء قاتل

-ما بكِ..!؟، انتفض فى لهفة حقيقية، يضع كفه على

جبينها، لعل حرارتها مرتفعة، لكنه اطمئن، فحرارة جبينها معقولة، لا تنبأ بالمرض، انه يسأل وكأنه لا يدرى ما بها، ان روحها هى العليلة..

وليس الجسد..

نظرت اليه، وهى تستشعر لهفته عليها، كانها حقيقية.


ونابعة من اهتمام فعلى، لكنها بدأت توطد نفسها، ان

لا تتعشم فى المستحيل، وان تظل تذكر حالها، بأنها

دمية، وخيوطها بين يديه..

وها هو يجذب احد الخيوط الان، لتصبح بين ذراعيه

وخيط أخر ليحملها، ليصبحا الان، تحت زخات المطر، اعتصرها بين ذراعيه، وأخذ يقبل جبينها..


فجفنيها، ثم خديها، وأخيرا، يفرغ صبره، على الشفتان المرتعشتان، لكنه، لا يرتوي   ، فيبتعد قليلا هامسا، وهو ينظر لعمق عينيها فى لوعة يكسوها الذهول: - أين أنتِ..!؟.

-أنا هنا، سيدى، أطيع وألبى، أجابت فى نبرات جليدية..

-يا آلهى، ماذا فعلت..!؟، سأل هامسا، فى ذعر، ليحملها، صاعدا بها لغرفتهما، ليضرب الباب بقدمه، ليستمر فى حملها.


حتى أنزلها، لتجلس على احد المقاعد، داخل حمام غرفتهما.، ليسأل فى اضطراب: - هل يمكنك الاعتناء بنفسكِ، أم تحتاجين مساعدة...!؟.

-استطيع الاعتناء بنفسى، شكرًا.

خرج، وهو يقذف سترته المبللة أرضا فى حنق

ويندفع للأسفل، ليخبر نبيلة، ان تحضر لها مشروبا ساخنا، وتحضره للغرفة، اما هو، فأنزوى داخل المكتب، لا يدرى ما عليه فعله..!؟..


تسللت نبيلة فى هدوء الى داخل حجرة مودة، بعد ان طرقت الباب عدة مرات، برفق، ولم تجيبها   ، اعتقدت انها لاتزل بداخل الحمام، ولم يصلها صوت الطرق على الباب، لكن ما ان دلفت الى داخل الحجرة

حتى رأت مودة، تولى ظهرها للباب، تجلس ساهمة

شاردة، بمئزر الحمام، الذى تلفه على جسدها الان، وكأنها تستمد منه الدفء...

جلست نبيلة جوارها، وأمسكت كفها، بين كفيها، تدفئهما، وتربت على كتفها فى تعاطف حقيقى..


لم تكن تعلم ما الذى يجرى، بين السيد وزوجته..

لكنها تستشعر شرارات ليست معتادة، فيما بينهما..

-ماذا حدث..!؟، هل، هل فاتحتيه فيما يخص الجراحة..!؟، سألت نبيلة فى حذّر..

-نعم، قالت بصوت متحشرج وبدأت دموعها فى الهطول..

-استنتجت إجابته، مما يحدث بينكما، قالتها، وجذبت مودة برفق لاحضانها، لتستكمل بكاءها

بنحيب يمزق القلب، لم تتفوه نبيلة بكلمة، حتى بدأت.


تهدأ عاصفة البكاء، وترفع مودة رأسها، عن أحضانها، لتقول لها بهدوء، وبتجربة سيدة..

خبرت الحياة، : - لاعليك يا بنيتى، سيعيد تقييم الامر

وساعتها، ربما يغير رأيه لأجلكِ..

-من أجلى..!؟، قالتها مودة فى سخرية، لا تتعشمى فى ذلك، انا هنا فقط ك، –وتوقفت لتنتقى ألفاظها –كزوجة مؤقتة، ليس لى اى حق عليه..

فقط، ما بيننا صفقة، لا أكثر، لما يفعل اى شئ من أجلى..!؟.


ابتسمت نبيلة بهدوء الواثق، وهى تقول: - تقولين صفقة، وزوجة مؤقتة، ولما أنتِ، وليست اى امرأة أخرى، كان يعرفها، وعلى استعداد لتقديم خدماتها..

بشكل اكثر كفاءة، من فتاة فى مثل براءتك.!؟..

صمتت مودة قليلا، لتجيب: - سألته نفس السؤال عندما عرض عليّ الزواج، مقابل المال اللازم لعلاج أخى، وقال انه يريد امرأة، لا تطلب وترضى بما يقدم لها..

-وصدقتيه..!؟، سألت نبيلة مستنكرة..

-ولما لا افعل..!؟..


اتسعت ابتسامة نبيلة، لتقول بثقة لا تهتز: - انه يحبكِ..

انه ابنى، وانا ادرى به منك، انه يريدكِ، وما كانت تلك الصفقة المزعومة، الا وسيلة للوصول    إليك ِ، دون حاجته، ليعترف بحبكِ، وانا على ثقة، انه حتى ولو تكن ظرفك سمحت له بمثل ذاك الاتفاق..

لكان اخترع الف اتفاق، حتى يصل إليكِ..

وتكونى له...

هل حقا ما تقوله نبيلة...!.

قلبها يريد ان يصدق كل كلمة...


وعقلها يرفض تصديق حرف واحد، يعتقد انها تواسيها ليس اكتر، تعيد لها بعض الامل، الذى ينعش روحها، لتستعيد مرحها، وابتسامتها..

-هيا، اشربى هذا المشروب الساخن، وعودى مودة التى اعرفها، وكونى بجانبه، هو يحتاجك بحق..

يحتاجك، اكثر مما تتخيلى، وفوضى امرك لله..

لعله يحدث بعد ذلك أمرا، وما بين طرفة عين وانتباهتها، يغير الله من حال إلى حال..

نهضت نبيلة بعد كلماتها التى كانت كالبلسم الشافى.


لألام مودة، ربتت على كتفها، وخرجت من الغرفة

فى هدوء..

تناولت مودة الشراب الساخن، لترشفه على دفعات اعادت الدفء الى أوصالها، وارتدت ملابسها، وحجابها، ووقفت تبتهل بين يدىّ الله، وما ان انتهت،   حتى وجدته جالس بجوارها، ابتسم فى وداعة لعينيها، وهو يمد يده ليخلع عنها حجابها..

ويضعه جانبا، كانت تشتاقه كثيرا، تشتاق حتى نظرات عينيه التى كانت تتجنبها طوال الفترة السابقة.


جذبها، لتقبع فى احضانه، ظهرها يلامس صدره..

ورأسها يختبئ فى شوق، ما بين رقبته وكتفه..

قبل ذاك الرأس فى وله، قبلة طويلة أودعها، شوقه

-ثمانية ايام كافية جدا لعقابى أليس كذلك..!؟، همس قرب مسامعها فى تساؤل، يغلّفه لهجة مرحة..

هزت رأسها رافضة، وهى تدارى ابتسامة تطل على شفتيها، فهتف مازحا: - تخادعين وانت لاتزالى على مصلاكِ...!؟..

-حسنا، قالتها من بين ضحكاتها، انها كافية..


أدارها لينظر لعمق عينيها، وهو يقول: - سأعوض فيما بعد تلك الايام الثمانية ولن أتنازل عنها ابدا..

فيما بعد..!؟، هل قال، فيما بعد، ماذا يقصد..!؟، سألت نفسها، وقد طل السؤال من عينيها   ، ليجيب عنه، فى لهجة حاسمة: - عندما يمن علىّ الله بالشفاء، بعد الجراحة..

لتشهق بعدم تصديق، تضع كفها على فمها، وقد طفقت الدموع من عينيها، واخيرا، تندفع لتطوق عنقه، بذراعيها، وهى تجهش بالبكاء، فرحة بقراره.


ضمها اليه، اكثر، حتى اصبحت جزء منه

يعتصرها شوقا، ويربت على رأسها، حتى هدأت

تماما، واستكانت فى احضانه، التى اشتاقت لها كثيرا

وافتقدتها بشدة..

خرجت من ملاذها، تتطلع اليه، فمد كفه، ليمسح اثر دمع لازال يترقرق على خدها..

-لما البكاء الان..!؟، سأل متأثراً لدموعها..

-أتعرف لما، شهقت وهى تجيب، لقد استجاب الله لدعواتى، طوال الليالى الماضية..


نظر لعينيها نظرات لم تستطع تفسيرها، ورفع كفها ليلثمها فى شوق، ليعيد النظر لعينيها من جديد، و

يجذبها بقوة الى احضانه، وقد شعر انه يحبها الان، بل يعشقها، حد اللانهاية، لقد تذكرته فى دعاءها حتى بعد كل ما كان منه، لقد دعت له..

وللمرة الاولى، تترقرق الدموع فى عينيه، عشقا..

ورغبة، ورهبة، وتمنيا، ان يبقى بين ذراعيها للأبد.


خرجت فى هدوء من الشركة، تشعر بالانكسار، لما يفعل بها هذا!، لما تزوجها، طالما هو قادر على إيجاد من يمتعه، بعيد عن قيود الزواج والتزاماتها، لما..!؟..

ظل السؤال يطن برأسها، وهى تندفع للسيارة، بجوار أخيها، الذى تعجب انها لم تحضر محسن معها: -أين محسن..!؟، الم يرغب فى مرافقتنا لشراء الهدايا..!؟..


-لا، قالتها حاسمة، هو، مشغول للغاية، نطقتها بسخرية مريرة، تجز على أسنانها، لتمنع دموع من القهر والالم، من الانسياب على خديها، امام اخيها..


انها كلما تذكرت ما رأته بالأعلى، تغلى الدماء بعروقها، وتتمنى لو حطمت رأسيهما، لقد وصلت للمكتب، تدعوه لشراء بعض الهدايا للخدم، بمناسبة اقتراب    احد الأعياد، دخلت تنتظره بالمكتب، وفى اثناء ذلك، دخلت الحمام تصلح من زينتها قبل ان يصل، لتسمعه يدفع باب المكتب ويدخل، قررت مفاجأته، كما يحلو له دوما، ويفزعها، لكن مهلا..


انها تسمع صوت انثوى، يتحدث معه بالخارج، يعاتبه بنبرة تحمل الكثير من الغنج والدلال قائلا: - هل نسيت كل ما كان بيننا..!؟.

-لا لم انسى، قالها، وكادت ان تندفع من موضع أختباءها، لتصرخ فيهما، لكنه اكمل، ليقضى على ما بقى من صبرها، والحمد لله أننى لم انسى..

انه يحمد الله على انه لازال يتذكرها، لا، هذا كثير

هتفت وهى تتمزق داخليا، لتخرج فى ثبات، هنأت نفسها عليه، ويتفاجأ كلاهما بوجودها، كانت تلك.


حبيبته السابقة، تلك الفاتنة التى تجاهلت تحيتها يوم زفافهما، وهى الان تضع كفها، على صدره، وكفه

يقبع على كفها، وكأنه يتشبث بها، كان هو اول من تحدث، وهى يبعد كف فاتنته عن صدره فى هدوء: -

-ماذا تفعلين هنا..؟!..

-جئت لطلب ما، لكنى أرى انك مشغول بالفعل، لهجتها كانت من البرودة، بحيث عقد حاجبيه فى تعجب، وكأنه كان ينتظر منها ردة فعل مخالفة..


استكملت: - على أية حال، لقد تأخرت وكنت فى سبيلى للرحيل حالا، أراك فيما بعد، ثم تجاهلت تلك التى كانت تنظر اليها الان تقيمها من رأسها حتى أخمص قدميها، وتجاهلتها مودة تماما، وخرجت من مكتبه، وكأن ما كان يحدث داخله لا يعنيها..

وما ان ابتعدت قليلا، حتى أطلقت ساقيها للريح..

لتندفع خارجا، تكاد تختنق، من طول فترة إدعاءها الثبات ورباطة الجأش..

انه لم ينساها، ويبدو انه لن ينساها، الم يقل ذلك.


بملء فيه، منذ دقائق، لقد سمعت ذلك، بنفسها..

ولا مجال لتكذيبه..

طافت بأخيها، عدة محال تجارية، لانتقاء الهدايا..

كانت تعتقد ان بعض من الإنهاك، والانشغال قد يصرف ذهنها عن ما رأت وسمعت، لكن هيهات، فما ان تغفل دقيقة عن متابعة ما يدور حولها، حتى تقفز تلك الصورة ماثلة امام عينيها، وتتردد كلماته، على مسامعها كأصداء لا تتوقف..


عادت للمنزل، لتعطى كل من فيه، هديته، وكم كانت فرحتها كبيرة، انها أسعدت كل من حولها، البستانى وحارس البوابة، و طبعا نبيلة، تلك المرأة الطيبة التى تدين لها، بالكثير...

اندفع يوسف لحجرته، ليجرب هديته التى انتقاها بنفسه

مجموعة من الألعاب الالكترونية التى تمنى الحصول عليها، وهى صعدت لحجرتها، تشعر بخواء عجيب

لا تعرف، ماذا يحدث، ولما يحدث..!؟.


وأخرجت بهدوء ورتابة ما ابتاعته، لتضعه فى خزانة ملابسها، لتصطدم يدها، بهدية ما، تذكرت انها هديته، والتى كانت قد اشترتها، وحدها، قبل ان تذهب   لمكتبه، تدعوه لمرافقتها، وضعتها جانبا، على الطاولة التى تجاور الفراش، حيث يضع كل ما يخصه، من أغراض...

مر النهار برتابة، لا يشغل فكرها، غيره، ولا يشعل النيران فى غابات قلبها، سوى مشهده الحميمى، وحبيبته بالمكتب، و سؤال يلح عليها، لما تزوجها..!؟..


وخاصة، فى وجود حبيبة سابقة، هى اكثر من راغبة

فى لعب دور الزوجة المؤقتة..!؟.

دخل الغرفة، يتلفت حوله، حتى وقعت عيناه عليها

تطالع رواية ما، تقدم ليقبع خلفها تماما، ويمد يده

ليغمض عينيها بكفيه، لتنزل الرواية، وتضع كفيها على كفيه لتزيحهما عن عينيها، لتعاود    المطالعة من جديد، همس بجوار أذنيها: - أقرأى بصوت عال، وانا هنا لألعب دور البطل، بكل سرور، قال كلماته الاخيرة، مازحا..


-انها رواية مرعبة، كذبت، وهى تضعها جانبا، وتكمل فى غيظ، والبطل سيأكله الوحش فى النهاية..

ما رأيك فى هذا الدور..!؟، سألت وابتسامة غيظ على شفتيها...

انفجر ضاحكا: - انتِ مخادعة، انها رواية عاطفية..

ليس بها ايه وحوش، ترتعبين من مجرد الحديث عنهم...

-من أخبرك، ان الرواية العاطفية ليس بها وحوش..


ان بها الكثيرين، وما اصعب ان تقابل احدهم بحياتك الواقعية...!؟، قالت جملتها فى نبرات واثقة وهى تتطلع الى عمق عينيه..

شعر بحوارهما يأخذ منحنى لا يستطيبه، فقال فى ود: - أرى انك احضرت هدايا للجميع، ألم تنسى، أحدهم..!؟، سأل وهو يقترب منها.


ويسأل متخابثاً فى مرح، لكنها ابتعدت، وهى تشير لهديته الموضوعة بجوار الفراش، فُض الهدية من غلافها الرقيق، وهو يتبادل النظرات بين هديته، وبين من جلبتها لاجله، حتى تطلع لهديته فى امتنان وفرح طاغى، منذ متى لم يمتلك احد تلك الدواين الشعرية التى يحبها، وللشاعر الذى يفضله..


اقترب منها وهى على حالها، لا تعير نظراته اى تواصل، كانت تشعر انه يتجنب الإتيان على ذكر ما رأته وسمعته صباحا فى مكتبه، فيتودد اليها..

أخذها بين ذراعيه، يقبل جبينها فى شوق، تعجبت

كيف يمكنه التلون بهذا الشكل، كيف يمكنه التلاعب بمشاعره يوظفها كيفما شاء، ومع من يشاء..

ليوهمه بما يريد هو فقط، مثلما يفعل معها الان..

لو فى اى وقت اخر، لظنت انه بالفعل يتودد اليها..


وانه حقا، ممتن لانها لم تنساه، بل فكرت فيه، وفيما يحب..

تنحنح، وهو يبتعد عنها، وقال فى لهجة تقريرية: -

-ان المرأة التى رأيتها، فى المكتب اليوم، انها..

-لا عليك، لست مطالب بأخبارى اى من امورك التى تخصك، أليس هذا من بنود   صفقتنا، واذكر انك ذكرتنى ذات مرة، أين موضعى بالضبط من حياتك..

وأشكرك على ذلك كثيرا، لانه وفر علىّ الكثير..

هل هذا صوت الكبرياء الجريح الذى تنطق به الان..


لم ينطق، هو بحرف واحد، وعلى الرغم من رغبته فى تبرير ما حدث بمكتبه، الا انه شعر براحة اكبر عندما أزاحت عنه ذلك الحِمل، والاهم، هو انها لاتزال تظن به سوءاً، تظن انه يخونها، هذا افضل، لها..

فلتظل على ظنها، لتبتعد بقدر ما يمكنها عن تأثيره..

حتى لا يكون الجرح اكبر، والمعاناة أشد، اذا ما أراد الله، لهما الفراق..


-أنتِ على حق، ما من داعٍ، لأبرر أفعالى لأى من كان، انك على حق تماما، نطقها بلهجة ثلجية غامضة، وعلى الرغم من ذلك، فقد شعرت بالغيظ

يتملكها، وكادت ان تنفجرسخطا عليه، فقد توقعت

ان يتمسك بأخبارها عن تلك الحقيرة التى كانت بصحبته

ربما ليدفع عنه تهمة الخيانة، وربما لخوفه من غضبها، والرغبة فى التبرير لارضاءها، لكنه، على العكس، لم يفعل ذلك..


اللعنة على الكبرياء الحمقاء التى دفعتها للتفوه بتلك الترهات عن عدم رغبتها فى معرفة من تكون تلك الغبية، بل انها تريد، وترغب، ويقتلها الفضول

لتعرف كل كبيرة وصغيرة، عن تلك الملتوية التى كانت فى يوم ما، حبيبته، ستنفجر الان، لا..

ليس الان، ابتعدى الان، وحالا، لان الانفجار سيكون عاقبته وخيمة هذه المرة..

كان هو يراقبها من مكانه، ويطالع تغيرات ملامح وجهها، التى أجبرته على التبسم رغما عنه..


ان وجهها، صفحة نقية، شفافة، ناقلة ببراعة لكل ما يعتمل بداخلها من صراعات، وما   يجول بذهنها من خواطر، يطالعها الان، مجسدة على محياها..

استدارت، متوجهة لباب الغرفة، وهى تقول فى

حنق واضح: - على اى حال، لقد اقترب ميعاد جراحتك، وباذن الله سيمن عليك الله بالشفاء، وساعتها، سينتهى كل هذا، وتنتهى تلك الصفقة..

بالخير لكلينا، دون مزيد من المبررات، لأى منا..

واندفعت خارجا، وقد غابت الابتسامة عن شفتيه...


رواية صفقة حب للكاتبة رضوى جاويش الفصل التاسع


-عمليتك الجراحية بعد عدة أيام، فهل انت خائف..!؟، سأل يوسف مقاطعا فى منتصف احد الألعاب الالكترونية، التى كان يستمتع بها، بصحبة محسن

الذى كان يتحين الفرص، ليشاركه إياها..

-نعم، أنا خائف، قالها دون ان ينظر ليوسف، ثم استكمل وهو يستدير ليواجه نظرات الصبى، متطلعا لعينيه مباشرة، خائف جدا، فى الحقيقة..

-اذن لا ضرر من شعور الخوف، بما اننا رجال، أليس كذلك..!؟، استفهم يوسف..


-لا، قالها محسن باسما وهو يداعب رأس الصبى..

لا ضرر على الإطلاق، فنحن بشر على ايه حال..

-انا ايضا خائف، فقد حدد لى طبيبى معاد لجراحتى انا ايضا، لازال هناك متسع كبير من الوقت لأقلق، ابتسم الصبى، لكن، هذا لا يمنع انى خائف..

احتضن محسن رأس الصبى، وهو يربت على كتفه..

مشجعا، وهو يقول له: - اتذكر ما أوصيتك به، من قبل، بشأن مودة..!؟.

صمت الفتى قليلا، يتذكر، ثم هز رأسه ايجابا..


-حسنا، اعتنى بها جيدا، كما وعدتنى، اتفقنا يوسف..!؟..

-طبعا، فهى أختى، وانا أحبها..

-وهى تحبك، تحبك الى الحد الذى لا يمكنك يوما تخيله، الى الحد الذى جعلها تلقى بنفسها فى دوامة

مشاعر، كانت فى غنى عنها، انها تستحق الأفضل

الأفضل فى كل شئ..

استمعت لتلك الكلمات الاخيرة، وهى تقترب من غرفة اخيها، تريده ان يقضى معها بعض الوقت، بدل من وقته الضائع امام تلك الألعاب الالكترونية، الذى اصبح مهووس بها..


كانت يدها على مقبض الباب، فتسمرت مكانها، هل حقا يراها، تستحق الأفضل..!؟.

لكنه الأفضل بالنسبة لها، هو الأفضل، وسيظل دوما

وأبدا، انها تحبه، بل تعشقه، بعد كل ما كان..

بعد صراعات قلبها وعقلها، وقراراتها بالابتعاد، قدر الإمكان، لكنها، لم تستطع، لم تقوى   على مجابهة مشاعرها تجاهه، عندما تراه، تتهدم حصون ثباتها فى ثوان، وتعود سيرتها الاولى معه، انه يأسرها..

يقيدها بأغلال من عشق، لا تستطيع منه فكاكا..


عدة أيام هى كل ما تبقى لهما معا، تحت سقف واحد

حتى يجرى تلك الجراحة..

يا الله، دمعت عيناها، وهى تفتح باب الغرفة، عازمة على مشاركتهم ألعابهم، لن تترك لحظة تمضى

دون ان تكون قربه، ستنسى المها المبرح، الذى يغمر صدرها، عندما تتذكر ما كان بمكتبه منذ يومين

وتتذكر شئ واحد، وواحد فقط، انها تريده فى حياتها.


وتريد ان تُهنأ قربه، بكل دقيقة منحها لهما القدر، حتى إشعار أخر، فما فى الغد، لا يعنيها،    هى معه الان، وقد لا يكون، هناك غدا، فلما لا تعيش معه الابدية فى لحظات، فهى تحبه، ولن تهتم بوقت..

كان ساعات او أيام...

ظهرت عند عتبة الباب، تبتسم لهما فى عشق، فهى الان تطالع أحب شخصين إلى قلبها، فى هذا العالم..

واندفعت، تجرى فى مرح طفولى، قبل ان تنخرط فى مشاعرها، فتدفعها للبكاء، لتضع نفسها، بينهما.


محاولة بالاكراه، صنع موضع لها بينهما..

-أريد اللعب معكما..!؟، قالتها فى لهجة طفلة مشاكسة

تكره الصبية على إشراكها معهم فى ألعابهم..

-أه، لا، هتف يوسف فى حنق، انت لا تعرفين كيفية اللعب، سنضيع الوقت فى تعريفك قواعد اللعبة

- لا يخصنى، أريد اللعب، وانا من سيختار اللعبة التى أفضلها..


-و ايضا تتشرطين..!؟، مازال يوسف على حنقه، وقد افقدته بتدخلها، مشاركة محسن الذى يشتاق لها دوما، والذى كان يشاهد الصراع بين الإخوة، فى

استمتاع وترقب، ودهشة ايضا، فهى المرة الاولى التى يراها فيها، سعيدة ومنفتحة، منذ ما يقرب من يومين، وكأن ما حدث، فى مكتبه وأزعجها...

لم يكن، عجيبة هى، بل استثنائية، فى كل ما يخصها، لقد اشتاق الى حيويتها ومزاجها المرح..

الذى يليق بها كثيرا..


-دعها تختار ما تشاء يا يوسف، لها كل الحق فى الاختيار، كفاها اجباراً، فمن يجربها على ما لا تريد

يدفع الثمن غاليا، صدقنى، هتف بتلك الكلمات، وهو ينظر اليها، وكأنما يوصل رسالة ما، ويبدو انها تلقت الرسالة بذكاء، علم ذلك، عندما وجدها ترفع رأسها، عن ذَر التحكم فى الألعاب، وتنظر اليه..

نعم تلقت الرسالة، لكنها ابدا، لم تستطع فك شفرتها.

ماذا كان يقصد بالضبط..!؟، وهل دفع ثمناً غاليا..


باجبارى على الزواج به، هل هو سعيد لذلك..!؟.

أم انه غير راض عن مستوى الخدمة الذى قدم له..!؟.

زمجرت وهى تهتف: - سألعب تلك اللعبة، وألقت رسائله خلف ظهرها..

فانسحب يوسف للخلف قليلا تاركا، ذراع تحكمه لها..

اما هو فقد قرر منافستها، وبدأت اللعبة..

وابتدأ الصراع، والصراخ يعلو، والحماسة تزداد..


وأخيرا، انتصرت هى، لتملأ الدنيا صياحا، وتشجيعا لنفسها، على ذاك النصر الساحق،   بينما ظل هو يراقبها فى استمتاع والابتسامات تطل من عينيه، قبل شفتيه، حتى هدأت من تشجيعها الذاتي المحموم..

ليهتف يوسف فى محسن: - كيف تتركها تهزمك..!؟.

-انه حظ المبتدأين، يا يوسف، أكد محسن فى هدوء.


-بل قل حظ المحترفين، هتفت هى فى تفاخر، جعل الضحكات تتسرب الى شفتيه، وهو يهمس: - على أى حال، أنا تناسبنى الهزيمة تماما، فالتعيس فى اللعب

سعيد فى الحب..

انتبهت للمرة الثانية، عندما أتاها أشعارا بأحدى رسائله، يدق قلبها، قبل عقلها، لكنها لم تكن رسالة

بل كانت جوابنا، على رسالته السابقة، أحقا كانت..!

تسألت فى شرود، أفقدها التركيز، لتخسر الجولة الثانية، أمامه، لينهض فى تثاقل، وهو يقترب منها.


هامسا: - تعادلنا أخيرا، فكلانا اصبح تعيسا فى اللعب.

وأولى لها ظهره، مغادرا الغرفة، دون ان يكمل جملته، لما لم يكملها، فيقول، وسعيدا فى الحب..

لما..!؟، ظل سؤالا حائرا بلا جواب..


كان يتمدد على سرير المشفى، يسلم جسده، للمحيطين به من ممرضين وأطباء، كل منهم يضع أنبوب ما او يقيس شئ ما، حتى يصبح فى أتم استعداد

لدخول غرفة العمليات، لإجراء تلك الجراحة الدقيقة..

لاستئصال ذاك الورم الذى يهدد حياته..

لم يكن يعنيه ما يحدث حوله، كان عقله وقلبه وروحه

معها، خارج تلك الأبواب، متى سيراها لاخر مرة.


قبل ان يدخل الى حيث المجهول ينتظره..!؟، لكن لا أجابة، عيناه معلقة بباب الغرفة، الذى يُفتح ويُغلق

عدة مرات، فى حركة دؤوب، لا تعنيه، بقدر ما يعنيه، تلك التى تنتظره بالخارج، ويود لو يقفز تاركا

كل ذلك وراءه، سعيا اليها، ليختبئ بين ذراعيها، محتميا بهما، من كل رعبه وهواجسه، لما    لا يدخلوها عليه، لتهدأ تلك النبضات القوية، لذاك القلب الملتاع، والتى يسمعها تدق صدره كالطبول..


وتستكين تلك الروح التى تتعلق بها، ولا ترضى فراقها

فيشعر بالخواء، جثة تنبض بقلب، بلا روح..

كان يرفع رأسه قليلا، لعله يلمح طيفها، لكنه ظل

حبيس هؤلاء الذين يحيطون به، حد الاختناق..

وأخيرا، وضعوه على السرير النقال، ليخرجوه من الغرفة، وصرير عجلات الفراش المتحرك به..

تزيد من وجيب قلبه، المشتاق لمجرد نظرة، قبل الفراق..


وأخيرا، وجدها تندفع اليه، كان هناك الكثير من الوجوه، لكن هو لم يميز الا وجهها وكأنه، لا يرى

من حوله، الا إياها، حتى تكون صورتها هى اخر ما يطالعه، قبل الرحيل، أمسكت بكفه اخيرا

ودموعها لا تعرف للتوقف سبيلا، تشهق فى قوة

وهى تهرول، ملاحقة لسريره، لم يستطع غير

النطق بكلمة واحدة، : - أسف، سامحينى، ما كان لى ان اعرضكِ لكل هذا...


لا تعرف على ما يتأسف، أيتأسف على أجمل أيام عاشتها، منذ ان رحل أبويها..!؟، أيتأسف على ذاك العشق الذى ملأ روحها، وقلبها..!؟، أم يتأسف على

تلك الضحكات، والابتسامات التى منحها إياها، وذاك الدفء، والحنان، بين ذراعيه..!؟.

توقف السرير المتحرك لحظات، حتى يُفتح باب غرفة العمليات

على مصرعيه، فتوقفت هى تنظر اليه فى لوعة..

وهى تهتف اخيرا من بين شهقات دموعها: - أحبك..

عد إلى، أرجوك..


كاد ينتفض عندما سمع تلك الكلمة أخيرا، من بين شفتيها، لكن، أنتزعت كفه، من بين كفها، أنتزاعا، و أغلقت خلف سريره الأبواب..

لتفصله عنها، ربما للأبد..

كان منير يقف، بالقرب منها، يتأكله القلق والتوتر..

على صديق عمره، لكنه يتجلد، من أجل مودة..


التى يراها، فى حال يرثى لها، تقف امام باب غرفة العمليات، لا تتزحزح، عيناها تتعلق، بكل    شاردة وواردة، دخلت أو خرجت، تتمتم، ببعض آيات من القرآن الكريم، وبعض الادعية، أشفق على حالها

فتقدم اليها: - مودة، سيكون بخير، باْذن الله، تعالى

أجلسى قليلا، ستفقدين وعيك بهذا الشكل..

-لقد مرت عدة ساعات، وما من أخبار، ماذا يحدث بالداخل..!؟، فليقل احدا شيئا أكاد أجن..


-تعالى، فلتجلسى قليلا، لم تريحى قدماكِ منذ دخل..

حتى، تناولى قليلا من ماء، أو احضر لك بعض العصير، فوجهك شاحب..

-لا أريد شيئا، لا أريد شيئا يا رب، وشهقت باكية..

لا أريد الا هو، فقط هو..

وتوقفت شهقاتها فجأة، عندما سمعت باب غرفة العمليات، يتحرك أخيرا، لتخرج أحد الممرضات

فتتلقفها مودة فى لهفة حقيقية، : - أرجوكِ، أخبرينى بالله عَلَيْكِ، كيف حاله..!؟.


صمتت الممرضة لحظة، ظنتها مودة دهراً، حتى نطقت اخيرا فى اضطراب: - دعواتكم له، فحالته حرجة، واندفعت مبتعدة، تاركة مودة تكاد تفارقها

روحها، لتظلم الدنيا امام عينيها، وتفقد اى صلة لها بالعالم الخارجى، وهى تسقط فى تلك البئر السحيقة

تسمع من يهتف باسمها، فى ذعر حقيقى..

لكنها، لا تجيب، ولا تريد ان تجيب..

كان يشملها ذاك السكون، والسكينة، التى تفتقدها

ترى كل ما حولها بلون الياسمين، بلون شعاع الشمس.


الفضى، عند الشروق، وهناك، حيث الأفق البعيد

تراه، يقف فى انتظارها، لن تجعله ينتظر طويلا..

فلتذهب اليه، تشتاقه كثيرا، هتفت باسمه عدة مرات

لكنه لم ينصت اليها، كان يتجه فى طريقه، غير عابئ بها، وكأنه يصم أذنيه عن نداءها المتواصل..

أرجوك، أسمع ندائي، أرجوك عد إلىّ..

لم يكن الا التجاهل التام، هو الرد الوحيد الذى تتلقاه.


على نداءها، سقطت، وبكاءها الحار يمزق نياط قلبها، لما كلما أقترب منه، يبتعد هو عنها، وكأنه

سراب، لن تطاله يداها ابدا..

هتفت أخيرا، فى تضرع، بقلب يائس، وروح متضرعة، يااارب، أجعله يسمع، أجعله يعود..

يا رب، قلبى لا يحتمل فراقه، فلا تحملنى ما لا أطيق، وأخيرا، ترفع رأسها المطأطأة فى    خشوع، ليطالعها محياه، وهو يربت على كتفها، وابتسامة رضا على شفتيه..


لتفتح جفونها فجأة، وشخص ما، يهمس باسمها فى تكرار ملح، على مسامعها، ويربت على كتفها، فى حنان، لتستعيد وعيها، بشكل متقطع، ليطالعها..

وجه منير اولا، ثم وجه غريب، لا تعرفه، على يمينها، يبتسم لها فى ود: - أخيرا سيدتى،    استعدتى وعيكِ، أين كنتِ بالله عَلَيْكِ، كان طبيبا من هتف بتلك الكلمات، لكن ماذا يفعل هنا..!؟، ولماذا هى ممدة على هذا الفراش، ومنير يقف ينظر اليها فى قلق.


وجهه شاحب، والقلق يتأكله، وأخيرا استعادت وعيها بشكل كامل، دفعة واحدة، لتتذكر محسن..

لتقفز من مكانها، تريد الاندفاع حيث غرفة العمليات

لتطمئن عليه، وهى تهتف باسمه..

لكن الطبيب كان اسبق لها، ليعيدها مرة أخرى لتتمدد على الفراش، وهو يقول فى حزم: - لا، لا حركة الان، حتى تستعيدى وعيك تماما، ونطمئن عَلَيْكِ..

وعلى طفلكِ..

-طفلى..!؟، سألت فى ذهول، أى طفل..!؟.


-ألا تعرفين، سأل الطبيب، أنتِ تحملين طفلا عمره الان عدة أسابيع، مبارك..

طفقت الدموع من عينيها فجأة، وهى تتحسس بطنها

فى فرحة طاغية، وهى تهمس، طفل محسن، نعم

انه، طفله، طفلنا، وبدأت الدموع فى الانهمار من جديد..

كان منير قد غادر الغرفة، ليطمئن على محسن، ويرى ما ألت إليه أمور الجراحة، وتركها بين يدىّ الطبيب..

وعاد، وهو يحمل البشرى، عندما دخل غرفتها..


وهو يهتف فى سعادة: - لقد نجحت الجراحة، لقد نجحت الجراحة، يا مودة..

-حقا..!؟، هتفت فى عدم تصديق، حقا هو بخير..!؟

-نعم، والأطباء فى سبيلهم لإخراجه، احدى غرف العناية الفائقة، حيث سيظل هناك، ويتابعوا حالته..

حتى يستفيق، ويعود إلينا، باْذن الله..

لم تنطق بحرف واحد، فقد تذكرت فجأة ذاك الحلم العجيب، الذى رأته، وهى غائبة عن الوعى..

فرفعت عينيها، فى امتنان للسماء، ولم تسعها الكلمات.


فتركت قلبها، يفيض بما، عجز عنه لسانها..

مرت فترة الخطر، وانتقل محسن من عرفة العناية الفائقة، لغرفة أخرى، كان من المنتظر، والمتوقع

ان يستعيد وعيه فى أيه لحظة، لكن ذلك لم يحدث

رغم تأكيد كافة الأطباء، انه بخير، وكل مؤشراته الحيوية، تعمل بشكل جيد..

كان القلق يتأكلها، والتوتر يكسوها، فى كل تصرفاتها، لما لم يستعيد وعيه للأن، هل هناك خلل ما، كانت منذ اللحظة الاولى، بجانبه، لم تترك كفه.


لحظة واحدة، لكنه، لم يعود، ظل ساكنا، لا تسمع الا نبضات قلبه، عبر مؤشرات تلك    الأجهزة الطبية الموصولة بجسده، والتى لم تكن تثق بها، فتضع كفها على صدره، لتطمئن ان قلبه لايزل نابضا..

وجهه الشاحب، لازال ساحرا، يفتقد فقط لنظرات عينيه، التى تكمل تلك اللوحة الرائعة، لمحياه الذى تعشقه، فمتى تتكحل عيونها برؤية تلك العيون الصارمة، الحالمة، مرة أخرى..

مدت يدها لتحتضن كفه، ثم تنحنى فى تضرع، تلثم.


وجنته، وتبدأ فى تبادل حديثها اليومى معه، فقد كانت

تعامله، وكأنه واعى لكل كلامها، فتقص كل ما يخطر على بالها، من أحاديث، واليوم لم يكن استثناءا..

: - محسن، كيف حالك اليوم..!؟، أعرف انك بخير.


وأنك ستعود إلىّ قريبا، أقصد لكلينا، ووضعت كفه بالقرب من بطنها، وهى تبتسم فى حبور، نعم، لكلينا، انا وابنك، ننتظرك، كنت أريد ان أجعل هذا الخبر الرائع، أول بشرى لك، عندما تستعيد وعيك، لكن، لم استطع ان أستأثر بالفرحة دونك، سيكون لنا طفل محسن، طفلنا، أليس هذا رائعا..!.

انه فى انتظارك، يتمنى ان يسمع صوتك، ويشعر بلهفتك فى انتظاره، وتكون أول من يحمله بين ذراعيه

عندما يصل لعالمنا..


شهقت رغما عنها، وهى تتطلع للجسد المسجى بلا حراك، ودون أى استجابة، سحبت كفها من احضان

كفه التى لم تعترض كعادتها، عندما كانت تبتعد عنه..

وتوجهت، بكليتها لربها، تجيب نداء الصلاة..

انتهت، وظلت على حالها، تتضرع لله أملا، ورهبة

ورغبة، فى عظيم كرمه، وفيض عطاءه..

تطلعت لمحسن من جديد، وعيونها تحمل كل شوقها

وعشقها، لتعود فتحتضن كفه من جديد..


-أشتاق إليك كثيرا، فمتى تعود..!؟، غامت عينيها بالدموع، وهى تسأل، ولا مجيب..

-حقا..!؟، كان ذلك صوت متحشرج، خارج من أعماق سحيقة، وبجهد مضنى..

مسحت دموعها فى عجلة، ولهفة، وهى تتطلع لمحسن

الذى فتح جفونه، بتثاقل،    وبالكاد صوته، يخرج من حنجرته..

-هل تحدثنى حقا، أم أننى أهزى..!؟، سألت وهى تضحك وتبكى فى نفس ذات اللحظة..


-لقد عدت، أجاب فى تثاقل، وهو يجيب بنعم مغلق جفونه، ثم يفتحها من جديد وعلى شفتيه ابتسامة واهنة، عدت من أجلكِ..

انفجرت فى بكاء عاصف، وهى تندفع تلثم كفه عدة مرات، فى هيستريا، ثم تتركه، وتجرى لتصرخ كالمجنونة، خارج باب غرفته، لتستدعى الأطباء المشرفين على حالته..

لحظات، وكانت الغرفة، تعج بالأطباء والممرضين

وهى تنزوى فى احد أركان الغرفة، تطالعه من بعيد.


وقلبها يقفز فرحا، وروحها ترفرف فى سعادة، وتحلق منتشية حوله، عيونها لا تفارق محياه، متعلقة بعينيه التى مازال بريقها يأسرها، تتمتم فى امتنان محموم، كلمتين فقط، الحمد لله..

واخيرا، انفض الأطباء من حوله، واحد تلو الاخر، مع إعطاء التعليمات التى يجب اتباعها..

ظلت ساكنة، لم تتحرك، وكأن قدميها ضربت لها جذور فى الارض، ولسانها لا ينطق حرفا واحدا..

تنظر فى وله تجاهه، وعيونها تنطق بشوق قاتل..


يضنيها لعينيه، كان الصمت بينهما، صمت مشحون بالف معنى، صمت اكثر صخباً من كل كلمات العالم

ولكن، لم يدم هذا الصمت طويلا، فلقد سمعا طرقات متعجلة على الباب، واندفاع صاروخي    لمنير، وهو يهتف فى فرحة غامرة، وعيناه تكللها الدموع: - أخيرا عدت، حمد لله على سلامتك، ليندفع مقبلا، جبين

صاحبه، الذى مازال محاط بعصابة من الشاش الأبيض الطبى..

ربت محسن على كفه فى سرور لرؤيته، أخيرا..


-مبارك سلامتك يا صديقى، ومبارك خبر القادم السعيد، هتف منير

-القادم السعيد..!؟، من تقصد..!؟، سأل محسن بتعجب، جعل منير يتنبه لعدم معرفة محسن حتى الان، بخبر حمل مودة لطفله، فاستشعر الحرج، وهو ينظر

باتجاه مودة معتذرا، فوجدها، تنظر للأرض فى خجل، لا تعرف ماذا تقول، وكيف تواجهه، بنظراتها

وقد حول محسن رأسه فى بطء اليها، متسائلا...


-يبدو أننى لن استطيع التحكم فى لسانى ابدا، انا اسف، كنت اعتقد ان مودة أخبرتك، بخبر مولدكم القادم..

سأصبح عماً، قريبا باْذن الله، هتف منير محاولا بث جو من المرح فى الغرفة، بعد تصريحه النارى..

تنبه محسن، فالتفت اليه من جديد، وهو يبتسم فى وهن، وحول دفة الحديث، لمواضيع اخرى تخص العمل، والشركة، حتى أستأذن منير، مودعا كلاهما...

ظلت مودة على حالها من الصمت المربك الذى شملها.


منذ اعلان منير المدوى، وها هو ينظر اليها الان..

أشار اليها بالاقتراب، وعينيه تحمل تساؤلات عدة..

لم تكن تستطيع الاقتراب، وكأن قدمها، أرست لها أساس فى الارض، لا تزحزح، واخيرا، انتزعتها وتقدمت فى بطء حتى اصبحت فى مواجهته، على الجانب الآيسر من الفراش، فمد يده لها، كعادته، لتضع كفها فى احضان كفه، بشوق مكسو بالترقب..

-لما لم تطيعى امرى، ألم نتفق على عدم الإنجاب..!


كان الان ينظر الى عمق عينيها، وهى لا تستطيع ان تكذب امام هذا البريق الناعم المنساب  من عمق تلك العيون والتى اشتاقت ليال طويلة لنظرة منهما...

كيف تخبره، انها تعمدت الحمل، لانها كانت تريد نسخة اخرى منه فى حياتها..

-أنا، أنا أسفة، جذبها لتقترب اكثر، حتى وضع يده على بطنها فى فرحة طاغية، وهو يقول فى رضا تام.


وعيونه تجول مشتاقة لكل لمحة من ملامح ذاك الوجه المحبب، : - لكن انا لست أسف، أه يا حمقائى الرائعة، أه لو تدرين..!؟..

طلت من عيونها الشقية، تلك النظرات الفضولية التى طالما ذاب فيها، تتسأل، فأشار اليها، حيث صدره

لتقترب بأذنها، واضعه إياها، فوق قلبه الخافق..

لتلتفت يده حولها، محتضنة إياها، لتصير الان بين ذراعيه، تستكين على صدره، الذى اشتاق لوجودها بين أضلعه، كشوق الصحاري، لموسم المطر..


-ألا تسمعين، انصتى جيدا، هناك من يناديك ِ، فلما لا تلبى، هناك من غامر بين فكى الموت، حتى يعود إليكِ، أملا فى الحياة بين ذراعيكِ، أحقا، لا تسمعين، نداءه، يا حوريتى، يا حورية المطر..

رفعت رأسها مصدومة، تنظر الى عينيه المضطربة

وهى تهمس مشدوهة: - أنا، تقصدنى انا بحورية المطر..!؟.

-نعم، وابتسم فى عشق، انها انتِ، حورية المطر ذات المعطف الوردي، التى خطفت قلبى، منذ رأيتها.


للمرة الاولى، تستقبل الأمطار، تحت نافذتى..

وكم تمنيت ان أحظى باستقبال مماثل، لأعيش عمرى كله بين ذراعيها...

انها لا تصدق، كل ما يقوله، لها، ومن اجلها، هى فقط.، فعادت من شرودها، لتسأل فى ترقب.


مضطرب: - ولكن ما رأيته فى مكتبك، قاطعها فى ود متفهما حاجتها لدرك اى شكوك تعتريها،     : - لا، ليس هناك شئ يخصنى، يعنيها، الا المال، بالطبع، فغرت فاها، مشدوهة وهو يكمل، يومها جاءت تحاول استعادة ما كان، عندما علمت بشأن مرضى..

كانت تترقب موتى، لا اكثر، وتنتظر غنيمة سهلة.


من أموالى، تلك التى لم تكفيها فى السابق، ولم يكفيها قلبى، لتهجرنى من أجل رجل أغنى، يستطيع إشباع نهمها للمال، دون قيود العاطفة الخانقة من وجهة نظرها، تنهد فى ارتياح، بعد ان ألقى كل ما بجعبته، وهو يتذكر ماضيه معها، وعيونه شاردة لنقطة بعيدة، واخيرا، عادت لعيونه صفاءها..

وهو يعاود النظر لمودة، ويقول فى شوق: - اما انت، آآآه، منكِ انتِ، لا أعلم ماذا فعلتى بى، وبقلبى..


قلبتى موازينى، اخرجتنى عن طورى، قمت معكِ بأمور ما كانت فى حسبانى، كنت اصحو وأنام، أهزو

باسمك، مودتى، لم أكن أتمنى شيئا فى حياتى، الا ايام أخرى، يمن بها الله علىّ، حتى انعم فيها بقربك

، انت بدمى، تتسكعين ما بين اوردتى وشرايينى، انتِ مخلوطة بروحى....

سالت دموعها، انهارا عند اعترافه، دموع مشوبة بالفرحة، والسعادة، التى اخيرا طرقت باب قلبها..

وغلفت روحها، التى ترقبت وصولها طويلا...


تقف على اعتاب الحلم والأمنية، واخيرا، ها هى السعادة، جاء دورها أخيرا، لتنهل منها..

استطرد هو، وهو لازال تحت تأثير اعترافه الذى

أفضى به اخيرا. : -أحبك، فحبك، وكأنه ميلاد جديد، حب لا يحدث الا مرة واحدة فى    العمر، عشق لا يتكرر، لامرأة استثنائية، لا يمكن ان تكون الا هدية ربانية، لأمثالى ممن انقطع بهم الامل، فى الحب، فى الوفاء، و فى الحياة نفسها..


فهل أطمع يا سيدتى، بالقدر الكثير من مودتك، واللانهائى من حنانك، والابدى من عشقك..

ذاك الصمت الذى غلفهما، كان ابلغ من آلاف الكلمات

صمت صاخب، تسمع بين طياته، انفجارات وشرارت الفرحة، تعلو كألعاب نارية، فى سماء

الغرفة، ونظرات عينيهما، تتبادل حديث عشق

لا ينتهى، واخيرا، نطقت هى فى ولة، : -.


-أوافق، بالطبع أوافق، هو يمد كفه لمحو دموعها من فوق خديها، وهى تستطرد، لكن هذا ليس ضمن بنود صفقتنا، سيدى..!؟، استكملت مازحة...

-حسنا، قال متظاهرا بالتفكير فى مرح، فليكن اذن

عقد مدى الحياة، وتعالت ضحكاتها، ليكمل فى ولة

عقد اول شروطه، ان احبك حد الثمالة، وان أعشقك ولا اكتفى، وان أريدك بكل ذرات كيانى، عقد، بطعم

الشوق إليك، والرغبة فيكِ، والتورط فى عينيك حد الضياع، والإبحار فى حبكِ، حد التيه..


تلجم لسانها امام هذا السيل الجارف من المشاعر الصادقة، ولم يستطع لسانها الا النطق بكلمة واحدة

أودعتها كل عشقها: - أهواك، يا عمرى..


                     الفصل العاشر من هنا


لقراة باقي الفصول من هنا


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-