أخر الاخبار

رواية وجلا الليل الفصل الثامن والتاسع بقلم زكية محمد


 
رواية وجلا الليل

بقلم_زكية_محمد

الفصل الثامن والتاسع


ما إن سمع بوقع خطواتها، رفع بصره بفضول يقتله منذ البارحة، يدفعه لمعرفة من تلك التي وضعته في هذا المأزق، وحشرته في زاوية لا فرار منها، ضغط على فكه حتى أحدث صوتًا، وقعت عيناه الملبدة بغيوم الغضب العاصف، والذي إذا سقطت أمطاره ستودي بحياتها، لم يهتم بهيئتها بقدر شعوره بالرغبة العارمة في شق رأسها، لعن الظروف التي وضعته في الموقف برمته، ولكنه المخطئ الأول وكل منا يجني ما زرعه .


تحدث "عامر" بنبرة هادئة حينما رأى الذعر يتشكل على قسمات وجهها :- قَربي يا بتي تعالي أقعدي چاري إهنة .


سارت نحوه بخطوات شعرت وكأنها تسير أميال، جلست على مقربة منه باستحياء، وتطلعت له بعينيها البنية الواسعة المنتفخة من أثر البكاء .


هتف بحنان وهو يوجه حديثه لوالدتها بعتاب، ما إن رأي آثار الضرب بينة على قسمات وجهها :- بردك إكدة تضربيها يا عطيات ! 


أردفت بحنق وهي ترميها بوابل من قذائف الكمد :- ولو طولت أقتلها واخلص من العار اللي لبستهولي مش هتأخر يا حچ .


زفر بضيق قائلًا :- طيب شوفي يا عطيات أنا مرضاش بالفضيحة ليكم واصل عشان إكدة خالد هيتچوز بتك آخر الشهر  .


طالعته بصدمة قائلة بذهول :- كيف دة يا حچ ؟! أنا مفهماشي حاچة واصل .


استرسل بهدوء :- اللي سمعتيه، بس في حاچة لازمًا تعرفيها لحد ما معاد الفرح ياچي إن شاء الله.


ثم قص عليها ذلك الاتفاق الذي حدث منذ لحظات فأومأت بموافقة وهتفت براحة :- ربنا يخليك يا حچ ويچعلك في كل خطوة سلام يسترك دنيا وآخرة كيف ما سترتنا.


أردف بود :- يلا خُشي وخدي بتك وبلاش تقسي عليها اعتبريها وَزْة شيطان وراحت لحالها .


ثم نظر لوجد قائلًا بعتاب :- وأنتِ يا وچد يارب تكوني اتعلمتي من غلطك واستفدتي .


هتفت بنبرة انكسار :- والله يا حچ أنا م......


قاطعها قائلًا :- خلاص يا بتي إحنا مش هنفتح في القديم خلينا في دلوك قومي مع أمك وچهازك بكل حاچة أنا هچبهولك متحملوش هَم .


هتفت بضعف :- ربنا يخليك يا حچ .


أخذتها والدتها وانصرفت للداخل بينما هتف خالد بحنق :- ها يا أبوي خلاص كل حاچة إكدة تمام ؟


أردف بغيظ :- أيوة يا خالد لإني خابر زين إن البت ما عملتش إكدة برضاها ووشك أكبر دليل .


مسد الخدوش التي بوجهه بحرج ثم نهض قائلًا  بغضب مكتوم :- طيب أنا ماشي  رايح العيادة .


انصرف بسرعة الرياح العاتية، لا يعرف بأي وجه سيواجهها، تلك التي قطع الوعود معها بأن تكون ملكه، لتأتي أخرى دون أن يحسب لها حساب، وتحتل مكانها لطالما أخبرها مرارًا بأن لن تأخذ محلها أخرى، بينما هتف الجد بتمني :- يا رب تكون توبتك على يدها يا خالد وتحترم حالك بدل الصرمحة اللي أنت فيها دي .


★★★★★★★★★★★★★★★


بعد أربعة أيام يجلس كالطائر الذبيح، يحلق وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، يا ليته يعلم بمكانها لذهب وانتشلها وإن كانت في منتصف المحيط، أتى والده الذي لم تختلف حالته عنه، حيث أنهكه الحزن على ابنته، جلس إلى جواره وردد بوهن :- قوم يا طايع أعمل اللي هو رايده، خلينا نطمن على خيتك اللي مخبرينش عنها حاچة دي .


رفع عينيه واللتين كان الجحيم متمثلًا بداخلهما، وهدر بعنف :- أطاطي لسالم وولده يا أبوي ! هي دي أخرتها ؟ بقلم زكية محمد


ردد بقهر وخوف ينهش جدران صدره على ابنته :- يا ولدي مفيش حل تاني غيره، ولا أنت مخايفش عليها.


نهض وقد نفرت عروقه، وكادت أن تنفجر محدثة جلبة عنيفة، أردف بغيظ :- وهو مين اللي چابلنا الحديت دة كله مش هي ؟ 


تحدث بنبرة لينة ليستعطفه :- معلش يا ولدي، لما تاچي أعمل فيها ما بدالك بس تبقى إهنة چارنا، بدل ما هي بعيدة ومخابرينش عنها أيوتها حاچة .


زفر بضيق في بالأخير هي شقيقته، وإن ظن والده أنه لا يخشى عليها، فهو مخطئ فنيران الوجل تحرقه، ولكنه في منتصفها حائر بين أن يختار أخته، أم يختار هيبته التي ستُدعس على يد " سالم" وابنه، حينما يفعل ما طلبه منه، خرج صوت ملتاع بداخله يخبره عن أي شيء يفكر فشقيقته في المقام الأول، نظر لأبيه وتابع بحسم :- خلاص يا أبوي هعمل اللي رايدينه أهم حاچة أرچع خيتي .


لاحت ابتسامة خفيفة لم تزوره منذ أن رحلت عن المنزل، وردد بود :- هو دة ولدي، ربنا يكملك بعقلك أنتوا ملكوش غير بعضكم في الأول والآخر .


هز رأسه بموافقة يؤكد حديثه، وما يفعلانه أكبر دليل على أنه هو المذنب، توجه للمحكمة برفقة والده فاليوم النطق بالحكم، وسيغير أقواله وهو مستعد لتوابع ذلك .


///////////////////////////////////////////////////////////


ليلًا كان المنزل يكتظ بالجموع التي أتت للمباركة لابنه، بعدما خرج من السجن ليدلف الآخر يُعاقب بضعة أشهر، على شهادة الزور_ التي هي بالحقيقة شهادة حق _  والتي ما قالها إلا لينقذ شقيقته، كانت الغبطة تغرق " زبيدة" برجوع ابنها سالمًا لها، فكانت تقدم المشروبات والمأكولات بسخاء للحاضرين، والذين ما أتوا إلا ليشبعوا بطونهم . 


يقف يهز قدميه بعصبية مفرطة بالخارج، بعد أن فهم كل ما يحدث فأفعال عمه الدنيئة وكذلك نجله، زجت بصديقه للسجن، ما يستحق أبدًا ذلك فهو على تمام المعرفة به، وكل ذلك بسبب خطأ شقيقته الفادح الذي تكبد بكل ذلك العناء، سحب شهيقًا طويلًا ليأتيه صوت من خلفه مرددًا بمزاح :- وه مالك يا مؤمن إكدة ؟ كأنك أنبوبة بوتچاز وهتهب في وش الواحد .


لوى شدقه بتبرم، وهتف بكمد مكتوم :- مفيش حاچة يا خالد، متضايق بس عشان زميلي اللي أتسچن ظلم دة،الود ودي أروح أحش رقبته ورقبتها والله ما يستاهل واصل يبات يوم في الحچز .


أردف بشفقة وتعاطف :- يلا محدش بيهرب من نصيبه .

قالها بسخرية مبطنة وهو يقصد ذاته، قبل أن يرميها لزميله، بينما ردد الآخر باختناق :- أنا طالع برة الدار على ما الهيصة دي تفض، بلا خنقة !


تركه وانصرف بغيظ، بينما تطلع الأخير نحوه بحذر، يخشى أن يلقاها ولو بمحض الصدفة، ليس لديه شجاعة للمواجهة الآن، بعد أن وضعه والده في موقف يحسد عليه، استدار ليختفي هربًا منها إلا أن سفنه لم ترسى عند مرفأه الذي يرغب به، بل عصفت به الريح وجعلته يتخذ مسارًا آخر، حينما وجدها ماثلة أمامه تطالعه بنظرات حانقة ملتهبة بنيران الغضب، ازدرد ريقه بصعوبة وكأنه طفل صغير في انتظار عقاب أبيه، ابتسمت بسخرية، ووضعت يدها في خصرها قائلة باستخفاف :- يا أهلًا بعريسنا !


مسح بكفه الغليظ على وجهه بنفاذ صبر، أكان ينقصه حديثها اللاذع ذاك ؟ هتف بنبرة جاهد أن تكون هادئة :- يا نورا أنتِ مفهماش حاچة .


رددت بتهكم واضح :- تصدق صُح !  طيب ما تفهمني أنت الحقيقة، الحمد لله ربنا كشفك ليا قبل الفاس ما توقع في الراس .


أنهت كلماتها وهمت بالذهاب إلا أنه أعاق حركتها، حينما جذبها من ذراعها قائلًا بغيظ :- نورا أعقلي إكدة واسمعيني، مكنتش واعي للي چرا .


سحبت ذراعها منه، ورددت بغضب :- مليش صالح كل واحد بيشيل شيلته، هملني لحالي .


أردف بألم يعذب نطفته التي تقبع في أضلعه :- أهملك ! بعد كل دة وبتقوليلي هملني ؟ 


ربعت يديها قائلة بخيلاء :- أيوة تهملني، هو أنت مفكر إني هربط حالي بواحد هيتچوز كمان أيام ! لاه دة أنا نورا يا واد عمي اللي زي الفريك مبحبش شريك . بقلم زكية محمد


أردف بلهفة :- هطلقها بس بعد ما الحديت يسكت والناس تبطل رط .


رفعت حاجبها باستنكار وتابعت بخبث :- لاه مينفعش الحديت دة وياي، يا تهملك منيها البت دي، يا تنسى إن حداك بت عم اسمها نورا .


أنهت كلماتها وهي ترمقه باحتداد، فلقد باء مخطط والدتها بالفشل في الإيقاع بين الإخوة، استدارت ورحلت والغضب كالطير يحوم فوق رأسها، بينما زفر بموجدة ونشب حريق هائل بصدره، حتى كاد يصاب بالاختناق فخرج هو الآخر ينفث عن كمده .


في ركن بعيد عن تلك الضجة، اجتمع بابنه على انفراد، نظر حوله بأعين ذئب حذر، مشط المكان بعينيه قبل أن يهتف بصرامة وجدية :- بص يا راضي تهملك واصل من الحريم وشغلها ما بيچيش من وراهم غير الغم، لازمًا تفوقلي إكدة وتصحصحلي.


هتف بانتباه شديد :- خير يا أبوي .


أردف بحذر وخفوت :- الأيام اللي چاية عينك تكون وسط راسك، الزرعة خلاص قربت تتحصد عشان تتباع، رايدين ناخد حذرنا وخصوصًا عمك وعياله اللي طبوا علينا كيف القضا المستعچل .


أومأ بفهم وردد بثقة :- متخافش يا أبوي هنخلوا بالنا زين، متقلقش .


أردف بهدوء :- تمام انت ولدي اللي محدييش غيره،  أنت اللي هتبقى خليفتي رايدك تشرب الصنعة زين .


ابتسم له بطمأنينة قائلًا :- ربنا يديك طولة العمر يا أبوي، متخافش دة الصنعة ساهلة ورايدة دماغ متفتحة وبس .


نهض وردد بهدوء :- طيب يلا بينا نعاود وسط الناس عشان مياخدوش بالهم .


بالداخل وبالتحديد بالمطبخ، حيث تجلس بإحدى زواياه، تتطلع أمامها بشرود وكأنها نسجت عالماً آخر لها، تهرب فيه من هذا الواقع، تساءلت بداخلها لم لا تشعر بالبهجة، وهي ستقترن به ؟ لم ما عاد لها شغف في رؤيته ؟ خيم الخوف منه على جدران فؤادها، يا للعجب أبعد أن كانت تقف بالساعات دون كلل تنتظر رؤيته، أصبحت الآن تتحاشى كل شيء يذكرها فقط به، لمعت الدموع بعينيها على ذلك الجرم العظيم الذي أُلصق بها، وما هو إلا بهتان كبير، هي بريئة منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب .


تقدمت منها والدتها التي هتفت بسخرية :- موقفاش تطلعي على الچدع زي عادتك يعني ! زهقتي ولا خلاص مبقاش حلو دلوك ؟


جذبتها من موجة التيه التي كانت تغرق في منتصفها، ورفعت مقلتيها المتورمة الدامية نحوها، وهتفت بصوت وهن يكاد يكون مسموع مختلط بوجع :- بزيداكِ يا أما حديتك بيقتلني الله يرضى عنك . 


مصمصت شفتيها بسخط قائلة :- طيب زين أنه بيقتلك يعني لساتك بتحسي، طيب ما تحسي بالمصيبة اللي غرقتينا فيها دي يا شيخة، روحي يا وچد قلبي غضبان عليكِ ليوم الدين .


مسكت يدها وجلست أرضًا ورددت برجاء ملح :- لاه يا أما أحب على يدك متقوليش إكدة، أنا مليش غيرك والله، من وقت ما وعيت ع الدنيا وأنا مخبرش غيرك، خلينا نمشي مريداش أتچوزه . 


جذبتها من شعرها الذي يغطيه وشاحها بعنف قائلة بغضب :- رايدة تفضحينا بعد ما الراچل هيستر عليكِ، مش دة اللي كنتِ بتقعدي لنصاص الليالي في الشباك عشان توعيله ؟ دلوك بقى كُخة ! 


أردفت بدموع غزيرة تتساقط على وجنتيها فغمرتهما بالمياه بعد أن فاضت :- والله يا أما ما حصل بيناتنا حاچة دول كدابين .


اتسعت عيناها بذهول قائلة وهي تشير على دليل ما يثبت صدق حديثهم :- ودة جه من وين ؟ لما هما كدابين ! يا خسارة يا وچد يا خسارة، منك لله كسرتيني وحطيتي راسي في الطين وسط الخلق، مخبراش اتحدت وياهم لما بيبصولي إكدة، قتلتيني بالحيا يا وچد .


هزت رأسها بنفي قائلة بتأكيد :- والله يا أما كيف ما بقولك، طيب لو ممصدقاش نروح للحكيمة وساعتها هتعرفي إني ما بكدبش واصل، أحب على يدك يا أما بلاها المعاملة الشينة دي، رايدة تاخديني في دراعاتك طمنيني يا أما أنا خايفة .


دفعتها بقوة قائلة وهي تحارب شعورها الداخلي، الذي يود ضمها بقوة يحميها من العالم بأسره، ولكنها تظاهرت بالجمود فما فعلته ليس بهين ورددت بقسوة :- تستاهلي اللي بيشيل قِربة مخرومة بتخر على راسه .


تركتها وغادرت وهي في أمس الحاجة لها، احتضنت نفسها تحاول بث الطمأنينة بداخلها، بعد أن هرب الأمان من دروبها بعد فعلته ومن نظراته في ذاك اليوم، والتي لو كانت رصاصًا لقتلتها في الحال حينئذ، أخذت تفكر دون هوادة بما ستفعله، فهي ضائعة في طريق دلفته دون أن تحسب له . 


وفي مكان آخر حيث هي، تقبع بين ذراعي والدها تبكي بحرقة، وبعد ماذا فما عاد الندم ينفع بعد ذلة قدم صاحبه، عضت على أناملها بندم ودت لو يعود الزمان، يقلص فترته فما كانت ستفعل ذلك، فها هو أخيها يدفع ثمن أخطائها، ربت والدها على رأسها بحنو، فهي مازالت صغيرة وعدم وجود أم أو شقيقة تنصحها، ربما أثر ذلك عليها فلكل حصان كبوة، هتف بهدوء :- بكفياكِ يا ملك بُكا عاد، بزيدانا هم أخوكِ دلوك .


هتفت بصوت متحشرج :- لاه يا أبوي، خوي في الحچز بسببي يا ريتني موت ولا حصل اللي حصل .


نهرها بعنف مرددًا بوجل :- وه ! وأنا أروح وين من بعدكم لما رايدة تهمليني، غلطي يا ملك غلط واعر . 


ابتعدت قليلًا لتكون في مواجهته، وشرحت له كل شيء والسبب الذي قادها لفعل ذلك، وما إن انتهت أردف بلوم :- وهو عشان تغظيها تعملي عملتك دي ! لاه يا ملك بردو مش هيشفعلك غلطك، تقدري تنسي الناس طيب بلاها دي، تقدري ترچعي ثقتي وثقة أخوكِ فيكِ تاني ؟ 


طالعته بصدمة جلية على محياها، الذي ذبلت ملامحه :- كيف يا أبوي ؟ 


نظر أمامه وردد بجمود :- يعني تنسي إنك تطلعي تاني من الدار غير على بيت عدلك غير إكدة ميلزمناش .


هوى قلبها تحت قدميها، وشعرت بتيار ماء جارف جذبها معه نحو الهلاك، أحلامها أضحت غبار لا قيمة لها ؟ لا لا لن يحدث ذلك أبدًا، يا الله ما الذي اقترفته لتنل هذا ؟ أيتها الغبية ألا تعلمين ؟ 

سحبت كف والدها وأخذت تقبله مرارًا وتكرارًا قائلة بهلع :- لاه يا أبوي أعمل أيوتها حاچة، بس إلا العلام يا أبا أحب على يدك متقتلنيش بالحيا، والله ما هعمل إكدة تاني واصل خلاص اتعلمت يا أبوي .


هز رأسه بأسى وتابع بنفس الجمود :- معادش ينفع دلوك اعتذارك يا ملك، كأنك بتقولي يا كوباية يا اللي اتكسرتي عودي من تاني .


انخرطت في نشيج حار، وهو يراقبها ما بين قلب لين وعقل عاص يعنفه، ويخبره بأن ما تفعله هو الصواب .


**********************************


بعد يومين ذهب فيه بهدوء برفقة والده وأشقائه اللذان شهدا على عقد زواجه، ووالدتها ووالدته حتى لا يثيروا الجدل، ويكونوا صادقين في حديثهم الذي ابتدعوه ليصمتوا ألسنتهم، بعد أن انتهوا عاد كل منهم إلى وجهته.

ليلًا ظل يذهب ويجيء بداخل غرفته، يود تحطيم ما بداخلها لعله يطفئ ألسنة اللهب التي اشتعلت بخلاياه، ابتسم بسخرية أبعد كل ذلك يتزوج بهذه الطريقة، من فتاة لا يعرف عنها أي شيء، حتى أنه لا يتذكر ملامحها في المرة التي رآها بها، شعر بأنه على شفا جرف هار من الجنون، وسيسقط في أعماقه يغرق به، نزل مسرعًا للأسفل في طريقه للإسطبل، ولكنه توقف حينما سمع صوتًا يأتي من المطبخ، فتوجه ناحية الصوت وما إن دلف وجد جسدًا صغيرًا لا يتبين ملامحه، من الظلام الذي يغطي المكان إلا من بعض ضوء القمر الذي تسلل من النافذة، وألقى بأشعته الهادئة على الظلام . 


شعرت بالعطش الشديد بعد ساعات قضتها في النحيب، فتحت البراد وتناولت زجاجة مياه وارتشفت منها حتى ارتوت، وما إن استدارت لترحل وجدت جسدًا يقف على مقربة منها، أطلقت صرخة مدوية كان نصيبها أن توأد عندما كمم فيها بيده، وألصقها بالجدار هامسًا بغل وغضب مكبوت :- اكتمي بدل ما أقتلك وأتاويكي في الچبل .


اتسعت مقلتاها بذعر، حينما استنشقت رائحته التي تعرفت عليها فورًا، ارتجف سائر بدنها وأخذ صدرها يصعد ويهبط بعنف، تطالعه برعب وذكريات تلك الليلة تجوب بعقلها، خشية أن يكرر ما فعله مسبقًا .


شعر برجفتها تحت يديه، واستطاع رؤية الوجل المشكل بحدقتيها على ضوء القمر، بينما هتف هو بسخرية :- وه بتترچفي ليه ؟ مش دة اللي أنتِ رايداه ؟ 


هزت رأسها بنفي وهي تعلن قلبها الذي فكر فيه يومًا، ليتابع هو بقسوة وهو يضغط على ذراعها الغض :- مين اللي سلطك علي يا بت أنتِ ؟ ها انطقي .


أحدثت همهمة غير واضحة، فأبعد يده فقالت بخفوت وتلعثم :- محدش زقني عليك، نصيبي الأغبر اللي وداني عند الخيل في الساعة دي .


رفع حاجبه باستنكار قائلًا بازدراء :- بقولك إيه شغل التلات ورقات دة ميخيلش علي، لو مقولتيش مين اللي وزك علي هوريكِ أيام أسود من شعرك .


ألجمتها الصدمة وهي تطالعه بعدم تصديق، صحيح المظاهر خداعة، أذلك هو الذي هامت به عشقًا ؟ أهو نفسه من يقبع أمامها ؟ شعرت بنصل حاد يمزق ضلوعها بحدة دون شفقة، نزلت دموعها ترثي الحلم الضائع الذي نسجته في مخيلتها، لتستيقظ على واقع مرير وموجع .


شهقت بألم حينما غرس أظافره بذراعها مجددًا وأردف بفحيح :- انطقي وقولي مين اللي زقك ؟


أردفت بمرار :- محدش زقني محدش، رايد تصدق صدق مرايدش براحتك .

صمتت لتتابع بكذب، فيكفي كرامتها المهدورة لتضيف المزيد من الوجع عليها :- أنا روحت أشوف في أكل عند الخيل ولا خلص، وفجأة أنت ظهرت قبالي، و ....... بقلم زكية محمد


صمتت وعضت على شفتيها بحزن، فماذا ستخبره وهو لا يتذكر ما فعله بها، والذي بسببه جعل والدتها تقاطعها، وهذا ما يؤرقها فأي شيء يهون عداها هي .


هزها بقوة قائلًا بغيظ دون أن يلحظ ما يرميه من خناجر من كلام، فتتوجه تصيب هدفها بسهولة ويسر :- أوعاكِ تفكري إنك إكدة بقيتي مرتي بحق وحقيقي، كلاتها شهرين بالكتير وأطلقك وأتچوز اللي حرمتيني منها بعملتك دي .


سحبت نفسها من تحت قبضته بصعوبة، ورددت بقهر :- أعمل اللي أنت رايده، أنا اللي بكرهك ومريداش العيشة وياك بعد اللي عملته فيني، كنت فكراك بني آدم طلعت ديب سعران تنهش وبس .


رفع يده وكاد أن يهوى على وجنتها بقوة، ولكنه توقفت في الهواء ضاغطًا عليها بقوة، بينما انكمشت بخوف في انتظار صفعته، إلا إنها لم تجد شيء ففتحت عينيها لتجده على تلك الحالة، تراجعت للخلف بحذر، ليغادر هو المكان بسرعة قبل أن يفتك بها تلك الحمقاء التي جعلته يغلي كالمرجل، أسرعت هي إلى الغرفة الخاصة بهم، لا تصدق أنها نجت من براثنه، وتمددت إلى جوار والدتها الغافية، واحتضنتها بخوف تستمد منها بعض الأمان الذي فقدته .


********************************


بعد مرور أسبوع في مجلس الرجال، حيث اكتظ المكان بالحشد الذين سيشهدون على عقد قران ابنة "سالم".

كان يجلس والدها إلى جوار المأذون الشرعي، وعلى الجانب الآخر "راشد" الذي يبتسم بنصر لتحقيقه مبتغاه .

ما إن هم المأذون بالحديث، دلف هو بهيبته المعتادة، وردد عليهم التحية ليقف قبالتهم وهو يهتف بخبث :- ينفع يا شيخنا تچوز واحدة متچوزة بردو ؟ .........





الفصل التاسع 

#وجلا_الليل

#بقلم_زكية_محمد


نصبت مأتم بغرفتها، تنعي فيه كل ما هو جميل؛ إذ أنها ستدلف بعد لحظات إلى جحيم الشياطين، ماتت روحها والآن تقف خاوية تتلقى التعازي من الموجودين، حاولن كثيرًا أن يعدلوا من هيئتها التي لوثتها الدموع الغزيرة، إلا أن ذلك لم يجدِ، أصروا على اعدامها فقدمت نفسها قربانًا لذلك الحب الضائع، والذي علمت أنه مستحيل مهما فعلت .


دلفت " أمينة" التي شق الحزن مجرى قسماتها، توجهت ناحيتها بخطوات معبئة بالخزي؛ لعدم تقديم يد العون لها والتي طلبتها مرارًا وتكرارًا منها، حاولت التماسك قدر المستطاع حتى لا تزيد الطين بلل، جلست ورسمت ابتسامة باهتة وهتفت بفرح مصطنع، فبداخلها مائدة مستديرة يتشح ضيوفها الأسود لتلقي العزاء تضامنًا معها :- بسم الله ما شاء الله عروستنا كيف القمر .


تساقطت دموعها سريعًا، تهطل كما في ليلة شتاء عاصف، ملبد بالغيوم السوداء فأحدثت ضجيجًا وانهمرت الماء بغزارة، خرج صوتها المتحشرج :- عزيني في روحي يا مرت عمي، خلاص مُت اللي بتحدتك دي واحدة ميتة بياخدوا عزاها .


ربتت على ظهرها بلطف قائلة بمآقي فاضت دموعها، فاتخذت وجنتيها مجرى لتصب فيه عبراتها، رددت بحنو :- بعد الشر عنك يا بتي، إن شاء الله اللي يكرهك، حاولت يا بتي حاولت بس مقدرتش .


ألقت بذاتها بين ذراعيها، تعايش سكرات الموت كالذبيح الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، بينما احتضنتها الأخرى بعاطفة امومية جياشة، وهي تتذكر ما بذلته لمساعدتها، والذي ذهب أدراج الرياح ولم تفلح في أن تحرز أي تقدم ولو ببنت شفة، عادت بذاكرتها للخلف تحديدًا منذ يومين، إذ دلفت غرفته والأمل يغمرها من رأسها لأخمص قدميها، تمني النفس بأنه سيوافق وسيفعل ما تمليه عليه، جلست إلى جواره وبعد أن دلفت معه في نقاش عادي، شعر هو بأنها تحيك لأمر ما، وتريد البوح به ولكنها مترددة، فهتف بفضول :- خير يا أما، في حاچة ؟


ابتسمت بتوتر تشجع ذاتها على أن توشي بما يجثو فوق صدرها فترتاح من تأنيب الضمير الذي يحوم حولها منذ أن علمت بالموضوع، فرددت بتلعثم :- رايدة أقولك حاچة إكدة، بس بالله عليك يا ولدي ما تكسفني .


اعتدل في جلسته وأردف بدهشة :- أنتِ تأمري يا أما وأنا أنفذ، اتفضلي قولي .


أردفت بتلجلج في حروفها :- كتب كتاب بت عمك بعد يومين .


قطب جبينه بتعجب قائلًا بمبالاة :- أيوة يعني وبعدين ؟ بقلم زكية محمد


جزت على أسنانها بعنف قائلة بغيظ من بروده الصقيعي :- رايداك تمنع الچوازة دي بأي شكل، البت مموتة روحها من البُكا، صعبانة علي يا يحيى محدش چارها، هي مرايدهوش بس أمها غاصبة عليها، ساعدها يا ولدي طالما في يدك إنك تساعدها .


لوى شدقه بسخرية وردد باستخفاف :- ريداني أعمل إيه يعني ؟ أروح أهربها ولا أروح اقول لأبوها متچوزهاش ؟


نفخت بنفاذ صبر وقالت بحذر :- ريداك تتچوزها يا يحيى .


انتفض في موضعه كمن لدغته حية، وطالعها بصدمة سرعان ما اكفهر وجهه، وبرزت عروقه وأردف بغضب ملجم بالهدوء للماثلة أمامه :- أعمل إيه ؟ أتچوزها ؟ أنتِ واعية لحديتك دة ريداني أحط يدي في يد اللي قهر أبوي السنين دي كلاتها ؟


تابعت باستمالة لتنل عطفه :- ملناش صالح بيه، إحنا كل اللي يهمنا البنية لا أكتر ولا أقل .


ردد بحدة طفيفة :- حديت إيه دة يا أما ؟ الله يرضى عليكِ بزيداكِ وفري تعبك لأني مهعملش حاچة زي دي واصل، اللي بينا عداوة وتقوليلي أتچوز بته !


هزت رأسها بإصرار فستفعل كل ما بوسعها لإنقاذ تلك البريئة من عرينهم :- هَمِلّك واصل من العداوة دي، ربنا ما يكتبها عليكم بس فكر زين يا ولدي في حد متشعبط في قشاية رايد أي حاچة تنچيه، متبخلش عليه واصل يا ولدي .


زفر بحنق وجلس يهز قدميه بعصبية، بينما ربتت هي على كتفه وأردفت بحزن وقد تغلب عليها اليأس :- هسيبك لضميرك يا ولدي واللي يقولك عليه اعمله، بس وحياة أغلى ما عندك ما تكسف طلبي .


قالت ذلك ثم انصرفت تجر أذيال الخيبة، تاركة إياه يتخبط من درب لآخر يفكر في حديثها، عودة للوقت الحالي وهي تأكدت تمامًا أنه رفض طلبها، فهمست برجاء :- عدلها من عندك يارب .


★★★★★★★★★★★★★★★★★★


بالأسفل ألقى خبره الذي كان بمثابة الرياح العاتية، التي أجتثت ألسنتهم فأخرستهم، بينما ظل هو يتابع وجهه الذي أربد بشكل ملحوظ، وتحول إلى قذيفة نار مشتعلة تحرق من يقترب منه، تقدم منه بثبات ووقف قبالته قائلًا بخبث وهو يرى وجهه الذي شحب :- إيه يا عمي هو عشان خلاف بيناتنا هتچوز مرتي لراچل تاني، وزة شيطان يا عمي ودلوك رايد نكتب الكتاب من تاني عشان أبقى رديتها قدام الكل .


تعالت الهمهمات بالمجلس، وهم يستمعون لتلك التصريحات التي نزلت عليهم كالصاعقة، مال "سالم" نحو "يحيى" وهمس باحتدام :- بتخربط بتقول إيه يا واكل ناسك ؟ أنت واعي للي عملته دة ؟ 


ابتسم ببرود وهتف بنفس الهمس :- مشيها إكدة بدل ما أقول كاتبين عرفي، وأنت خابرني أعملها وسط الخلق دي . بقلم زكية محمد


اتسعت عيناه ببريق ينم عن الاحتداد القائظ، لقد وضعه بركن لا مفر منه ولا هرب، كيف له أن يفعل شيئًا كهذا ؟ كيف واتته الجرأة من الأساس ؟ قبض على يده بعنف فبماذا سيتحدث أمام ذلك الرهط من الناس ؟ 


زمجر راشد باعتراض شديد وهتف بجلجلة :- إيه الحديت الماسخ دة ؟ هو دة اللي اتفقنا عليه يا سالم ؟


اذدرد ريقه بتوتر عاجز لسانه عن النطق، ليتدخل "يحيى" الذي أردف بمكر :- معلش يا عم راشد أصل عمي كان رايد يربيني شوية عشان ما أكررش اللي عملته، منچلكش في حاچة عفشة .


تطلع ناحيته وردد بغضب عاصف :- يعني إيه لعب العيال دة يا سالم؟ بتصغرني عشان رايد تربي جوز بتك ؟ ومقولتش ليه أنها متچوزة قبل سابق ؟ مش دي الأصول واصل يا سالم، بينا يا رچالة .


انصرف بصحبة الجمع الذين وفدوا معه، بينما جلس يحيى إلي جوار المأذون وردد بعبث :- يلا يا شيخنا اكتب الكتاب خلينا نفرح، تعال يا عمي يا نسيبي أقعد وحط يدك في يدي .


فارت دمائه وبرزت عروقه، وكاد أن ينفجر كالقنبلة التي لو دوت لأطاحت بهم جميعًا، نظر للجمع حوله فوجدهم يطالعوه بترقب، فما كان أمامه سوى أن يرضخ لطلبه، حيث جلس على الجانب الآخر ومن ثم بدأت الإجراءات لتتعالى بعدها المباركات، تزامنًا مع إطلاق النار بالهواء وأصوات المزمار الصعيدي تصدح في الأرجاء، أردف سالم بغيظ :- مش هعديهالك يا يحيى .


ابتسم بسماجة قائلًا بتهكم :- وه يا عمي دي چزاتي يعني ! يا راچل أفرح دة فرح بتك النهاردة .


عض على شفتيه بغيظ، فقد تمكن منه هذه المرة وردد بغل :- بتصغرني وسط الخلق يا واد عامر هي دي عملة تعملها ؟


حك مؤخرة رأسه وردد بفحيح :- بردلك الچميل يا عمي، ولا أنت نسيت عملت إيه في أبوي !


هدر بانفعال :- عملت إيه ؟ دة حقي ولا أنت هتحاسبني على شرع ربنا روح قول لچدك ليه ما أديتش ورث لأبوي .


كشر عن أنيابه وردد بحدة :- قصدك تقول حق أبوي اللي أنت لهفته .


تدخل "عامر" عندما ارتفع ضجيجهم، وسحب ابنه بعيدًا وهتف بهدوء :- مبارك لبتك يا أخوي ربنا يكتبها چوازة العمر إن شاء الله، وحدوا ربنا إحنا في فرح لا هو وقت عراك ولا وقت عتاب، يلا هنشمت الناس فينا ولا إيه ؟


التزما الصمت وكل منهم يود الفتك بالآخر، نفضا جلابيبهم ومن ثم استدار سالم ليترك المكان، يحاول أن يرسم بسمة سعيدة حتى لا يشك به أحد، بينما أردف عامر بتوبيخ :- إيه اللي أنت عملته دة يا يحيى ؟ 


أردف بغيظ :- وه يا أبوي دة بدل ما تقولي عفارم عليك إني خليته في وسط خلقاته بين الخلق ؟ 


أجابه بضجر :- شوف يا ولدي، اللي بيني وبين عمك ملهوش صالح بيكم انتوا عيال عم وهو عمكم يعني واچب عليكم أنكم تحترموه غير إكدة لاه .


صمت قليلًا ثم ربت على كتفه بفخر واعتزاز مرددًا :- بس عفارم عليك يا واد، نچدت البنية من راشد الراچل قليل الأصل دة .


أردف من بين أسنانه بسخط :- نعمل إيه للحچة أمينة ؟ قعدت تزن تزن على راسي .


تابع بخبث :- وضميرك مات إياك ؟


ردد بسرعة :- لاه بس أنا عملت إكدة كيف ما طلبت أمي مني . 


هز رأسه بعدم اقتناع وأردف بروية :- ماشي نمشيها الحچة أمينة، يلا تعال نوقف مع الرچالة .


بعد وقت دلف هو للداخل ليصحب عروسه إلى منصة الزفاف الخاصة بهم، ظلت جامدة كالتمثال لا حركة فيها عدا ذاك الشهيق والزفير الذي يلج ويخرج، هزت رأسها بعنف لعلها تستيقظ من ذلك الحلم الوردي الذي تعيش فيه، وان من يقبع بجوارها هو فقط راشد، الذي سينهي على حياتها وسيحولها إلى كابوس أسود تعاني لياليه الموجعة، أخذت تحدق النظر فيه بقوة ربما أُصيبت عيناها بالعمى، وهي تحرك وجهها بإيماءات غريبة دلالة على تشوشها، ورغبتها في معرفة الحقيقة، ليطالعها هو بحرج من الموجودين والمراقبين لهم، فخرج صوته الصارم يهمس بسخرية :- أقفلي خشمك دة واتعدلي الله يخرب بيتك، أختشي من الناس طيب .


جعدت أنفها بغرابة وعقلها يردد أن ذلك الصوت هو الخاص بمعذبها، قطبت جبينها بخوف وهي تشعر أنها على حافة السقوط في بحر الجنون والهذيان، أصبحت تتخيله في كل شخص ولم تكتفي عند هذا الحد، ليتردد صوته في أذنيها، هتفت بخفوت ووجل وهي تنعي نفسها :- يا مرك يا شمس، إتچنيتي ؟ لاه لازمًا اكشف على حالي لأحسن التهيؤات دي تخبلني أكتر ما أنا مخبولة .


نتأت مقلتاه بذهول حينما سمع همسها ليردد بحدة طفيفة :- فوقي يا واكلة ناسك بدل ما أرزعك كف يطيرك .


انكمشت أكثر في نفسها بوجل، ونظرت له قائلة بهلع :- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، انصرف انصرف .


كاد أن يصل ثغره للأرض، وهو يتابعها بصدمة من تصرفاتها الرعناء، ليتابع بغضب مكبوت :- شوفتي عفريت أياك ؟ والله شكلك رايدالك علقة زينة تعدل راسك .


ارتعشت فرائسها ورددت بهمس :- فوقي يا شمس فوقي مش هو مش هو . 


مسح بكفه الكبير على وجهه الذي احتقن بغضب، وهو يود لو يفلقها نصفين تلك البلهاء، التي تتصرف بجنون عاصف من يراها يقسم بأنها خرقاء، وبحاجة لمشفى الأمراض العقلية للتأكد من صحة عقلها الأبله، والذي بالتأكيد سيكون في نطاق العته بسخاء .


اقتربت أمينة تعانقهم بحب، ودموع فرح أنه لم يخيب ظنها، وبادلت الأخرى العناق والتي هتفت بذهول وعدم تصديق :- الحقي يا مرت عمي، راشد چايلي في صورة ولدك يحيى، بايني خرفت بدري !


ضحكت بخفة قائلة بمرح :- لاه يا بتي دة مش راشد دة ولدي يحيى بحق وحقيقي .


توسعت عيناها على اخرهما، وهي تطالعها بنظرات تتساءل فيها عن مدى صدق حديثها، لتهز الأخيرة رأسها بتأكيد قائلة :- أيوة يا بتي صُح دة يحيى، مفيش راشد دلوك في يحيى وبس .


أردفت بصدمة وصوت عال :- وه وه يا أبوي، أنتِ قصدك تقولي إن يحيى هو اللي إتچوزني ؟ 


ضحكت بصخب عليها، لتتسع مقلتيها بذهول عندما وجدتها تطلق الزغاريد بصخب، لتزيد من صدمتهما عندما احتضنت يحيى بقوة وهي تردد بسعادة :- أنت يعني اللي أتچوزتني مش راشد ؟ أنا مرتك يا يحيى ؟ 


ابعدها عنه برفق وهو يكاد يتغلب عليه الهذيان، من تصرفاتها الغريبة على غير العادة، وأردف بتهديد خافت وهو يميل على أذن والدته :- أما عقليها بدل ما أقسمها نصين، دي عمايل دي ! 


كبحت ضحكها بصعوبة على الموقف برمته، مسكتها من يدها قائلة بهدوء :- هدي حالك مش إكدة، الناس تقول إيه عدي الساعة دي على خير وكيف ما بدك تعمليه اعمليه .


اغرورقت عيناها بالدموع ورددت بعدم تصديق :- قولي والله دة مش راشد ؟ يعني دة صُح مش بحلم ؟


أردفت بابتسامة عريضة :- أيوة يا بتي صُح، أنتِ طيبة وتستاهلي الخير .


رفرف قلبها في ضلوعها، ومن ثم جاب جميع الأركان يغني فرحًا، لا يصدق بما نال وحظى به، يا لها من سعادة غامرة اجتاحت سائر بدنها، تنير دروبًا مظلمة ظنت أن لن يأتي عليها ضوء، ها قد أتت فرصتها ولن تضيعها مهما كلف الأمر، لن تدعه دون أن يسقط في محيط العشق كما فعلت، لن تسبح فيه بمفردها بعد الآن فقد كلت وتعبت، آن الأوان أن يشاركها ويمد لها يد العون، قوست جبينها بضيق حينما تذكرت كونها ممتلئة الجسد، ولكنها عزمت على أن تتغير من أجله هو، نعم ستفعل المستحيل ما دامت روحها تسكن الى جواره، فهذه بداية السلم وستصعد إلى أن ترتقي درجاته بأكملها .

انتهت المراسم لتزف إليه، وبينما كانا في طريقهم للأعلى حيث الشقة الخاص به، إذ بنى عامر لأولاده في تلك الفترة ثلاث شقق واسعة مستقلة، شعرت بتخدر في أطرافها وكأن كل ما نوت عليه تبخر في عشية وضحاها، تود الفرار ويحدث ما يحدث، تعالت دقات قلبها الصاخبة والتي تقيم حفلًا صاخب من نوع آخر، تشعر بأنه سيتوقف من كثرة ضخه النازف والمرهق لها، اذدردت ريقها بتوتر وسحبت نفسًا عميقًا تملئ رئتها بالهواء الذي سُحِب منها على عين غرة، كانت والدتها وزوجة عمها تسيران خلفهما حتى يتواروا بالداخل، مدت يدها نحو والدتها وتمسكت بكفها، لعلها تبثها بعضًا من الهدوء، إلا أن ذلك لم يفلح فمالت عليها تهمس  :- أما أنا رايدة أچي وياكِ، مريداش أروح وياه .


حدجتها بصرامة وهتفت بهمس مماثل :- بتخربطي بتقولي إيه يا واكلة ناسك ؟ رايدة الفضايح والچِرس لأبوكي ؟ فوتي وخلي ليلتك تعدي .


لم تفهمها كالعادة فمطت شفتيها بحنق، وتابعت سيرها إلى حيث لا تدري ما مصيرها معه، ودت لو تصرح لزوجة عمها بمكنونات صدرها ولكنها خشت أن تخبره بدورها ويعلم حينها، فبأي وجه ستنظر له بعد أن يعرف ؟ بقلم زكية محمد


وصلت معه أخيرًا لوجهتهم الأخيرة، ودلفا سويًا بعد أن غادر من أتى بصحبتهم، وما إن غلق الباب انتفضت بشدة، لاحظ هو ذلك ولكنه لم يعقب وما إن رأته مقدمًا نحوها، هتفت بذعر :- خليك مُطرحك متقربش، سامع ؟ 


لا تزال تمطره بوابل من المفاجآت، وكأنها تصر على أن تدفعه لهاوية الجنون، ابتسم بخبث ما إن رأى الوجل يشكل خطوطًا بعينيها التي يتحرك بؤبؤيهما بسرعة عاتية، دلالة على الخوف والتوتر، ابتسم بتهكم أليست تلك من كانت تحتضنه أمام الجميع ؟ ماذا حدث لها الآن ؟ لم تحولت لعصفور وهن لا يقدر على الحركة ؟


أخذ يتقدم نحوها بخطوات مدروسة، لتتراجع هي بحرص فركضت فجأة لآخر الغرفة قائلة بصوت مهزوز جاهدت أن تظهر فيه قوتها الواهية :- أنت، أنت بتقرب ليه يا چدع أنت؟ هصرخ وألم عليك الخلق كلاتهم .


إلى هنا ولم يستطع إذ انفجر في نوبة ضحك هستيرية، احتقن وجهه وتحول للأحمر الدامي، بينما أخذت هي تراقبه بتعجب وحيطة، ما إن انتهى خرج صوته الساخر :- هو أنتِ حد قالك إنك هطلة قبل سابق ؟ علي النعمة هطلة وأبصم بالعشرة كمان، الزمن كبرك بس مكبرش عقلك واصل .


جعدت أنفها بضيق جلي، وأردفت بسخط :- ملكش صالح وبعد من وشي خليني أمشي .


رفع حاجبه باستنكار قائلًا :- تمشي ! تمشي تروحي وين يا نبيهة عصرك ؟


تابعت بتلجلج في الإجابة، مصحوب بالخجل الشديد من فكرة وجودها معه بمفردها، فلم تتخيل أبدًا أن يحدث هذا وبهذه السرعة المطلقة :- هروح لأمي، أتوحشتها ..


أردف بعبث وقد فهم ما ترمي له :- أتوحشتيها وهي لسة فيتاكِ ! اه يا خوافة مهتعقليش واصل، أهدي يا بت الناس إكدة خلي ليلتك تعدي .


أردفت بتذمر :- ومالها ليليتي اللي كلاتكم رايدينها تعدي دي ! دي مبقتش عيشة دي .


جز على أسنانه بعنف قائلًا :- وطي حِسَك دة ميعلاش تاني، فاهمة ؟ 


هزت رأسها بموافقة وتابعت :- طيب طيب بس هملني أروح، مريداش أقعد إهنة .


وما إن توجهت صوب الباب، صرخت بعنف ما إن وجدته يطوق خصرها بأذرعه الشامخة القوية، بينما تابع هو بمكر :- وه يا عروسة رايحة وين في ساعة زي دي ؟ 


أخذ صدرها يتصاعد ويهبط بعنف مفرط، عندما وجدت نفسها في حضرة حصاره المتين، وبوتقته الخاصة التي تتواجد بها لأول مرة، خرجت كلماتها المتهدجة والضعيفة كحالها، فقد تحولت لخرقة بالية مر عليها الزمن، فقدت سطوتها وقوتها التي أخذت تتظاهر بها منذ قليل :- يحيى، أنت، أنت....


ردد بخبث وهو يتابع انصهارها خجلًا كالفلز الذي يتعرض لدرجة الغليان :- أنا إيه ؟ بقى رايدة تمشي إكدة وتخلي سمعتي هباب .


رفعت مقلتيها تجاه خاصته وأردفت بخفوت وغباء :- وايه اللي دخل سمعتك في إني أمشي ؟


أشار بإصبعه على رأسها بغضب مكبوت وردد بوجه مكفهر :- دماغك دي فيها إيه؟ أنتِ متوكدة إنك دكتورة، ولا أتعديتي من البهايم اللي بتعالچيها ؟ 


ضيقت عينيها بغل من سخريته المتكررة بشأن عملها، فدفعته بقوة قائلة بحدة :- ملكش صالح بيا ومتتريقش تاني على البهايم عشان هما أحسن منك .


وكانت حروفها الأخيرة بمثابة مسمار أخير دقته في نعشها، عندما وجدته تحول لتنين مجنح يبخ ألسنة النيران من ثغره، فلفحت صفحة وجهها النضرة والتي تحولت للهيب مشتعل، لتهم بالفرار من براثنه، إلا أنه قبض على ذراعها باحكام قائلًا ببسمة شيطانية :- أنتِ اللي چبتيه لنفسك ....



                    الفصل العاشر من هنا

لقراة باقي الفصول من هنا


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close