رواية ندبات الفؤاد
الفصل الخامس والسادس
بقلم زيزي محمد
الفصل الخامس.
في معرض الشعراوي للسيارت، تحرك العامل وهو يحمل اكواب العصير لداخل مكتب يزن
المدير الفعلي للمعرض، ابتسم العامل ساخرًا من رئيسه الذي لم يضع فرصة مع كل ماهو أنثى
إلا واستغلها، والفتيات يقعن في غرامه المعسول دون جهد منه، يكفي ابتسامته
الجذابة التي يستقبل بها عملائه، مستخدمًا أسلحته الهادئة في جذبهن .
توقف على مقربه من مكتب يزن ووضع الاكواب في صمت، وكالعادة أخفض بصره بناءًا على تعليمات يزن الصارمة.
خرج العامل في هدوء، وبقى يزن مع فتاة ارستقراطية ممن يلبسن جيب قصيرة للغاية وسترة عارية الكتفين، وبالتأكيد يصاحب زيها لون أحمر شفاها الفاقع كي تثير ذلك الخبيث الجالس خلف مكتبه، ناظرًا لها بخبث ثعلبي:
- منورة يابيبي.
ارتشفت القليل من العصير بغنج، ثم قالت برقة وصوت ناعم:
- نورك يا زيزو.
- استقريتي على إيه، الزرقة ولا الحمرا.
رمشت بأهدابها في دلال، وصوت ناعم للغاية سألته:
- انتي رأيك إيه؟!
- أنا قولتلك رأي من زمان.
رد في لامبالاة وابتسامة بسيطة تزين ثغره، فضحكت بصوت مرتفع، قائلة بمكر انثوي:
- انت عايز تديني الاغلى يا زيزو وتقولي شبه لون عيوني.
ختمت حديثها بنظرة لعوبه، فصدمها بقوله المتهكم:
- لون اللينسز يابيبي، مش عينك، نركز في التفاصيل.
احمر وجهها من شدة احراجها، فقاطع حديثهما صوت العامل المرتجف:
- سليم باشا بيركن العربية وداخل.
عقد يزن ما بين حاجبيه متوترًا من مجيئه المفاجيء، وما زاده تيبسًا هو دخول سليم وهو منعقد الوجه، ملامحه تصرخ بالغضب، حدج بها لثوان، ثم القى نحوها نظرات من التقزز لهيئتها التي تصرخ بالانوثة الفجة، مدركًا لمقصدها، فقال بصوته الرجولي الخشن الممزوج بغطرسته الملاصقة لبحة بصوته:
- خلصها بسرعة!.
وقبل أن تفتح فمها لتوبيخه، أجاب يزن وهو يجذب يدها بسرعة:
- اه، هوصلها.
تحركت معه بعدم رضا، وهمست في ضيق:
- مين ده؟ هو فاكر نفسه إيه علشان يتكلم بالعجرفة دي.
أجاب يزن وهو يبتسم بسماجة، دافعًا إياها خارج مكتبه الزجاجي:
- ده سليم أخويا الكبير.
القت نظرة عليه قبل أن تتحرك خارج أعتاب الباب:
- ده أحلى منك، رغم انه رخم.
- ولسانه طويل وقليل الادب، ولو فكرتي تتكلمي معاه هتتهزقي، يلا يا سوزي اتكلي على الله.
خرجت سوزي رغمًا عنها، وعيناها لا تستطيع ابعادها عن سليم الجالس على اريكة في صمت يتابعها هي ويزن بنظرات اشمئزاز ووجوم، وكالعادة تلقاها سعيد المسؤول عن الامور المادية في المعرض بناءًا على توصيات من يزن، واوصلها لخارج المعرض.
بينما بالداخل تحرك يزن باتجاه سليم وهو يشير نحو كرسيه خلف مكتبه في أدب:
- اقعد يا سليم على الكرسي.
هتف سليم في حدة وعيناه تشمل يزن بنظرات نارية:
- لا ده كرسيك انت يا بيه، اتفضل اقعد عليه ووريني طلتك البهية.
فرك يزن خصلات شعره في حنق، مردفًا:
- اه الدخلة دي وراها إيه!.
- وراها مصايبك يايزن، وراها كلام مالوش صنف المعنى اسمعه من عيل واطي زي سمير.
عقد يزن حاجبيه مردفًا بعدم فهم:
- ماله سمير، ماله الزفت..
نهض سليم قائلاً بصرامة:
- مالوش، بس الكلام عن المعرض كتر، وكله الا السمعه ياباشا، ابوك قاعد سنين يحافظ على اسم العيلة دي، متجيش انت بنزواتك تهدها.
- اهد إيه، علشان معظم الزباين هنا بنات، طب نعمل إيه يعني، ذوقنا بيعجبهم، وبعدين متقلقش أي حاجة فيها عك هكلم زيدان يخلصهالي.
خرجت الحروف من فم سليم وكأنها أسهم نارية، شاعرًا بوصول الغضب لديه لأعلى ذروته:
- انت لما تقع في مشكلة تيجلي أنا، أنا اخوك الكبير، هي لدرجة دي لغتوني أنت والباشا زيدان.
سارع يزن بالتحدث نافيًا تلك الفكرة، بعدما لمح نظرة حزن تكمن داخل أعين أخيه، فقال:
- لا طبعاً ولا عاش ولا كان، أنت الكبير بتاعنا، أنا بس كنت بتكلم بحكم انه ظابط بس.
كور سليم يده في غضب، محاولاً التحكم في نفسه، بعدما تسرب لدية شعورًا بالغيرة متحكمًا بخلايا قلبه اتجاه زيدان:
- بلا ظابط بلا زفت، انت يوم ما تقع في مشكلة تيجي تقولي، الغي زيدان من حسباتك..
صمت للحظات يستجمع هدوئه، فاستطرد برصانة:
- وهو كمان يوم ما يقع في مشكلة هكون في ضهره، أنا عايش علشانكوا.
ابتسم يزن باقتضاب اثر زلزلة حدثت بعقله بعدما قرأ شيئًا جديدًا في نبرة سليم، مردفًا بخفوت:
- ربنا يخليك لينا.
جمع سليم متعلقاته واتجه صوب الباب وهو يقول:
- مستنيك في العربية علشان نروح.
غادر سليم بينما وقف يزن يتابع خروجه في صمت وعقله يدور في حلقه من الاسئلة هاجمت خلاياه فجأة، وكأن القدر له رأي آخر عن ذلك اللقاء، فكانت نتيجته اندلاع سيل من الاسئلة تتمحور حول سليم وزيدان؟!
***
تحركت توته بجانب خالها تصعد درجات السلم في صمت، بينما كان سليم يغلي من أوامر اخته المصون، حيث تشاجرت معه بسبب حديثه الخالي من الذوق مع ليال، بعدما استمعت لهما صباحًا، وأصرت على ايصال توته لشقة ليال، مع تقديم اعتذار لها.
لقد ظنت فاطمة سكوته دليلاً على موافقته، ولكنه كان يخزن بداخله شحنه سلبية حانقة كي يدفعها في وجه تلك المستفزة، وينهى ذلك الاتفاق بينهما، يكفي رؤيته لها صباحًا ومساءًا، يكفي جهاد نفسه أمامها، حامدًا ربه أن عقله لا يرى سوى عيوبها فقط، سيعطيه ذلك مساحة كافية لانهاء مشاعر الحب التي تولدت لديه رغمًا عنه، لقد وقع كالأحمق في حب فتاة طائشة، لا تتشابه معه، بل كانت بعيدة كل البعد عنه.
وصل لدور القابع به شقتها، فوجدها تقف أمام الباب تضع أكياس للقمامة ممتلئه على اخرها، رفع حاجبيه وهو يتابع هيئتها الفوضوية من قميص قطني طويل يصل إلى كاحلها وفوقه نصف خمار والمفاجأة هنا تكمن في وجهها الخالي من أي مساحيق، ابتسم باستهجان لحالتها تلك، ورفع صوته يخاطب توته:
- أخيرًا يا توته، الجيران قرروا ينضفوا بيتوهم.
رفعت ليال وجهها تطالعه، فشعرت بتدفق الدماء لوجهها، لأول مرة يراها أحد بهذه الحالة المزرية، ولحظها التعيس كانت المرة الاولى من نصيبه.
باعدت عيناها عنه، وتلبست برداء الوقاحة مخاطبه إياه في جرأة:
- على الله باقي الجيران ينضفوا نفوسهم شوية من الغل والحقد اللي فيهم.
رمقها بنظرات غير مفهومة، شاملاً إياها من أخمص قدمها لرأسها، مرورًا بوجهها الذي باتت ملامحه واضحة إلى حد كبير، فبالنسبة له أجمل من تلك الزائفة التي تضع مساحيق تشوه من جمال ملامحها.
تفرسه بها اخجلها فقالت بحدة:
- بتبص كده ليه؟!
بعد صمت طويل منه، فاجأها برده غير المتوقع بالمرة:
- الحلو حلو لو قام من النوم والوحش وحش لو غسَّل وشه كل يوم.. أمي زمان كانت دايمًا بتقول المثل ده مكنتش بفهمه، بس دلوقتي فهمته...
شهقة صدرت منها، تعبر عن استياءها:
-قصدك إيه!.
- اللي انتي فهمتيه، ادخلي يا توته خدي الدرس...
دفع الصغيرة للداخل رغمًا عنها، وقبل أن يغادر تفوه بفكرة داعبت عقله ليلة أمس، كي ينتهي من جدال اخته اليومي، ويقصر على ذاته جهاد يخوضه يوميًا بسبب لقاءه المستمر مع جارته الحمقاء..
- على فكرة فاطمة أختي قالت لام محمود انك بتدي توته درس، فام محمود فرحت واحتمال تجبلك محمود من الحصة اللي جاية...
توسعت عيناها بصدمة، ولم تقدر على التحدث، فسارع هو بقوله:
- أنا قولت اقولك علشان تهتمي بنضافة البيت.
جزت فوق أسنانها بعنف شديد، فخرجت حروفها تحمل حقدًا اتجاهه:
- واعمل في الورطة دي، مش كفاية بدي بنت اختك غصب عني.
اتجه صوب السلم، مبتسمًا باستفزاز:
- والله بيتنا تحت مفتوح، وعرضنا عليكي، انتي اللي اصريتي، فـ...مبروك.
صرخت بحنق:
- مبروك على إيه!.
- على توته ومحمود وتسنيم وعيال العمارة كلهم.
ختم حديثه وهو يلوح لها قاصدًا استفزازها، فاغلقت الباب في وجهه تعبيرًا عن غضبها منهم جميعًا.
هبط سيف درجات السلم وهو يرفع يده للاعلى داعيًا ربه برجاء:
- يارب تيجي تدي البت درس تحت، مبقتش عايز اشوفها..
ثم بعدها هز رأسه مؤكدًا:
- وهي بتديها هكون في الورشة واخلص من العذاب اللي أنا فيه.
- عذاب إيه يا اسطى.
تراجع سيف للخلف، ناظرًا للواقف أمامه بذعر:
- أنت غبي ياله في حد يعمل اللي أنت عملته.
حك أيوب مؤخرة رأسه، مردفًا:
- معلش يا اسطا، عن اذنك هطلع دور الشاي ده لشقة أستاذ عبد العزيز..
اغلق سيف عيناه بغضب:
- أنا قولت مية مرة، متطلعش هنا في العمارة، لو أستاذ عبد العزيز عايز يشرب شاي ينزل القهوة تحت.
- هقوله...هقوله.
صعد أيوب السلم في سرعة متمتمًا بداخله بغل:
- اه..مش عايز حد يشوفك معها يا اخويا.
***
دخل يزن اولاً باحثًا عن والدته، فوجدها تجلس فوق الاريكة تمدد ساقيها أمامها، ودموعها منسابه فوق وجهها، بجانبها شمس وزيدان ووالده..
عقد حاجبيه بقلق، مندفعًا نحوهم:
- مالك يا ماما.
هتفت بصوت متقطع مبحوح:
- مفيش ياابني، شوية التعب اللي بيجوا في رجلي.
نهض يزن بلهفة، مردفًا:
- قومي نوديكي عند الدكتور..
ردت شمس بخفوت:
- رافضين أي حجز خالص، غير بعد أسبوع.
فقد زيدان هدوئه:
- نشوف حد تاني..
قاطعته والدته بنفاذ صبر من فرط المها:
- يابني انا برتاح معاه، وبعدين انا اخدت الدوا وهكون كويسة.
- السلام عليكم.
قال سليم بصوت هادئ رزين، فرد الجميع عليه، تابع خطواته نحوهم، وعيناه تتعلق بكل شخص منهم يقرأ ما يدور بينهم، فأدرك على الفور سبب التفافهم حول والدته، وقد أكدت شمس بحديثها الخافت له حينما نهضت ووقفت بجانبه:
- ماما تعبانه اوي..
هز رأسه متفهمًا دون أن ينطق بكلمة، فساد الصمت بينهم جميعًا، حتى أن صمته دون أن يبرز قلقه لوالدته استفزهم، فصُوب نحوه نظرات السخط، ضغطت شمس فوق يده وبعينيها أشارت نحو والدته، لحظات استغرقها ليخرج صوته الفاتر المعقب على حالتها المرضية:
- الف سلامة، ان شاء الله تكوني بخير.
انهى حديثه وجلس فوق الكرسي يخرج هاتفه، متابعًا شيئًا ما، دون أن يرفع عينه بعيون والدته، حيث كانت تنظر له في حزن وجعه فاق الم ساقيها، لقد هُدم جسر الوصال بينهما، والسبب هي... هي من زرعت بذرة القسوة بداخله بعد أن كان قلبه ينبض بالود والرحمة.
انسابت دموعها بحسرة وندم، دفنت وجهها في صدر زيدان المقترب منها في هذه اللحظة، واطلقت لنفسها العنان في البكاء الصامت، ترحب بمباراة مع جلد الذات سببها ندوب متراكمة في فؤاد ولدها.
بينما كان سليم يتجاهل نظراتهم، متابعًا هاتفه باهتمام، ولكن عقله كان له عيون فريدة تتابع ما يحدث باهتمام، وعندما شعر بحركة ما، رفع نصف بصره بلؤم، فوجد والدته تدفن وجهها بزيدان.
ضغط فوق لحم شفتيه في غيظ وكأنه يريد تقطيعه، هذا هو المتوقع منها ومن ردود افعالها التي كانت دائمًا تناسق خلف زيدان ويزن فقط، أما هو فكان غير مرئي لها، بل لجميعهم.
***
صعدت شمس السلم خلفه بسرعة، بعدما هب سليم واقفًا مغادرًا دون أن يتحدث، لم تدرك ما حدث له، سوى أن الغضب قد عاد وتملك منه، هزت رأسها بيأس من صمته المعتاد، ومن طريقته الخاطئة في التنفيس عن غضبه بسجائره اللعينة.
دخلت خلفه في الشرفة ولكن قبل أن تمضي قدم واحد كان صوته ينهرها:
- طرحتك يا شمس.
عدلت من وضعية حجابها باحكام، ثم دخلت ووقفت بجانبه في وسط كثيف من الادخنه المنبثقة من فمه، لم تبدي اشمئزازها من رائحتها، بل كتمت تعابيرها من أجله فقط، كي لا يغضب أكثر..
- ادخلي جوا، الدخانه دي خطر عليكي.
رفعت حاجبيها معًا، لاهتمامه بها في أدق التفاصيل، ولكن اهتمام جاف ينقصه "توابل" تزيده حرارة، فخرج صوتها المميز ببحته الناعمة:
- يعني هي خطر عليها وعليك لا..
لم يبدي اكتراث لحديثها، تجرأت ومدت يدها تلتقط السيجارة من فمه تلقيها من الشرفة، فحدجها بنظراته الغاضبة، مهددًا إياها:
- اخر مرة تعمليها.
وضعت يدها فوق صدره، تتمسك بقميصه، تهتف بحب:
- هعملها لانها خطر زي ما بتقول، وانا بخاف عليك.
- بجد بتخافي عليا.
ارتفع جانب شفتاه ساخرًا وكأنها ليست شمس، بل والدته، لا يعلم لِمَ تجسدت أمامه الآن، وكأنه داخل زنزانه مفاتحيها مع والدته.
أخرجه صوت شمس وهي تنظر له غير مصدقة:
- طبعًا بخاف عليك..سليم مالك؟.
- أنا مش فايق، وهخرج شوية لما تنيمي انس.
القى بحديثه وهو يبعد يدها المتعلقه بقميصه، مغادرًا الشقة بأكملها، متجهًا صوب صديقه وملاذه الذي يتخلى معه عن القسوة، ظاهرًا اوجاعه مناقشًا اياه بكل سلاسه.
بينما وقفت شمس تطالعه اثره في صمت، ولكن عقلها يعمل بجعد في فك شفراته، يجاهد في تكسير الحواجز بينما، فشعرت بتقصيرها نحوه..واكدت على ذلك حينما ردد ذهنها صوته الحزين " بجد بتخافي عليا"..
انسابت دمعه فوق وجنتاها، مسحت وهي تقرر الاهتمام به أكثر، بل تنوى ادخاله في دائرة عشقهما من جديد، يبدو أن ما تفعله في الخفاء هو السبب في الهائها عنه.
***
بعد مرور عدة ساعات..شعر سيف بملل شديد وهو يجلس على مقعده بالورشة في تلك الساعة المتأخرة، منتظرًا الجبل الجليدي بالذوبان والتحدث معه.. متمنيًا التخلص من الهدوء الذي عم المكان فجأة، وهو غير معتاد على ذلك..
- اقوم يا سليم اشوف شغلي..
- ما تقوم..
قالها سليم بلامبالاة، فاغتاظ سيف منه:
- وسايبني اقعد معاك ليه.
- انت اللي قاعد.
ظهرت ملامح الصدمة على وجه سيف، ولكن سليم تجاهلها بقوله الهادئ:
- الورشة بتاعتك دي بحس في براحة غريبة.
ضحك سيف متهكمًا:
- اه ريحة زيت العربيات بتنعش قلبك.
صمت عم المكان للحظة، ثم ارتفعت ضحكات سليم عاليًا، تابع سيف تغير ملامح صديقه، فشعر بالشفقة عليه لم يكتمه بقلبه، فحاول التخفيف عنه مثل كل مرة يأتي بها، جاذبًا إياه من بقعة اوجاعه، لحياة بسيطة هادئة..
- نسيت اقولك ان اتعاركت للمرة مليون مع المدرسة جارتي.
ضيق سليم عيناه وهو يرمقه بمكر:
- ليال.
التقط سيف كوب الشاي يرتشف منه القليل، قائلاً بلامبالاة زائفة:
- أنا بحكيلك علشان تفك شويه.
هز سليم رأسه مؤكدًا على حديثه باستهجان:
- اممم، كمل..كمل.
***
صباحًا..
في إحدي العيادات الشهيرة، جلست منال وعلى وجهها ابتسامة واسعة، لقد نبض قلبها من جديد بسعادة بالغة، وذلك حينما ابلغتها شمس في الصباح باتصال سليم واخبارها بذهابهم لعيادة الدكتور المتابع لحالة والدته، لقد استطاع حجز معاد الساعة ١٠ بأعجوبة، تطلعت حولها بفخر وأكدت لنفسها أن مشاعره نحوها لم تتجمد بعد، مازالت هناك مساحة صغيرة تستطيع الاستمتاع بها، انتظرت قدومه على حد قول شمس، وهنا زاد من مفاجاتها لم تتوقع اهتمامه بها بعد جفائه ليلة امس.
تحركت الممرضة نحوهم، تخبرهم بميعاد دخولهم، فهمست منال قائلة:
- مش هنستنى سليم يابنتي.
حركت شمس رأسها بنفي تخبرها:
- الطريق زحمة اكيد هيتأخر يلا ندخل احنا.
تحركت منال مع شمس، وعيناها لا تفارق الباب أبدًا، تنتظر قدومه بفارغ الصبر، تشعر بحماس لرؤية عنايته بها، امورًا بسيطة ولكنها تطيب جروح عميقة تأصلت بروحهما.
دخلت شمس اولاً، ثم منال فرحب الطبيب بها، ونظراته مصوبه على شمس..التي شعرت بالخجل منه، فجلست بجانب منال تنزوي من نظراته الجريئة.. نظراته شملتها باعجاب واضح.
- مين دي يا حجة؟، بنتك.
ردت منال بعفوية، قائلة:
- شمس بنتي...
كان حديثهم يتزامن مع دخول سليم للغرفة، فتجهم وجه، مغتاظًا من رد والدته، وذلك الطبيب المعتوه، دخوله اربك الطبيب الذي ابعد بصره بصعوبة عن شمس فلاحظ سليم ذلك، اما شمس توترت فجأة وكأنها تقدم على كارثة، ولكن رد فعل سليم جعل الدماء تتسرب من عروقها، حينما جذبها من يدها واجلسها بجانبه، قابضًا فوق اصابعها في تملك، محاولاً التحكم بنفسه كي لا ينفجر بوجه الطبيب، رغم ابعاد نظره عنها..
نهض الطبيب لغرفة الفحص مع منال والممرضة، بينما جلست شمس بجانب سليم ترمقه بنظرات حب وسعادة لغيرته، رغم أنه كان هادئًا يتجاهلها او كان يتظاهر بذلك، ولكن زادت نظراتها له، تنهد بصمت، وركز ببصره على غرفة الفحص، فلاحظ جسد الطبيب الذي كان يلتفت بين اللحظة والاخرى يخطف نظرة لشمس بطرف عيناه، ترك سليم يدها ثم حاوطها واضعًا كامل ذراعه حول كتفيها..
ابتعدت شمس عنه بخجل او حاولت هذا:
- سليم، مينفعش كده نزل ايدك من على كتفي..
همست بها وعيناها تحذره، فحرك رأسه رافضًا حديثها دون أن يتحدث، زمت شفتاها بضيق، ووجنتاها تعبر عن مدى خجلها..بينما ارتسمت بسمة صغيرة فوق ثغره، غير منتبهًا لانصهارها الشديد تحت قبضة يده.
الفصل السادس..
في صباح اليوم التالي...
راقبت شمس خروج سليم من الباب الخارجي للمنزل، وفور مغادرته تحركت بخمول صوب المطبخ كي يبدأ يومها، فاستوقفتها منال قائلة:
- رايحة فين يا شمس..
ردت شمس في هدوء فاتر:
- هبدأ في تحضير الغدا يا ماما.
هزت منال رأسها بنفي قائلة:
- لا أنا هعمل، ادخلي انتي اوضتك اللي بقالك كذا يوم مدخلتيهاش دي..
أنهت حديثها بغمزة خفيفة، ولكن قابلتها شمس بعيون حزينة فاقدة للشغف:
- لا ماليش مزاج..
قاطعتها منال حينما اقدمت نحوها ثم دفعتها برفق نحو الغرفة، مردفة بإصرار:
- المزاج هيحضر كله لما تدخلي الاوضه، يلا ادخلي انتي بس...
فتحت شمس مقبض الباب بتردد أصاب عقلها في الآونة الاخيرة، لقد كان الأمر في بدايته مجرد إخفاء حلم أقدمت على تنفيذه، ولكن مع مرور الوقت اصطحب للبعض من الاكاذيب... فشعرت بأن العالم التي رسمت خطوطه لنفسها وظنت أنه العالم الوردي المليء بالنجاحات كان يخفي مصاعب يصعب حلها.
اشعلت الضوء فظهر عالمها المكون من غرفة صغيرة في شقة والدي سليم...كانت مجرد غرفة تضم العديد من الاشياء غير اللازمة، وتحولت مع الوقت لغرفة يخرج منها رسوماتها للعالم أجمع.. كانت تتكون من وسادة كبيرة مصنوعة من الخيوط البدوية ذات الالوان المبهجة، ومجموعة أوراق متناثرة في الارضية بجانبهم العديد من اقلام الرسم الخاصة بها، وحامل يضع به كاميرا مثبته على وضعية الاوراق...أشياء بسيطة وجدت بها حلمها والذي فقدته رغبة من سليم.
رغبة ندمت عليها فيما بعد، ولكن كانت تنساق خلف دقات قلبها المتعلقه برجل لا يسمح بأمورًا عديدة، رجل اغلق عليها وكأنه يخشى عليها من ذرات الغبار في الطريق، تتفهم ذلك من عيناه العاشقة لها..فاستسلمت له حفاظًا على وصال حبهما.
بعثرت الاوراق بيدها تحاول البحث عن فكرة جديدة للرسم تخرج بها من عمق أفكارها، وهواجس مخاوفها، تعود بها إلى أمان ولذة اللحظة الاولي حينما دخلت لهذه الغرفة ورسمت بأول فيديو لها..لم تتوقع نجاحه على وسائل التواصل الاجتماعي، لم تتوقع عدد المتابعين يوميًا لها، مرسلين لها العديد من الافكار للرسم..او الشخصيات المهمة او كلمات الاعجاب برسوماتها.
كانت سعيدة في بادئ الامر..ولكنه تحول لشيء مرهق، ثقيل على قلبها رغم شعورها بالحنين لذلك..
تغلب الحنين عليها بعدما تلألات الالوان أمامها، وكأنهم ينادوها كي تسبر بهم إلى عالمها المفضل، تمسكت بالقلم وعدلت من وضعية الورقة ثم قامت بوضع الكاميرا على وضع التصوير، حيث كان عدستها تتركز على يدها فقط لا غير..
وبدأت شمس في الرسم بما يدفعها عقلها، فشعرت بالتشوش للحظات..جذبت بهم أنفاس عميقة وبدأت تعود لحالتها القديمة ولحماسها تدريجيًا..تتذكر اثناءات معجبيها من خلال حسابيها الوهمين على ما يسمى
" بتيك توك وانسجرام" حسابين يضموا معلومات وهمية عنها حتى لا يتعرف على سليم أبدًا...رغم أنها تتأكد من كره للوسائل التواصل الاجتماعي لذا هو غير نشط بالمرة.
***
وضعت منال أكواب القهوة أمام زوجها وعيناها لا تفارق باب الغرفة، ابتسمت بسعادة:
- الحمد لله رجعت للحاجة اللي بتحبها.
أبعد محمد الجريدة عنه مردفًا بضيق:
-وهي مكنتش بتدخل الاوضة ليه.
- هي مقالتش، بس أنا فاهمة..علشان مخبيه عن سليم..واخر مرة والورد...
قاطع محمد حديثها مردفًا بحدة طفيفة:
-يعني هي حاسه المفروض نشجعها...
- نشجعها على ايه على خراب بيتها، البت مغلطتش بتعمل حاجة مش عيب، فيها إيه دي وبعدين انت كنت موافق معانا من الاول.
عاد الجريدة أمامه مرة أخرى مردفًا بنبرة يتخللها الندم:
-اتسرعت وراكوا.. نهايته أنا هتصل على ميرفت اختى اعزمها على الغدا بكرة.
توسعت عيون منال بصدمة، وهي
تشير بيدها بعصبية:
- تاني يا محمد... ميرفت هتعزمها تاني..هو في ايه، أنت عايز تقهر سليم وخلاص...ده مش سليم بس ده تقهرني أنا كمان معاه.
القى محمد الجريدة بجانبه، ناهضًا بعصبية:
-تاني وتالت ورابع، دي اختي يعني صلة رحمي.
نهضت منال بالمقابل، وبنفس العصبية اردفت:
- اختك اللي ضرتك في اكل عيشك، اختك اللي موقفتش جنبك وجت طلبت فلوس ميراثها بكل بجاحة مع انك عمرك ما قصرت فيها.
- هى حرة ده حقها..تطلبه في أي وقت، أنا عازم اختي في بيتي ومالكيش أي حق تعارضيني.
دخل محمد غرفته، وعيناه يسودهما الغضب، ناقمًا على زوجته التي تصر على اغراقه في ماضيهم، رغم محاولته في النجاة منه، لم يكفيها الابتعاد عن تجارته المفضلة بعد نكسة قسمت ظهره، وطاحت باسمه في سوق الذهب..رغم أن قلبه يكمن به ذرة من الحزن اتجاه اخته الا أنه يتجاهلها..فالبنهاية هي صلة رحمه ولن يغضب الله من أجل اموالاً او امورًا تافهه..فعلاقته بأخته أهم من أي اموال قد تتسبب في هدم صلتهم...
اما بالخارج فكانت منال تتلوي غيظًا وقهرًا منه، الم يكفيه بعد من تلك الحرباء...لِمَ لا يسلط الضوء على افعالها بحقهم..لِمَ لا يرى مخططاتها للايقاع به دومًا...حتى أنه لم يصدق حديثها هي وسليم أن زوج اخته هو السبب الرئيسي في نشر الاشاعات بين التجار عن افلاسه..وبالتالي الجميع نفر من التعامل معه..وهو السبب ايضًا في تراخيص المحل الذي كان يقدم والده على شرائه وبالنهاية كانت البيعة بها عقبات كبيرة لدرجة أنه خسر بها جزء كبير من امواله وتراكمت الديون عليه.
مرت بالعديد والعديد..وبالاخير يريد تجهيز وليمة لها تحت بند اخته..حرباء متلونه تريد هدم ولدها سليم كي يخلو الساحة لسمير وزوجها.
وضعت يدها على قلبها ودموعها انسابت في حزن:
- ربنا يحميك يا سليم، ويحفظك من كل شر.
***
خرجت ليال من شقتها فوجدت جارتها "ام تسنيم " تقف أمام الباب وعلى وجهها ابتسامة عريضة، كمن يرحب بزائر مهم..رفعت ليال حاجبيها وبنفس عجرفتها قالت:
- خير!.
- خير ياختي، هتدي تسنيم امتى؟!
عقدت ليال حاجبيها بعدم فهم واشارت على تسنيم التي كانت تلعق شيء تجهله بنهم:
- مين قالك ان تسنيم هتاخد عندي..
حركت ام تسنيم رأسها يمنيًا ويسارًا تمتم بكلمات غير مفهومة، حتى صاحت مؤكدة:
- اسطى سيف قالي كده امبارح والله.
رددت ليال خلفها ساخرة:
- اسطى سيف...امممم.
مرت لحظات من الصمت حتى عقدت ليال يدها أمامها، قائلة بوقاحة:
- وانتي هتقدري على فلوس درسي، أنا باخد ٦٠٠ جنية.
ضربت ام تسنيم صدرها وشهقت بعنف:
- ٦٠٠ جنية مرة واحدة، ده أنا بعيش بيهم شهر كامل.
زمت ليال شفتاها بحنق:
- والله ماليش في اللي بتقوليه ده كله، شوفيلك حد تاني.
وقبل أن تخطو ليال تذكرت اجندتها الخاصة، فعادت لشقتها مرة، تحت انظار ام تسنيم التي تلوح بعدم رضاها عما سمعته.
جذبت تسنيم خلفها وهرعت للاسفل نحو ورشة سيف تخبره عن وقاحة ليال تلك..وبالطبع لم تستغرق سوى دقائق واخبرت سيف بما حدث، مُصرة بالابتعاد عن ليال تلك، فاسلوبها غير مهذب غير أنها تتعامل بتعالي شديد بالاضافة إلى سعر درسها الغالي..حاول سيف المساعدة وهو عن طريق دفع حق الدرس كاملاً، الا انها رفضت بشدة وغادرت الورشة.
وفور خروجها دخلت ليال بعد عدة دقائق تحمل شحنات الغضب نحوه، دخلت للورشة دون أن تراعي بكم النظرات التي كانت تلاحقها، والهمهمات التي كانت تتمحور عليها، بالنسبة لها أمر عاديًا..ولكن لسيف فهو تعدي على أصولهم وعاداتهم، فخرجت نبرة صوته عالية بعض الشيء:
- انت مبتفهميش، ازاي تدخلي قدام الرجالة الورشة.
تبجحت قائلة:
- وادخل قدام اتخن تخين..أنا مبعملش حاجة غلط، أنا داخله علشان ازعقلك...
وفي لمح البصر كان يقبض فوق مرفقها يجذبها نحو زاوية ينخفض بها الاضاءة، وبزمجرة حادة قال:
- لمي لسانك..علشان لو فكرتي مرة تانية تتمادي هقطعهولك.
نفضت يده بعيدًا عنها، قائلة بصياح:
- غلطان وبتبجح ياخي، أنا عايزة اعرف مالك بيا، تبعت ام تسنيم وتقولها هدي بنتها درس وانت عارف ان سعر الدرس عندي غالي عليها..قصدك ايه باللي بتعمله.
- والله أنا فكرت انك عايزة تعملي حاجة لاخرتك وتدي البت الغلبانة درس ببلاش.
ضحكت ساخرة وبشراسة هاجمت:
- بلاش..لا كان في وخلص خلاص..الزمن ده مبقاش يأكل ببلاش فأنا مش هدي دروس ببلاش.
رمقها باشمئزاز من افكارها الدنيئة الممزوجة بالطمع:
- هستنى من تفكير واحدة زيك إيه!.
ارتسمت ابتسامة عريضة على محياها وهي تهتف باستفزاز:
- معلش يعني وانت ليه تستنى مني، علاقتك إيه بيا غير انك خال البت اللي بديها درس، بعد كده مالكش دعوة بيا ولا ليك علاقة ببنت اختك في الساعة اللي بديها درس..يا اسطا.
أنهت حديثها وخرجت من الورشة بعيون تشتعل من الغضب، فقابلت نظراتهم المستفسرة، تجاهلتها واتجهت صوب عملها، بينما كور سيف يده بقوة متمنيًا ضربها حتى موتها، وتنتهي قصة اعجابه بتلك الفتاة التي تجردت منها الرحمة والادب.
***
وضعت شمس الملعقة بصدمة وهي تنظر للباب تارة ولمنال تارة أخرى:
- بجد بابا هيزمعهم تاني..دي اخر مرة قلبت بخناقة ما بين سليم و بينهم.
وضعت منال يدها على رأسها وهي تقول بعجز:
- اعمل ايه ده كلمها..طيب مين هيتجرأ ويقول لسليم...
وقبل أن تبدي برأيها، قالت شمس في نفي قاطع:
- أنا استحاله اكلمه في الموضوع ده، طلعيني برة الموضوع ده.
دخل زيدان المطبخ وهو يضع يده في جيب سرواله:
- لا انتي انسب حد يقوله، متتهربيش، أنا مبيطلقش كلمة..ويزن مبيتكلمش جد ووقت الجد هيهرب..وكالعادة ماما وبابا مبيقدروش يقفه قصاده.
أصرت على رأيها، قائلة:
- أنا ماليش دعوة، بصوا خلوها زي المرة اللي فاتت مفاجأة.
أكد زيدان على حديث شمس وهو يلتقط خيارة ناضجة يقطم منها بتلذذ:
- امممم، كلامك صح، والخناقة تبقى واحدة ونخلص.
ضحكت شمس بخفة، فشاركها الضحك، بينما رمقتهم منال بحنق وغيظ..عادت شمس نحو الطنجرة تستعيد نشاطها في الطهي، فهمس زيدان لها.
- عملتي فيديو جديد.
هزت رأسها بالايجاب ثم قالت بخفوت:
- ايوا بس مش عارفة حلو ولا لا.
- ابعتيه واشوفه.
همست بشكر:
- شكرًا يا زيدان..
التفت كي يغادر ولكنه عاد قائلاً :
- معرفتيش مين اللي بعتلك الورد.
انتبهت منال لحديثهما وخاصةً حينما أجابت شمس:
- اه عرفت لما فتحت الاكونت، لقيت مسج جايلي من اخو البنت اللي بعتلها البورتريه على بيتها، لقيته بيقولي انه حلو جدًا وعاجبها اوي، وحضرته فكر يرد الهدية دي وكلم شركة الشحن واخد عنواني وبعتلي الورد.
ردت منال على الفور حينما تذكرت:
- مش دي البنت مريضة القلب.
- ايوا يا ماما.
عادت منال قائلة بضيق من رد فعله:
- طب مش قولتليه ليه انه سببلك مشاكل.
- اتكسفت ياماما..بس قولتله ان مبقبلش هدايا والراجل ذوق واعتذر ووعدني انها مش هتتكرر.
تفهم زيدان الوضع، مردفًا:
- حصل خير يا جماعة، وانتي يا شمس لو عايزة تبعتي أي هدية لحد قوليلي وانا اتصرف، بلاش انتي تدخلي مع الشركات الشحن.
هتفت منال مؤكدة:
- ايوا كلام زيدان صح يا حبيبتي.
***
في المساء..
دخل سيف لغرفة أخته..حاملاً قميصه بيده ومعه صندوق من الخيوط، طالبًا مساعدتها..صدمته بوجهها المليء بالوان المساحيق الغالب عليها السواد بسبب دموعها المخلوطه بهم.
- بسم الله، أنتي بتلوني في وشك يا فاطمة.
نطقت حروفها شرزًا:
- ابعد عني أحسنلك يا سيف.
اقترب منها سيف، مردفًا بقلق:
- مالك في ايه، بتعيطي ليه..
صمتت للحظة تمنع نفسها من الحديث، ولكنها لم تستطيع فانفجرت قائلة:
- تتخيل المعفن طليقي يقول عليا ان وحشة ..أنا وحشة يا سيف..أنا.
أشارت على نفسها والتفتت صوب المرآة تلقي نظرة فوق ملامحها، بعدما استطاعت تلك الكلمات في هز ثقتها بنفسها، أخرجها سيف من واقع تأملها بصوته الغاضب:
- هو اتجنن أزاي يتكلم عليكي ابن الـ...، انتي عرفتي الكلام ده منين.
جذبت منديلاً ورقيًا مسحت به وجهها الملطخ.
- امه كانت عند عروسة النهاردة والكلام وصلي.
ضيق سيف عيناه متسائلاً:
- وهو كان مع امه؟
حركت رأسها بنفي، وابتعدت بعينيها عنه.
- طيب يبقا امه اللي قالت مش هو.
اغتاظت من بروده، وتساهله بالأمر:
- على لسانه يا سييف، على لسانه.
القى سيف قميصه فوق الفراش، مردفًا بحكمة:
- انتي عارفة كويس أن امه بتكر..هك، أكيد قالت الكلام ده من دماغها.
اقتربت نحوه تضربه بصدره من شدة غيظها:
- انت بتدافع عنه يا سيف، هي دي اخرة الاخوه ما بينا..ده طلق اختك.
ابتعد عنها محافظاً بقدر الامكان على مشاعرها المجروحة، فقال بخفوت:
- لما انتي طلبتي منه كده.
التفتت نحوه مرة أخرى، تهتف بشراسة ممزوجة بقهر أصاب خلايا قلبها:
- المفروض يتمسك بياا.
مسحت دموعها بقوة، ثم عادت تقول:
-اقعد ساكت انت ايه اللي دخلك في الامور دي.
وضع يده على صدره، قائلاً بلامبالاة وابتسامة مصطنعه زينت ثغره:
- طيب ياستي انا اللي غلطان، أنا خارج.
وقبل أن يغادر التفت بجسده، يمنحها عبارة قصيرة تعيد ثقتها:
- على فكرة أنا طولي عمري نفسي اتجوز في جمالك يا فطوم، خلي ثقتك كبيرة في نفسك.
ابتسمت بدلال له وكادت أن ترد ، ولكن صوت رنين جرس الباب جذب انتباههم:
- افتح انت وشي متبهدل اوي.
أومأ برأسه ثم ذهب ليرى الطارق، وتفاجأ بـ ليال تقف وملامح الفتور تحتل وجهها، رفع جانب شفتاه باشمئزاز:
- هو أنتي..انا ماشي من وشك.
ابتعدت عنه بحنق تقابل نظراته بالمثل تمامًا، لم تمنع نفسها من القاء حديثها الوقح:
- اووف الجو بقا ملزق فجأة.
استدار بكامل جسده نحوها يرمقها بغضب، فاسرعت واغلقت الباب في وجهه، رفع حاجبيه مندهشًا منها:
- دي قفلت باب بيتي في وشي.
***
اغلق سليم باب شقته، خطى خطواته لداخل الشقة ويده الاخرى تعبث بهدية اقتناها اليوم لشمس...لا يعرف سبب اقتنائها، ولكن دفعته مشاعره لذلك، شاعرًا براحة غريبة تغلغل قلبه، اختار سلسة صغيرة يتدلى منها حجر أسود على هيئة قلب ذو حواف ذهيبة رقيقة...تشبها في رونقها أو تشبه قلبه.. لا يعلم سوى أنها ستكون رابط بينهما.
بحث عن شمس في ارجاء الشقة، التقطت عيناه أنس يجلس امام التلفاز بوجه عابس، اقترب منه سليم مردفًا بهدوء:
- مالك يا أنس.
هز أنس كتفيه بضيق طفولي:
- مفيش.
جلس سليم بجانبه مقبلاً إياه في وجنتيه:
- لا فيه..في حد زعلك.
هز أنس رأسه بنفي والتزم الصمت، فكر سليم في أسباب حزنه الواضح على وجه، فقال:
- عايز تقعد مع تيته شوية وماما رفضت.
اندفع انس بحديثه حانقًا عليهم جميعًا لعدم تلبية طلباته:
- اصلاً كلهم ناموا...وقولت لتيته عايز كيكة قالت بكرة..وقولت لعمو زيدان العب معاه، قالي بكرة..كله بكرة بكرة ومفيش حد هيعملي حاجة بكرة.
طبع سليم قبله فوق وجنته، مانعًا نفسه كي لا يضحك:
- هبعت اجبلك كيك..وهالعب معاك متزعلش.
- بجد يابابا...ولا هتقولي بكرة زيهم..اصلا لو عملت كده هزعل منك..اخت جدو الوحشة هتيجي بكرة وكلكوا هتبعدوا عني.
قطب سليم مابين حاجبيه مردفًا بعصبية طفيفة:
- ايه...مين جاي بكرة.
تراجع أنس على الاريكة بخوف وردد ما سمعه اليوم على مسامع سليم..فانطلق سليم كالمجنون صوب غرفته فتح باب الغرفة بقوة
لم يجدها..فانطلق صوب المرحاض وفتحه دون استئذان..صرخت شمس بذعر وجذبت الستارة عليها تخفي نفسها خلفها..قائلة بصوت مرتجف يتخلله الخجل:
- ايه ده يا سليم..في حد يعمل كده.
اقترب سليم بعصبية:
- اطلعي كلميني..ايه الجنان اللي بيحصل ده، ازاي عمتي جاية بكرة.
رددت خلفه بهمس وعقدت حاجبيها بعدم فهم، فخرجت برأسها من خلف الستارة تقول:
- هو مين قالك؟.
اهتزت مشاعر سليم للحظات وهو يرى وجهها المبلل وعيناها التي تحاول فتحها بسبب قطرات المياة المتساقطة من خصلات شعرها المتناثرة حول وجهها...لازالت تأسر مشاعره في زاوية من العشق...فاضطرب قلبه بالحنين إليها.
- سليم هات البورنص لو سمحت.
زفر بقوة..ملزمًا نفسه بعدم الانسياق خلف مشاعره، فقال بضيق:
-خدي..انس اللي قالي ياشمس ايه كنتوا مخبين عليا زي المرة اللي فاتت.
التقطته منه فخرج كامل ذراعها له، تزامنًا مع نظراتها المفعمة بالحب وشيئًا اخر جهله..او ادركه منذ للوهلة الاولى ولكنه بطريقة طفولية معتوهة...شمسه تحاول اغراءه بذراعها!، هل يعقل؟
خرجت بعد دقيقة استغرقتها في احكام الروب حولها والتفكير في عقاب لأنس بعدما افسد ليلتها .. وما إن لامست قدمها الارض شعرت بجذبه قوية جعلتها تلتصق بصدر سليم..قابضًا فوق الروب بقوة فتمسكت بيده، كي لا يحاول فتحه.
- أنتي عايزة إيه؟
رمشت بأهدابها ببلاهة:
- والله ما عايزة..انت اللي عايز.
ابتسم باستهزاء واضح:
- متأكدة يا شمس، انك مش عايزة.
فكرت للحظات باستغلال الأمر كي تمتص غضبه او تقتلعه من جذوره وتنجح لأول مرة بشيء فشلوا جميعًا به..ربما أسلحتها الانثوية فتاكه لدرجة انهاء عواصف غضبه التي ستبدأ اليوم مرورًا بعدة أيام بعد لقاء عمته، لذا بللت طرف شفتاها بنعومة، وهمست بخجل:
- وحشتني.
ضيق عيناه بمكر:
- وايه كمان ياشمس.
- مش وحشتك؟
تسألت بعيون يملؤها الشغف، فرد عليها بنبرة يغلب عليها الغموض:
- انتي حاسة إيه؟
- عينك بتقول اه...بس أفعالك بتقول لا.
- بس افعالي نابعة من جوايا، يبقى إيه يا شمس.
اتسعت ابتسامتها بدلال فداعبت عنقه بمكر أنثوي:
- يبقى وحشتك.
اقترب منها لاثمًا ثغرها في قبلة صغيرة:
- وإيه كمان.
توردت وجنتاها خجلاً:
- سليم حبيبي مش هيتعصب، ولا هيضيع علينا يوم جاي بدري فيه.
هز رأسه تزامنًا معها، هامسًا أمام شفتاها:
- اممم..أي اوامر تانية؟.
- وهيعدي بكرة على خير علشان خاطر والده، مش صح.
همس أمام شفتاها مجددًا وقد تقلصت المسافة بينهما:
- يمكن.
رفعت عيناها تقابل خاصته في شوق داعب أوتار قلبها، لقد اشتاقت لرؤية الحب بعينيه..للشعور به من خلال مشاعره..حتى وإن كانت صامته لن يهم..كل ما يكفيها الشعور بحبه.
إما هو فثارت أحاسيسه وطالبته بالاقتراب منها، كي ينعم بدفئها، وماهي إلا ثواني وقبلها بنهم وشوق أشعل قلوبهما.
دق قلبها بعنف حينما تعلقت بعنقه، وكأنه الهدى لفؤادها..وعقلها يردد " وقد اكتفيت بك حبيب .. ورضيت بنظرة الحب التي تغمرني بها، فتنقلني إلي عالم به سحر خاص، أكون به الأميرة وأنت الفارس الـ... .