رواية ندبات الفؤاد
الفصل السابع والثامن
بقلم زيزي محمد
الفصل السابع..
في اليوم التالي..
هبطت ليال درجات السلم وصولاً إلى شقة سيف، طرقت الباب بوجه جامد، ومشاعرها تتحفز تلقائيًا للقائه، وقد كان ظهر سيف من خلف باب شقته، وفور رؤيته لها، رفع ساعة يده ينظر بها:
- خير مش معاد درسك؟.
هزت كتفيها بلامبالاة ظاهرية:
- الكلام مش معاك، الكلام مع فاطمة.
- وفاطمة مش هنا.
قالها بضجر، فالقت نظرة اشمئزاز نحوه، ثم التفتت تسلك طريقها دون أي حديث، فعلى صوته متسائلاً:
- انتي رايحة في...آآ..اقصد انتي عايزة فاطمة ليه؟
رفعت حاجبيها بوقاحة قائلة:
- وانت مالك..
- لمي لسانك احسنلك.
زعق بها وقد فاض الكيل من معاملتها، وكالعادة توقع مجادلتها له فاقتربت منه بتهديد وإصبعها يشير له في حده:
- متتكلمش معايا بالطريقة دي..
راقب اصبعها المشير له، وجذب انتباهه لون طلاء اظافرها الفاقع، واثناء استغراقه بيدها وأصابعها الصغيرة، التقطت اذنيه قولها الساخر:
-أنا بقول لمين..ياحرام مبتعرفش تتعامل مع بنات.
رفع عيناه يطالعها ببرود:
- لا بعرف اتعامل وبفرق كويس بين البنات المؤدبة والبنات القليلة الادب.
صاحت باستنكار:
- قصدك إيه؟، انت كده تجاوزت حدودك.
ابتسم بتهكم ليقول:
- وبالنسبة للتجاوزات اللي بتعمليها، تأخيرك كل يوم، لبسك، شعرك اللي طالع من طرحتك، ماتقعليها أحسن، وشك اللي زي البلياتشو..دي كلها مش تجاوزات.
رمشت بأهدابها عدة مرات غير مستوعبه حديثه، واهتمامه بتفاصيلها، لقد قرأت بعينيه الغضب، ولم تستطيع تفسيره سوى أنها اعتراضات ليس له حق بها، فاغتاظت قائلة:
- انت مالك بكل ده؟.
وبخ نفسه على تسرعه بالحديث، ولكنه لم يظهر ذلك، بل تمسك بقناع الحدة مجيبًا:
- جارتي، وبعاملك زي اختي..
اهتزت مشاعرها للحظات لحديثه، لا تعلم سبب اضطراب داخلها، هل لأنه أبدى اهتمامه؟، وهي تفتقد لذلك، هل تتوق لمعنى الاخوه؟..ام كانت تنتظر منه مشاعر أخرى رغم أنها تعلم لا يمكنهما التوافق، بلعت ريقها بتوتر اثر جلجلة حدثت بمشاعرها، فقالت بصوت مرتجف:
- بس أنت بتزعقلي على طول، مبتتعاملش معايا كأني أختك.
رد سريعًا بحنق:
- من عمايلك السوده.
عادت لعادتها القديمة، ورمقته بسخط، موبخه نفسها على الانجراف خلف مشاعرها التي لن تجدي معها في حياتها البائسة، غير منتبهه بالمرة لتحذيراته عن تصرفاتها والتي قد تسقطها في بئر من الوحل لن تجيد الهرب منه مهما فعلت.
حافظت على ملامحها الحادة بقدر ما يمكنها، وقالت وهي تستعيد للهرب من عينيه التي تحاول الامساك بها في منطقة لا تجيد تسميتها سوى أن بداخلها تستشعر بأحاسيس جديدة لأول مرة.
- بلغ اختك الدرس هيكون الساعة ١٠.
قالت كلماتها وانطلقت صوب الدرج تستكمل طريقها، فاستوقفها متسائلاً:
- الصبح.
ردت دون أن تعيره انتباه:
- لا بليل.
اختفت من أمامه، فزم شفتيه بغيظ وتمتم:
- يابجاحتك.
***
دخلت شمس شقتها، وهي تتسابق مع دقات الزمن، فقد قاربت الساعة على الرابعة وهذا الموعد المحدد للغذاء، وهي الآن لم تستعد..ركضت صوب غرفتها ومنها إلى المرحاض، وقبل أن تدخل، استوقفت نظرًا لصوته الساخر الذي صدح في أرجاء الغرفة:
- هتقعي يا شمس.
استدرات وقد تملك الذعر من ملامحها:
- أنت هنا..
- ايه عايزني افضل في الشغل، ومحضرش المقابلة اللطيفة دي!.
رمقها بنظرة غامضة، فتنفست الصعداء بعدما حبست أنفاسها للحظات عقب ظهوره المفاجئ، اقتربت منه في خطوات متمهله للغاية وعقلها يبحث عن فكرة لامتصاص غضبه كي يمر اليوم مرور الكرام.
وقفت على بعد خطوة واحدة منه، وراودها فكرة قد تصيب وترحمهم جميعًا من توتر نفسي أصابهم :
- إيه رأيك أنا وأنت وأنس نخرج في أي مكان دلوقتي.
هز رأسه رافضًا فكرتها، واكتسح البرود ملامحه، منتظرًا أفكار متتالية تختلقها كالعادة كي تنقذه من ذلك اللقاء، هي تسميه دائمًا انقاذ خوفًا على مشاعره المتأثرة بماضيه المؤلم والتي قد سمعت عنه من خلال بعض المواضيع غير المكتملة من منال...وفي عُرفه هروب من مواجهة..دائمًا تحسم لأجله!.
انتبه لجلوسها على ركبتيها أمامه، ثم اقتربت منه أكثر وداعبت ازرار قميصه، عندما لاح بذهنها استخدام أسلحتها الانثوية في الهائه، ولكنه ابعد يدها عنه مجيبًا بصوت يملؤه الحقد والقسوة:
- هنزل يا شمس ومش هخليها تسوى حاجة!.
نهض بكامل هيبته، واتجه صوب باب الغرفة وقبل مغادرته أشار نحو الفراش:
- في لبس هناك، البسه ولفي الطرحة كويس عليكي.
القى بكلماته المناقضة، مظهرها يحمل برودًا وداخلها يتأجح بنيران الغيرة، ضحكت بصوت مرتفع نظرًا لفشلها في محاولاتها الواهنة في اقناعه.
نهضت بخفه واقتربت من الثياب، فوجدتها عباءة خليجية من اللون الأسود مزرقشة بالالوان الهادئة..ابتسمت بلطف وغيظ في آن واحد، حتى ثيابها يتدخل بها، فحرية الرأي معدومة لدى زوجها.
***
بالاسفل..
هبطت ميرڤت من السيارة اولاً ثم زوجها ابراهيم..وبعدهما نهى ذات الثانية والعشرون ومن بعدها سمير..وقفوا جميعًا بجانبها، منتظرين إنهاء فقرة التأمل التي تلتهي بها أمام منزل أخيها..شملت البناية من الخارج بنظرة حاقدة، أنفاسها تعبر عن ضغائنها نحو أخيها لسنوات عديدة، طالما كان الافضل في كل شيء حتى منزله لم تستطيع بناء واحدًا مثله.
لم يكن الحقد من ناحية ميرڤت فقط، حتى أن ابراهيم زوجها طالع المنزل بنقم وغل، حول بصره نحو زوجته مندهشًا من مخزونها الذي لم ينتهي بعد، لم تهدأ ثورتها الحاقدة اتجاه أبناء أخيها..عكفت في السنوات الماضية على اسقاط ثروة أخيها ولكنها فشلت بسبب دهاء سليم والذي صعد السلم بسرعة كبيرة..سرعة جعلته لم يلتفت خلفه، حاول معها إيقاعه..او إخفاء اسم أخيها من تجارة الذهب..ولكن الفشل كان يلاحقهما في كل خطوة..والنجاح يكتب سطوره العظيمة في تاريخ سليم الشعراوي..
شعورهما كان مناقضًا لنهى ابنتهما وما تحمله من مشاعر الحب والاعجاب المتيم بزيدان...ذلك الرجل الذي نبض قلبها له منذ بداية مراهقتها، واستمر الحب داخلها حتى تزايد تدريجيًا وأصبح القلب عاشقًا لتفاصيله الرجولية..نابضًا لأجله فقط.
شعر سمير بالضجر، محركًا بصره نحوهم:
- في إيه، يلا ندخل..
تبرمت ميرڤت:
- مستعجل على إيه ياخويا.
على النقيض هتفت نهى بحماس حاولت اخفائه بقدر الامكان:
- علشان ميزعلوش اننا اتاخرنا.
حركت ميرڤت فمها يمنيًا ويسارًا، تندب حظها التعيس بسبب ابنتها التي فقدت بها الأمل.
- يلا ياختي، خلينا ندخل.
دلفوا جميعًا لداخل المنزل، فوجدوا محمد في استقبالهم مرحبً بهم بحفاوة:
- اهلا..اهلا..نورتوا..
بادلته ميرڤت التحية بفتور، قائلة بعدم رضا:
- مراتك فين يا محمد، المفروض تكون في استقبالنا.
ظهر صوت سليم خلف والده متهكمًا:
- استقبال مين؟.
رفعت إحدى حاجبيها بحدة، ورمقته بغضب ممزوج بالكره:
- عمتك يا سليم افندي...ابنك باين عليه مش عارف الاصول يا محمد.
وقبل أن يرد سليم، كان والده يتحدث بحدة طفيفة:
- لا عارف يا ميرڤت، سليم زينة الشباب.
- انتوا واقفين بتعملوا إيه يا جماعة، ادخلوا يلا.
صدح صوت شمس من فوق الدرج تطالعهم بابتسامة مجاملة من باب الذوق والأدب..فحدجها سمير باعجاب قاصدًا إغاظة سليم:
- كلك ذوق يا شمس...
قاطعه سليم بصوته الجهور محذرًا إياه بقسوة:
- مدام شمس يا سمير، حدودك متتعدهاش.
رفعت ميرڤت يدها لأعلى وبدأت نبرة صوتها بالارتفاع والصياح المستنكر لحضرتهم:
- لا بقا..انت جايبنا هنا تهزقنا ولا إيه يا محمد.
فرك محمد وجهه بعصبية بعدما سيطر عليه الانفعال لِمَ يحدث:
- لا تهزيق ولا حاجة، أنا جايب اختي وعازمها على الغدا..
أشارت نحو سليم بعصبية مماثلة:
- ابنك مش جايبها لبر..وطايح فينا، المفروض يتعلم اني عمته ويحترمني غصب عنه.
- مش هسمح لأي حد يتعدى حدوده معايا.
انفجر بها سليم غاضبًا، وقد ارتفعت نبرته حتى جذبت انتباه يزن وزيدان ومنال بالداخل، نبرة تحمل كم القهر الذي عاناه وحده، كم حاربه زوج عمته، العديد من المؤمرات المدسوسه بأمر من عمته في عمله للايقاع به، ولولا والد شمس لحذف اسمهم من تاريخ تجارتهم للابد، لم يجد منها الحنان، حاربته بقسوة وكأنه عدو وليس ابن أخيها، حتى أنها لم تشعر بالاحراج حينما أبدت كرهها بوضوح، أي عمة تلك وهي تتعامل معهم بكل نفور وتعالي وكره؟..
تدخل زيدان مهدئًا اخيه، فوقف بالمنتصف موجهًا حديثه لكليهما:
- استهدوا بالله يا جماعة...
بنظرة خبيثة، وبتفكير شيطاني لعبت فوق وتر شديد الخطورة لدى سليم:
- كلك ذوق يا زيدان، كلك ذوق يا مشرفنا، اه ماهو مش أي حد يبقى ظابط بردوا لازم يكون عاقل وله هيبة كده.
رمقها زيدان بعدم فهم لمغزى حديثها، ولكنه شعر بنيران متوهجة تخرج من ناحية سليم، فالتفت نحوه يرمقه باستفهام، بالمقابل انكسار لامس عيون سليم..جروح مهما دواها الزمن ستظل ندوب تعيق مجرى حياته، أين السبيل، وكيف؟..لا يعلم سوى أنه يريد أن يفتك بتلك الحرباء والتخلص منها.
بعد مرور دقيقة نجح بها زيدان في اسكاتهم، هدأ الوضع في ظل صمت منال الطويل، وأثناء دخولهم واحدًا تلو الأخر بعد إشارة محمد لهم، تقابلت عيون سليم بوالدته، نظرات صامتة تحمل أحاسيس صعب التطرق إليها، كلاً منهما يحتفظ بمشاعره المؤلمة.. ولا يريد مصارحة الأخر، ولكن حديث العيون له مساحة خاصة، رغم وجعه..وبسببه تدفن الروح في كنف القسوة، وتفقد القدرة عن التعبير.. حالتهما ببساطة في التعبير هي الندم..وهو الالم.
ابعد سليم نظراته عن والدته، مقررًا الهروب من ذلك الواقع، شاعرًا بتضخم جروحه، متأكدًا أن جلوسه أكثر سيهدم علاقة أبيه بعمته، ولن يصبح هو القشة التي تقسم ظهر أبيه...علاقته بعمته منتهيه لا أمل بها.
هبط درجات السلم وجسده يتشنج بالغضب، فاستوقفته والدته بقلق:
- رايح فين يابني.
- في داهية.
القى بكلامه وغادر المنزل بينما شعرت منال بالقهر والندم..مسحت دموعها بعد مغادرته وقررت أن تدخل وتعيد تربية تلك الحرباء من جديد.
اما بالداخل فكان يزن يكرر اتصاله بسليم باستمرار بناءًا على تعليمات والده، فكان وجه يزن غير راضيًا بالمرة عما يحدث، منصبًا كامل غضبه على والده فهو السبب في كل ذلك.
بينما زيدان كان يحاول تجاهل نظرات نهى، مبتعدًا عنها بقدر ما يمكنه، لا يريد التحدث معها، رغم أن هناك شعور خفيف بالفضول نحوها، وخاصةً حينما أدرك مدى اعجابها به..ولكنهما غير متوافقين بتاتًا..يكفي علاقة سليم بهم، كافية بتدمير كل شيء قبل بدايته..
جلست نهى بطرف الاريكة تطالع زيدان بهيام ممزوج بالخجل، غير عابئة بنظرات والدتها الحانقة..الاهم هو زيدان ومراقبة تفاصيله الجديدة والتي تحتفظ بها كالمجنونه في مدة غيابه.
***
قاد سليم سيارته باقصى سرعة، شاعرًا بانقباض حاد بصدره، بعدما تدفقت ذكرياته المريرة كحبات المطر الشتوية القاسية، هاجمته تفاصيل نارية ملهبه للقلب، اوجعته لحظة فارقة في حياته، دفنت قلبه في ظلمة شديدة..وذلك حينما قُبل زيدان في كلية الشرطة.
***
فتح سليم باب شقة والدته بهدوء، وعلى وجهه علامات الاستفهام، مستمعًا لزغاريد الفرح وعبارات السعادة تنهال بينهم جميعًا، قطب مابين حاجبيه باستسفار، فقادته ساقيه نحوهم، متوقفًا على بعد خطوة، لقد شل جسده للحظة وتوقف عقله عن التفكير حينما التقطت أذنيه عبارات التنهئة من والدته لزيدان وفرحتها العارمة بدخوله كلية الشرطة..
" أخيرًا ياحبيبي حققت حلمك وهتكون ظابط"
آه..كم كانت قاسية تلك الجملة، حروفها عبارة عن سهام أصابت فؤاده المسكين، لقد تشابكت مشاعره في حرب من الندم والحزن والقهر..لقد كان الندم من نصيبه كي يتخلى عن حلمه بسهولة من اجل ارضاء والدته وانقاذ عائلته، والحزن وقع فوق عاتقه حينما رأى سعادة والدته بأخيه غير مراعية لمشاعره، والقهر تغلب على حاله حيث وقع عليه دور التضحية من أجلهم فقط.
بدت عيناه كشعلة من نار وهو يتابع فرحتهم، حتى انتبهت والدته له، فاخفت مشاعرها السعيدة في لمح البصر ارضاءًا له، اقتربت منه بابتسامة مهزوزة مشيرة نحو زيدان:
- اخوك اتقبل في كلية...
وقف لسانها عن استكمال حديثها، وتجمعت الدموع بعينيها فور رؤيتها للحزن المسيطر على وجهه، فابتلعت ريقها بتوتر وخوف، ولجم لسانها بعجز، فأكمل سليم حديثها بصوت خافت موجع:
- الشرطة.
نبرة مزقت قلبها للاشلاء، سقطت دموعها اسفًا..ونكست رأسها بخجل، فتوقف سليم عن نظراته المعاتبه لوالدته، رفعت رأسها مرة أخرى تقدم تبرير يطفي نيرانه ولم تدرك أنها ستلتهب من جديد:
- حلمه مقدرتش اقوله لا.
صمت ولكن داخله لم يصمت:
- بس قدرتي تقوليلي أنا لا.
استكملت حديثها وهي تمسح دموعها:
- يعني هقوله إيه، متدخلش علشان...
قاطعها سليم عندما شعر باكتفاء قلبه من الآلام:
- كفاية..هو دخل ومبروك عليه.
حاول التقدم ليقدم التهنئة لزيدان ولكنه لم يستطع، وكأن قدمه عجزت عن التحرك، راقب سعادة أخيه بتحقيق حلمه..حلمًا سُحب منه رغمًا عنه، رفع رأسه بكبرياء عندما لاحظ توقف زيدان بمقابله ونظرات الفرح تسيطر على وجهه:
- مش هتقولي مبروك.
- مبروك.
كلمة ثلجية تناقض اشتعال صدره، حول زيدان بصره لوالدته مستفهمًا بصمت عن الحالة التي تلبست أخيه، فنكست والدته رأسها حزنًا ولم تستطع الحديث، غادر سليم في هذه اللحظة غير قادرًا على موصلة تلك الحالة المزيفة من قبل والدته ارضاءًا لحالته وما يشعر به..حتى وإن طالها الندم ولامس قلبها لن يفيد..لقد حُرم من حلمه ببساطة دون مراعاته فيما بعد.
وقبل أن يفتح باب الشقة، استمع لحديث زيدان والذي نم عن ضيقه:
- هو ماله زعلان ليه!.
-سيبه باللي فيه يابني.
قالتها بصوت مجهد، فرد عليها بانفعال:
- ايوا اي كان اللي فيه..ميقولش لاخوه الف مبروك بنفس شوية.
اغلق سليم عيناه بألم، قابضًا فوق المقبض بشدة وكأنه يقبض على جمرة من نار، فتح الباب وقبل أن يغادر، استمع لصوت زيدان المرتفع بغضب:
- أنا ذنبي إيه..ليه يعاملني كده.
- يابنى خلاص بقا ولا كأن سليم جه وكمل فرحتك.
اعتلى جانب شفتاه ببسمة ساخرة، كالعادة حزنه لن يهم..الأهم هو سعادة زيدان واستكماله لحلمه..زيدان ويزن في المقام الأول ثم يأتي بعد ذلك هو، حتى أنها اهتمت بتعلميهم واعطتهم كامل اهتمامها، اما هو فكان خارج حسابتها.
***
عاد سليم من شروده، مطلقًا العنان لأنفاسه المسجونة داخل لهيب صدره المشتعل، تزامنًا مع دمعه حارقة سقطت من عينيه مسحها سريعًا، لن يسمح لنفسه بالضعف بعد مرور نكسات استطاع التأقلم معها وتخطيها بكل صبر.. لا يعلم لِمَ انتفض قلبه بشعور غريب وحاجته الشديدة لشمس الآن..متذكرًا اقتراحها اليوم..
زفر بقوة، وعاد بتشغيل سيارته مرة أخرى منطلقًا صوب منزله.
***
بعد مرور عدة دقائق..توقفت سيارة سليم أسفل منزله، رفع هاتفه ثم أجرى اتصالا بشمس.
- هاتي أنس وانزلي أنا تحت.
جاءه رد شمس المصدوم:
- انزل فين؟.
- تحت يا شمس..يلا بسرعة.
أمرها بضيق، فقالت بعدم فهم:
- بسرعة إيه،..هما لسه هنا وانا مش هينفع اسيب ماما وبابا...
- انزلي يا شمس، سيبهم يتصرفوا هما.
- حاضر..حاضر.
***
قاد سليم السيارة وعلى وجهه علامات الاسترخاء، بينما شعرت شمس بالملل، فقالت:
- هنروح فين؟!
- هنلف بالعربية شوية.
ظهر الاستنكار على وجهها، ودارت بنظراتها صوب الزجاج تتابع الطريق في صمت، راقب حالتها المستنكرة، فقال بحذر:
- تحبي نروح المحل الكبير نقعد هناك.
حقًا لو صرخت الآن ماذا سيحدث، انتبهت لصوت أنس من الخلف:
- أنا عايز اروح الملاهي يا بابا.
هز سليم رأسه برفض، قائلاً:
- مينفعش ماما معانا..
التفتت نحوه تقول بصوت مختنق:
- ومالي بقا ياسليم..هو مش من حقي اروح الملاهي!.
- ليه هو أنتي في عمر أنس علشان يبقا حقك.
زفرت بحنق، وعقدت ذراعيها أمامها بغيظ، فتابع حديثه بهدوء:
- خلاص عرفت هنروح فين.
استدارت برأسها تسأله بترقب:
- فين؟.
ببسمة كالحة تزين بها ثغره، واقلقتها بشدة:
- مالكيش فيه، هبسطك.
حدقت به باستغراب، وقلب ينبض خائفًا من قرارت زوجها الغامضة، راقبت الطريق بتأهب حتى توقف سليم بعد مرور عشر دقائق أمام كافية هادئ للغاية..زمت شفتيها بضيق وهبطت من السيارة تابعًا لاوامره..تمسك أنس بها متسائلاً:
- فين الملاهي؟.
مد سليم يده لها فتمسكت بها كعادتهم دائمًا في الخارج، موجهًا حديثه لأنس:
- في كيدز كورنر جوا.
ترك أنس يد والدته واتجه صوبها سريعًا، غير عابئًا بتحذيرات والدته، فهدئها سليم:
- ماهو قدام عنينا..في إيه؟
ردت بضيق وهي تجلس فوق الكرسي الذي حركه لها:
- مفيش.
جلس بجانبها وبنبرة خبيثة خافته اخبرها:
- زعلانة..عايزة تلعبي معاه.
اردفت بلهجة مريرة:
- انت بتتريق عليا..آه..أنا بقول لمين لواحد مبيهتمش بيا..
- هو اللعب من اهتمامك يا شمس؟
تسأل بجدية مفرطة، فتوسعت عيناها وتوهجت بوميض الجدال:
- كل ما اقولك على حاجة تقولي لا..في ايه بجد يا سليم أنا بردوا ليا رأي.
تجاهل غضبها، متسائلاً:
- بمناسبتك رأيك..أكيد هتشربي مانجة؟
- أنت بتسأل ولا بتقرر علشان ابقى عارفة بس!.
ابتسم باستفزاز:
- بقرر.
رمقته بعتاب:
- مش هتكلم..هو أنت اصلا بتتكلم معايا، ولا بتهتم بيا...ده حتى المكتبة اللي في اوضة النوم مقولتش أنها متوصلة باوضة مكتبك..
هز كتفيه ببرود:
- انتي مسألتيش علشان اقولك.
توسعت عيناها غير مصدقة رده:
- بجد والله!.
اقترب منها سليم هاتفًا بخفوت يحمل التحذير:
- انا خارج علشان اروق، متخلنيش اندم ان خرجتكوا.
ابتعدت عنه، وهي تردد بداخلها بتذمر:
- قال إيه يروق قال، على اساس اني مش عارفة مخرجني من البيت ليه؟.
الفصل الثامن..
بعد مرور يومين.
عاد زيدان لعمله مرة أخرى بعد إجازة صغيرة حصل عليها بعد فترة كبيرة من العمل بلا انقطاع، لن ينكر فائدتها القليلة في الاسترخاء الجسدي..ولكن ذاته كالعادة تمر بصراع أصبح مرهقًا عليه التفكير به، وخاصةً أنه ينصب حول سليم فقط ومعاملته التي تزداد يومًا عن يوم حدة وشراسة..وكأنه ليس أخيه، فـتساءل بجدية.. هل الصمت له دور قوي في اتساع الفجوة بينهما؟، يذكر ذات مرة عندما تلبسته روح الشجاعة وقرر مواجهة سليم خارج المنزل، يذكر ألم روحه.. واضطراب مشاعره عقب صفعة هوت من يد سليم على وجهه.. زلزلت كيانه، جعلته يقف كالصنم يتابع تغيرات وجه أخيه الغاضبة، ناهيك عن شعوره بألم حاد حفر في قلبه ومع مرور الوقت ترك ندبة كان سببها سليم.
***
اندفع جسد زيدان للخلف وكاد أن يختل توازنه اثر صفعة هوت فوق وجهه فجأة، فقد النطق..وتجمدت أطرافه غير مصدقًا ما يمر به التو على يد من ظن به السند...بحث في عقله عن سببها..هل لأنه تجرأ وسأله عن سبب سوء معاملته له، هل ليس الحق في البحث عن إجابات ترضي فضوله تجاه معاملة سليم له منذ صغره..منذ أن كان طفلاً ينتظر عودة أخيه الاكبر بعد يوم طويل في العمل.. وكعادته لا يجد سوى أوامر تقع فوق رأسه، ويزن المتهور ينعم باهتمام سليم وحده، فتركيزه كان منصبًا على يزن في المنزل وخارج المنزل..في كل مكان، اما هو فمساحة الاقتراب بينهما ابتعدت تدريجيًا.
استفاق زيدان من عمق افكاره على صوت سليم الغاضب رغم بأنه يحمل نبرة مجروحة:
- قولتلك اسكت.. ابعد عني، انت ليه مش عايز تفهم، سيبني في حالي، باللي فيا، عمال تضغط عليا بكلامك اللي مالوش صنف المعنى، انت مبتحبنيش لكن بتحب يزن...يعم ارتاح أنا مبحبش حد.
أنهى حديثه وغادر المحل، وجسده يتشنج عقب ما مر به، فقد اعصابه نتيجة لضغط زيدان عليه، بما يجيبه...هل يجيبه أنه يحمل شعورًا بالحقد اتجاهه، هل يلقي اللوم على والدتهما أمامه..لن يفهمه أحدًا، لن يشعر به اطلاقًا..
قبض سليم فوق مقود سيارته، شاعرًا بانقباض قلبه، لم يحبذ تهوره عليه..بل انتفض قلبه حينما فقد هدوئه وعبر عن غضبه بيده، ضغط بشدة على المقود، وانسابت دموعه حزنًا على ما يشعر به زيدان، ولكن هو من دفعه لذلك، حاول اسكاته..والاخير يرفض بل يوجعه بأحاديثه المستمرة عن سوء معاملته.
راقب زيدان ما يفعله أخيه من زجاج المحل، يبدو أن الندم طال قلبه، ولكن بعد فوات الآوان..بعد أن جُرح على يده، بصفعة فقيرة لا تحتوي على مبررًا، بل أصبح متيقنًا بأن أخيه يحمل شعورًا غير لطيف ناحيته.
**
عاد زيدان من شروده، والوضع أصبح أكثر سوءًا..يتقدم بالعمر ولا ينسى تلك الصفعة التي تلقاها وهو بعمر العشرين..وها هو على مشارف الثامنة والعشرين ومازالت تلك الندبة تتسع في قلبه وتضم جروحًا صغيرة يفعلها سليم يوميًا بقصد ودون قصد.
انتبه لصوت هاتفه المعلن عن اتصالاً من نهى، زم شفتيه بضيق، متمتمًا:
- مش ناقصكِ يا نهى!.
اضطر الرد، فقال بصوت فاتر:
- ازيك يا نهى.
جاءه صوتها الرقيق النابض بالحب له:
- الحمد لله يا زيدان، أنت اخبارك إيه، وخالو عامل إيه، أنا بتصل اطمن عليه.
التوى فمه ساخرًا فهو يدرك حيلتها الضعيفة كي تطمئن عليه هو وليس أبيه كما تتدعي:
- هو كويس الحمد لله، معاكي رقمه تقدري تتصلي عليه.
توترت نبرتها قائلة:
- شكله اتمسح من عندي، المهم أنت اخبارك إيه؟!
- تاني؟
رددت خلفه بعدم فهم:
- تاني إيه؟.
- بتسأليني اخباري إيه، نوعي في الكلام، كده هزهق منك وهسيبك واقفل.
سارعت بقولها ترفض ما يرمي إليه:
- لا لا..أنا هتكلم اهو، هقول حاجات كتير.
هز زيدان رأسه وتابع ترتيب أوراق مهمة أمامه، وهو يستمع لنبرة صوتها المضطربة، ومواضعيها المكررة عن أحواله وصحته.
***
تحركت ليال في الطريق ببطء، تتابع هاتفها بسبب اجتماع مهم مع زملائها في المدرسة على تطبيق " الواتساب" انحرفت غير منتبه إلى طريق هادئ يخلو من الاناس، وبعد مرور عدة دقائق لم تنتبه لخطوات هادئة كانت تسير خلفها بدراية، لم تشعر أبدًا الا عندما لاحظت ظل لجسد رجل خلفها لا تتعرف عليه..وكعادة ليال المتمردة وبأنها ليست فتاة عادية تشعر بالخوف مثلاً، فتختار الركض طريقًا لهروبها...لا..بل التفتت بحاجبين مرفوعين..تطالع الرجل بجرأة:
- خير، ماشي ورايا ليه؟.
- عاجبني الجيبة اوي.
قال الرجل حديثه وهو يحرك يده فوق صدره، ونظراته الخبيثة تشمل جسدها بالكامل:
-عاجبك إيه يا عنيييا.
كرر هامسًا:
- الجيبة..
هبطت بجذعها العلوي لأسفل قدميها، ثم خلعت حذائها الأحمر وقررت معاقبته على حديثه الوقح:
- ده أنت هتتربى النهاردة..
كادت أن ترفع يدها للأعلى، ولكن اختل توازنها للخلف نتيجة لدفعه بسيطة من يد شخص ما، جعلتها تتشبث بشجرة كبيرة بجانبها، ركزت ببصرها فوجدت سيف يتشابك مع الرجل بالايدي، وما زادها ذعرًا هو خروج سلاح ابيض صغير يسمى " بالمطواة" من جيب سروال الرجل، ملوحًا بيه أمام سيف، سحبت الدماء من وجهها، وابيضت مفاصل يدها وهي تقبض فوق جذع الشجرة بخوف مما تراه بعينيها.
ابتعد سيف خطوة للخلف، قلقًا عليها تزامنًا مع تلويح الرجل له بالتهديد، يريد ابعادها عن ساحة التشابك، وبنفس الوقت يستجمع خلايا تركيزه للدافع عن نفسه، ضد متهور يغيب عقله المواد المخدرة، لم يجيد حسن التصرف، فبدا متوترًا..واستغل الرجل ذلك ودفعه بيده واليد الأخرى جرحه بذراعه..وفر هاربًا.
لم يسقط سيف ارضًا، ولكن انحنى فقط للاسفل وهو يمسك ذراعه بقوه، اندفعت ليال نحوه وهي تبكي بصوت مرتفع:
- سيف أنت كويس...يالهوووي...دم.
قاطعها بحنق:
- بس يابنتي، بتصوتي في وداني.
لم تستطيع تحديد عمق الجرح، بسبب كثرة الدموع المتساقطة من عينيها، فقال ساخرًا:
- اللي يشوفك وانتي بتقعلي الجزمة، ميشوفكش وانتي خايفة عليا كده.
لم تنتبه لحديثه، ولكنها دفعته لطريق معمور بالسكان، باحثه عن سيارة أجرة، فقال بضيق:
- براحة، انت مبتزقيش ابن اخوكي.
- لازم نلحق الجرح في المستشفى..والا كده هتموت.
لم تعي لِمَ تقوله، بل كان عقلها يصور لها أشياءًا غريبة، وقلبها ينتفض بذعر وفزع عليه، حتى أنها لم تعطي لنفسها مبررًا لتصرفاتها، فكانت تسير وفق لانسايتها.
اوقفت سيارة أجرة، ثم أشارت له وهي تقول بنبرة مرتجفة:
- اركب يلا.
دخل سيف السيارة وتفاجئ بجلوسها بجانبه، رفع حاجبيه متمتمًا:
- دي هتقعد جنبي، هي ناقصة!.
قاطعت حديثه الخافت، وهي تحاول التركيز، فقالت بقلق:
- بتقول حاجة، في حاجة بتوجعك.
حدق بها لثوان يجاهد انجراف مشاعره نحوها، فالتفت برأسه للناحية الأخرى، ولسان حاله يقول:
- اثبت يا سيف،..اثبت.
***
دخلت شمس لغرفة والد سليم، تقدم له دوائه وكوب المياة، وبابتسامة بسيطة قالت:
- الدوا يابابا.
تناول منها الدواء بصمت، ثم بدأ في أخذه دون أن يوجه لها أي كلمات قط، فرمشت بأهدابها تسأله:
- انت كويس يا بابا.
تجرع أخر نوع من الاقراص، ثم قال بشرود:
- الحمد لله على كل حال.
أصابها القلق، فجلست بجانبه وهي تردف بهدوء:
- لو زعلان من يوم عزومة طنط ميرڤت، فده عادي يابابا..أنت متحطش في دماغك علشان متتعبش.
ارتسمت بسمة صغيرة ساخرة فوق ثغره:
- انا زعلان على عيلتي واللي بيحصل فيها.
ضيقت ما بين حاجبيها قائلة بعدم فهم:
- قصدك إيه.
- قصدي إن أنا حاسس ان هاقابل وجه كريم، كنت عايز الامور تتصلح، دول عيالي ودي اختي، ربنا هيحاسبني.
ربتت فوق يده بحنو:
- بعد الشر عليك، وبعدين هو مفيش الا سليم شايل منها، وان شاء الله الامور هتكون كويسة.
هز رأسه عدة مرات، ولكن بصيرته تخبره أن الصلة بينهما ستنقطع بعد وفاته، لم يستطع في تلك الأعوام خلع بذرة القسوة بينهما من جذورها، بل ترعرعت حتى صارت غابة مظلمة تطبق على أنفاسهما.
نهضت شمس واستعدت للخروج فاستوقفها متسائلاً:
- فين أنس؟.
- مع ماما بره، هتقعد معاه لغاية ما ادخل اسجل فيديو.
اطبق جفنيه بضيق، وفر السؤال من بين لجام سيطرته:
- مش ناوية تعرفي سليم؟.
توقفت عن الحركة، وطال الصمت من ناحيتها، حقًا هي لا تجد إجابة على السؤال، حيث مازالت الإجابة لديها مفتوحة، متروكة للزمن بما يخبئه من عواقب هي تدرك مدى ضخامتها وواقع تأثيرها..وبعد مرور عدة دقائق ردت بشرود وضياع:
- الوقت لسه مجاش..او ممكن هيفضل سر جوايا.
تنهد بصمت ولم يعقب على حديثها، حتى خرجت من غرفته ودخلت غرفتها الصغيرة مغلقه الباب خلفها باحكام.
جلست أمام الاوراق وكلمات " محمد" تتردد في ذهنها دون انقطاع، لا تعلم ما تريده، فقد انقسم داخلها لنصفين..نصف يريد مصارحة رجل لا يستحق الكذب عليه..رجل وهب حياته لأجلها..رجل رغم أنه قليل الكلام..إلا أن عيناه تنطق بأشعار الحب والغرام، ونصف أخر يريد التمسك بما خططت له وما وصلت إليه من تقدم ونجاح وتحقيق لذاتها المدفونة مع رجل يعتبر تلك الأحلام من التافهات..وتحقيقها من سابع المستحيلات، فطبعه كرجل شرقي متعصب لا يحبذ ظهور زوجته على منصات التواصل حتى وإن كانت بمعلومات وهمية ويدها فقط من تعبر عنها.
تذكرت قمعه لأبسط أحلامها ..استرجعت أهم الاسباب التي دفعتها لاخفاء الأمر عنه.
***
استعدت شمس بملابسها المحتشمة ذات الالوان الهادئة لمقابلة سليم اليوم في منزل والديها.. طلب من والدها الاستعداد لمقابلته وفقًا لترتيبات الزواج، لن تنسى قط هيئة الفتيات وهي تدعوهن لحفل زواجها على سليم فتى أحلامهن.
قبضت فوق شفتاها بسعادة وهي تستمع لصوته الذي يأسرها في حقبة زمنية يلاعبان بها دور روميو وجوليت..معتقده بأنه سيغرقها بحبه الذي صرح عنه بعد الزواج..كي يكون حبًا من منطلق الحلال..هكذا أوهمت نفسها ولم تستطيع قراءة شخصيته الجامدة والغامضة وان كلمات الحب أبعد ما يكون عنه.
تنهدت بحالمية وسعادة وهي تراقب قدومه نحوها حاملاً صندوق صغير من الشوكلا..التقطته منه بنعومة وشكرته بهمس..
تركهما والدهما واتجه صوب الشرفة يجلس أمامها، كي يترك لهما مساحة في الحديث، بناءًا على طلب سليم.
جلست أمامه تداعب لولي صغير بكم السترة التي ترتديها، وعيناها لا تستطيع رفعها خجلاً منه.
- شمس.
- نعم.
ردت دون أن ترفع بصرها، فأمرها بصوت جامد:
- بصيلي وأنا بكلمك.
توردت وجنتاها ورفعت نظرها تطالعه باستيحاء:
- حاضر.
رفع سليم يده وعدل من ياقه قميصه، مفكرًا للحظات فيما يقدم عليه:
- عايز اتكلم معاكي في موضوع مهم، قبل ما عم جمال يجي ويقعد معانا..
طريقته تلك تهيج معدتها قلقًا لِمَ سيتفوه به، فقالت بتلجلج:
- اتفضل قول!.
حمحم سليم قبل أن يسألها بحذر:
- انتي ناوية تكملي في كليتك؟
رمشت ببلاهة وهي تجيب:
- اه.
حك أنفه بتوتر طفيف قائلاً:
- مش هينفع تكملي فيها!.
عقدت حاجبيها بعدم فهم، وطالعته باستفسار:
- قصدك إيه، انت خاطبني وأنا في كلية فنون جميلة... ازاي يعني اسيبها!.
- كنت بحسبها كلية عادية، بس طلعت صعبة وواخده كل اهتمامك..واللي زاد اكتر تأخيرك كل يوم.
برر لها وجهة نظره ولكنها لم تقتنع، ناقشته بهدوء:
- انت بتوصلني، او بابا..او السواق، يعني مبرجعش لوحدي.
ظهر الضيق على وجهه، ورنت نبرة صوته التي تحمل غيرته عليها:
- بصراحة أنا مش هستحمل اشوفك بتكلمي ولاد واسكت واعديها.
ردت بجدية:
- دول زمايلي في المشاريع المطلوبه مني، وانا مبعملش حاجة غلط.
عاند بقوله:
- وانا بقولك مش هستحمل.
اهتزت مشاعرها واضطرب كيانها لِمَ آل إليه تفكيرها:
- يعني إيه..عايزني مكملش تعليمي؟.
حرك رأسه نافيًا حديثها، ووضح كلامه أكثر:
- لا أنا مقولتش كده..كملي وخدي شهادتك..بس اختاري كلية تانية تتوافق مع نظام حياتك الجديد.
تساءلت بصوت جاهدت اخراجه..بعد تلك الربكة التي حدثت داخلها:
- فين نظام حياتي الجديد ده؟.
أشار على نفسه، مجيبًا بوضوح:
- أنا حياتك الجديدة يا شمس..احنا هنتجوز خلاص.
تشبثت بحلمها أكثر مع تمسكها به:
- هقدر اوفق بين بيتي ودراستي اللي بحبها أنت مش هتحس ..
قاطعها بحدة طفيفة:
- لا هحس ومن دلوقتي حاسس ببعدك واهتمامك بدراستك..وكمان مناقشتك مع زمايلك في مشاريع تخص كليتك أنا مش قادر اتقبلها.
وضعت يدها فوق رأسها، تأخذ نفسها قصيرًا تستجمع به أفكارها كي تحاول اقناعه:
- لازم نوصل لحل يرضينا.
- وانا توصلت له بالفعل..كملي في كلية تانية تروحي فيها على قد الامتحانات.
امتلئت عيونها بالدموع، هو حلمًا صعب المنال..وبعد الحصول عليه ظنت أن حياتها الوردية ستبدأ معه محققه جميع أمنيتها، لم تدرك أن الحياة تخفي أمورًا تجعلها تطيح بها إلى واقع لا تحسن الاختيار به.
- انت كده بتخليني اتخلى عن حلمي.
وجعه حديثها، وجعله غير قادرًا على مواصلة النقاش بينهما، عادت ذكرياته البشعة تسيطر عليه، رغم نفسه على الخروج من بقعة ذكرياته القاسية، مبررًا لنفسه بأنه لم يكن قاصدًا بالمرة أن تتخلى عن حلمها..ولكن حبه لها لا يستطيع تمرير تلك الامور البسيطة من وجهة نظرها مرور الكرام...لقد غلى الدم بعروقه حينما رآها تقف مع أحد زملائها ذات مرة.. هو يثق بها ولكنه لا يثق بنفوس الآخرين..أمر عودتها المتأخر دومًا لن يحدث ابدًا بعد زواجهما، سيكون واضحًا وسيخيرها قبل أن تبدأ معه حياة جديدة تسير وفق لرؤيته هو، وبالنهاية لها حرية الاختيار.
- بالعكس يا شمس، أنا لو عايز اخليكي تتخلى عن حلمك كنت قولتلك متكمليش دراستك.
شعر بترددها وضياعها في تلك اللحظة الحاسمة، مدركًا مدى حبها له..وبنفس الوقت شغفها بدراستها، فأظهر مدى تمسكه بها، كي يكون سببًا في موافقتها.
- أنتي عارفة كويس ان اخترتك دون عن أي بنت تانية، لاني حسيت باتجاهك بمشاعر حب، واختارتك وانا سعيد باختياري..مكنتش اتمنى ان تكون شريكة حياتي احسن منك..انا عايز حياتنا تكون هادية مفيهاش أي مشاكل.
تساءلت بشرود:
- ايه اللي يخليني اقبل بكل ده؟.
أجاب ببساطة:
- حبنا...
إجابة قصيرة تحمل معاني كثيرة جعلتها تتخلى عن حلمها بارادتها، تتذكر جيدًا كيف ترك لها والدها حرية القرار، رغم أنها قرأت تحيزه لسليم..مشاعرها القلقة سيطرت عليها في حرب حسمت لصالح سليم..وبمعنى أوضح لصالح حب ترعرع في قلبها الغض.
***
عادت من شرودها وهي تبكي قهرًا على ضياع اولى احلامها ومن بعده يتوالى الفقد، لقد تخلت بارادتها وكان اول طريق التخلي لم تدرك أشواكه الا بعد أن ركضت به نصف المسافة.
ومن هنا انطلقت فكرة الفيديو الجديد..بدأت في رسم طريق مليئ بالأشواك الصغيرة وفتاة جميلة تركض به غير عابئه بجروح قدميها...
***
دخلت ليال شقتها بعد أن اطمئنت على جرح سيف بالمشفى.. تذكرت صمته وسكونه أثناء تنظيف الطبيب لجرحه.. سمحت لنفسها بمراقبة أدق تفاصيله بوضوح...هو رجل يربك داخلها بتصرفاته المناقضة، يظهر لها كرهه في لحظة..وفي اللحظة التالية يغير مجرى تفكيرها بتصرف يجعلها كالمعتوهه أمام تصرفاته.
ارتمت فوق اريكتها وراحت تشرد بما حدث صباحًا..كيف ظهر فجأة..لِمَ القدر يريد جمعهما رغم عدم توافقهما، لن تنكر أن موقفه الشهم..وحمايته لها جعلتها تشعر بأحاسيس قد دفنتها قديمًا عندما كبرت ووجدت نفسها بلا أب بلا أم..تعيش وحدها في شقة والديها وجيران والديها يهتموا بها أحيانًا..وأحيانًا أخرى يبتعدون عنها بسبب ظروف حياتهم..اضطرت في مراهقتها للعمل في أماكن عديدة وبوظايف مختلفة لا تناسبها كفتاة ولكن أمانيها دفعتها تسير وفق لقوانين وضعتها لنفسها كي تستكمل دراستها..والعمل بشهادتها، عاشت الكثير والكثير فجعلت مشاعرها الرقيقة تدفن داخلها... كي تتأقلم في حياة قاسية فقدت بها معاني الحنان والدفئ، ناهيك عن مامرت به وحدها، لم تطلب الاهتمام من أحد، لم تنتظر الاحتواء حتى وإن كان من عمها الوحيد الذي تركها وحدها مكتفيًا بمبلغ بسيط يكفي حاجتها في الطعام فقط وبعض الامور الحياتية.
ضغطت فوق رأسها تمنع نفسها من الانسياق خلف ماضيها المؤلم...لقد عاهدت نفسها على عدم الالتفات للخلف مهما حدث..مستقبلها هو الأهم..ما تخطط له لعيش حياة كريمة بمجتمع أفضل مما هي فيه ستحققه رغمًا عن أنف من يعارضها.
***
دخل سليم من باب المنزل.. ونادى بصوت مرتفع قليلاً على شمس:
- شمس..
ظهرت أمامه والدته وعلى وجهها علامات الخوف:
- حمد لله على سلامتك يابني، انت جاي بدري ليه..
رد سليم ببرود:
- جيت في حاجة..فين شمس؟.
أجابت بتوتر:
- مـ..م مش عارفة..
تدخل أنس في الحديث من خلف جدته، يشير إلى غرفة الاثاث القديمة:
- مامي جوا في الاوضه هنا..
اقترب سليم من الغرفة متجاهلاً والدته التي حاولت ايقافه بخلق مواضيع تافهه، ومد يده يفتح المقبض..