رواية ندبات الفؤاد الفصل الثاني والعشرون22والثالث والعشرون23 بقلم زيزي محمد

رواية ندبات الفؤاد الفصل الثاني والعشرون


  رواية ندبات الفؤاد

الفصل الثاني والعشرون
والثالث والعشرون

بقلم زيزة محمد

بعد مرور يومان..

تحركت ليال بجانب سيف في أرجاء معرض الأثاث 


لانتقاء قطع أثاث جديدة قد وضعتها في قائمة مطالبها التي لن تتنازل






 عنها تحت صدمته، لن تنسى كيف اخبرته بما خططت له بكل جرأة، ورغم أنه ادرك محاولاتها في الهرب منه إلا أنه لم يتركها إلا بعد أن....
                   




               ***
أغلق سيف الباب بعد مغادرة الجميع، بقيت هي هادئة ساكنة وكأنه زعيم مافيا قرر الانتقام بصمته المرعب ذاك، و،هو لم يعتاد عليها بهذا الشكل الهادئ المثير لقلق




 اجتاح صدره وهو ينظر لها بتمعن محاولاً كشف غموضها البادي عليها!.

اقترب منها بخطوات هادئة كان قاصدًا إزاحة ثقتها جانبًا، لطالما كان يتمتع بمشاكستها وإخراج أسوأ ما لديها من انفعالات وهياج غاضب تهاجمه به، ورغم أن حبه لها بدا أحمق وغريب، ولكنه يتمتع به لاقصى درجة، ولن يفوت تلك الفرصة العظيمة التي أُتيحت له وهما وحدهما بعد أن أصبحت زوجته.

مازالت تلك البربرية تحتفظ بهدوئها، رغم العبث المسيطر على عينيه المتركزة عليها وكأنها هدف قرر إصابته فاقترب أكثر حتى أصبح يطالعها من أعلى، فرفعت بصرها نحوه ترمقه بملل:

- وبعدين في جو الرعب الهابط ده يا سيف.

ارتفع جانب شفتاه ببسمة ساخرة صغيرة، ودنى منها بجسده العلوي وهو يمرر اصابعه فوق بشرتها الناعمة بداية من وجنتيها حتى المساحة المحاطة لثغرها الملون بحمرة خفيفة أثارت زوبعة بمشاعره تطالبه باختطاف قبلة 







صغيرة يتذوق بها شهد شفتيها الذي طالما حلم به رغم محاولاته في نفضها من تفكيره، إلا أن القلب ليس عليه سلطان بل دفعه في قلعة العشق دون ساتر يحميه من تيارات الحب العاصفة!.







ارتشعت شفتاها اثر لمساته الرقيقة لها، وتمسكت بطرف بلوزتها البيضاء تشدد عليها بقوة، وكأنها هي وسيلة النجاة التي تنقذها من الوقوع في حبه أكثر، وتصبح خاضعة بنهاية المطاف لسلطة عينيه الطالبة بحقه بها!.

رفعت يدها بعد محاولات جاهدت فيها التمسك بثباتها المصاب بتصدعات قابلة للانهيار أمامه نظراته المُهلكة لها، وبنبرة صوت خافتة كانت تحاول إخراجها ثابته بقدر الثقة التي تسربت منها وذهبت إليه مستغلاً إياها بذكاء في هدم حصونها الوهمية.

- لو سمحت يا سيف...مينفعش كده.

قاطعها وهو يجذبها بقوة ارعبتها وجعلت بؤبؤ عيناها يتسع وهي تلتصق بصدره العريض، تقابل عيناه مباشرةً، فغاصت في لونهما الرمادي الذي جعلها تبتسم كالبلهاء وتهيم عشقًا بهما..

وكمحارب يملك قدر كافي من الدهاء استغل هدوء خصمه وسكينته وراح ينقض عليه يقتنص منه ما يريد، ولكن الوضع هنا مختلف فالاقتناص لذيذ للغاية، محبب لقلبه، مذهب لعقله، مثير لمشاعره...وذلك حينما التقط ثغرها في قبلة طويلة بث فيها مكنونات حبه لها والذي دفنه لأعوام منتظرًا تلك اللحظة الفريدة والتي لن يتخلى عنها ابدًا.

استكانت بل ضاعت...ودخلت في غابة عشقهما والتي كانت تكمن مفاتحيها في قبلتهما الاولى..حاولت دفعه ولكنها كانت دفعه بسيطة كانت تحارب بها عقلها المحاول  بكل الطرق بإيقاظها...أي استيقاظ قد تطيعه بعدما دخلت الحب من أوسع ابوابه، تدور به كفراشة كانت سجينة أفكار وهواجس مخيفة، وبعد أن اطلق سراحها راحت تنتقل بحرية ترفرف بأجنحتها الرائعة في سماء الحب الصافية.

وبعد مدة لا تعلمها ثوان أم دقائق فقدت بها قدرتها على التركيز، ابتعد عنها سيف بتروٍ وهو يرى ملامحها التي كانت تغزوها حمرة طفيفة جعلتها كثمرة ناضجة يود أن يأكلها حتى يشبع غايته منها.

ولكن لا يريد أن يتركها طويلاً بحالة الخمول تلك، بل اشتاق لمشاكستها فراح يتحسس بشرتها مجددًا كي تستفيق وتفتح عيناها تطالعه عن قرب، تبادله مشاعره الثائرة بأنفاسهما الحارة التي كانت تلفح بشرتهما بضراوة أرهقت قلوبمها التي كانت في بداية طريق السكينة والاحتواء.

- ليال...
نطقه لاسمها كان بمثابة الشرارة التي الهبت تفكيرها الغامض، فابتعدت تطلب مساحتها الخاصة، والتي لم يتأخر لحظة في اعطائها إياها بكل صدر رحب.








- لو سمحت عايزة اتكلم معاك في موضوع مهم.

رفع حاجبيه لها مذهولاً من قدرتها على التحول بتلك السرعة، منذ دقيقة واحد كانت تسكتين كقطة في أحضان صاحبها بعد اشتياقها له، والآن تقف بأنفع مرفوع تطلب منه أن يتحدثا بجدية، كمديرة أعمال مهمة قررت خوض اجتماع طارئ.

- اتفضلي يا مدام ليال أنا عنيا ليكي.

رمى إليها ذلك اللقب متأكدًا أنها ستثور رافضه اياه:

- أنا مش مدام..أنا انسه.

كان يهز رأسه متابعًا معها بجدية زائفة حتى ثارت أكثر قائلة:

- سيف متعصبنيش بجد هو ده وقته القاب ملهاش معنى!.

جلس أمامها وهو يقول بهدوء خبيث جعل فاها ينفتح بصدمه من وقاحته:

- عندك حق، ملهاش معنى دلوقتي، كمان شوية هنخليها ليها معنى وأثر ووجود وكل حاجة في الدنيا.

أنهى حديثه ببسمة سمجة، فرفعت أصابعها تشير له في حدة مضطربة:

- بقولك إيه، اوعى تكون فاكر بجوازك مني يبقى كده خلاص الدنيا ضحكتلك!.








- امال هتصوت على خيبتي!.

قالها بمزاح، فردت بعصبية مفرطة:

- اول قاعدة يا سيف ترقيتك عليا دي تمنعها خالص، تاني حاجة أنا لما بكون بتكلم بجد تسمعني فاهم ولا لأ.

توقعت محاولاته في تهدئتها ولكنها تفاجئت حينما رد باستفزاز:

- لا مش فاهم.

حقًا ودت الصراخ منه في تلك اللحظة، ولكنها تجاهلت وأكملت حديثها بجمل مترابطة انقطعت أنفاسها اثرها وكأنها تريد أن تلقي ثقل كان يتربع فوق صدرها:

- أنا عايزه فرح كبير، وكمان فرش جديد، وشبكة زي أي بنت وانا اللي اختار كل حاجة بنفسي زي أي بنت بردوا، ولا أنت فاكر عشان ماليش أهل هتتجوزني في سكات كده، لا بقولك إيه أنا بمية راجل واعمل اللي أنا عايزه.

ليست حقًا متطلبات بل اجتهاد منها حتى تحظى ببعض الوقت البسيط كي تعطي لنفسها فرصة في كيفية التأقلم معه وهو زوجها.






صمت أثار قلقها من رد فعله، تسرب الخوف لديها  من تهور تفكيره ناحيتها ويظل فكرته القديمة عنها تترسخ بذهنه بعدما ثابرت أن تغيرها.

- موافق!.

خرجت كلمته بهدوء، فساءلت بحذر:

- موافق عليه إيه بالظبط؟!

- موافق على الشبكة والفرش لكن الفرح...

ثارت مجددًا تنظر له بتحذير:

- ماله الفرح ان شاء الله، لا بقا انا عايزة فرح وكبير اووي كمان.

- هعملك بس هتكون مفاجئتي ليكي، ما هو العريس لازم يفاجئ عروسته بحاجة.

كانت نبرته عادية ولكن ابتسامته لم تكن ذلك، غامضة، مخيفة وكأنه يخطط للانتقام منها مثلاً، لا، لن تترك نفسها لافكارها 






المظلمة مجددًا ستضع حدًا لذلك، يكفيها أنه موافقًا على متطلباتها دون تفكير.
                                 **
أجفلت من شرودها على يده التي تمسكت بيدها تجذبها نحوه وهو يشير نحو غرفة ما، قائلاً بصوت هادئ:








- ايه رأيك في دي يا حبيبتي.

نعم...ماذا؟!، لِمَ انقطعت الأضواء فجأة؟!، أم أنها خيل لها هذا!، أم أنه يريد اصابتها بالجنون بسبب كلماته التي تذيب الجليد المتبقي بقلبها، لم تذيبه بحسب بل أنها ساعدت على انصهاره، طالبًا بقبلة شبيه لقبلتهما الاولى وعند هذا الحد صاحت بصوتها كالمذعورة وهي تشير نحو غرفة ما قائلة دون أن ترى الوانها..او سعرها مثلاً الذي جعل سيف مصدومًا قليلًا من ثمنها الباهظ ولكنه كتم انفعاله وأبدى لها عدم اكتراثه واقدم على شراءها.

                                  ***
راقبت شمس لهو صغيرها مع سليم في المحل الجديد من زجاج المكتبة الخارجي، حيث قرر شراءه فقط كي يحصارها في المنزل والمكتبة!، تعجبت لتعلق صغيرها 







بوالده الزائد عن حده، وما زاد من تعجبها هو أن سليم كان عاديًا، مرحبًا، مستقبلاً لمتطلبات ولده بصدر رحب، هل ابتعادها كان سبب في تغيره بهذا 






الشكل؟، أم انها كانت لا ترى جزء من شخصيته الدفينة!، أو أن الطريق الذي سلكته دون علمه أعماها عن زوجها لفترة كانت كفيلة لذلك البُعد الجافي بينهما.







اغلقت عيناها حينما روادها شعور احتاجت إليه الآن ويكمن في اللجوء لاحضانه وعودتها لحياتها السابقة بكل ما فيها، 


فوجوده بجانبها كان كفيلاً باطمئنان قلبها من أفكار أصبحت كالمخاوف تحاربها أثناء نومها ويقظتها.

فتحت عيناها مرة أخرى وهي تتنهد بعمق تحاول ترتيب أنفاسها والخروج من كنف الضياع الذي تملك منها مؤخرًا، كانت تسير بخطى جيدة ولكن انقلب الحال بوجوده، تساءلت بحيرة.. ماذا ستفعل معه؟!، لن يتركها بهذه السهولة إلى جانب أن قلبها ايضًا يتفق معه رافضًا افكارها تلك بكل ما فيها.

وقع بصرها عليه وهو يتجول أمام محله ذهابًا وإيابًا يتحدث بهاتفه وابتسامته الواسعه التي باتت تظهر مؤخرًا بسلاسة بعد أن كانت تتوق لها تنتظر أن يمن عليها ببسمة لطيفة تداعب يومها الطويل في انتظاره.

عبست بوجهها فمزال الشك يداهمها من حين لآخر، اعتدلت بجلستها وهي تركز أكثر على شفتيه تحاول أن تلتقط منهما أي كلمة ترضي فضولها.

وعلى الجانب الآخر كان يتحدث سليم مع سيف..
- اختارت الشبكة اللي هي عايزاه.

رد سيف بهدوء:
- ايوه بس محدش في المحل راضي يقولي سعرها.

هتف سليم بنبرته الرخيمة:

- دي هدية مني ليك.

أردف سيف برفض قاطع:

- لا يا سليم مينفعش الهدية تكون بالشكل ده، بص...

بتر سليم حديث صديقه الرافض لهديته بسبب عزة نفسه الشديدة والتي لن يتخل عنها أبدًا رغم صداقتهما المتينة.

- بص أنت واقعد ساكت خالص، هو أنا من امتى قولت كلمة ورجعت فيها يا سيف.

رد سيف بهجوم طفيف بعد إصرار صديقه: 
- معلش وأنا رافض حاجة زي دي يا عم أنا حر.
وبعد هجومه ذاك، ابتسم سليم بثقه وهو يخبره:
- أنت كده بتدخلنا في








 صراع أنا اللي هكون كسبان فيه..اقبل الهديه وانت ساكت بلاش تقلب دماغنا بكلام تافه، خلينا في المهم.

 استمع لزفير سيف الحانق لاصراره على قراره، تجاهله وقرر التحدث بما يثير صدره بفضول قلق:

- فاطمة عزمت شمس على الفرح!.

- ايوا امبارح بليل، وهي اتحججت كتير ومع اصرار فاطمة وافقت انها تيجي.

حاول إخفاءة نبرة السعادة حينما علم بموافقتها على المجيء للقاهرة لحضور زفاف سيف وليال:

- تمام انا هروح واتمم معها مش هو بعد يومين.
هز سيف رأسه بإيجاب وكأنه يراه، قائلاً بنبرة يتخللها الشفقة:

- ايوا، ربنا معاك على المهلبية اللي أنت فيها.

هز سليم رأسه موافقًا لتشبيه صديقه لحياته،  التفت بجسده يأمر أنس بالجلوس مع العمال، ثم انطلق نحو شمس مقررًا التحدث معها والذي ما إن رآته يتقدم نحوها حتى تراجعت للخلف وأبدت اهتمامها بكتب الاطفال الموضوعه أمامها.

دخل المكتبة وبقي صامت ينظر لها، ولكنها تجاهلت وتجاهلت حتى ملت ونظرت له بعدما فشلت في محاولتها بتجاهله.

- مينفعش كل شوية تيجي وتكلمني في شغلي.

رد ببساطة: 

- أنا جيت مرة واحدة بس.

صححت له بضيق:

- النهاردة مرة واحدة وامبارح تلات مرات واول امبارح مرتين..ومينفعش كده بجد المكتبة فيها كاميرات وأصحابها أكيد مراقبين الوضع ما بينا.

 ارتفع حاجبيه سائلاً إياه بتعجب مستفز:

- بجد شايفنا دلوقتي.

وبيده لوح لكاميرا المثبته بأحد الاركان مبتسمًا باستفزاز مما جعلها تثور غاضبه:

- سليم انت اتجننت ايه اللي بتعمله ده.

- بكون السبب في رفدك علشان نخلص من الليلة دي بقا اصلها طولت وبوخت.

رد بنبرة حانقه، فقالت بعصبية:

- هو أيه اللي بوخ بجد، مشاعري بقت بايخة بالنسبالك ده من انهي تجاه، انت فاكر الموضوع كله بسبب طلاقك ليا، يبقى لاسف خانك ذكائك يا سليم باشا الموضوع اكبر من كده بكتير.

أشار بيده حينما وصل لمراده أخيرًا:

- خلاص نقعد ونتكلم واشوف ايه الموضوع ده، خدي بالك يا شمس أنا مش هفضل كتير اراضي فيكي.
وأنهى حديثه بنبرة تحذيريه خافته  للغاية.

توسعت عيناه تسأله في ترقب وقلب ينفطر ألماً:

- مستحقش انك تراضيني وتتعب لغاية ما ارجعلك؟!

كانت تتساءل وتنتظر إجابه تشبه الماء البارد حينما يسكب فوق متعرق في فصل الصيف.
أجاب بثقة ممزوجة بالتحذير حيث فاض الكيل به: 

- تستحقي فعلاً...تستحقي كل حاجة...بس حطي في دماغك انه لولا ده متعلق بيكي ولسه ليكي جوا مكان مكنتش هقف الوقفه دي ابدًا.








رغم صمته بعد حديثه إلا أن يده مازالت موضوعه فوق قلبه، ثم عاد واستكمل: 
-ولولا ابنك اللي هناك ده واللي أنا بردوا مش عايزه يتأثر بمشاكلنا مكنتش هوافق على نفسي ان اخوض حالة رفضك ليا وانا عادي كده..انا بدوس على حاجات جوايا وبعدي وبكبر بس نصيحة مني بلاش طاقتي تخلص معاكي، علشان واقسم بالله فجأة هتلاقيني اختفيت عنك والخطوة اللي هقرر ابعد فيها لا يمكن ارجع فيها تاني.

الآن أصبح تهديده صريح قوي يحمل فترة عصيبة عاشها بكل تفاصيليها المظلمة!.

أشارت له بيدها تقول بضيق:
- بردوا بتهددني..

حاول توضيح وجهه نظره بوضوح اكثر:

- لا ابدا مفيش تهديد ولا حاجة، أنا بس بنورك عن الضلمه اللي انتي عايشه فيها، وبقولك مش سهل على راجل زي اقف كده واستنى اشوف رضاكي عليا...انتي مبسوطة وانا اتخنقت ولولا اني عارف انك لسه عايزني مكنتش هفضل ده كله سايب بيتي واهلي وشغلي وجاي هنا عشان خاطرك وعشان مش قادر اسيبك لوحدك.

اندفعت الكلمات من جوفها تحفزها على اخباره بما تكنه من مشاعر كانت ممزوجة بخيبة الأمل، ولكنها تراجعت لتعنته البادي على وجهه، وكأن الظلام الذي يتحدث عنه هو ضلاله هو..وليس هي..لأنه حتى الآن لم يدرك ما تشعر به وتريده منه، بل مازال يتصرف بعدوانية أحيانًا...وأحيانًا أخرى يتجاهل.

ومع صمتها الطويل وعدم مشاركته الحديث في أبسط الحلول لمساواة الوضع بينهما، جعله هو الآخر يصمت مفكرًا قليلاً باستياء بات واضحًا على وجهه:

- هسيبك وهفضل محافظ على الفترة اللي انا حددتها يا شمس، لما نشوف اخرتها إيه وتقدري  امتى تيجي تتكلمي معايا، واتمنى وقتها تكوني عارفه غلطك.

أي خطأ يتحدث عنه، مازال العناد يتربص به يمثل حائلاً منيعًا بينه وبين النور الذي يبحث عنه، حتى أنه ينتظر قدومها إليه اولاً، مبديًا تذمره من محاولاتها في كسب بعض الغنج عليه كي يعلم قيمتها التي أضاعها بيده في لحظة تهور كان من المفترض أن يتحكم بنفسه بها!.

خرج من المكتبه بهدوء ينافي الثورة التي أشعلها، زمت شفتيها بضيق لقدرته العظيمة في قيادة الحديث بينهما لصالحه،








 وكأن له قوة خارقة كي يجعلها تصمت بهذه الطريقة التي تظهرها مظهر ضعيفة غبية لا تملك حق الدفاع عن نفسها.
                                 ***
كانت ليال تجلس أمام سيف في أحد الكافيهات تستمع لحديثه مع صديقه بعدم اكتراث وذلك لهياج مشاعرها الوقحة التي أصبحت تطالب بأمورًا غريبة عنها.

انتبهت لسيف حينما أنهى الاتصال، فسألته كمحاولة منها للخروج من عمق أفكارها الحمقاء:

- مين دي اللي فاطمة تعزمها على الفرح!.

- مرات واحد صاحبي، بينهم خلاف بسيط وهو عايز يحل الموضوع ده في فرحي.

- خلاف زي أيه؟!

- طلاق.

زمت شفتيها وكأنها تدرك أن كلمته التالية ستكون هي، فتلك هي نهاية الطريق لكل شيء سعيد وهادئ، نهاية تمثل جزءًا من هواجسها المخيفة.

- وأكيد هي رافضه الرجوع له أذاها  كتير.

قالتها بتنهيدة حزينة جعلت سيف يركز ببصره عليها بتعجب حاول إخفائه:

- متتخيليش حاجات مش موجودة بدام معشتيش القصة.

ردت بثقة:

- مش محتاجة اتخيل يا سيف!، الكلام واضح قدامي.

أصر على رأيه قائلًا:

- لا مش واضح ممكن يحصل طلاق في لحظة تهور بس الطرفين لسه بيموتوا في بعض.

حركت رأسها برفض وهي تشرح وجهة نظرها:

- مش مبرر..الراجل اللي يوصل لمراته انها تطلب الطلاق أكيد هو الخلل..

قاطعها وهو يدافع عن صديقه بضيق:

- موصلهاش ومكنتش عايزة..هو اللي طلق لاسباب مش من فراغ أكيد.

سخرت قائلة:
- كمان هو اللي طلقها..

انفلت هدوئه وخرج عن هيكل ثباته قائلاً بعصبية طفيفة:

- أنا مش فاهم ايه سر اننا نقعد ندخل في مواضيع صاحبي ملهاش علاقة بينا.

نفت برأسها وهي تشير باصبعها نحو الطاولة بإصرار جعله يتعجب منها:

- ليها علاقة يا سيف..علشان ممكن توصل لنفس المرحلة دي، مرحلة ممكن متكنش شايف الا نفسك وترفض تسمعني... تفهمني، يكون ليا متطلبات ومعرفش اقولهالك.

كان يستمع بتركيز لها محاولاً تفهم مشاعرها، ولكنها ببساطة أعطت إجابة حازمة  للحيرة التي يدور حولها صديقه..زوجته تحتاج لوقت كافي تسرد له ما تشعر به..ما تحتاجه منه، هذا العناد متولد من جفاء مشاعرهما الصامتة. 

مد يده وأمسك يدها بقبضته قائلاً برازنة:

- حالة سليم وشمس غيري وغيرك، كل واحد فينا ردود افعاله بتختلف عن التاني، ادراكه للوضع اللي فيه ومدى تقبله بردوا بتختلف من واحد لتاني، علشان كده بقولك متحطيش نفسك في حالتهم.

وكأن سيف أدرك مكنونات مخاوفها سريعًا، فقالت بعدم اكتراث:

- أنا محطتش نفسي مكان حد،  أنا معرفش حتى هما اطلقوا ليه!.

مزاحها كي ينهي ذلك الحوار المرهق لنفسيتها المضطربة..

- شوفتي يا نكدية متعرفيش سبب انفصالهم ونكدتي عليا، امال لو عرفتي كنتي رميتي الدبلة في وشي علشان حقوق المرأة.

فلتت ضحكة صغيرة منها وبدأت أصابعها في مداعبة الحلقة الذهيبة في حنو وسعادة بعدما افلتها هو من بين قبضته...تاركًا لها المساحة الكاملة في التأقلم مع مشاعرها الجديدة.
                                 ***
مساءًا...

وقف سيف يضع يده بجيب بنطاله يراقب النافذة بغضب جامح، منتظرًا مجيء فاطمه بعد تأخرها لهذه الساعة والخروج دون اذنه.








واخيرًا عادت مع جارتها ودخلت للبناية، تجهم وجهه مفكرًا في سبب عودتها المتأخرة الغريبة عنها، وما هي إلا ثوان حتى ظهرت من خلف الباب تدخل في إجهاد وارهاق.

- كنتي فين يا فاطمة؟!

كان يجاهد براكين الغضب المتأججة بداخله، لذا خرجت نبرته خافته تحتوي حروفها النارية على سهام الغضب التي أصابتها وجعلت من توترها مادة لاثاره غضبه اكثر:

- بقولك كنتي فين؟!

ردت بخوف منه لعلمها بمدى غضب أخيها:

- كنت بدور على شقة يا سيف.

- بتدوري على إيه!.

أجابت مجددًا بتوتر ممزوج بالحزن:

- بدور على شقة علشان انقل فيها أنا وتوته.

تقدم منها مختصرًا تلك المسافة يقبض على ذراعيها:

- ودوري ليه أصلاً؟!

ردت بحب وعفوية أخويه كانت تحافظ على سلام حياته الجديدة.








- علشانك يا حبيبي أنت هتبقى عريس وعايز خصوصية مينفعش أنا وتوته نقعد معاك.

أردف باستنكار غاضب:
- خلاص قررتي وخططتي وروحتي تشوفي شقة 



وانا اصلا لا يمكن اقبل انك تقعدي فيها وتسيبي بيت ابوكي.






حاولت تذكيره بأن ميراثها احتفظت به في البنك.

- انا اخدت نصيبي منها من زمان.

رد بإصرار عليها:






- هتفضل بيت ابوكي بردوا، وحتى لو مكنتش شقة 





ابونا..وكانت شقتي مش أنا الاخ اللي يسيب اخته وبنتها يقعدوا لوحدهم.






قالتها بضيق ممزوج بالخوف من رد فعل ليال والذي يبدو أنه خرج سهوًا منها وأخبرته به:





- يا سيف متخلنيش اندم ان اطلقت، وبعدين بصراحة ممكن ليال





 متحبش تقعد وتشارك حد بيتها ودي حياتكوا يا حبيبي...

قاطعها مزمجرًا:





- بلا حياة بلا زفت....انتي مكانك هنا قبلي وقبل ليال وقبل أي حد..حتى لو هي نفسها محبتش كده.






- وبعدين يا سيف هتهد حياتك علشان خاطر سبب تافه زي ده.

وبنبرة غامضة أخبرها:

- لو هي اختارت كده يبقى براحتها.

قالها وخرج من الباب مغلقًا إياه خلفه بقوة افزعتها، ترك نفسه لخوض




 تجربة قاسية أخرى لم يكن يدركها، ماذا سيفعل إن رفضت ليال وجود فاطمة؟!، ما هو قراره



 التالي، أي منهما سيختار؟، ليال زوجة تمنها بل سهر الليالي متيم





 بعشقها..وفاطمة أخته فلذة كبده...وصية والديه لن يستطع تركها وحدها 



بل من المستحيل أن يفعل بها هكذا!، وفي ظل شروده شعر بحاجته لها هي من ستقرر وتجزم ذلك




 الموضوع، صعد درجات السلم ببطء وخوف لأول مرة يخشى قرارتها..فالقرار هذه المرة مصيري، سيحكم 



على حياتهما بالاستمرارية أم الابتعاد مع سقوطها من تلك المكانة التي وضعها بها.

                                  ***

استغلت شمس وجود أنس مع سليم بأعلى وقررت الفرار لمكان أجلته 



لأيام عديدة، هبطت الدرج بسرعة رهيبة ومنها




 إلى الطريق حتى اوقفت سيارة أجرة واستقلتها بتوتر وهي تراقب البناية في قلق جامح..
ولم تعرف أن هناك





 رجلاً من رجاله يراقب أنفاسها وليست تحركاتها فقط ..استندت بإريحية على مقعد السيارة وراحت 




تراقب الطريق بتفكير وشرود في ما عزمت عليه مؤخرًا.. 








الفصل الثالث والعشرون.

" المواجهة الاولى"

وقف سليم في الجانب الآخر من الطريق يتابع دخولها في إحدى المحلات التجارية للذهب والمجوهرات، كانت ملامحه هادئة نوع ما عكس ثوران أفكاره، حيث قررت بالفعل أن تطيح بهما من حافة الهاوية بأفعالها المريبة والغريبة تلك، لقد سيطر العناد عليها بشكل هيستري وافقدها قدرة التمييز على رؤيته وهو يركض خلفها ركضًا محاولاً مراضاتها، حقًا جهل أين السبب في تأخير عودتها له كاملة، لم يعد يعلم ما يدور بخلدها، فأصبحت غامضة متطلبة بشكل يوفق قدرته...

وفي ظل التفكير بشخصيتها، تذكر اتصال سيف له، محاولاً بحرج فتح موضوع انفصاله هو وشمس، حتى أتاح له الفرصة كي يعلم خباياه... وانطلق سيف يسرد فكرته في حل تلك المعضلة، ومن بين أحاديثه التي أصابته بالملل، شيء جعله مصدومًا هو أنها ينقصها مشاعر أو أشياءًا لا تود التعبير عنها، وما كان يرمي إليه سيف...هو أنه جامد في مشاعره معها..مستندًا لحديثه  بأن انفصالهما ليس السبب الرئيسي في ذلك، يبدو أنها تعاني من أمرًا ما يخفى عنه!، لن ينكر أن حديث صديقه أربكه، فبدا له متوترًا بعد محاولات عديدة في اثبات أن زوجته لم ينقصها أي شيء سوى أنها حزينة لانفصالهما...وفي نهاية المحادثة البسيطة مع صديقه الذي يحاول بشتى الطرق جمعه هو وشمس بنية صافية أخوية..اغلق معه الاتصال على أملاً التفكير به، ولم يمهله القدر وقت كافيًا في التفكير بل صدح رنين هاتفه باتصال من الرجل المكلف بحمايتها ومراقبتها وهو يخبره ان زوجته المصون تتسلل في هذا الوقت المتأخر من البناية..فركض هو كالمجنون خلفها بعد أن وضع أنس لدى  السيدة ام رجاء.

لقد أصابه الملل حقًا من وقفته تلك، ناقمًا على ما يدعوه به الجميع طالبين منهم التريث  كي ينهى تلك العواقب على خير...فأي تريث وهي تختلق أمورًا ستصيبه باختلال العقلي!.

خرجت شمس من المحل وهي تحرك بصرها في أرجاء الطريق، وقد قررت السير كي تستغل الهواء العليل لدخول لرئتيها المسجونة خلف قبضان حديدية، سارت في الطريق وسمحت لعقلها بالشرود في أمره قليلاً، غير قادرة على التحكم بمشاعرها المرتبطة به حتى وهو غير موجود.

مرت الدقائق عليها وهي تسير ولا تعلم أين جهتها..حتى توقفت فجأة بذعر حينما ظهر أمامها الذهب الخاص بها..حيث قررت بيعه هذه الليلة حتى تقوم بترتيب نفسها لحين موعد مرتبها..التفتت بجسد خائف وعقل مضطرب...فوجدت سليم يقف وبيده قطع الذهب الخاصة بها.

- سـ..سليم.

وبنبرة صوت هادئة للغاية، سألها:

- ليه عملتي كده!.

فركت يدها خجلاً من نظرة اللوم والعتاب التي تلوح لها وهي تقول:

- يعني الظروف وهحتاج فلوس...

قاطعها بنفس هدوئه التي تعجبت له، وطلب منها أمرًا عجيب عليه:

- ياريت منتكلمش لما نروح البيت الاول.

أومأت برأسها وهي لا تعلم لما تنساق خلفه هكذا، يبدو أن قلبها لم يعد يتحمل كم المشاحنات التي تشعر بها...تزامنًا مع فرض قيوده على عقلها فلم يعد لديه قدرة على التفكير بأي شيء، حتى وصلا أمام باب شقته هو..لهذا الحد اُختصر ذلك الطريق في تلك دقائق البسيطة، أم أن من فرط اجهادها راحت تغوص في شرودها ولم تشعر بالوقت طوال عودتهما.

دخلت اولاً للشقة وهي ما زالت على اثر الصمت الذي التزمته طوال الطريق..ولكنه لن يتحمل ثانية أخرى من الصمت، فقرر قطعه عليها بقوله الذي أظهر مدى انهماكه:

- أنا تعبت.

ردت بتعجب طفيف:

- من إيه؟!

أجاب بنفس هدوئه:

- من كل حاجة..منك ومن أهلي ومن شغلي ومن كل الضغوط اللي فوقي.

تنهدت بعمق وهي تنظر له حيث كان الوضع بينهما يشبه بمقابلة تلفزيونية بجلوسهما أمام بعضهما.

- وانا طلبت منك تبعد وانت اللي مُصر تقرب.

قالتها بحزن حاولت إخفائه، فسألها فورًا بنبرة تحمل لمحة بسيطة من الانكسار:

- هو أنا معملتش حاجة حلوة ليكي، تفتكريني بيها علشان نرجع حياتنا تاني.

ابتلعت لعابها وهي تجيب بتوتر:

- لا عملت بس...

بتر حديثها وهو ينفعل رغمًا عنه:

- بس إيه...عايزة إيه يا شمس بالظبط، ليه مُصرة توجعي فيا.

- عايزة أحس بكياني معاك، فين حبك ليا..احساسك من ناحيتي كله صامت، احنا مكناش قريبين من بعض يا سليم انت بعيد عني اوي..طلاقك ليا وضحلي حاجات كنت بتنازل عنها.

قالتها بنبرة أشبه للصراخ الممزوج بالبكاء، فأردف هو بعدم تصديق لحديثها: 

- فين حبي ليكي؟...امال أنا بعمل إيه هنا، واقسم بالله لولا إن بحبك ما كنت فكرت لحظة ارجعلك بعد اللي عملتيه.

كانت نبرته شرسة مستنكرة، وبنفس شراسته قالت بنبرة مرتفعة وهي تشير نحوه:

- كلمة بحبك دي أنا مبسمعاش ولما بطلبها بتعمل مش واخد بالك وكأني بطلب حاجة متخصنيش، أنهي حب ده اللي بيخيلك تبعد عني متاخدش بالك من مشاعري ومتطلباتي، كل علاقتك بيا أوامر في أوامر..شمس اعملي قومي اقعدي..سيبي كليتك حاضر يا سليم، مترسميش لحد حاضر يا سليم، اقعدي في بيتك واقطعي علاقتك بكل اصاحبك حاضر يا سليم، ادفني مشاعرك واحاسيسك حاضر، خليكي زي أله في البيت تروق تطبخ تاخد بالها من ابنها وفي اخر الليل تستنى كلمة حلوة تطبطب على قلبها..مفيش، شمس اتخلقت علشان تلبي طلباتك في سجنك.

لم تشعر بنفسها وهي تُلقي بكل كلماتها دفعة واحدة فأصبحت وتيرة أنفاسها سريعة بعدما انزاح ذلك الثقل من على صدرها، وتحرر عقلها من الفوضى المسيطرة عليه..راقبته وهو ينهض متحركًا ذهابًا وإيابًا كالمجنون الذي القى على مسامعه كلمات تثير جنونه وتخرجه عن أخر ذرة التعقل كان متمسكًا بها...تكاد تقسم انها استمعت لصوت دقات قلبه العنيفة بعدما رأت جسده المتشنج، بدا وكأنه اُلقى عليه تعويذة شيطانية فتراقصت أمامه الشياطين.

كانت تستمع لبعض الكلمات الخافتة والتي جهلت تفسيرها حتى علت نبرة صوته فجأة وهو يستدير نحوها يهدر بها في عنف:

- ولما أنا وحش كده مبتقوليش ليه، بتكملي حياتك معايا ليه...سايبني اغصبك على وجودي ليه.
 نفس الآلام  التي تذوقها من عائلته تندفع في وجهه مجددًا، ككرة قررت أن تصيب مشاهد في وسط المباراة، جميعهم يضعونه في خانة الوحش القاسي الذي يرفض تفهم مشاعرهم، وهم لا يدركوا ما يعاني من خذلان حاوطه بأسوار عالية يمنع وصاله بهم.

صمت ساد المكان عقب حديثه، لقد وقف على حافة هاوية انفصالهم مجددًا بعد صمتها الطويل وبعد هذا الكم من المشاعر السلبية المحاطة بهم، كاد أن يجزم أن الحب بينهما انتهى أو أصبح من طرفه هو فقط.

- كده أنا فهمت..ماشي يا شمس، اللي انتي عايزاه هعمله، عايزة تطلقي وتبعدي وتشوفي حياتك أنا.....

قاطعته هذه المرة وهي تبكي بصوت عالي تقول من بين شهقاتها:

- تاني مرة بتتخلى عني.

جذبها من يدها بقوة حتى أصبحت تقف تقابله، فهدر بها بانفعال:

- أنا مبتخلاش عنك..افهمي بقا، انتي اللي بتخليني اوصل لكده.

تحرك بؤبؤ عيناها في سرعة رهيبة وهي تحاول الافلات من يديه القابضة عليها وكأنها لصًا يريد الهرب منه، أغلقت عيناها حينما لم تعد تتحمل أن ترى ملامحه بهذا الشكل المُخيف لها، فهمست بصوتها الخائف:

- أنا بخاف منك، مبعرفش اتصرف معاك..ابعد عني.

رد في عناد:

- لا مش هعبد، وأنا مبخوفش يا شمس متحطنيش في خانة الوحش اللي مُصرة تحطيني فيها، كفاية أنا استحملت كتير.

- وأنا استحملت اكتر.. أنا عارفة انك بتحبني بس طريقة حبك ليا كأنك ابويا مسؤول عن تصرفاتي وتربيتي واروح فين واجاي فين ...لكن علاقة الزوج والزوجة بتبقى مختلفة أنت طرف زي زيك فيها، والمفروض نتشارك في كل حاجة.

أخرجت مجددًا مشاعر كانت تكنها بصدرها، وكأن العناد المسيطر على عينيه كان بمثابة الشرارة التي سمحت لكل أحاسيسها الحزينة بالانطلاق في وجهه.

وبنبرة خافتة أخبرها بصدق:

- أنا ببقى خايف عليكي.

حركت رأسها برفض قائلة من بين بكائها:

- خوفك ده مش في محله أنا ناضجة كافية، مش هأذي نفسي علشان عارفة حدودي.
 صمت للحظات مفكرًا في حديثها الذي جلجل هيكل ثباته ومعتقداته التي ترسخت بذهنه منذ أن كان شاب مراهق يتعلم أساسيات الحب والغرام.

- انتي فاهمة الحب غلط اللي بيحب حد بيقبل به زي ما هو مبيقعدش يعدل فيه، أي انسان فيه العيوب والمميزات وانا اكيد فيا عيوب وفيا بردو مميزات أكتر.

قالها بتعنت وإصرار مع مزيج طفيف من كبريائه وعنجهيته التي لن يتخلى عنها أبدًا حتى مماته.
ردت في تعنت مماثل، لن تكون الساذجة مجددًا ولن تلعب دور المضحي الذي وقع فوق عاتقها في علاقتهما.

- بس العيوب دي مش قادرة اتأقلم معها ولو انت بتحبني هتغيرها.

وبعد تفكير دام لدقائق كانت مشاعرهما تتصارع من أجل إبقاء حبهما.

- ساعديني علشان اغيرها.

كانت نبرته تحمل تردد طفيف، وكأنه يخشى ما يُقدم عليه، لا يريد بذل مجهود إضافي في ارضاء مشاعرها المطالبة بأمورًا لم تتذوقها من قبل، وراحت تشرد لثوان بمحاولاتها السابقة أثناء أعوام زواجهما في محاولة جذب انتباهه لها ولم تكن تعِ انها تتنازل عن حقوقها به، وكان التجاهل هو الرد المناسب لها، فردت بعصبية لم تتحكم بها:

- أنا بقالي كام سنة بحاول اساعدك وبحاول معاك علشان بحبك وعشان بحبك كنت ساكته بس انا ليا طاقة زي أي حد...وانت ضعيف ومعندكش إرادة علشان تغيير من نفسك عشان اللي بتحبه.

وكأن شرارة الغضب والانفعال انتقلت له بعدما بدأ في الهدوء والاستكانة لها في هذه اللحظة كي ينهي خلافهما بعدما شعر بالسخط لهذا العبث المسيطر على حياتهما، ولكن حديثها الأخير كان قاسي وهي تصفه بالضعيف عديم الإرادة في تغيير نفسه، هو لو كان ضعيفًا لم يسمح لنفسه لخوض مشاعر  الخذلان والقسوة من عائلته بأكملها بما فيهم هي، لو كان ضعيف لِمَ قرر التخلي عن حلمه من أجلهم..أي ضعف تتحدث عنه..وهي لا تعلم ما يجاهد بداخله كي يبقى ثابتًا شامخًا أمام تقلبات الحياة الخادعة.

ومن فرط غضبه شعر بحاجته باثبات حبه وقوته لها، فجذبها أكثر عليه مقبلاً إياه بغل لأول مرة تشعر به من خلال قبلاته لطالما كانت دومًا ناعمة هادئة  تجعلها في حالة من الاستسلام الفوري له، ولم تعلم أنه كان يلقي جميع مشاعره السلبية بها، فهي ليست من حقها أن تتهمه بهذا، وتصدر أحكامها بحقه، ناهيك عن حاجته الشديدة لها، فاشتياقه غلب غضبه، وللحظة كان يود الاعتراف بحبه لها لفظًا، ولكنه فشل كعادته واختار تلك الطريقة في اثبات حبه القوي لها، حتى أنه بدا مدركًا أن الكلمات تتحالف ضده وترفض الخروج من جوفه، فاستسلم لطريقته المعتادة وراح يبث مشاعره الصامتة لها من خلال لمساته وقبلاته التي هدأت في شراستها نوعًا ما وأصبحت هادئة ناعمة مترأف بحالتها الضعيفة التي تحاول إبعاده عنها.

أما هي فكانت في حالة من الصراع الناري..تريده بشده..والعقل يقف مانعًا حائلاً لقلبها فارضًا سيطرته في تذوق أحاسيس افتقدتها لفترة قصيرة من زوج عشقته حد الثمالة...انقسم داخلها لجزئين..جزء يشعر بعدم قدرته في تغيير نفسه وأن التغير لن يصبح بين ليلة وضحاها دافعًا إياها نحوه كي تنغمس معه في حالة الحب الصامتة المسيطرة عليهما، وجزء آخر يرفض طباعه وخصاله التي جاهدت في تغييرها، مذكرًا إياها بأن السكوت مجددًا سيزيد الوضع سوءًا، ولكن رغمًا عنها شعرت بالحنين يتملك منها، مستمتعة بقبلاته بكل ما فيها من حنو ولطف ممزوج بالغل البسيط. وفي نهاية المطاف هو زوجها التي لن تستطع الابتعاد عنه مهما حدث بينهما، فرفعت راية الاستسلام في لحظة غفل عنها العقل، في ظل همساته الحميمة المذيبة لأي ذرة تعقل لديها.

وبعد فترة كانت تتوسط فراشه، يحتضنها بتملك خشية من فقدان جديد يلعب بأوتار ثباته الذي يجاهد التمسك به، لم ينتبه لبكائها الصامت وهي تخضع لجلد الذات بسوط ذكرياتهما التي جعلها تدرك أنها عادت لذات النقطة مجددًا وكأن ما فعلته ذهب كالسراب بسبب قلبها الأحمق التي فقدت السيطرة عليه، وحين انتبه لحركة بسيطة منها كانت تمسح بها دموعها برفق هبط ببصره نحوها وتفاجئ بدموعها المنسابة فوق بشرتها البيضاء مع حمرة أنفها الخفيفة..فسأل بقلق متوجسًا منها:
- انتي بتعيطي ليه!.
ردت بصوت مبحوح مرتجف خائف من مستقبلها الجديد معه حيث فشلت في تثبيت متطلباتها وكسب أي شعور جديد كانت تتوق إليه!.
- علشان رجعت لنقطة الصفر تاني.
سارع برده فبدا كطفلاً يبرر وجهة نظره خوفًا من أن تفهمه والدته خطأ.

- بالعكس أنا لما قربت منك اشتاقت اكتر حد وحسيت ان في حته ناقصني وبعيدة عني بتكمل بيكي.
رفعت بصرها تستغل حديثه في فرصة لن تتكرر بعد استسلامها له:

- خلاص لو فعلا عايزاني في حياتك لازم نشوف حل وسط.
أومأ مجددًا وهو يحافظ على غايته الجديدة  والتي كانت مختلفة كليًا عليه، مُصرًا على التمسك بها رغم عواصف الحياة القاسية، فلن يتجاهل هذه المرة سيواجه عيوبًا كان يتغاضى عنها من أجل فتاته التي تعاني من الفقد الذي هو عانى منه من قبل، ولن يقبل بأن تتذوق آلامه القاسية مثلما هو تذوق. 

- اعتبريني طفل وبيتعلم اساسيات الحب.

رغم براءة جملته..إلا أنها مست قلبها المتعلق به، فاعتدلت بجلستها وبابتسامة خالطت دموعها قالت بنبرة يملؤها الأمل:

- اوعدني انك هتحاول فعلاً مش مجرد كلام ما بينا. 

- طول ما انتي موجودة جنبي هحاول.

عادت مجددًا تهتف بخوف:

-  بس أنت هتمل بسرعة يا سليم.

وبالفعل ظهر الضجر على ملامحه:

- طيب والمفروض اعمل ايه نبعد علشان ترتاحي أنا مبقتش فاهمك.

-مقصدتش كده...
قررت قطع حديثها فجأة كي تعطيه نفسها مساحة في اقتناء افضل الالفاظ للتعبير عنها:

- يعني مثلاً أنا مجربتش احساس المخطوبين...مجربتش مشاعر كتير حرمتها مني..

قاطعها متأففًا باشمئزاز:

- ده كلام مراهقين يا شمس.

- شوفت رجعت تاني لنفس الكلام، بص بقى أنا نفسي احس إن أنا مراهقة.

وبنبرة لم يستطع إخفاء سيخرته بها:

-حاضر بكرة هبقى اجيلك ورد واجيلك تحت البلكونة ونتقابل من غير حد يعرف...

نهضت بحماس وابتسامة واسعة وهي تجذب الغطاء عليها قائلة:

- طب وإيه يعني فكرة حلوة... إيه رأيك أنا مش هرجع الا لما تعمل كده.

- وهعمل كده ازاي...يابنتي انا سايب حياتي وشغلي وجاي وراكي، طب إيه رأيك نرجع القاهرة ونقعد في شقتنا نلعب زي ما احنا عايزين احسن من الفضايح اللي بتحصل هنا.

صمتت للحظات تفكر في حديثه الذي أشعل فكرة جيدة بعقلها فقالت بغموض أثار ريبته:

- انا موافقة ولما نرجع هقولك أنا عايزة إيه بالظبط.
 
                                  ***
بعد تفكير طويل استغرقه سيف في حسم أمرًا وقع فوق رأسه من السماء كالنيزك المفاجئ، لم يستطع إنهاء حالة التوتر التي وقع بها في اختيار أي منهما..ولم يطيق الوقت في انتظار الصباح كي يتحدث معها، ولم يجد حلاً مناسبًا يثلج به صدره...سوى أن الصعود إليها هو الأحل الأنسب..والخوف هنا يكمن في شخصيتها المتمردة التي من المحتمل أن ترفض وجود فاطمة وهذا الأمر الذي لن يتحمله قط.
الغى فكرة الدخول لشقته، واغلق الباب ثم اتجه صوب شقتها بالأعلى بخفة مستغلاً الوقت المتأخر وهدوء الليل.. طرق باب شقتها في هدوء كي لا يثير  جلبة بالطابق، وبعدما رأته هي بما يسمى" بالعين السحرية" حتى سارعت في فتح اقفال الباب وظهرت من خلفه برأسها فقط حيث لجمتها الصدمة ولم يكن الوقت كافيًا كي ترتدي روب أو حجاب فوق قميصها القطني ذو اللون الأحمر .

- في حاجة يا سيف.

رد في لهجة جادة أقلقتها:

- ايوه في حاجة مينفعش تتأخر لبكرة ولازم نتكلم فيها.

- دلوقتي!.

سألته بتعجب، فحرك رأسه بإيماءة بسيطة، وقبل أن تتفوه استمعا لصوت أقدام من الاعلى، ففتحت الباب سريعًا ودخل هو وأغلقا الباب معًا، تقاربهما الشديد الهب مشاعرهما التي كانت في حالة من الخمول بسبب جديته المفرطة، تيبست  بجسدها مستندة على الباب وهو يقف أمامها مباشرةً لا يفصل بينهما سوى انشات بسيطة، كانت تتحس بيدها عن أي شيء تتمسك به، فأصبحت كالغريق الذي يرفرف بيده فوق سطح المياه..رباه لما انقطعت أنفاسها وهو يقترب برأسه منها مركزًا ببصره على شفتيها المرتجفة خجلاً وخوفًا من قبلة قد تداهمها في لحظة جنونية تعلم أنها سـ تستسلم له لا محال...وما زاد من تعجبها هو ابتعاده المفاجئ وكأنه لدغ منها، راقبته وهو يسيطر على انفعال جسده الواضح لها، وجلوسه فوق الأريكة متحدثًا بنبرة غريبة عنه:

- ليال عايز اتكلم معاكي في حاجة مهمة هتحدد مصيرنا وطبعا الاختيار ليكي.

لن ينسى أمر استسلامها وهي تحت سطوته منتظرة قبلته بصدر رحب، ولا ذلك الثوب المثير لمشاعره الراغبة بها، ولكنه تغاضى  مؤقتًا فحديث اخته يقف كالغصة في حلقه.

لم تعِ أنها مازالت ترتدي ثيابها الكاشفة لمعظم أنحاء جسدها، وراحت تجلس بجانبه تحثه على التحدث:

- في ايه قلقتني.

 استغرق دقيقة في الصمت لعبت بها في قلق من افعاله الغامضة، فقالت بتوتر:

- طلعت متجوز صح!.

رمقها بتعجب ولم يتحدث، فقالت مجددًا بهمس خائف:
-  يبقى طلعت مدمن!
رمقها باستخفاف:

- ايه الجنان اللي بتقوليه ده.

- اومال ايه يا سيف...خوفتني.

اطلق العنان لنفسه قائلاً بنبرة تميل للحدة والتحذير:

- عندك مانع فاطمة تقعد معانا، أنا مش هعرف اتخلى عن اختي واسيبها لوحدها.

توسعت عيناها بذهول قائلة بنبرة تشبه للغيظ:

- بجد يا سيف..هو ده الموضوع المهم اللي جاي في وقت زي ده تتكلم فيه!.

- هو فيه أهم من كده إيه يا ليال، دي أختي وانتي مراتي..

اهتز كيانها لكلمته تلك فقالت بنبرة حاولت بقدر الامكان ان تكون ثابتة:

- أنا مش فاهمة سبب القلق اللي في صوتك، هو أنا كنت اعترضت في إيه قبل كده علشان تيجي وتقولي تحديد مصيرنا، كلامك كبير اوي.

- لا مش كبير، لازم تكوني مفكرة قبل ما توافقي...أنا عمري ما اسيب اختي.

قاطعته بعصبية:

- وانا مطلبتش ...ولا هطلب كده، متعاملنيش كاني وحشة ومبحبش حد علشان أنا مش كده يا سيف.

أنهت حديثها وانهارت في البكاء، بعدما تفهمت ما يرمي إليه بكلماته حتى وإن لم يصرح بها علنًا، فهي تمتلك ذكاء كافي لتفسير الغموض المسيطر على نبرته والقلق الذي يتلاعب به.

اقترب منها سيف مختصرًا المسافة بينهما وهو يجذبها رغمًا عنها لاحضانه، فاقدًا للتعبير عن نفسه في ظل هذا الحرج الذي وقع فيه بسبب دخوله في الحديث بطريقة غير صحيحة بالمرة..فالأمر وكأنه يقول لها أنتي قبيحة المشاعر وأنا خائف من رفضك لاختي!.

زفر بحنق وربت على كتفها قائلاً بنبرة لطيفة تحمل الأسف:

- متزعليش مني، حقك عليا يا حبيبتي، أكيد مقصدش كده، بس انتي حطي نفسك مكاني.

رفعت وجهها بعد أن كانت تدفنه بصدره، قائلة من بين شهقاتها:

- لا مش هحط، علشان انا متكلمتش وفتحت بوقي اصلا ولا لمحت لكده، أنت لو كنت اتخليت عن اختك كنت هخاف منك، علشان أنا دوقت طعم إن حد يتخلى عنك،  معنديش استعداد اجربه تاني ولا اخلي اختك تجربه بسببي.

حاوط وجهها بيده قائلاً بفخر وهو ينظر في عمق عيناها:
- كل الناس كانت مستغربة إزاي أنا وأنتي ممكن نتجوز، شايفين اننا مختلفين..بس أنا كنت شايف انك الجزء اللي بيكملني، الحاجة اللي بدور عليها علشان اريح قلبي بيها، أنتي أبعد ما يكون انك تكوني وحشة، بالعكس أنتي جدعة بس الظروف حطتك في المكان الغلط..ودلوقتي اتأكدت ان نظرتي كانت صح.

- مش حاسك على فكرة!.

قالتها بشك وهي تنظر لعينيه، فرفع حاجبيه مفكرًا في طريقة لاثبات حديثه، حتى آلت إليه أكثر الطرق اختصارًا في اثبات الحب الكامن بقلبه..ونفذها على الفور..حينما داهم ثغرها بقبلات متتالية لم يفصلها سوى جملة واحدة همس بها:

- أنا عديت كلمة بحبك من زمان وبقيت مجنون بيكي.

خفق قلبها اثر كلماته وشعرت بتماديه معها في أحاسيس الحب الجنونية، فقررت أن تقطع تلك الرومانسية وتأجليها مؤقتًا حين موعود الزفاف.
تعليقات