رواية ندبات الفؤاد
الخاتمة...
بقلم زيزي محمد
بعد مرور أربعة أشهر..
ركض سليم بين العاملين وبعض الاشخاص الذين يراقبون الحريق
المشتعل في محل المالك لزوجته، جف حلقه وهو يدور هنا
وهناك باحثًا عنها بلهفة، ناهيك عن انخفاض ضربات قلبه عندما تلقى مكالمة من أحد العاملين يسرد له
ما حدث بصوت مفزع، فلم يشغله باله سوى هي...هي أولاً ثم يأتي أي شيء بعد ذلك.
لمحها بعيدًا تقف بجانب المهندسة التي خصصها لها كي تستكمل ديكور المحل الذي لم ينتهي حتى الآن بسبب تدخلاته وآرائه، فكانت خطة خبيثة منه حتى يأجل كل شيء حين إشعار آخر، مجرد التفكير والتخيل بانشغالها عنه يصيبه بالجنون، حبه متملك لدرجة اخنقته هو شخصيًا.
جذبها من أحضان المهندسة بلهفة جذبت أنظار العاملين واحتضانها بقوة يربت فوق ظهرها، غير عابئًا بنظرات الأخرين له، يكفي فقط مشاعره التي تريد الهدوء بعد هذه الاثارة الغريبة والمريبة، تمتم بخفوت بجانب أذنها:
- أنتي كويسة يا حبيتي.
إعلانه بحبه وقلقه عليها جعل المهندسة والعاملات في حالة هيام فكان الأمر يشبه فيلم رومانسي في إحدى الطرق والبطل هو سليم!، لو كانت شمس في حالتها الطبيعية لضحكت حتى خرجت روحها، فالأمر عجيب وخاصةً معه هو!.
- ردي عليا أنتي كويسة ولا نروح لدكتور.
كان يشير بعينيه نحو بطنها المنتفخة قليلاً، فهمست حينها وهي تتشبث بقميصه الأسود:
- أنا كويسة بس المحل يا سليم ضاع!.
أبعدها عنه وحاوط وجهها الذي شحب لونه من الضرر الذي لحق بالمحل:
- كل حاجة تتعوض المهم أنتي بخير وكويسة.
حركها معه نحو سيارته دون أن يعير انتباه لأحد، وصل أمامها وأدخلها بلطف وكأنها قطعة ألماس يخشى فقدانها، فالأساس هي أغلى منه، لا أحد يعلم مقدار الحب الذي دفن داخل أعماقه حتى تأصل بجذور قلبه.
هبط بطوله الفارع نحوها ومسك كفيها حيث تسربت منهما حرارتهما، وظل يفرك بهما في ظل انخفاض درجات حرارة الجو.
- قولتلك اهدي خلاص، قدر ولطف.
مسحت دموعها المتساقطة، وهتفت بصوت متقطع:
- لسه بنفتح المحل، وبنولع النور كل حاجة اتحرقت والنار مسكت في كل حاجة، مبقوش عارفين يطفوها يا سليم، كنت خلاص هفتحه الاسبوع اللي جاي، قعدت برا وأنا بشوف حلمي بيضيع.
رفع حاجبيه معًا لصوتها الفاقد للأمل والشغف، فقال بنبرة هادئة ممزوجة بالحنو:
- انتي زعلانة ليه كده، من بكرة خدي أي محل يعجبك وهغير اسمه، مفيش حاجة تستاهلي تزعلي عليها كده.
جذبته نحوها ودفنت رأسها به وهي تهمس بامتنان:
- ربنا يخليك يا حبيبي، وجودك جنبي أكيد هيعوضني.
قبل وجنتها وعاد يسألها بلطف:
- تعبانة نروح لدكتور.
كان يتوقع رفضها ولكنها أكدت برأسها وهي تقول بإجهاد:
- حاسة بألم في بطني.
دار فورًا نحو كرسي القيادة وقبل أن ينطلق مغادرًا الموقع، رفع نبرة صوته وهو يلقي ببعض التعليمات لكبير العاملين:
- خليك تابع معاهم، وأنا هبعت زيدان يجيلك.
وفورًا رفع هاتفه وأجرى اتصالاً بزيدان، الذي بدوره علم بما حدث وكان في طريقه هو ويزن للمحل، ابتسم سليم بهدوء رغم الربكة التي حدث له منذ الصباح وحينها فقط شعر بحبه الكبير لهم، أخويه مثال لشهامة والعزة.
مد يده بعدها وجذب يدها ممسكًا بها داخل قبضته يضغط عليها برفق، محاولاً التخفيف عنها، فرقتها لن تتحمل مثل هذه المصائب الذي يتعامل معها هو بصبر وحكمة، لذا كان يرفض من الأساس عملها.
***
بعد مرور ساعة.
- البيبي كويس بس بلاش الاجهاد الزايد يا مدام شمس، وخصوصًا إننا في الشهور الأولى.
حركت شمس رأسها بتفهم للطبيبة التي كانت تقف تضع الجهاز بموضوعه، ثم بدأت تسرد حالة شمس الطبية لأحدى الممرضات حيث كانت تعاني من بعض الضعف مما أدى إلى تثبيت المحاليل الطبية بيدها.
كان سليم يقف بآخر الغرفة يستند بظهره على الجدار يتابع عمل الممرضات باهتمام، تنهد بصمت ورغم كل المصائب التي تحيط به والخسارة التي لحقت به بعد حريق المحل إلا أنه ابتسم بعدما اطمئن لصحة ابنته، وراح بعقله يغوص في ذكرى محببه لقلبه لن ينساها قط بل حولته كليًا وأصبح هادئًا لطيفًا يتعامل معها برقة وحذر وذلك حينما ابلغته بحملها..
**
في يوم مولده الذي يرفض الاحتفال به، حيث لم يكن يومًا مميزًا له حتى يحتفل به من الأساس، وحينما يعترض كان أخويه يصفانه بالـ " نكدي..يا غم" لم يعقب عليهما كعادته، ومع مرور الزمن تناسوا أمر الاحتفال به وكانت الحفلة البسيطة تخصه هو وشمس في غرفتهما وكان يتذمر للأمور الطفولية التي كانت تفعلها حتى أنه يقضى الوقت متخشبًا و ملامح السخط تكتسح وجهه.
دخل للمنزل استعدادًا لمعركة معها، حتى يتنازل قليلاً عن بروده والانخراط معها في تفاصيلها التافهه كما ينعتها هو، مر أولاً على شقة والدته وحينما دخل وأشعل الأنوار ظهر زيدان ويزن أمامه يحملان شيئًا غريبًا تطلق صفارة أغرب منه، والأغرب والأعجب أنهما يرتديان أشياءًا طفولية فوق رأسهما، تعجب لطفولتهما المتأخرة ولكنه لم يفتح فمه بسبب احتضانهما له بقوة في زاوية معينه بالجدار والابله يزن يقبله بقوة.
- ابعد عني ياله.
قالها سليم بحنق في ظل قبلاته التي كان يعتمد بها استفزاز سليم، بينما زيدان لمح بطرف عينه ما يفعله يزن به، فانفجر ضاحكًا غير قادرًا على تهدئة نفسه، وضع رأسه فوق صدر سليم بعدما كان يحتضنه هو الآخر.
رفع سليم أحد حاجبيه مما يفعله زيدان، فذلك المتمرد دخل في نوبة قهقهه فوق صدره، وتساءل بحيرة متى اعتدل هكذا وأصبح لين؟!، أبعدهما عنه بحنق ومسح فوق وجنته بامتعاض:
- قولتلك متبوسنيش تاني.
أشاح يزن بيده والتفت وهو يغمغم:
- يا عم أنت الخسران أساسًا، في غيرك يتمنى البوس ده.
جذبه سليم من مؤخرة رأسه حينما قبض عليها، فترنح يزن بطوله أمام قوة سليم الذي خرج صوته خشن مستنكر:
- أنا سليم أخوك يا صايع...ماشي، مش اللي بيتمنوا يعملوا كده، في فرق اصحى لكلامك.
أبعده يزن عنه وهو يتصنع البكاء:
- حسبي الله ونعم الوكيل فيك، يا مضيع فرحتنا على طول، ما تاخدني قلمين يا عم واخلص.
اقتربت شمس منهما وهي تكتم ضحكتها بصعوبة وبطرف عينيها زجرت يزن بطريقة زائفة:
- لو سمحت يا يزن متبوظش فرحة سولي بعيد ميلاده.
ضغط سليم فوق يدها بقوة حينما استفسر زيدان بضحك:
- فرحة إيه!.
- سليم..سلــيــم.
كررتها وهي تضغط فوق كل حرف، فهز زيدان رأسه متفهمًا ومنع نفسه بصعوبة من استكمال نوبة الضحك التي اجتاحته، بينما هو تركهما بسبب انفعال أنس حينما قال:
- اوعوا كده...عايز ابوس بابا.
ابتسم سليم له بحب ورفعه بخفة، ثم قبله هو متمتمًا من بين قبلاته المتناثرة على وجنتيه المنتفخة:
- أنت تبوسني براحتك وتعمل اللي أنت عايزه.
عانقه أنس بقوة مربتًا بيده الصغيرة على ظهره بحب لا يقدر بثمن، ويمكن القول بأنه الشيء الوحيد الذي لم يتخلى عنه في ظل صراعاته النفسية.
انتقل بعدها نحو والدته التي كانت تقف لا تجرؤ على التقدم خطوة واحدة، فكانت عينيها تطالب بكلمة تهدأ من نفسيتها المضطربة، راقبت اقترابه حتى وقف أمامها والتزم الصمت فهمست بصوت متلعثم تخرج الكلمات منها بخوف من ردة فعله:
- كـ..كل سنة وأنت طيب يا حبيبي.
ورغم عنها فتحت ذراعيها وعينيها ترجوه ألا يجرحها أمامهم، ترك أنس وانحنى لمستواها وعانقها في هدوء هو تعجب له، كانت كل حواسه متأهبه لأي حركة تصدر منها، غافلاً عن مشاعره الثائرة في تلك اللحظة التي ربما لن تتكرر فيما بعد، استمع لكلماتها الهامسة التي اخترقت قلبه:
- أنا أسفة، سامحني بقا.
كانت ترجوه وكأنه الرجاء الأخير، ابتعد عنها ولكنه حافظ على تلك المسافة، ثم ابتسم في وجهها بصفاء وقبل رأسها بقبلة عميقة ثم همس بدوره هو الأخر:
- وأنتي طيبة يا أمي.
لقد كانت تطلب سامحه ولكنه لم يعتاد على تخطي ماضيه بهذه السهولة، لما دومًا تصر على غلق جراحه بذلك اللفظ الذي فات أوانه، لقد ترك نفسه لمواقفهم معه، زيدان تفهم ذلك وبدأ في تصرفاته أن يكون أكثر حذرًا، معوضًا سليم بأمورًا كان يفتقدها، أما والدته مازالت تقف عند نقطة السماح وكأنها تسعى لإزالة همًا من فوقها، وهو لا يستطع أن يتفوه بها أبدًا، فالأمر صعبًا ومستحيل وخاصةً معها فما مر به لن يعوض أبدًا بتلك الكلمة.
ورغم صراعه الآن مع مشاعره وماضيه، رفض التخلي عنها وحاوط كتفيها وهو يدفعها لأمام برفق نحو الطاولة المزينة بالحلوى..
بدأ أنس بالغناء هو ويزن وشاركهما زيدان فيما بعد، وفي ظل انشغالهما جميعًا أرسلت شمس قبلة له في الهواء وأشارت نحو بطنها وحركت شفتيها بهمس:
- أنا حامل.
جف حلقه تقريبًا وهو يقرأ لغة شفتيها، ناقمًا عليها وعلى اختياراتها المعتوهة في إخباره بمثل هذا الخبر بينهم، بينما هي ضحكت بشقاوة وكأنها متعمدة ذلك.
تحكم بنفسه بصعوبة بالغة، ومر الوقت عليه وصبره يفقده تدريجيًا، حتى أعلنت والدته بميعاد نومها وأمرت زيدان بحمل أنس النائم ويضعه في غرفتها، استغل سليم الفرصة وجذب شمس من يدها قائلاً بصوت ناعس:
- وأنا هطلع أنام عشان ورايا شغل كتير.
التفتت شمس نحو الباب، فألقى نظرة على يزن الجالس وعلى وجهه ابتسامة تسلية ونظرة خبيثة، لم يمنع سليم نفسه من إلقاء وسادة بوجهه بقوة حينما أدرك نظراته الوقحة.
صعدت شمس السلم ولم تصل حتى لباب شقتها وجدت نفسها مرفوعة في الهواء، شهقت بنعومة بالغة..ومن بعدها اعتلت ملامحها بسمة واسعة وهي تترنح في الهواء.
دخل الشقة وما إن أغلق الباب خلفه أنزلها وهو يقول:
- أنتي حامل.
كانت تريد مشاكسته ولكن مع نظرة الأمل والسعادة التي لوحت لها تراجعت وهزت رأسها بدلال:
- اه، عرفت من حوالي شهر بس فضلت مخبيه عشان اليوم ده.
- والمفروض افرح ولا ازعل!.
عانقته بدلال تعجب له:
- تنام عشان وراك شغل بكرة كتير.
قالتها ببسمة ممازحة، خرجت ضحكة منه وهو يحرك رأسه بإيماءة بسيطة:
- صح أنتي صح، المفروض ننام.
وحملها مع اعتراضها الضعيف والمشاكس له، وقبل أن يدخلا للغرفة توقف للحظة رافعًا وجهه لها مغلقًا عيناه، علمت مقصده وهمست بأذنه قبل أن تلثم وجنته بقبلة رقيقة:
- بحبك..يا سولي.
فتح عيناه وأردف بحب:
- أول مرة أحبها، مسموحلك تقوليها جوا الاوضة هنا، لكن برة...
خلعت حجابها والقته بإهمال خلفها ثم قالت بغنج:
- سي سليم.
داعب خصرها فور مزاحها فضحكت بصوت عالي، بينما هو عض فوق شفتيه السفلى محذرًا إياها، خفضت صوت ضحكتها وعيونها تسرد له كم هي سعيدة في تلك اللحظة، فلم يلاحظ طفولتها ودلالها إلا في هذه الفترة وكأن انفصالهما جاء بشيء مفيد وأيقظه من غفلته بعد أن كانت حياتهما على محك وهو لا يدرك ذلك.
**
عاد سليم من شروده على طرق الباب، فتحه وجد زيدان ويزن يقفان بقلق، افسح لهما المجال بعدما رمى بنظره نحو شمس ووجد حجابها مضبوط فوق رأسها:
- الف سلامة عليكي يا شمس!.
ردت شمس بصوت مبحوح بسبب بكائها:
- الله يسلمك يا يزن...طفوا الحريقة؟!
تسألت بلهفة، فرد زيدان:
- اه متقلقيش.
هزت رأسها وصمتت وتابعت دخول الطبيبة الشابة التي كانت تحت التدريب تحمل بعض الادوية، ورغم حزنها الا أنها لم تمنع نفسها من الابتسامة على يزن الذي شاكس الطبيبة بعينيه وللعجب أن الأخرى ابتسمت وتبادلت معه بعض النظرات.
هز سليم رأسه بيأس من أخيه، وأشار لزيدان يأن يتبعه، امتثل زيدان وخرج معه:
- الحريقة دي..
قاطعه زيدان بجدية:
- بفعل فاعل.
جز سليم على أسنانه بعنف ثم رفع هاتفه عابثًا به قليلاً ومن ثم أداره نحو زيدان وهو يشير عليه:
- عايزك تعرف مين الرقم ده، بعت رسالة تهديد امبارح عشان اسيب المحل في الغالب أنا شاكك في حد معين، بس عايز اتأكد.
حرك زيدان رأسه بإيجاب، ودون الرقم على هاتفه، وابتعد يجرى اتصاله بينما دخل سليم الغرفة واستمع لصوت يزن:
- يعني أجاي اكشف عندك دلوقتي.
رمشت الأخرى بخجل وقالت:
- اه حضرتك ممكن تيجي العيادة تحت اطمن على قلبك.
رفع سليم جانب شفتاه وهو ينظر ليزن الممسك بقلبه، فاقترب منه سائلاً إياه بتهديد خافت:
- ماله قلبك يا يزن؟!
نهض وهو يستند للكرسي ومال نحو سليم وهتف بخفوت:
- بيوجعني من الخضة!.
وقبل أن يرد سليم كانت الطبيبة تقول بصوتها الرقيق:
- هبعت ممرضة تقولك على مكان العيادة.
- لا وليه، أجاي أنا معاكي، اهو لو اغمى عليا من التعب تعمليلي إسعافات أولية.
أشارت للخارج وهي تكتم ابتسامتها فترك سليم المصدوم منه وخرج معها، خرجت ضحكة شمس بعدما كتمتها طويلاً:
- خفت تبعت الممرضة يعلقها هي كمان.
جلس سليم على حافة الفراش، يتمتم بضيق:
- هيطلع من المستشفى بنص أرقامهم، معرفش دماغه فيها إيه، اتكلمت معاه كتير ولا هو هنا.
- معلش يا سليم شباب، وبكره يعقل.
زفر سليم بضيق:
- مش لدرجة دي يا شمس، كله زباينه بنات، أنا بدأت اقلق ليرجع في مرة بمصيبة.
صمت لبرهة ثم عاد واستكمل بحنق:
- المفروض كنت أسيبه يتجوز بنت المعلم طلقة ويكون ده عقابه.
تذكرت ما حدث، فرغم خوفها حينها الا أنها ستظل من الذكريات المجنونة الجميلة داخلها، انتبهت على تحريك يده فوق بطنها وابتسامته الرائعة تحتل ثغره، وكأنه كان يحاكي طفلته التي ما إن علم بكونها فتاة، حتى تضاعفت سعادته وعبر عن فرحته بها في المحل الخاص بها بعد خروج العاملين، وذلك حينما حاصرها في زاوية والتهم شفتيها في ملحمة لن تنسى بسبب كلماته التي اعترف بها حينها عن مدى حبه لها وامتنانه لقدرتها على تحمله طيلة حياتهما، فهو يدرك مدى قوة شخصيته والتي لن تتوافق مع أي شخص أخر سوى هي.
وضعت يدها فوق يده تحركها فوقها بلطف، ولكنها صاحت فجأة وقالت بقلق:
- أنس والمدرسة، لازم اروح.
أعادها نحو الفراش قائلاً:
- اهدي ماما هتكون في استقباله، وشوية وهنروح كملي المحاليل الاول.
- طب اتصل اطمن عليه.
هز رأسه ورفع هاتفه وقبل أن يضغط على الاتصال وصله رسالة من زيدان.
" ده تليفون واحد من اللي شغالين عند جوز عمتك في المحل"
قبض سليم بعنف وكتب سريعًا له:
" متتصرفش أنت، وسيبلي أنا الموضوع دا، امشي بس في اجراءاتك القانونية".
كان منشغلاً بالتفكير، فحركت يدها فوق ساقه تسرق انتباهه مجددًا:
- اتصل على ماما يا سليم.
- حاضر.
همس بها محاولاً ضبط انفعاله أمامها، بينما هي من فرط إجهادها لم تلاحظ حدة ملامحه.
***
ابتلت هدومه بالكامل بسبب الشاي الذي وقع فوقه، ومنها قرر أحد صبيان الورشة تشغيل خرطوم المياة نحوه، فوقف مصعوقًا غير قادرًا على منعه، إلا بعدما انتهى واطمئن عليه مبررًا بذلك سرعة تصرفه في إنقاذه.
زفر بضيق وهو يخطو خطواته في الطريق المؤدي للبناية تحت نظرات الاناس من حوله، رفع وجهه لأعلى متجنبًا النظر إليهم فوقع بصره عليها تقف في الشرفة تضع الثياب المبتلة فوق الحبال المرصوصة خلف بعضها، ولكن ما جذب نظره وجعله مصدومًا هو تلك " الطرحة" الخفيفة التي كانت تضعها على شعرها وذراعيها حيث استطاع رؤية بشرتها من تحتها، تفوه بكلمات غير مفمهومة ربما كانت تعبر عن سخطه ربما شتائم لا أحد يعلمها إلا هو..وانطلق سريعًا نحو شقته التي وصلها وفتح بابها بقوة بعدما عاكسه المفتاح قليلاً.
- ليـــــــال.
وقع التيشرت الخاص به من يدها بعدما فزعت بسبب صوته الجهور، ودخلت بعجالة تنظر له بقلق:
- مالك يا سيف.
اقترب منها بسرعة البرق وجذب الحجاب الخفيف من فوق رأسها يشير نحوه بعصبية:
- ايه دا.
نقلت بصرها بينه وبين ما يمسكه بتعجب وقالت:
- طرحتي!.
- ازاس تطلعي بيها كده في البلكونة، اوعي تكوني بتفتحي بيها لحد.
صاح في أخر حديثه بانفعال فتراجعت للخلف تشير بيدها:
- لا والله، وبعدين هو في حد يجرأ اصلاً يطلعلي يا سيف.
- ازاي خارجة بيها في البلكونة.
كان غضبه يتزايد كلما ترمقه بتعجب، فحاولت امتصاص غضبه واقتربت تمسك يده:
- هو أنا طالعه بشعري يا بابا عشان تزعق كده.
- كنتي اقلعيها أحسن.
قالها بصوته الصاخب، فتراجعت مجددًا تحاول فهمه فحقًا كان مثل الثور حينما يرى يثار بلون أحمر وتلقائيًا كالمجنونة تحققت من لون حجابها ولكنه لم يمهلها حينما فسر حديثه بغضب:
- الطرحة شفافة وشوفت ايدك من تحتها، يعني كل الناس شافتها دلوقتي.
تهكمت من حديثه:
- مش لدرجة دي يا سيف!.
اقترب منها وهو يهدد بإصبعه في وجهها:
- والله يا ليال إن شوفتك في البلكونة بأي طرحة انتي حرة، تلبسي اسدالك وانتي طالعة.
هزت رأسها دون أن تعارضه فبالنهاية هو يغار عليها وهذا شيء تسعد به كثيرًا، لن تنكر أن الدفيء الذي انغمست فيه منذ بداية زواجهما هو السبب الرئيسي في سعادتها، لذلك لن تتخلى عنه أبدًا.
تركها واتجه صوب المرحاض، ولكنه تراجع وقال بحنق:
- امال أنتي مش حاسه بالجو، مش برادنه زي البشر.
هزت رأسها بنفي، فرمقها بضيق وأردف متذمرًا:
- امال بليل مبلاقيش وشك ليه من كتر الهدوم اللي أنتي لبساها.
مسدت فوق ذراعيها حينما فهمت مقصده وقالت بتمثيل هو أدركه:
- الجو بيبقا تلج بليل.
عض فوق شفتيه بدلاً من التفوه بكلمات ستكون الشرارة في صراع بينهما الآن، لاحظت ثيابه المبتلة، فركضت خلفه واوقفته على باب المرحاض وهي تضع يدها الدافئة فوق جسده المبتل، فسرت رجفة في جسده حاول الثبات قبل أن يفقد أعصابه:
- ايه اللي مبهدل هدومك ميه كده.
أبعد وجهه في الاتجاه الاخر وهو بجيب باقتضاب:
- الشاي وقع عليا.
شهقت بخوف وسريعًا حاولت التخلص من ثيابه حتى تطمئن عليه، ولكنه أوقفه وهو مغلق عيناه:
- بلاش يا ليال.
- بلاش إيه اوعى، لازم اطمن عليك، ليكون في حرق.
وحقيقة مشاعره هي التي كانت تحترق اثر لمساتها فوق جسده، وخوفها البادي في عينيها ألهب حنين قلبه، وبسبب تصرفاتها غير المتوقعة أصبح معتوهًا أو مراهقًا يذوب من لمسة واحدة، ابتلع ريقه بصعوبة وهتف بصوت جاهد إخراجه ثابتًا من فرط مشاعره:
- بلاش.
- اوعي يا سيف، ولا اقولك ادخل الحمام...ادخل في مرهم حروق جوه.
دفعته لأمام وهي تصر على إزاحه ثيابه العلوية، وحينها فقط أطلق العنان لمشاعره وجذبها نحوه محاصرًا إياها بين ذراعيه وبقدمه أغلق الباب خلفهما، فقالت بعدم فهم:
- ايه ده في إيه، بتقفل الباب ليه؟!
- عشان تحطيلي المرهم ومحدش يشوفنا.
تعجبت منه ففاطمة سافرت مع زوجها في إحدى دول الخليج، ولكنه قاطع تفكيرها حينما همس أمام شفتيها الوردية:
- مبحبش العفاريت تشوفني وأنا بحط مرهم.
اتسعت عيناها لوقاحته بعدما أدركت مغزى حديثه ولكنها لم تقوَ على حق الاعتراض أساسًا بعد نظراته المحملة بالحب والغرام، فاستسلمت له بخجل وحاولت أن تخفي سعادتها به وخاصةً أنه يستغل أي فرصة بالتعبير عن حبه لها وهي تقطر بعض الكلمات من فمها بخجل والغريب أنه متفهمًا لذلك!.
****
طرق سليم فوق باب شقة عمته بقوة حتى أنه أفرغ غضبه عليه، فتحت الخادمة وعلى وجهها علامات الفزع فتخاطها حينما لمح عمته في أخر الصالة تقف برعب تنظر له وعلى وجهها علامات الاستفهام.
تقدم نحوها فورًا وأشار نحوها مردفًا بعصبية خافتة:
- هتزعلي لما اسجن المحروس ابنك وجوزك صح؟!
حركت بؤبؤ عيناها برعب وحاولت تفسير حديثه، فحقًا لم تفهم عصبيته أو سر مجيئه من الأساس، فعاد يصيح من جديد بنبرة مرتفعة:
- مسكتيش الا لما حرقتي محل شمس صح عشان خدته منك، زمان كنت بسكت وبعديلك عشان خاطر أبويا، لكن تيجي على مراتي واخواتي مش هسكت وهطلعلك زي العفريت في حياتك.
- أنا معرفش انت بتتكلم على إيه، أنت بترمي تهم عليا.
قالتها باستنكار شديد، رغم أنها ايقنت أن من فعل ذلك هو الأبلة زوجها والاحمق ابنها، وبداخلها توعدت لهم على هذا التصرف الاهوج الذي صدر منهما.
- لا عارفة كويس، ومش هسكت الا لما الحديد يتحط في ايد ابنك عشان تفرحي بيه، والجاي بإذن الله هيكون خراب على دماغك.
- ابقى قرب من سمير يا سليم وأنا هسود عيشتك.
قالتها بصراخ وهي تتوعد له، فرمقها باستفزاز واشمئزاز في آن واحد:
- أهلاً بالحرب ما بينا، بس المرادي مفيش حد هيوقفني على اللي هعمله فيكي.
صكت أسنانها بعنف حينما تدمرت جميع خططها في محاولة الوصول لهم من جديد، وتوطيد العلاقات من أجل ابنتها التي من خلالها ستقتنص كل شيء منهم.
راقبته خروجه بعدما لم تستطع مجاراته في الحديث، وجذبت هاتفها فورًا تسقط كامل غضبها على ولدها وزوجها وذلك حينما
تصنعا عدم الفهم لما تقوله، فقالت بعصبية قبل أن تغلق الهاتف:
- لما يسجنكوا مش هسأل فيكوا يا غبي، ماشي ورا أبوك اللي ميعرفش يعمل حاجة لغاية دلوقتي، هبعت جواز سفركوا انتوا
الاتنين مع السواق وسافروا بسرعة على أول رحلة طيران لغاية ما أشوف حل في المصيبة دي.
- والمحلات يا ماما؟!
- أنا اللي بديرها يا روح ماما زي ما بديرها من البيت ايه الجديد يعني؟!
قالتها بسخرية تامة، فأغلق سمير الهاتف منتظرًا السائق كي يهرب هو ووالده من فعل أحمق فعلوه بسليم والغرض منه أن يشفي غليله فقط.
أما هي وضعت الهاتف وبدأت تحرك ساقيها بعصبية فخرجت نهى من غرفتها بحزن بعدما تأكدت من حديث والدتها عن سليم، فحقًا وجوده يعني الهلاك المحتم بينها وبين زيدان.
- شوفتي قولتلك طول ما هما حبايب، عمرك ما هتتجوزيه يا خايبة.
هزت رأسها بإيجاب وبدأت تبكي على ضياع حلمها الوحيد، فخرجت عصبية والدتها عليها قائلة بحنق:
- غوري على اوضتك جوا مش عايزة أشوف وشك.
جرت أذيال الخيبة خلفها، وانزوت بغرفتها كعادتها، تشعر بقلة الحيلة حيال تحقيق آمالها مع مالك قلبها الأوحد.
***
أغلق سيف باب الشرفة بإحكام بعدما تزايدت سرعة الرياح، وركض بسرعة نحو الأريكة يلتصق بـليال أسفل الغطاء، جذبت الغطاء عليها أكثر واحتدت ملامحها بطريقة طفولية، فجذبه هو الآخر وقال بصوت مرتعش، طالما كان يكره فصل الشتاء، لعدم تحمل جسده البروده..
- في هوا داخل من ناحيتي وهتلج وهقرفك طول الليل، سيبني ادفي، ولا اقولك تعالي احضنك.
صرخت وابتعدت عنه قليلاً قائلة برجاء:
- بــلاش، ده أنت فريزر يا سيف.
استطاع سيف مرواغتها وجذب الغطاء أكثر فبدت ابتسامته حمقاء طفولية، وحول بصره نحو التلفاز يشاهد المسرحية الشهيرة" العيال كبرت" راقبت ابتسامته الصافية والهدوء المنبعث من حولها ما عدا صوت ضحكه، ابتسمت تلقائيًا بصفاء والتصقت به فحاوطها بدوره وكأنه كان ينتظرها.
- سيف أنا أخدت اجازة من المدرسة.
- في حد ضايقك؟!
ردت حينما حركت رأسها بنفي، ثم وضعت يده فوق بطنها وقالت بعد تنهيدة قوية:
- هسيبها عشان حامل.
غمرته سعادة كبيرة غير مصدقًا كلماتها الهادئة، وأبعدها عنه سائلاً إياها بعدم تصديق:
- يعني برعي هيشرف أخيرًا.
جذبت الوسادة ووضعتها بوجهه مردفة بحنق:
- برعي مين...أنت عايز تجنني.
- لا بقولك إيه ده ندر ندرته ولازم اوفيه.
قالها بحدة زائفة، فنفضت يدها وهي تردف بغيظ:
- خلاص يا سيف أنا مش حامل، فركشنا اللعبة دي.
- اوعي كده مفيش رجوع طبعا، برعي هيشرف وهعمله أحلى ليلة سابع في الحارة كلها.
- وهتخليه يرقص بالمطوة زيك يا بشمهندس يا محترم.
- احنا نقفل الموضوع ده عشان دي من ذكرياتي السودا.
ضحكا معًا حينما تذكرا هيئته حينما أرغم على ذلك، واستمرت ضحكاتهم معًا على المسرحية في لحظة صافية خالية من أي شوائب أرهقت نفوسهما من قبل.
***
هطلت الأمطار بغزارة فوق القاهرة، فاضطربت شمس على تأخير سليم المبالغ فيه حتى أنها لم تهتم بميعاد نوم أنس والذي سهر لأول مرة، بينما كان أنس سعيد لدرجة كبيرة فتلك من الأمنيات لطالما كانت والدته صارمة بميعاد نومه.
فتح سليم الباب فوجدها أمامه مباشرة، وعلى وجهها إمارات الاستياء منه، قابلها ببسمة:
- محتاج شاور و بعدها نتخانق للصبح.
تخطاها رغم الاعتراض المنبثق من عينيها، فانتظرته بجانب أنس أمام التلفاز، وبدأت جدالها مع الصغير:
- أنت لازم تنام، اتأخرت اوي.
تجاهل حديث والدته واستمر بالنظر للتلفاز ونصف جسده تحت الغطاء الكثيف:
- بكرة أجازة عادي اسهر شوية.
- لا مش عادي طبعا، اتفضل يلا عشان تنام.
أصرت على حديثها، فخرج سليم بعدما أبدل ثيابه بأخرى بيتيه شتوية تناسب درجة الحرارة التي تستمر في الانخفاض.
- ولا إيه يا بابي كلامي صح!.
- لا مش صح.
قالها ببرود وهو يدثر نفسه بالمنتصف بينهما يجذب الغطاء عليه ومن بعدها جذبها نحوها يحتضنها وبيده الاخرى تحاوط صغيره.
- المفروض تقف معايا، اللي أنت بتعمله ده غلط.
قالت حديثها بخفوت، فرد ببرود استفزها:
- عادي يا شمس خليه يقعد معانا شوية يتفرج على التلفزيون.
احتضنه الصغير اكثر مبتسمًا بشقاوة لوالدته، فاغتاظت شمس وهمست لسليم:
- أنت مش ملاحظ إنك بدلع أنس اوي.
- وماله يدلع في عز ابو ووجود امه.
سخرت للحظة وتحت نظراته المستفسرة جاوبت بهدوء:
- اللي يشوف شخصيتك يا سليم، يقول إنك هتكون قاسي مع عيالك، بس أنت عكس كده خالص.
أخرج تنهيدة ثقيلة ومن بعدها أردف بشرود:
- بحاول اعوضه عن كل حاجة مريت بيها، مش عايزه يتحمل مسؤولية ولا يشيل هم، عايزه يعيش سنه.
حمحمت بخفوت وقالت باعتراض واضح:
- بس أنا غيرك، لازم يتحمل مسؤولية في السن المناسب، وبعدين أنا نفسي يكون زيك كده راجل يعتمد عليه.
ضحك على غزلها ثم قال بتسلية:
- شكلنا هنتخانق كتير يا شمس لما أنس يكبر.
اقتربت برأسها وهي تلمس ذقنه بأصابعها الرقيقة:
- وماله كتر الخناق بيزيد المحبة.
سألها باستهجان؟!
- وده في عرف مين؟!
ردت بثقة أذهلته:
- عرفي أنا.
أكد على حديثها، وقال بخفوت يحمل لهيب الحب:
- وماله هو أنا ورايا غيرك.
سقطت رأس أنس وغفى رغماً عنه، فابتسم سليم ومازحها:
- لو صبر القاتل على المقتول كان نام لوحده.
وأشار برأسه نحو أنس، فوجهت وجهه ناحيتها مجددًا، وضيقت عيناها وكأنها تبحث عن شيء ما في ملامحه، فقالت بجدية تعجب لها:
- هو أنت بقيت حلو اوي كده ليه؟!
وبنفس جديتها أردف بهمس:
- ده موضوع يطول شرحه، بس ندخل جوا في اوضتنا عشان تقريبا تلجت.
- امال أنا حاسه الجو حلو ليه؟!
- يا سلام اختلاف الاجواء ده بيعمل ميكس غريب، تعالي اقولك عليه.
جذبته بضحك ووضعت رأسها فوق كتفه:
- اقعد أنا بضحك أصلاً، عايزة اتفرج على سمبا.
- سمبا؟!
رفعت عيناها له وهي تقول بهدوء وصوت ناعس:
- اه ده جميل اتفرج عليه معايا.
مد يده وداعب خصلات شعرها ولم يجد سبيلاً سوى الرضوخ لطلبها الرقيق
نظر أمامه براحة واطمئنان لم يشعر بوجدهما الا في حضرة عائلته الصغيرة، ورغم ما عانى منه إلا أنه
بأفضل حال حاليًا، فقد امتلك القدرة في أن يسطِّر في قصته حكايات من الغرام والحب العائلي والهدوء
النفسي، بعدما كاد يغلق قصته على كلماته التي خرجت من أعماق أوجاعه "ستظل ندبات الفؤاد
دفينة الجزء المظلم بداخلنا...لا دواء ولا فرار منها، تسكننا ونسكنها حتى تغمرنا بضلالٍ تُمزق أرواحنا
الشاردة في فلك ماضينا الضائع!"، ولكنه تغلب عليها بدفنه لذكرياته المؤلمة، فاستطاع أن يرى النور
الذي كان يندثر خلف الظلام المحاوط ب وذلك عن طريق" شمسه".
تمت بحمد الله