أخر الاخبار

رواية ندبات الفؤاد الفصل الاخير

رواية ندبات الفؤاد الفصل الثلاثون


رواية ندبات الفؤاد


الفصل الثلاثون.." الأخير"

بقلم زيزي محمد

بعد مرور أسبوع.. امتنع سيف عن ليال تمامًا، حتى أنه قضى وقته 




بالكامل داخل ورشته، يمتنع عن رؤيتها، وكلما حن 





قلبه وحاول إيجاد مبررات لما قالته، يتلاعب به الشيطان ويصب كامل تركيزه على كلماتها وعدم رغبتها بالانجاب منه.


زفر بقوة وهو يلقي بالآلة الحديدية أرضًا، مؤنبًا نفسه على صفعها، ولكنها كانت كالمجنونة تضغط عليه بتصرفاتها الهوجاء.


اجفل من شروده اللحظي علي دخول فاطمة بوجهها العابس ونظراتها الحادة، تنهد بصبر ووقف يواجهها منتظرًا كلماتها التي ستلقيها بوجهه وبالتأكيد ستثار عاصفة غضبه من جديد:


- بقى أنا اكلمك تقفل في وشي السكة.


- كلامك مبيعجبنيش يا فاطمة وأنا مش عايز ازعلك مني.


- لا كتر خيرك أنك بتحس والله.


قالتها باندفاع، فرفع أحد حاجبيه لها بتهديد مما جعلها تتراجع عن حدتها وقالت:


- ليال لمت هدومها وطلعت شقتها.


- والله!.


أخرجها بابتسامة ساخرة، فردت بهدوء:


- معلش يا سيف، هي بردو ملهاش أهل مثلا نرد عليهم ونقولهم غلطها ولوحدها، راعي ظروفها.


ود أن ينفجر بها ويسألها من الذي يراعي ظروفه هو الآخر، ولكنه امتنع، وهز رأسه بإيجاب:


- حاضر يا فاطمة.


ابتسمت برضا وقالت وهي تهم بالخروج:


- رايحة اجيب توته من المدرسة وأنت اطلع شوفها.


استوقفها سيف بنبرته الحادة:


-ماشي، بس مقابلات مع طليقك كفاية، عايز يتفضل يدخل الباب من بيته ويتقدملك من أول وجديد، ماشي.


أومأت بصمت وغادرت دون أن تجادله، بينما هو انتظر اختفائها عن مرمى بصره وأغلق ازرار قميصه واتجه فورًا صوب البناية كي يرى تلك البربرية.


وقف على أعتاب الشقة، يجذب نفس عميق قبل أن يطرق الباب وتبدأ مواجهتها النارية، طرق الباب وفتحت بسرعة وكأنها كانت تنتظره، قابلته بابتسامة ساخرة لم تعجبه اطلاقًا فتجهم وجه مردفًا بغيظ: 


- دي أسفة بتاعتك!.


رفعت حاجبيها وهي تشير نحو نفسها باستنكار:


- ده مين اللي يعتذر أنا!.


- اه، مغلطتيش يبقا تعتذري.


رد بهجوم شرس أغاظها لدرجة أنها كادت أن تغلق الباب في وجهه، فارتفعت درجة حرارته وكأن مشاعره انصهرت مع غضبه وكونت بركان كان يتأجج للانفجار، دخل كالثور الهائج وهو يدفعها للخلف، فكادت أن تتعثر لولا الكرسي الذي تمسكت به على آخر لحظة:


- سيف أنت مجنون؟!


سألته بتهكم لتصرفاته تلك، فأجاب بنعم دون أن يتحدث ووضع يده في جيب سرواله، اعتدلت هي بوقفتها تطالع نظراته الغاضبة وملامحه الساخطة منها، فتراجعت للخلف بخوف بسيط كلما تذكر عقلها صفعته ينتفض قلبها حزنًا بعدما خيب آمالها، لن تنسى المرار الذي عاشت به بعدما ذهب دون أن يعتذر، لقد اشتعلت أفكارها وأنبتها فهي من أقدمت على الارتباط والزواج دون أن تضع في حسبانها واقعه البشع الذي بالتأكيد يمتليء بالصفعات والاهانات.


- بتبعدي ليه، هاكلك ولا إيه!.


قالها باستهجان ولم يعجبه تصرفها، فردت بخفوت ولهجة الانكسار تغزو صوتها:


- لا هتضربني.


ابتلع لعابه بصعوبة بعدما شعر بغصة تحتل حلقه، وثقل يتربع فوق صدره، ناهيك عن عذاب ضميره الذي كان يهرب منه حتى لا يتطرق لتلك النقطة والتي مثلت نقطة سوداء في تاريخه، لطالما كان يتميز بالحكمة والوقار.


وعندما طال صمته، ذاقت مرارة الخذلان ثانيًا، فكانت تتوقع اعتذارًا يربت فوق جراحها، ولكن نظراته كانت جامدة، ملامحه خالية من التعبير، هزت رأسها بيأس وامتلئت مقلتيها بالدموع بعدما حاربت ألا تظهر ضعفه أمامها: 


- هستنى إيه منك!.


قالتها بهمس وهي تستدير نحو غرفتها، فأمسكها من يدها وأدراها نحوه مردفًا بصوت رخيم:


- سيبتي بيتك ليه؟!


رفعت عيونها نحوه، تجيب بخفوت اخترق قلبه محدثًا ربكة به:


- مبقاش بيتي عشان افضل فيه.


انسابت دمعة خائنة منها ومن حصارها التي حاولت فرضه على عينيها، فمسحها هو وأردف بهدوء محاولاً امتصاص حزنها البادي على ملامحها:


- هي لو كل واحدة جوزها اتخانق معها وسابت بيتها الدنيا هتخرب.


ردت بشراسة تنافي الضعف المتوغل بداخلها:


- هي خربت فعلاً يوم ما فكرت تمد إيدك عليا.


مازال محتفظ بأخر ذرة هدوء لديه، ورد بنبرة ذات مغزى:


- وبالنسبة اللي عملتيه مكنش بتهدي في  

حياتك.


أبعدته عنها بعدما كانت تستكين في لحظة غفلت عنها بين يديه، وأشارت نحوه بعصبية:


- أنت مفكرتش تسمعني، زعقت واتصدمت كأني قتلت قتيل.


ظل واقفًا مكانه في ظل ابتعادها هي، ورد بضيق:


- اللي عملتيه كان بالنسبالي فعلاً كده، أنا راجل.


التوى فمها بتهكم، بينما تحولت نبرتها أثناء حديثها لشراسة ناعمة فكانت تقتنص منه حقها بطريقتها:


- ده مبررك راجل يعني الطش واضرب وعادي، وأنا بقولك يا سيف لا مش أنا، مش أنا الست اللي توافق بكده أو تستحمل كده حتى لو روحي فيك.


زفر بحنق مجيبًا، هاتفًا من بين أسنانه:


- ودي كانت غلطة مني، زلة ومش هتحصل، بس بردو مش أنا الراجل اللي مراته تهمشه وتاخد قرارات المفروض تكون مشتركة ما بينا، وترجع تقولي أصل ده قراري.


ما زال العناد يتملكها وردت من جديد تؤكد على قرارها، وكأنه وحده من كان يعاني من عذاب ضميره:


- أيوه مش انا اللي هربي واحمل واكبر واتعب، أنت اصلا ليك دور في إيه!.


استنكر حديثها على الفور، وصاح بانفعال طفيف:


- أنتي ازاي تفكري كده، هو دوري في الحياة بالنسبالك إيه جوزك وبس، يابنتي قرار انك تخلفي ده يعني انك بتحبيني وعايزة تبني حياة معايا واطفال نكمل مشوارنا معاهم.


صاحت هي الأخرى بنبرة مختنقة، واندفعت حقيقة كانت تتوارى خلف عصبيتها للعلن، ما كانت تخشاه أعلنته بوضوح تزامنًا مع ارتجاف قلبها وانتفاضة عقلها مرورًا بذكريات بشعة حاولت دفنها ولكنها كانت كالوشم تاركًا أثاره بها:


- وأنا بحبك بس مش عايزة اخلف، وفي الاخر يحصلنا حاجة ونموت وأسيب عيالي في الشارع لدنيا تلطش فيهم، واللي رايح واللي جاي ينهب في فلوسهم ولحمهم، أنا مش هكرر غلط أمي وأبويا واكرر مأساتي.


تقدم منها غير مصدقًا حديثها، فكان تفكيره ينصب حول شخصيتها العنيدة وهذا السبب في قرارها المفاجيء، ولكن تلك الكلمات هزت كيانه وسجنته في زاوية تعذيب الضمير من جديد لتسرعه معها، فحاول إخراجها من بقعة الظلام تلك:


- أنتي عمرك ما كنتي مأساة، ليه مصرة تحطي نفسك في الخانة دي، أنتي مجرد بنت قدرك كده، وده قضاء ربنا.


امتنعت عن النظر إليه، فكان صوتها قويًا وهي تقول ببرود:


- ده كلام بتلطف بيه عليا، بس أنا مش هقبل بيه، اللي أنا شوفته كان أوحش مليون مرة من أي حد يفكر فيه.


حاول بث النور الممزوج بالأمل بها، علها تجد سبيلاً تسعى إليه بعدما تملكها اليأس والاحباط:


- مش شرط عيالك يقوموا بنفس الدور، أنتي ليه أصلا تحكمي علينا بالموت، هو احنا عارفين معادنا امتى، انك بتتكهني في حاجة زي دي حرام.


ردت بصراخ واستشاطه وحروفها الناقمة تندفع منها خلف بعضها دون أن ينقطع أنفاسها:


- ومش حرام اللي حصلي، ولسه بيحصلي، طب ما أنت اهو عمال تقولي شعارات الحب، وبتمثل عليا انك بتحبني وفي الاخر مع اول اعتراض ما بينا ضربتني.


حاول الاقتراب منها لتهدئتها، وقد تحول كليًا من شخص كان يثور بغضب بسبب قرارها، لأخر متعاطف معها محاولاً بث الطمأنينة، رغم أنه صدم من وصفها لحبه بالشعارات الوهمية:


- مكنش اعتراض كنتي بتجرحي فيا، كنت عايزك تسكتي بأي شكل، مقدرتش اسمع من الانسانة اللي بحبها كلام يوجع ويدوس على رجولتي وكرامتي.


كان كالطفل الصغير وهو يقدم مبررات خشية من حزن والدته وفراقها، أما هي فكانت في أوج غضبها حتى أنها قالت بعصبية مفرطة:


- وكرامتي أنا فين؟!


مد يده ووضعها فوق كتفيها قائلاً بصدق نابع منه لامس قلبها:


- حقك عليا، أنتي عارفة كويس إن مبقولش شعارات ومتأكدة إني بحبك زي ما أنتي بتحبيني.


أجهشت بالبكاء وسمحت لنفسها بأن تظهر ضعفها الذي كان يأكلها من داخلها:


- مكنتش اتوقع منك كده، أنت على طول كنت بتفهمني.


أدخلها بأحضانه وربت فوق ظهرها بحب مردفًا بهدوء:


- وانتي افهميني مرة واحدة، أنا من حقي ابني حياة كاملة مع الانسانة اللي بحبها أنا كبرت في السن وعندي ٣٤ سنة هخلف امتى واربي عيالي امتى.


ابتعدت عنه مجددًا بضيق وحدة:


- اه قول كده، انت متجوزني عشان تخلف وتشوف عيالك.


جذبها مرة أخرى وكأنهما داخل لعبة للشد والجذب، وأردف بحنق:


- ما كنت اتجوز اي واحدة تانية وأنا صغير في السن مكنتش استنى لما تتعدلي وتتظبطي واتجوزك، وبعدين هو أنا خلاص ضامن إن اخلف، دي كلها امنيات وسبتها على ربنا، حتى لو ربنا مرزقنيش أكيد له حكمة مش هعترض ولا هروح اتجوز عليكي مثلاً.


ابتعدت مرة أخرى تواجه عيناه العابثة بسخط وعنفوان:


- متقدرش اصلاً، وبعدين لما أنت عاقل اوي كده زعلان مني ليه؟!


- زعلان عشان ده قرار مشترك ما بينا، مينفعش ابدًا تلغيني من حياتك بالشكل المهين ده، زعلت من كلامك ليا، ومكنش ينفع أبدًا تكلميني كده.


عقدت ما بين حاجبيها تسأله بترقب خالط الاعتراض: 


- آه يعني أنا لما احب ارجع شغلي، هاجي استأذنك الاول؟!


هز رأسه وشبه ابتسامة تلوح لها متخذًا نفس طريقها:


- طبعا عشان أنا جوزك، وأنا هرد عليكي واقولك ماشي طول ما هو مبيعارضش مع حياتنا، وهتقدري توفقي، بس شغلك في  المدرسة بس، لكن دروس في البيوت لا طبعا مرفوض.


صاحت باعتراض وعيونها تتوهج بانفعال:


- وليه بقا ان شاء الله، امال اصرف على نفسي منين.


اغتاظ منها ومن طريقتها، فرد بهجوم مماثل:


- يابنتي انتي عايزة تجننيني، أمال أنا فين، أنا جوزك يا ليال هصرف عليكي طبعا لانك مسؤولة مني.


ابعدت شعرها عن وجهها بعنجهية ترفض أن تكون تابعة لاحد:


-  وأنا مبحبش اكون مسؤولة من حد.


حاوط وجهها بين يديه قائلاً بهدوء ولطف:


- وأنا مش حد يا حبيبتي افهمي.


أبعدت يده عنها ترفض الانصياع خلف مشاعرها وللهدوء المحاوط بها لعلمها بما سيحدث بعد ذلك:


- وسع كده بس مفيش حد بيقول حبيبتي وبيضرب مراته.


- اقطع ايدي عشان ترتاحي.


صمتت وأبعدت بصرهل عنه، فعاد يسألها بنبرة خبيثة يتلاعب بها فوق حنينها:


-  يرضيكي يعني..يا ام قلب جاحد، طب يرضيكي تمنعيني من عيالي...


قاطعته باستنكار:


- عيالك مرة واحدة!.


- اه...هيبقوا دستة إن شاء الله، أصل أنا عرفت أنهم منعوا حبوب منع الحمل من السوق!.


سخرت وهي تعقد ذراعيها أمامها:


- يا سلام..


- اممم قالوا بتعمل مشاكل بين سيف وليال وهما لسه عرسان وعايزين يجبوا دستة عيال، يبقى نمعنها وخلاص.


قالها وهو يجذبها مجددًا نحوه، يرفض سيطرته عليها، فحاولت ألا تخضع له ولقبلاته المتناثرة فوق وجهها، كنوع من الاعتذار لما فعله بها:


- ابعد عني احسنلك، أنا اصلا لسه مرضتش عنك.


حملها وهو يتجه بها نحو غرفتها مجيبًا بعبث:


- لا بقا ده أحنا لازم ننول رضا الهانم، ونصالحها بضمير.


حاولت أن تنزلق من قبضته المحكمة ورددت بحنق:


- ضميرك ده مبيشتغلش أبدًا الا في الحاجات دي.


- لا ازاي ده بيجلدني، بصي أنا هطلع الجلد ده كله عليكي، أنا اعصابي تعبت ومحتاج حد يشيل عني شوية.


توسعت عيناها بصدمة منه رغم الابتسامة التي كانت تريد أن تشق ثغرها في ظل استسلام مشاعرها، بعدما أحست به وبندمه عما فعله، وادراكها تمامًا أنها لن تهدم حياتها اثر اول خلاف بينهما، وخاصةً أنه ما زال يتمسك بها بعدما ركض خلفها كي يصالحها وذلك بعد قرارها بمغادرة منزلهما في حالة اعتراض منها عما فعله بها.

                            ****

في المساء..


دخل سليم من باب الشقة باحثًا عن عائلته بعد أن ابدل ثيابه لأخرى بيتيه مريحة، حيث أصبح تواجده ليلاً أمرًا لا يمكنه أن يتعداه بعد وفاة والده، جلس على الأريكة الكبيرة أمام التلفاز والتقط كوب المياة ينظر أمامه برتابة شديدة من شدة ارهاقه، متمنيًا أن تمر تلك الساعات وأن يصعد لشقته يأخذ قسط من الراحة بعد يوم طويل قضاه في العمل بين المحلات.

القى نظرة بسيطة نحو زيدان، وابتسم ابتسامة صادقة حنونة لأخيه الذي أصبح هادئًا للغاية وعنفوانه الذي كان يتميز به قل أو أصبح شبه معدومًا، رغم أن تعامله معه قليل إلا أن المواقف والكلمات المتناثرة بينهما كانت لها بريق مختلف لدرجة أنها بدأت تزيح ذكرياتهم البشعة قليلاً.

حاول أن يفصل عن التفكير الذي أصبح ملازمًا له واستمع لحديث أنس ويزن التافه كما يصفه هو...

- وبعدين عملت إيه؟!


كان يزن يتحدث مع الصغير بحماس طفولي تعجب له سليم، فرفع الكوب يرتشف منه قليلاً وهو يتابع بنصف عينيه حديث ابنه:


- قولتلها يا لولي متزعليش خلاص مكنتش اقصد وهي مش راضية ومبوزة في وشي...


قاطعه يزن باندفاع غير مراعيًا لعمره:


- وأنت لسه هتستنى ترضى ولا مترضاش، مرزعتهاش بوسة ليه على طول.


توسعت أعين سليم بصدمة لوقاحة أخيه وكاد أن يبعد الكوب عن فمه، لولا حديث ابنه الذي جعله مصعوقًا وكأن هناك صاعقة كهربائية لمسته فجأة:


- ابوسها زي بابي ما بيبوس مامي.


بصق سليم كل ما في فمه باندفاع، واحمر وجهه حتى كاد أنه أحس باختناق حاد في صدره وغصة في حلقه، غير قادرًا على النظر لاخويه بعد حديث ابنه وخاصةً يزن الوقح الذي لم يخجل بل زاد في جرأته ونظر لسليم بخبث وابتسامة عابثة تحتل ثغره.


حشرجة تملكت من صوته، مما دفع من زيدان من النهوض وهو يكتم ضحكته ويربت بقوة فوق ظهره، حتى تعود أنفاسه بعدما اختفت نهائيًا عقب كلمات ابنه الذي لم يعِ ما يقوله، وانما وصف شيئًا لمحه مرة أو مرتان فقط وظنه شيئًا عاديًا.


بعد أن عاد نبرة صوته إلى محلها تقريبًا، رفع صوته المختنق والمبحوح ونادى على زوجته التي لو علمت ما قاله ولدها، لحفرت حفرة واختبئت بها من خجلها.


- شمس...تعالي خدي ابنك واطلعي.


ركضت من المطبخ بعدما استمعت لصوته الذي اقلقها، ودون تفكير منها حملت صغيرها وهي تهمس في أذنه عما فعله، فوالده هيئته لا تبشر بخير أبدًا.


أما سليم تقريبًا فقد القدرة على الحركة من حرجه، يبدو أن الامور العائلية ستضعه في الكثير من المواقف المحرجة، فمال يزن عليه قائلاً بمزاح:


- مالك يا سليم، هو إيه اللي حصل لكل ده!.


لكزه سليم في كتفه بقوة مردفًا بصلابة:


- عارف يا يزن لو اتكلمت مع أنس بالطريقة دي هعمل فيك إيه!.


- سندوتشات بانية!.


قالها بجدية وما إن أنهى حديثه حتى قهقه بطريقة تمثيلية على فكاهته التي اشمئز منها سليم وزيدان في آن واحد.


ضرب زيدان كف بأخر وهو يردف:


- والله أنا مشفق على عيالك منك، يا حرام هيبقى ليهم أب تافه.

 

وضع ساق فوق الأخرى مردفًا بثقة وحاجبيه يتلاعبان بطريقة كوميدية:


- لا صايع تفرق بين تافه وصايع، وبعدين دي من التربية الحديثه!.


كرر سليم خلفه باستهجان:


- تربية حديثه!، أنت مين قالك الكلام ده؟!، ده أنا كنت بجبلك ناس تغششك في الامتحانات.


- أنت لسه هتسأل أكيد واحدة اتعرف عليها جديد بس.


ضيق عينيه بامتعاض، وقال بضيق وهو ينهض:


- والله من كتر الحسد جابني لورا، على العموم يا اخويا أنا بقالي فترة محترم ومبكلمش حد ومبشوفش الا شغلي، الدور والباقي على اللي بيعلق بنت غلبانه بيه وهيهرب في الاخر.


قالها والقى نظرة انتصار على زيدان الذي ارتبك فجأة، وراح يخفي نظراته من سليم الذي التفت مباشرةً نحوه يسأله في قلق:


- اوعى تكون أنت كمان بتعمل مصيبة، مين دي اللي علقتها بيك!.


حمحم زيدان بخشونة وصاح بانفعال اقلق سليم أكثر:


- ياعم سيبك منه ده واحد أهبل بيقول أي كلام وخلاص، انتوا مش شايفني تعبان ونايم في السرير.


أنهى حديثه ونهض يتكأ على عصاه حديدية، متجهًا صوب غرفته دون أن ينتظر حديث سليم الذي ابتلعه وقرر تصديقه، فمهما كان تهور زيدان لن يكون بمثابة جنون يزن المعروف به!.


تنهد بعمق ونهض صوب المطبخ ليرى والدته التي أصبحت قليلة الكلام، تحب الاختباء بغرفتها كثيرًا، شعر بتأنيب الضمير نحوها، وحاول أن يضغط على نفسه بالتعامل معها أكثر حتى تعود لحالتها الطبيعية كما كانت، ففراق والده شكل خيوطه الحزينة فوق وجهها الذي فجأة اكتسب عمرًا فوق عمره، بينما هم غاصوا في أمور الحياة أكثر ودثروا حزنهم على فراق أبيهم داخلهم.


وقف على أعتاب المطبخ يراقبها وهي تخرج الصواني من الفرن، وتضعها فوق الطاولة، أغلق عينيه واطلق لأنفه مهمة استنشاق رائحة الكحك الزكية، محتفًا بكلمات التعبير عن لونهم الرائع ورائحتهم داخله، طالما كانت والدته بارعة في صنعه.


لمحته بطرف عينيها واحتفظت بالكلمات داخلها حتى تتركه ينعم مع ذكرياته البسيطة عن طفولته، وعندما قابلت عيناه، قالت وهي تشير نحو الصينية:


- تعال مد ايدك وخد واحدة!.


اقترب لا اراديًا ووقف كعادته من صغره أمامها، ينتقى بعينيه أكثرهم نضجًا وهشاشة، رفع عينيه بعد مدة قصيرة يستعين بها، فابتسمت بلطف كعادتها، وفورًا التقطت واحدة كما تشتهي نفسه:


- خد يا حبيبي، بالهنا والشفا.


أخذها من يدها، وفورًا بدأ يأكلها ببطء، وراقبها وهي تضع الكحك كما يحبه في صحن كبير، ابتسم نصف ابتسامة وعلم أن هذا الاهتمام يخصه، فكتم تنهيدة قوية كلما شعر بحاجته ليعاتبها ويسألها عن هذا الاهتمام الذي ظهر مؤخرًا باستفاضة، وهو قديمًا كان يتلهف لربعه!.


استفاق على صوتها وهي تقدم له الصحن:


- خد ده ليك فوق، أصلهم هيخلصوه، ومش هتلاقي حاجة تاكلها.


التقطه منها وهمس بشكر بسيط:


- شكرًا، تصبحي على خير.


- وأنت من أهل الخير يا حبيبي.


خرج من المطبخ بينما ظلت تتابعه بحزن وانكسار مزق قلبها، تنهدت بضعف وانطلقت تصنع باقي العجين، وهي تنغمس في جلد الذات الذي لن يتركها حتى تلفظ أنفاسها الأخيرة!.

                                 ***

دخل شقته وتحولت ملامحه للوجوم، وضع الصحن جانبًا وانطلق صوب غرفة ابنه، فوجد شمس تعترضه، وتدفعه للخارج رفض رجائها الخافت، وأصر على الدخول كي يتحدث معه، فهمست له برجاء آخر:


- خلاص أنا كلمته كتير وفهمته غلطه واعتذر.


- حكالك يعني؟!


أومأت وهي تصر على دفعه للخارج، فامتثل لرأيها على مضض، والتفت متجهًا صوب الصالة يجلس فوق الأريكة متمتمًا بحنق:


-كنتي سيبني اتكلم معاه، ده احرجني أنا.


جلست بجانبه وهي تقول بخجل:


- امال أنا اعمل، متهايلي مش هنزل تحت لعشر سنين قدام.


ضحك رغمًا عنه على طريقتها والخجل يغزو وجهها بقوة، فركت وجهها بضيق تام، وجذبت نفس عميق وهي تحدث نفسها:


- اصلاً كده كده مش هشوفهم الفترة دي، ومش هبقى فاضية!.


التفت برأسه نحوها باهتمام وسألها قائلاً:


- خير، في حاجة أنا معرفهاش!.


اعتدلت بجلستها بحماس قائلة:


- في محلين مسؤولين مني المفروض اهتم بيهم، ماشي محل اسكندرية مش هقدر اسافر هخليك أنت تتابعه لكن تحت اشرافي  طبعًا، لكن اللي هنا أنا اللي هديره.


- وده قرار مين؟!


سألها باستنكار، فردت بحدة طفيفة:


- قرارنا يا سليم، أنا عايزة اشتغل!.


- انتي عايزة تشتغلي، ولا ترسمي ولا تجلطيني ولا تعملي إيه؟!


سألها بضيق مماثل وطيف من الشراسة يحتل نبرته، فردت بهجوم:


- عايزة اشتغل وارسم، عايزة أحس بذاتي وكياني.


- حسيه معايا يا حبيتي.


قاطعته برفض وهي تصر على رأيها:


- سليم متهزرش، أنت كنت بتضحك عليا من الاول!.


التزم الصمت أمام انفعالها، فعادت تقول بحنق:


- أنت لسه مُصر تزعلنا من بعض عشان حاجة بسيطة زي دي !.


فك لجام لسانه وهتف من بين أسنانه:


- الحاجة البسيطة دي هتزعلنا من بعض، وهتزعلني أنا شخصيًا وهتحصل مشاكل كبيرة، أنا مبستحملش.


اقتربت منه تلتصق به، وبدأت أصابعها تلمس جانب وجهه بنعومة وهي تهمس بدلال وقد تحولت نبرتها كليًا:


- طيب إيه رأيك اشغل معايا بنات بس، ومحتكش خالص برجالة، يكون احتكاكي الوحيد بيك، وبعدين مش هنزل كتير يعني، هنزل دلع.


كانت طريقتها تشبه طفلة صغيرة تتحايل على والدها كي تصل لمبتغاها، وفي ظل برائتها حتى لو كانت مزيفة، ولكنه وافق ورضخ لحديثها رغمًا عنه.


استغلت هي سكونه، وراحت تكمل همسها وعيونها تتسع برجاء خاص:


- ده أنا كنت شوفت على الفيس شركة بتعمل مسابقة وممكن تصنع تصاميم الشباب في المجوهرات والدهب وقولت يا شموسه يا قمر خدي رأي حبيبك سليم وهو أكيد مش هيرفض ويوافق، ومنه بتعملي حاجة أنتي بتحبيها، ومنه بردوا في مجال شغلك الجديد.


كانت حروف جملتها تلفح وجه من حين لآخر، وتضرب أفكاره في هياج، فرد بهمس هو الأخر ومد أصابعه يداعب بها المنطقة المحاطة بفمها مرورًا بعنقها المرمري:


- وسليم ممكن يرفض بردو.


لم تتحرك بل ظلت على طريقتها وتمسكها به، ومدت يدها تعانق عنقه ورمشت عدة مرات قبل أن تجيب بغنج وشفتيها تنقلب للأسفل:


- وترضى تزعل شموستك حبيبتك.


اقترب أكثر منها، حتى كادت أن تختفي المسافة بينهما وقال بنفس خفوت نبرته التي حملت تحذير اقلقها كثيرًا:


- ولما حد يقولك كلمة حلوة، أنا مش هسكت وهقتله شموسه القمر مش هتزعل وتجيب اللوم عليا!.


- لا مش هزعل، عشان أكيد يستاهل وبعدين هو أنا هتعامل مع أي حد بسهولة كده، أنا هعمل لنفسي كيان وشركة ده أنا عندي محلين يا سولي وكم.......


كانت تتحدث وتحاول مرواغته بأي كلمات حتى تقتنص منه موافقة في ظل مداعبتها لعنقه، ولكنه فجأها حينما قاطعها قائلاً:


-  طيب الشركة دي عايزة مدير أعمال.


هزت رأسها بالموافقة، فاستكمل حديثه بمكر:


- وأنا هكون مدير أعمالك يا حبيبتي!.


- يعني إيه؟!


- يعني مفيش تعامل مع حد، التعامل هيكون من خلالي أنا وبس، ترسمي وتديني أنا تصاميمك نتفق عليها أنا وهما، وبعدين أنا هديكي اسم سليم الشعراوي اللي هيخلي أي حد منافس ليكي يتمحي من المسابقة!.


رفعت حاجبيها معًا لثقته الزائدة بنفسه، وقبل أن تعترض والاعتراض اساسًا ليس في مصلحتها، طبع قبلة قوية على ثغرها مكررًا إياها عدة مرات، وابتسامة واسعة تحتل محياه فكانت تمتزج بالحب والانتصار، ثم نهض وتركها على نفس حالة الذهول التي كانت عليها في ظل ما يفعله بها.


لقد وافق على ممارستها حلمها ولكن بشروط وقيود، راحت تفكر بعقلانية أكثر ووجدت أن افضل الحلول أن تنصاع لأوامره، فالحجر بدأ يلين، ووافق على أمورًا كانت مرفوضة من قبل، بل كانت في خانة المستحيل، ناهيك عن تقديرها له، فحتى الآن لم يفتح معها خطئها ولا يحدثها فيما فعلته من خلفه محاولاً التغيير من أجلها، فالضرر الاكبر كان يصيبها قبله، وهذا الشيء رفع مكانته لديها، وبالطبع لن تهدم حياتها من أجل أمورًا من الممكن أن تتحايل عليه بأنوثتها واستغلال حبهما لتحقيقها.


أجفلت من شرودها على صوته المنادي عليها، فابتسمت بلطف وحنو لزوجها الذي يرفض أن يجلس على الفراش دونها، هي أولاً ثم هو يرمي بجسده فوقها، يحيطها بثقله وقوته، يخفي وجهه بها، ويلقي بكامل همومه خلفه، مستمتعًا بدفء هذه اللحظة التي يسعى لإنهاء اعماله صباحًا حتى يعود ليلاً ويشعر بداخل احضانها بطفولته، وشبابه، وكل ما سُلب منه في صغره، هنا مرفأ الحنين الذي لن يتخلى عنه بعد شقاء طويل مر به!.

                                 ****

صباحًا...


وقف سليم بجانب يزن وزيدان أمام قبر أبيه، وأنهى قراءة الفاتحة، حيث أصرت والدته على الذهاب جميعًا لزياره والده، رغم أن سليم لم ينقطع يومًا بل كان يأتي لوالده كل يوم، يتحدث معه بأمورًا كان يرفض أن يخبره بها وهو على قيد الحياة، وبالطبع أخفى ما يفعله عنهم حتى لا يلقبه أحد بالمجنون، فبدأ يشعر براحة غريبة تتملك منه بعد كل زيارة لوالده.


أخفى حديثه اليوم وأجله ليوم أخر، وتابع خروجه مع عائلته التي حاوطها الحزن والفراق، إلا هو بدا متقبلاً لوفاة والده بعد مجيئه لزيارته وذلك بعدما بعث الله السكينة والصبر بقلبه.


كاد زيدان أن يتعثر بحجر كبير لم يراه، فكان عقله يغوص في ذكريات يوم وفاة والده واتهامه البشع لسليم، والغريب أن يد سليم كانت الاولى لمساندته والقلق ينبعث من عينيه وفمه:


- أنت كويس، رجلك فيها حاجة.


تمسك بيد سليم، شاعرًا حتى بخوفه عليه من خلال يده الممسكة بيده في قوة، فأردف بخفوت وصوت مختنق:


- متقلقش مفيهاش حاجة، الحمد لله.


ابتسم الابتسامة الأصدق والأجمل على الاطلاق وهو يربت فوق يده:


- طيب الحمد لله يا بطل، هتيجي معايا أنا وشمس ولا هتروح مع ماما ويزن.


- هروح مع يزن.


وعاد يستقيم بجسده ويتكأ على عصاه متجهًا صوب سيارة يزن وقبل أن يدخلها القى نظرة صادقة وابتسامة بسيطة نحو سليم الذي تلقاهم على الفور وحرك شفتيه بهمس:


- شكرًا..


هز سليم رأسه متفهمًا وابتسم هو الأخر، فبدا وسيمًا وحيويًا أكثر من قبل، صعد لكرسي القيادة فوجد شمس تنظر له بحماس وهى تتلمس عجلة القيادة بتفكير:


- سولي بفكر اتعلم اسوق، ما تعلمني.


قاد سيارته ليخرج من المدافن مجيبًا بعبث ونظرة ذات مغزى تلوح لها:


- ما بلاش أنا.


ضيقت عيناها بتركيز تحاول استكشاف اللغز المحاوط لنبرته تلك، وعندما أدركت مقصده صاحت بخجل تؤكد على حديثه:


- صح، صح بلاش أنت، يلا وصلني لشغلي.


جز فوق أسنانه بغيظ منها ومن حماسها الذي انصب بقوة على عملها الذي كانت بالأمس تخبره بأن ذهابها سيكون من باب الدلال، يبدو أن الدلال سيكون من نصيبه هو حتى ينصاع لأوامرها بهذا الشكل العجيب حتى أنه مؤخرًا  يضغط على نفسه من أجلها ولا يعلم متى سينتهي ذلك الدلال الذي سيصيبه بالجنون ذات مرة!.





- قالولي انك مبتعرفش تنام بسببي، خلاص سامحتك.


ضحك زيدان بصفاء وهو يفتح ذراعيه:


- طب فين الحض ن الاخوي.


تركه سليم كالمشرد يفتح ذراعيه في الهواء 




ووقف على أعتاب الباب مردفًا باشمئزاز:


- متطلبش مني تاني حاجات تافهه.


رمش زيدان عدة مرات غير مستوعبًا رده، وقبل أن يغادر سليم ألقى



 بكلماته التي كانت تحمل تحذيرًا خافتًا وفي الأصل كان رجاءًا 




من أخيه كي لا يجرحه مجددًا فقلبه لن يتحمل ندوب أخرى.


- زيدان، حاول متجيش تاني على علاقتي بيك، عشان المرة دي مش هسامحك.


غادر فورًا واستمع بعدها لصوت زيدان المرتفع:


- ده تهديد ولا إيه!.


- اعتبره كده، سلام.


رد ببرود جعل زيدان يضحك براحة بال بعدما 



أخيرًا بدأت الفجوة بينهما تتقلص شيئًا فشيء



                     الفصل الخاتمة من هنا

 👇

 🌹 🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹

🍁🍁🍁🍁مرحبا بكم ضيوفنا الكرام 
هنا نقدم لكم كل ما هوا حصري وجديد
اترك ١٠ تعليقات ليصلك الفصل الجديد فور نشره

عندنا  ستجد كل ما هوا جديد حصري ورومانسى وشيق فقط ابحث من جوجل  باسم المدوانة 

    وايضاء  اشتركو على

 قناتنا        علي التليجرام من هنا

ليصلك اشعار بكل ما هوه جديد من اللينك الظاهر امامك

 

  🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹

                         


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close