أخر الاخبار

رواية جحر الشيطان الفصل الاخير والخاتمه بقلم ندي ممدوح

رواية جحر الشيطان 
الفصل الاخير والخاتمه 
بقلم ندي ممدوح

                          ( الوداع ) 

النهاية في بعض الأحيان تكُن بداية، و الوداع قد يبقى أثرهُ في الفؤاد أبد الدهر لا يُنسى وإن كانوا صحاب هذا الوداع من محض خيال. 
ها نحنُ أُولَاءِ في الوداع الأخير، مع بطلة رواية سنشتاق لأحاديثها عن صحابة المصطفىٰ التي كانت تغمرنا بالحنين. 
ها نحنُ نلقي النظرة الأخيرة علىٰ خديجة التي ستكمُن حتمًا في قلوبنا جميعًا لا لشيء إلا إنها قد علمتنا شيئًا في ديننا، أو غيرت في قلبنا وطرًا، أو ربما لإنها علمتنا إن هذه الحياة فانية، والجنة لن ندخلها بيسر بل تحتاج منا لجهد. 
لن اقول وداعًا يا خديجة فستبقين في قلبي وقلوبنا جميعًا لا شكً. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إنطلقت سيارة سوداء تعبر الشوارع في طريقها إلى المطار، تتبعها  أخرى تحمل قدرًا لا بأس به من رجال الحراسة، وبداخلها كان آجار يجلس في المقعد الخلفي، وبجانبه كوان، مرت عليه أيام طوال في السجن حتى خرج، بعد ما تنصل من كل التهم الموجهة إليه، فـ آراس قد أبلغهم إنه عاونه في كشف رجال المافيا، وبعلاقات السيد كوان أخلوا سبيله بكل بساطة. 
انبعث صوت كوان يقول في عتاب محبب  : 
_ لن أسامحك على هذا يا آجار، كان يجِب أن تبقى حتى إلى الغد، لقد خرجت اليوم من السجن، لمَ هذي العجِلة! 
كان آجار شاردًا، عيناه معلقتان عبر زجاج النافذة، والتفت إليه باهتمام، وتبسم بسمة خفيفة وهو يقول في حنين : 
_إنه الحنين إلى عائلتي يا سيد كوان، حنين يملء قلبي حتى أظنه سيفيض ليملأ العالم برمته. 
سكت لـ هنيهة، ثم أردف بعينان تتألقان  : 
_هذه أول مرة سأخطو أرضي على إنني واحدًا منها، أول مرة سيجمعني بيتٍ واحد بكل من انتمي إليهم. 
وأستدرك فجأة، في مرح  : 
_ ثُم يا رجل لقد قضيت اليوم كله معك ألا يكفي هذا؟ 
لوح كوان بكفه في نفي، وقال في نبرة محتدة  : 
_ بالطبع لا يكفي، لقد خرجت وأخذت حمامًا وأبدلت ملابسك ونمت ساعتان ثم أستيقظت كمن يتلبسك مائة من الأشباح وليس على لسانك إلا مصر، فمتى جلست معي يا فتى؟! 
تنهد آجار، وقال له بنبرة تقطر شوقًا  : 
_ لقد أستبد بيّ الأشتياق للأحبة فما أملك الحق على نفسي، إن الشوق يحركني. 
غمز كوان وهو يقول في مشاكسة  : 
_ زوجتك! 
ضحك آجار بإنطلاق، كأن ذِكرَها يداعب أوتار قلبه، وغمغم  : 
_ بالطبع .. كما إنه بعد سنون طوال ها قد حان الوقت لأجتمع بعائلتي التي حُرمت منها. 
صوَّب بصره نحو زجاج مقدمة السيارة كأنما 





يرجوا السيارة أن تستعجل، والطريق أن ينتهي. 
فـ أردف كوان وهو يربت على كتفه  : 
_ جمعك الله بهم يا بُني دائمًا.. وأتمنى أن توصد البيبان في وجه أيُّ فراق قادم لحياتك، أنك تستحق السعادة يا آجار. 
قال آجار بامتنان وهو يلتفت إليه بوجهه  : 
_ هذا اليوم لم يكن ليأتي لولاك يا سيد كوان. 
ربت كوان على فخذ آجار وهو يقول  : 
_ لم أفعل إلا ما يحتمه عليّ ضميري يا عزيزي آجار، ثُم إنك لم تقتل نجيب لقد وقع بنفسه من الهليكوبتر على مرأى من الجميع، ومراد لقد اثبت الطب الشرعي إن موته جراء ارتجاج عنيف في المخ وهذا بسبب سقوطه من السيارة. 
رمقه آجار بنظرة ماكرة وهو يقول في تخابث  : 
_ ربما كذلك بالفعل، ولكن هذا لم يكن ليحدث بهذه السرعة لولا حديثك مع الكبار. 
ومال عليه، وهو يسترسل  : 
_ عجبًا! كيف تخضع لك الشرطة بكل هذا الخنوع يا سيد كوان. 
قهقه كوان ضاحكًا، وقال من بين ضحكاته وهو يحرك إبهامه فوق إصبعين من أصابعه  : 
_ إنها الفلوس يا عزيزي آجار، تفعل بالمرء ما لا يفعله اي شيء قط، بعض الناس عبدة وكلاب للمال يا فتى .. 
واعتدل ناظرًا له باهتمام، وهو يقول  : 
_ لو جدتك هن.. 
احتدَّت نظرات آجار، وقاطعه قائلًا بلهجة عدائية  : 
_ ما بها جدتي يا رجل. 
هم كوان أن يقول شيئًا، لولا إن انبعث صوت سائقه بغتة  : 
_ لقد وصلنا يا سيدي إلى المطار. 
في وقت واحد إنفتح كلا البابيّن من شباب الحراسة، فتبسم كوان وهو يهبط قائلًا  : 
_ ها نحنُ ذا وصلنا إيها الشاب المتعجل في كل شيء. 
دار آجار حول السيارة، و وقف ليصافح كوان الذي قال  : 
_ لقد فهمتني خطأ يا صاح، ولم تنتظر لإتمام حديثي، فقد كدتُ اتابعُ قائلًا إنه لو جدتك هنا، لكنّا بخير، يسُؤني إلا يوجد مثلها في هذا العالم، فلو كان لكان الآن العالم بخير، لا يشتكي من مظلمة، ولا جريمة، ولا خوف من السير في الطرقات مهما كان الوقت، إنكم محظوظون بها، بلغها سلامِ الحار، وأعلم يا فتى إن لكَ هنا صديق وبيتٌ آخر مفتوحٌ لك في أي وقت. 
أجابه آجار في ود  : 
_ إني محظوظ بمعرفتك يا سيد كوان، واعلم أنت ايضًا لك بيت في مصر في أي وقت ومتى أحتجتني ستجدني رِهن إشارتك. 
خبط كوان على ذراعه وهو يقول  : 
_ اعلم هذا يا فتى، يحزنني رحيلك حقًا. 
_وانا أيضًا. 
_يا لك من مخادع. 
قالها، كوان وهو يجذب آجار في حضنه، قائلًا  : 
_دعني اودعك يا صاح، فقد لا نلتقي مجددًا. 
ربت آجار على ظهره وهو يقول  : 
_ ما الذي كنت ستفعله مع نجيب لو لم يمت. 
قست عينا كوان فجأة، وقال في شراسة مخيفة  : 
_ كنت سأعتصر عنقه في يدي كي لا يفكر أبله مثله في أذيت من ينتموا ليّ يا رجل، لقد كان غبي حين فكر إنه يمكنه قتلي بكل سهولة. 
أنتهى حديثهم، بجلوس آجار يحتل مقعده داخل الطائرة التي ستقله إلى القاهرة، وإرتفع صوت المضيفة، قائلًا  : 
_ سيداتي وسادتي رجاءًا ربط أحِزمة الأمان، والأمتناع عن التدخين، فالطائرة ستقلع الآن. 
ربط آجار حزام الأمان وعقد ذراعيه وهو يسترخي في مقعده وأسبل جفنيه، وانهمر الحنين في أعمق اعماق قلبه، وهو يتذكر تلك اللحظة التي كاد قلبه يتوقف فيها بالتحديد يوم عملية






 حبيبته منة ( منته) كما يسميها، عندما خرجت خديجة منهارة في البكاء وظن قلبه إنها النهاية، فإذا بها تضحك من وسط بكاءها لترد له الروح، قائلة  : 
_ لقد نجحت العملية، لقد نجحت، لقد نجحت. 
نعم لقد نجحت العملية، نجحت وردت ليّ روحي امانة مطمئنة 
غريبُ أمرُ الحياة،من كان يحسب إن حياتي ستنقلب؟ 
وإني سأولد من جديد بإسم جديد، إسم على مسمى  ( وليد) كأنما ولدتُ من جديد حقًا. 
لا أزل أذكر تلك اللحظة التي انتعش فيها قلبي، عندما نجحت عملية منة، وقتها همست في اذنها، قائلًا  : 
_إسمي وليد، ناديني من الآن بوليد، فإنني ولدتُ من جديد، وقد مَّن الله عليَّ بحياة جديدة، حياة ليس بها هذا الـ آجار الذي لا أنتمي له ولا ينتمي ليّ، إنني إبن زين القاضي وحفيد لمار الشرقاوي لم أكن يومًا ذاك الشيطان الذي كان يقبع بداخلي، كل ما أرجوه أن تنتظريني مهما طال الغياب والفراق فحتمًا سأعود إليكِ لإنك موطني. 
همستُ بها قبل رحيلي إلى السجن، ربما تظنون إنه كان أسر وعقاب بالنسبة ليّ، ولكني على العكس لقد كان ليّ محربًا اتعبد فيه بعيدًا عن العالم أجمع، كان محرابي بداية لقربي من الله عز وجل. 
بداية لقلبٌ جديد .. 
ينبضُ من جديد .. 
يشتهي مغفرة تنسيه كل خطاياه وما اقترفت يداه .. 
كانت أيام جلستُ فيها لا ابرح عتبة الرحمن، أبسطت كفي بكل يقين إن الله سيفتحُ ليّ باب الإستجابة، وسيهمى عليّ بالفرج، وسيبدد ظلمة نفسي بنور الإسلام، ألا تقولُ خديجة ( حاشا لله إن يرد عبده خائبًا، حاشاه أن لا يعوضه، حاشاه ألا يمنن عليه من كرمه الواسع، إنه الرحمن الرحيم الحنان المنان فحشاه ألا يطبطب على قلب عبده، يكفى أن يكتفي المرء ويعتصم به وسيجد الرضا والراحة في فؤاده حتى يظن إنه الوحيد على وجه الأرض) 
كم رائعة هي خديجة، دائما تبثنا جميعًا بالأمل، وتداوي ندوب قلوبنا مهما بلغت صميمُ القلب، إنها كالبلسم يوضع على الجرح يطيب. 
وقد طاب قلبي المُثخن بالجراح. 
كم جميل أن يكون للمرء عائلة يحتمي بها من مرارة الحياة، عائلة تحبه، تتمنى له الخير، والسعادة، والراحة وليست عائلة بالطمع والحقد تتودد. 
لا أدري أأحسدُ نفسي، أم أبكِ فرحًا لإني رُزقت بعائلة هكذه.. 
يومًا ما ظننتُ إن السعادة لن تطرق باب قلبي ابدًا، وإني سأظل بلى عائلة، حينها كنتُ بعيدًا عن الله بقلبي وجسدي، وها أنا ذا أخبركم من





 كان الله آنيسه فلا خوف عليه ولا حزن، من كان الله وكيله ففي معية ربه دائم، من كان الله حبيبه فهو من الخلق آمن ومكتفي. 
نعم لقد محراب أتعبد فيّ أصلي ولا أبرح المصلى، أقرأ قرآن ببكاء كان يغسل أوساخُ قلبي، دموعًا كانت تطهرني، ويبقى امر واحد يقلقني هل سيغفر ليّ الله؟ 
سيتقبل توبتي؟ 
أحين موتي سأدخل جنةٌ أم نار؟ 
آتراني بخير؟ أنا لست بخير، فالقلق دائم في قلبي، والخوف لا يضعني اتهنى بنوم. 
الخوف من الموت على غفلة .. 
متى ينتهى هذا الطريق؟ 
لماذا يبدو ليّ بعيدًا! 
كم أودُ لو أغلِق عيناي وأفتحهما لأجد نفسي هناك، بين ذراعي أمي، وفي امان جدتي، وفي حنان إخواني، كم اشتاق أن أرى خالاتي والجميع لو يمر الوقت كلمح البصر وينطفئ لهيب الشوق! 

🥀 اللهم اجمعنا في الفردوس الأعلى أنا ومن يقرؤون كلماتي هذه 🥀

لا شيء يبقَى علىٰ حالُه كُلُ شيءٍ لَا بُدَّ لهُ أن يتغير، قد تنقلِب حياة المرءِ فجأة إلىٰ فجوة قد يظنها نكبة كبرى لن يحور مِنها، وإنها ستكون نهاية حياته، لكنه يتفاجئ بهذه الطامة الكبرى علىٰ إنها بداية لحياته وليست النهاية .. 
بداية لحياةُ القلب، ودقاته، وبسماته .. 
لم أتصور قط أن يرزقني الله بزوج كـ ( آراس ) بل لم يخطر حتىٰ علىٰ بالي، لكن مشيئت الله قد آنت، وكان هو نصيبي .. 
و ( خديجة) التي لطالما تمنت زوجًا بهِ من رائحة الصحابة والرسول ها هي ذي تتزوج مِن شاب يهواها ولا تهواه .. 
لم يكن قلبي يحبه قط .. 
لم أحسب إني قد أحبه، أو أن تنفتح بيبان قلبي له .. 
لكنه فعل، أحبتته عندما وجدت فيه روحًا جديدة مستعدة لتكون شيئًا أفتخر به.. 
وكيف لا أحبه بعد ما أغدقني بحنانه، ورعايته، وأمانه. 
لقد ظللني وارف حبُه، وأسبغ عليَّ بالحبِ والأمان والأحتواء. 
كيف إذن لا أحبُه؟ 







كيف لا أغرم به؟ 
كيف لا أخذ من حضنُهُ بيتًا، ومن عيناهُ موئلًا، ومن سويداءه ملجًأ. 
لقد بات كوكبُ قلبي الدُريّ، ينير سماءه مهما غشاه الظلام. 
ويبددُ أيّ حزنٌ يغمرني. 
إنه سكني، وأماني غدا. 
جميلة هي تلك اللحظة، التي نحفظ فيها معًا القرآن. 
ما أجملها تلك التي نجلس فيها نذكر الله.. 
ما أروع الصلاة وهو يؤم بيّ.. 
ما أبهاهُ حين يدافعُ عني بكلُ ثقة حتى ولو لم يعرف ما الحكاية، لا لشيء إلا لثقته فيَّ إني لا أخطئ، ودائمًا ما أقفُ مع الحق. 
أتدرون ما أحلى شيء يمكن أن يحصل عليه المرء في هذه الحياة؟ 
أن يكون الشريك لا دعوة له إلا وجودك معه في الجنة 
أن تُرزق بمن يفهمك دون كلام 
ويحتويك دون أن تطلب 
ويمسح دمعك بكلُ حنان الدنيا 
إن يكون لك شخص أن خذلتك الحياة يكون هو الملاذ الأمن، والحضن الدفء، والبسمة المشرقة.. 
أن يكون معك من لا يهون عليه دمعك، ولا حزنك، ولا ألمك. 
أن يعرف ما في عينيك ببساطة، ويعلم خبيئة قلبك دون كلام. 
إني رُزقت حبه، ولن أفرط فيه قط. 
لقد جاءني السعد يرفرف ما أن وجدته .. 
كدتُ أنسى اليوم، يومٌ جميل، يوم يحق الأحتفاء به. 
اليوم سأرى حبيبة قلبي أروى في الأبيض .. 
سأرآها تُزف لمن تحب، كم حلو هذا الشعور، وكم حلوة هي تلك اللحظة. 
أن ترزق البنت بنصيب يكون العوض عن كل مرارة الحياة. 

تنهدت خديجة في حرارة، وهي تتراجع لظهر المقعد، وتترك القلم فوق دفترًا، كانت تدون به توًا، ولم تلاحظ وجود آراس الواقف لدن الباب، مرتكنًا على الحائط المقابل له، وهو عاقد الساعدين، ويتأملها بمنتهى الحنان، والحب، والعشق. 
وأردف بنبرة مفعمة بالعاطفة، وهو يتحرك نحوها  : 
_ هل تجهزتي؟ 
مال مطوقًا عنقها من الخلف، وأسند وجنته على وجنتها، وهو يهمس بنبرة تداعب أوتار قلبها  : 
_أوحشتني كثيرًا. 






رفعت خديجة إحدى حاجبيها، في دهشة مصتنعة، وهي تجيبه  : 
_ أوحشتك! حقًا؟ كيف هذا هل لك أن تخبرني، نحن لم نغب لتشتاق ليّ. 
زم شفتيه في عبوس، وهو يردد  : 
_ يا لكِ من قاسية يا زوجتي العزيزة. 
أبعدت خديجة كفيه في غيظ، وقالت محتدة  : 
_ قاسية! .. من أنا؟ .. أنا قاسية أم أنت. 
ضرب آراس كفًا بكف قائلًا : 
_لا إله إلا الله، أنا قاسي!.. إنه لأفتراء يجب أن تُعَاقّبي عليه. 
وعبارته كانت بالفعل صادقة، فـ آراس لا يدر معنى القسوة معها. 
ولا يدخر وقتًا ليغرقها في حبُه، وهمسه، وكلماته التي تذيب قلبها خجلًا وأزدهارًا، طوبي لفؤادها بشطرًا مثله. 
أستطرد آراس بغتة  : 
_ يبدو إنك تأخرتِ علىٰ أروى، متى ستذهبين؟ 
تطلعت خديجة لحظة في عيناه، وردت  : 
_ الآن .. 
بترت عبارتها مع رنينُ جوالها، الذي أرتفع فجأة، فتناولته في لهفته، و وضعته على اذنها وهي تقول  : 
_ نعم يا اروى جاية اهوه. 
جاءها صياح أروى على الطرف الآخر يصمُ الآذان  : 
_ جاية!! جاية امتى إن شاء الله؟ اخلصي يا خديجة. 
وأخفضت صوتها بغتة  : 
_ أنا متوترة وخايفة. 
أطلقت خديجة ضحكة صافية، وأجابتها في حنو وهي تتربع على الفراش  : 
_ مفيش داعي للخوف ولا التوتر، هغير بس وهكون عندك، كلها دقايق. 
غمغمت أروى  : 
_ ايوة والدقايق بتبقي ساعات. 
_ظلماني ليه؟ 
_أنا وحشة يا ستي.. خدي كلمي يوسف عشان مصدعني. 
_ هاتيه. 
جاءها صوت يوسف، يقول متلهفًا في سرعة  : 
_خديجة عاملة إيه؟ كويسة .. بقولك عايز أعرف حكاية أسيد. 
ضاقت حدقتا خديجة وهي تسأل  : 
_ أُسيدُ بنُ الحُضَير؟ 
قال يوسف  : 
_ ايوة، احكيلي دلوقتي. 
_أنا خلاص جايه واحكيهالك. 
صاح يوسف في نفي  : 
_ لا، لا يا خديجة مش هستنى احكي ليا دلوقتي، يلا. 
بعد إلحاح طويل، خضعت له خديجة بصدرٌ رحب، قالت  : 
_ يلا هحكي. 
قال يوسف في اهتمام  : 






_ كلي آذان مصغية. 
التفتت خديجة إلى آراس الذي كان يجلس وهو يعبث في هاتفه، فنادته قائلة  : 
_ آراس، أترك هاتفك يا حبيبي واعرني سمعك. 
ألقى آراس هاتفه علىٰ الطربيزة دون اكتراث، وهب واقفًا وذهب ليجلس بجانبها، مدركًا إنه بصدد سماع قصة من قصص الصحابة. 
هولاء الذين يحسدهم على رؤيتهم للرسول، ومجالسته، وسماع صوته، لكل شيء، نعم .. إنهُ يحسدهم بقدر حبُه الذي نبت بداخله لهم. 
تبسمت خديجة بسمة استنار لها وجهها، وتألقت عيناها في شغف، وتحمحمت وهي تقول بصوت مفعم بالحب  : 
_ أُسيدُ بنُ الحُضَير، ولأن الوقت لا يسعفنا فسنأخذُ قبسٌ من حياةُ أُسيد بعد إسلامه على يد الداعية الأول مُصعب بن عمير. 
كان أُسيد رخيم الصوت، وكان الصحابة الكرام يترقبون أوقات قراءته ليسمعوا إلى تلاوته. 
وقد كانت تطيب له قراءة القرآن أكثر إذا سكن الليل، ونامت العيون. 
فيا سعد من أتاح له سماع القرآن من فمهُ. 
وكما استعذب اهل الأرض سماع صوته في القرآن، فقد استعذبته ملائكة السماء. 
ففي جوف ليلة من الليالي كان أسيد جالسًا وراء بيته، وابنهُ ( يحيىٰ) نائمٌ إلى جانبه، وفرسُه التي أعدها في سبيل الله مربوطةٌ غير بعيد عنه. 
كان الليل وقتذاك ساجيًا، والسماءُ صافيه تسطع بالنجوم الساهرة، وفي هذه الأجواء الرائعة، وفي نسمات الليل المنعشة، راح أسيد يقرأ في سورة ( البقرة) 
فإذا به يسمعُ فرسُه قد هاجت وتحركت حركة شديدة كادت تقطعُ رباطها. 
فسكت، فسكنت الفرس. 
فعاد يقرأ، فتحركت الفرس حركة أشد من التي قبل، فسكت 
فسكنت. 
وتكرر ذلك مرارًا، فكان إذا قرأ أجفلت الفرس وهاجت، وإذا سكت سكنت. 
فخاف على ابنه أن تطأه إذا انحل رباطها، فمضى كي يوقظه وهُنا حانت منه نظرةٌ إلى السماء. 
ويا سعد ما رأى .. 
رأى غمامة كالمظلة لم تر العين أروع منها قط، وقد عُلق بها كالمصابيح فملأت الآفاق ضياءً ونورًا، وصعدت إلى أعلى حتى غابت عن ناظريه. 
فلما أصبح ذهب إلى رسول الله_صل الله عليه وسلم_وقص عليه ما رأى، فقال له النبي_صل الله عليه وسلم_: 






( تلك الملائكة كانت تستمعُ إليكَ يا أُسيد … ولو إنك مضيت في قراءتك لرآها الناسُ ولم تستتر منهم)[ البخاري ومسلم] 

أدمعت عين خديجة، وهي تلوذ بالصمت لـ هنيهة، وقالت بصوت متحشرج  : 
_ لقد تاقت نفسي إلى صوتُ أسيد وهو يقرا القرآن، هذا الصوت الذي تنزلت الملائكة لتسمعه. 
تُرى كيف كان؟ 
أجميلًا لهذه الدرجة؟ 
رائعًا، جميلًا، شجيًا؟ 
إن كتب ليّ الله دخول الجنة حينها سأجلس لأسمع صوت أسيد سأهرع إليه فورًا ليتلو ليّ بصوته. 
ذُرفت عيناها دمع لم يلبث إن مسحه آراس بإبهاميه في رفق مفعم بالحنان، فأهدته خديجة أروع بسماتها وأعذبهم، واستدركت تقول ليوسف  : 
_ هذا كان نبذة قليلة من قصة أسيد العامرة، وإن شاء الله نحكيها ذات يوم كاملة. 
أغلقت مع يوسف بعد هذا، وركنت الهاتف جانبها، ونظرت لـ آراس قائلة  : 
_ سأبدل ملابسي ونذهب. 
رد آراس ببساطة  : 
_حسنٌ، وانا سأوصلك وأذهب إلى الشباب كي أعاونهم. 
أومأت له خديجة وهي تتحرك من أمامه مبتعدة، فسرح هو وتكلمت نفسه ساهمة، تتأملها بهيام. 
( آراس) 
أليس غريبًا أن يرزق من مثلي بزوجة صالحة كـ خديجة؟ 
عجبًا قد كانت تتحدث عن صوت أُسيد، ونسيت إني بصوتها جُذبت إليها، وفي خشوع تلاوتها سكن قلبي.. 
ومن ظلمته الكاحلة استنار  .. 
لا غرو! فالصوت أحيانًا يعبر عن صاحبه .. 
وصوتها عبر وأخذني أسيرًا .. 
والقلب رمقها قائلًا  : إنه لا يريد إلاها. 
والروح كالظل راحت تصاحبها، ولم تعرف النفس لذة للحياة إلا بمعرفتها. 
وأوصد قلبي بابه بعد دلوفها، إمرأة مثلها لا تعوض .. لا تعوض، لا تعوض. 
كنت أعلم إن قربها خطيرًا، مهددًا لحياتي ولعملي هذا الذي بتُ الآن أستعار منه 
لكنها وأدته ووارى الثرى، ورحتُ أغترف من إيمانها، وطهارتها فأتطهر من كل ذنوبِ وخطاياي وأثامي. 




لم أكن اعرف كيف يصلي المرء ويناجي ربه، ولم افكر في هذا قط، ولم يشغل حتى بالي، لكنها ما أن عرفتها وتغير كل الشيء، الجميل إني لم أتغير لأجلها، فقد تغيرت لأجل الله، وخشيةً منه، لأني لا اريد النار لقد تبت وكل أملي عفوًا من الله الرحيم. 
امرأة كـ خديجة لم تكن لتقبل أن يتغير المرء لأجلها قبل أن يقبل على الله بقلبه و روحه ونفسه في آن. 
بدونها لا يهمني العالم إن لم يكن معها .. 
إنها حبيبتي وطفلتي في آن واحد، سكني ومستقري، ومحرابي. 
سأدعوا الله أن أعيش العمر .. كل العمر معها. 
ها هي تخرجُ أمامي تربطُ نقابها بكل اهتمام، كي يخفي كل وجهها، ما أروع أن يكون للرجل زوجة مستترة عن العالم لا يراها إلا هو 
ولا يلمسها إلا هو .. 
زوجة بالنقاب تتزين، وفي قلب زوجها تتوج ملكة، وهي ملكتي، ملكة قلبي وحياتي 
أودُ أن أخبرها إن النظر إلى وجهها الذي أملكه أنا فقط هو التحليق إلى عالم آخر عالم مزدهرًا. 
أودُ أن أخبرها إن النظر إلى عينيها جنة لا أريد البعد عنها. 
أريدُ أن اخبرها إني بها ولها أكون 
وإنها الحبيبة التي لا يوجد في القلب حبيبة غيرها. 
صارت ليّ جنة أترعُ فيها دون خوف من أن تزول. 
صارت ليّ حبًا يغمرني 
صارت ليّ طفلة أدللها كيفما أشاء. 
خديجة لا ولن يكون مثلها في الوجود .. 







في بعضُ الأحيانُ يهمسُ ليّ قلبي ( هل كنتُ أحيا من قبلك) فأردُ عليه قائلًا ( لا، لم نكن نحيا) 
دعيني إذن أخبرك إن الحياة هي أنتِ، فيا ليت ليّ فوق العمر عمرًا لأحيا معك، وفي الصدر قلبًا آخر يهواكِ. 
فيا أيتها الحبيبة الغالية أبقي دائمًا بقربي 
فإني أخشى أن يسرقنا الموت من أنفسنا. 

( آراس، حبيبي لقد انتهيت هيا، سأرى هنا) 
تنبه آراس من شروده على صوت خديجة العذب، فنهض متهجًا إليها، وهو يقول  : 
_ وهنا، هل انتهت؟ 
هزت خديجة كتفيها بعدم معرفتها لذلك، وما هم آراس أن يتفوه ببنت شفه، إذ جاءهما صوت هنا وهي تخرج من إحدى الغرف قائلًا  : 
_ ها أنا ذا جاهزة. 
كانت ترتدي فستان يعلوه خمارٌ بدت فيهِ كالبدر في ليلة اكتماله، والسر في هذا هو خديجة، وكلام خديجة، ويد خديجة التي لا تترك إلا على باب الرحمن. 
استقروا في السيارة، وأنطلق آراس بها إلى منزل آل الشرقاوي، توقف آراس على جانب الطريق ما أن بلغ وجهته، وترجلت هنا عندئذٍ لمحت خالد يقدم نحوهم، فتوردت خجلًا، وطأطأت رأسها، وراحت تفرك كفيها في توتر، و وقف خالد غاضًا الطرف وهو يسأل  : 
_ هنا، كيف حالك؟ 
ردت هنا بصوت هامس يكادُ يسمع  : 
_ بخير. 
والتفتت إلى نافذة السيارة، قائلة في أستحياء  : 
_ هيا يا خديجة. 
فتحت خديجة باب السيارة وآراس يقول لها مبتسمًا  : 
_ إلى اللقاء أيتها الحبيبة الغالية. 
وغمز لها، فلوحت له في خجل، وغادرت السيارة، و واجهت خالد، قائلة  : 
_ اخويا حبيبي عامل إيه؟ 
رد عليها خالد بغيظ  : 
_ بخير يا أختي. 
ربتت خديجة على كتفه، مغمغمة  : 
_ حبيبي أمتى هتاخد خطوة. 
قالتها وهي تُلمح إلى هنا، فدفع خالد كفها، هاتفًا  : 
_ بس يا ماما. 
أمسك باب السيارة الذي لا يزل مفتوحًا، وألتقطتت خديجة كف هنا، وهي تحث الخطى للداخل فرارًا، بعد إن قالت في غيظ  : 
_ماشي يا كاليـــــــــــــــــد. 
مط خالد شفتيه وهو يرغي ويذبد مرددًا وهو يحتل مكان خديجة  : 
_ كاليد؟ ماشي يا خديجة، الله يسامحك يا هنا شردتي إسمي. 
نظر له آراس وهو يدير محرك السيارة، قائلًا  : 
_ ما بكَ يا رجل، تبدو غاضبًا؟ 
التفت له خالد، وقال وهو يزم شفتيه  : 
_ قُد يا رجل قُد. 
ثم استطرد فجأة  : 
_ هل تزوجني أختك؟ 
حَدَجَه آراس بنظرة عابسة، وقال بإشمئزاز مصتنع  : 
_ لا، فأنت لا تروق ليّ! 





غمغم خالد في عصبية  : 
_ على أساس إني سأتزوجك أنت كي لا اروق لك، ألزم الصمت يا حبيبي وإلا قلبت أختي عليك. 
أستدرك آراس في سرعة  : 
_ ما الذي فهمته يا خالد يا حبيبي، أنا أقصد إني لن أجد قط زوجًا لأختي أفضل منك. 
نظر له خالد بتكبر مصتنع، وأنفجر ضاحكًا ورد عليه آراس بضحكة عالية. 


الخاتمه

      (ملك) 

كم مؤلم أن يحيا المرء على الخوف .. الخوف من كُلُ شيء، من فقد الأحبة، ومن فقد الحياة، ومن فقد موت القلب، ومن فقد النفس 
وفقد النفس أَمَر وأقسى لو تعلمون .. 
وأنا فقدت نفسي، فقدتها في متاهة دروب الحياة فتحولت إلى حطام .. 
لم أهنئ بيوم يسير، كل أيامي كانت خوف وتوتر .. 
كنت أسرق! الأمر ليس هين ويسير على نفسي. 
كنت افعل هذا رغمًا عني، ثمة شيء يدفعني لذلك، ثُم ما أن يجنُ الليل، وتنام العيون، وتصفى النفوس، أهرول إلى الرحمن ساجدة، باكية، مناجية أن يغفر ليّ وينجيني. 
كانت أيام ثقيلة على قلبي ومتعبة لحدّ الألم، فؤادي قد أثخنته الندوب، ندوب ظننت إنها لن تُشفى قط. 
كان مرض لعين أقسم لكم، أقسى من مرض الأبدان، فمرض البدن له علاج، أما هذا المرض حسبتني لن أحور منه إلى الممات. 
كنتُ أخافُ دومًا أن يعرف أحد به كنت سأشعر بالعار. 
وعلى حين غرة أصبح مرضي كالعلكة في حلوق الناس. 
المؤلم في أمر الناس إنهم يوجعوننا دون أن يشعروا بالخزى من أنفسهم. 
والجميل إنه حين عرفوا أفراد عائلتي لم يدعونني أشعر بالخجل، أو بالعار بقيت في قلوبهم كما أنا لم أتغير، عاونوني على الشفاء مما أنا فيه. 
لا أزلّ أذكر جلسات العلاج القاسية التي ممرت بها، فقد تعمدت طبيبتي أن تجعلهم يصوروني ما أن أأخذ شيئًا لتريني إياه فأحتقر ذاتي، ممرت بأيام ثقال حتى شفاني الله منه ورحمني. 
إنها رحمة اصدقوني القول. 
اليوم سأكون على اسم من أحببته منذُ نعومة أظافري. 
( معاذ) هذا الرجل الذي لا يوجد مثله رجال .. 
لم يتركني في فترة علاجي ابدًا، كان سندًا حين تميلُ بيّ الأيام لا يميل. 
كان معي بروحه، وقلبه، وكلامه المشجع الذي كان يمدني بالقوة. 
يا الله ما أروع إن يكون للفتاة حبيبًا، لا يتخلى عنها مهما تخلى من حولها، يكون معها في عز تعبها كبلسمٌ يداويها. 
هل أكون غبية إن قُلت إني بدونه لا شيء! 
أأكون بلهاء لو قُلت إنه بيتي، و وطني، ومسكني. 
فهو كذلك، هو البيت الذي ارتاح فيه 
هو الوطن الذي أنتمى إليه. 
هو السكن من كل ضجيج الحياة. 
كم رائعة الحياة إن كانت عادلة كما تهدينا الحزن تهبنا السعادة. 
إني ممنونة لعائلتي تلك العائلة التي احسد نفسي عليها. 
كم انا محظوظة بهم فبعض البشر لديهم عائلة دون عائلة، عائلة بالاسم فقط، كم انا جيدة الحظ بـ حبيب مثل ( مُعاذ) 
أوَ ليت الحبيب يعرف إن القلب بدونه خاويًا 
وإن الروح لغيره ميتة. 
وإنه البسمة، وإنه الضحكة، وإنه الأمان 
يا ليت يعرف إن عيناه وحدهما موطني 
موطن أحياء به دون قلق، دون خوف، دون تفكير في القادم. 
ليته يعرف إن قلبه مستقري 

🌹 اللهم اجعلنا من ورثة جنة النعيم 🌹
في أكبر قاعات الزفاف، كانت افراد عائلة الشرقاوي يستقبلون المعازيم ببسماتٌ صافية، مُرحبة. 
اقترب إسلام من والدته، و وجهه يتوهج فرحًا تعجبته عائشة، وهي تسأل  : 
_ ما بكَ يا حبيبي، ما تلك السعادة التي تنطق من عيناك. 
أجابها إسلام سريعًا  : 
_ لنرى سعادتك أنتِ حين تعلمين ما علمته. 
همت عائشة أن تتساءل في اهتمام عما يعنيه، لكنه قال سريعًا  : 
_ينبغي عليّ أن اذهب الآن لأمر هام، حسنٌ. 
ما كادت تجيبه حتى كان قد اختفى من أمامها، فزمت شفتيها واستدارت لجعفر الصغير الجالس فوق الطاولة المتزينة، وقالت  '
_ هو أنا يا بُني خلفت أغبياء بس ولا إيه الواد سابني ومشي من غير ما يرد. 
لم يعيرها جعفر اهتمام وهو يصفق بكفيه الصغيران، ويراقب الصغار على المسرح، فغمغمت  : 
_ حتى أنت كمان ماشي .. ماشي. 
علا صوتُ الدف، فالتفتت بسرعة إلى باب القاعة مع الباقيين، حيثُ انبعث دخان اصطناعي جميل استغرق لحظات، ثم عبره العروسان، حينذاك انبعثت من كل الحلوق آهات إعجاب وانبهار. 
وتألق حمزة في حُلته السوداء، وأروى في ثوب الزفاف الأبيض، وهي تتأبط ذراعه، وسعادة الدنيا كلها تنفجر من كل خلجة من خلجاتهما معًا. 
واستمعت عائشة إلى صوت سجى، تقول في خفوت حنون  : 
_ عائشة، أروى طالعة جميلة صح؟ 
تأبطتت عائشة ذراع سجى، وقالت في حنان لتصفها لها  : 
_ جميلة بس؟ قولي قمر، قولي بدر منور في فستانها الأبيض وتاج رأسها و .. 
قالت سجى في حيرة  : 
_ وَ إيه؟ 
غمغمت عائشة بأعيُن دامعة  : 
_ وبنقابها. 
كررت سجى في حيرة  : 
_ نقابها!! هي اروى تنقبت؟ 
أومات عائشة ونظرها على العروسان وقالت  : 
_ ايوة باينلها كانت عاملها مفاجئة لينا كُلنا. 
همست سجى بعينين تسبحان في الدمع  : 
_ يا الله. 
ران عليهما الصمت، وتابعت عائشة رقصت العروسين، وبديا لها أشبه بمشهد جميل في رواية رائعة، بنظرة الحب الجميلة التي يتبادلها، كل منهما ينظر إلى عيني الآخر، وكأنه لا يرى سواه، والدخان الاصطناعي يحيط بهما في منظر بديع .. 
ودمعتا عينا أروى، وهي تهمس  : 
_ هو إحنا في حقيقة ولا حلم جميل؟ 
فتطلع حمزة في عينيها في حب وحنان دافقيين، وهمس بدوره  : 
_ حقيقة يا حبيبتي .. حقيقة من إنهاردة إنك هتكوني جنبي لآخر العمر إن شاء الله .. 
ومال على اذنها هامسًا  : 
_ حاسس إني طاير من الفرحة، مكنتش متخيل إنك هتفاجئيني بالنقاب إنهادة، دي أروع واجمل واحلى مفاجأة حصلتلي في حياتي. 
همست أروى وهي تتحسس وجنته  : 
_ بجد! 
قربها إليه اكثر، وهو يهمس بصوت خافت مفعم بالحب  : 
_ بجد يا حبيبة القلب والروح. 

وقربهما كان معاذ يلتقط كف ملك ويأخذها إلى المسرح ليرقصا معًا، كانا قد انكتب كتابهما قبل مجيئهما إلى القاعة. 
لم يتحدثا وإن تحدثت عيونهما عما في القلب من حب وهيام. 
وقرأ معاذ في عينيها أشياء كثيرة. 
لكنه أسند جبهتها على جبهتها، كأن العالم لا يوجد عليه سواهما، وهمس بتنهيدة عميقة  : 
_ أنتِ بقيتِ مراتي بجد. 
اومأت ملك برأسها بحزنٌ عميق، كم تتمنى أن تهمس له بحبها، أن تتحدث عن أشياء كثيرة، إن تفصح بحبها، واحس بدموعها تهدد بالنزول في اية لحظة، فضم رأسها على صدرها ليخفيها وهو يهمس بكل حنان الدنيا  : 
_ إنهاردة بس مسموح إنك تبكي ولكن على صدري، مش مهم أي حاجة في الدنيا يا ملك غيرك، أنا من غيرك ولا حاجة يا ملاكِ، يكفيني من الدنيا إنك جنبي وبخير ومعايا، أنا بفهمك من عينك بعرف عاوزة تقولي إيه وإيه لا، زي ما انا متأكد دلوقتي إنك عاوزة تقوليلي حاجات كتير في قلبك بس انا قراءتها، صدقيني مفيش أي حاجة ممكن تشغل بالي غير إنك تكوني بخير وقدام عيني. 
ضمته ملك في قوة، وكبحت دمعها كلا ينهمر. 

تحركت دارين حيثُ أُمها لتأخذ جعفر، ثم حانة منها إلتفاتة إلى الباب فاتسعت عيناها وهي تهتف في صياح  : 
_ آجار، يا إلهي آجار جاء. 
ما كادت تنطقها حتى كانت منة تلتفت إلى الخلف وما كاد بصرها يقع عليه حتى هبت واقفة، وركضت نحوه وهي تتخبط في الحاضرين دون حتى أن تنتبه او تأبه بهذا، وكان آجار قد حث الخطى إليها حتى تلقفها بين ذراعيه في شوق غامر وراح يدور بها في سعادة دون أن يعر إي أحد اهتمام. 
وسكت عن الدوران بها وهو لا يزل محتضنها، وبدا أشبه بمن يتنفسها وهو يساءلها بكل لهفة  : 
_ منة، حبيبتي، روحي، قلبي كيف حالك يا حبَّة القلب؟ 
أبتعد فجأة عنها واتسعت عيناها في دهشة وهو يتأمل خمارها، فقبل جبهتها، لم تستطع منة أن تجيبه، كأن دموعها فقط هي من تجيب، تعبر عن مرارة بُعدُه، وتنبأه بقساوة الأيام دونه، فجذب رأسها لصدر مجددًا وهو يهمس  : 
_ لقد عدت إليكِ، عدت يا حبيبتي ولن نفترق أبدًا، اعدك. 
" وليد "
آتاه صوت ولدته فجأة متهدجًا، متلعثمًا، باكيًا، يحمل قدرًا هائلًا من الحنان، فأبتعد عن منة وهو يتتطلع إليها، وتعلقت نظراتهما بقلبٌ مرتعش، وفجأة رمى نفسه في حضنها. 
غمغم إسلام بنبرة متأثرة  : 
_ يا لها من لحظة لم احظ بها قط. 
حدجته عائشة بنظرة صارمة فتطلع نحو البنات وهو يغمغم  : 
_ أين لمياء؟ 
رفعت عائشة حاجبها فلمحها، وقال في احتجاج  : 
_ماذا هُناك، اريد أن أتزوجها. 
ولوح مستطردًا في غيرة  : 
_ أكملي، اكملي إحتصان والدك، ولا تعيريني اهتمامًا. 
ضحكت عائشة رغمًا عنها، والقت نظرة على وليد الذي اندماج مع باقي العائلة والتعرف عليهم، وقرصت وجنتة إسلام قائلة بمشاكسة  : 
_ أتريدني أن أزوجك إياها؟ 
أبعد إسلام وجهه، وقال عابسًا  : 
_ لقد رفضتني. 
غمغمت عائشة في دهشة  : 
_ رفضتك!! كيف لا افهم متى تقدمت لها. 
استدار لها إسلام في اهتمام، وقال  : 
_ لقد ذهبتُ إليها واخبرتها إني اريد خطبتها، فتركتني وسط الطريق وهرولت من امامي كمن يرى شبحًا. 
رددت عائشة في جدية  : 
_ ماذا فعلت؟ لا ريب إنك فعلت شيئًا خاطئ؟ 
بسط إسلام كفيه وهو يهز كتفيه، قائلًا في بساطة: 
_ لا شيء لم أفعل شيء.. 
وأستطرد وهو يستدعي تلك اللحظة في خلده  : 
_ كل ما قُلتُه لها هو إنني سأتقدم لها بـ .. 
تلعثم فمه فجأة وهو يردد  : 
_ مـ.. مـ.. مش ها هي تلك الكلمة تذكرتُها.. 
حملقت فيه عائشة بصدمة، وهتفت مذهولة  : 
_ مــــــــــاذا؟! يا مُصيبتي ما أن تتعلم كلمة عربية تتعلم كلمةُ مش! 
وأنطلقت ضحكات خالد عالية مجلجلة فجأة، وهو يضع كفه على منكب إسلام، ويقول دون إستطاعه على إيقاف الضحك  :
_ مش مين علمك الكلمة دي، أقصد من ذا علمك تلك الكلمة يا هذا.. 
وارتفعت ضحكاته وهو يقول  : 
_ لا شك إنه مالك الأبله. 
وضرب كفًا بكف متمتمًا: 
_ أنت تحمد الله إنها لم تبصق في وجهك يا عزيزي. 
واجهه إسلام وهو يقول في حيرة  : 
_ لماذا؟ ما بها تلك الأكلة! 
لم يستطع خالد تمالك نفسه فواصل ضحكُه وهو يقول بصوت متقطع  : 
_ نصيحة لا تجلس مع مالك ولا تسأله في اي شيء يخص الزواج، فما قاله لك محال أن يذهب به الشاب وهو يتقدم لفتاة. 
سأل إسلام ببساطة  : 
_أهو شيء بشع؟ 
هز خالد رأسه، فقال إسلام  :
_ إذن فهي أكلة جبدة! 
كتم خالد ضحكته، وقال  : 
_ لا بأس لا تشغل بالك سأجعلك تذوقها غدًا، والحكم لك أن كنت ستتقدم بها. 
وعاد يضحك بقوة تثير العجب. 
هنا واتبعث صوت عاصم، يقول  : 
_ هل تعلم..وأنا ايضًا أريد ان أتزوج. 
حدجه إسلام شزرًا وصاح  : 
_ طلبك مرفوض، ناردين لن توافق عليك، وإذا وافقت فأنا أرفص. 
رمقه عاصم بنظرة نارية، والتفت إلى خالد، قائلًا  : 
_أي رأيك اتجوز؟ 
شوح له خالد، وهو يقول في غيظ  : 
_ يا عم وانا مالي هو أنا إللي هتجوز. 
عبس عاصم، وقال  : 
_ سأتزوجها إنها فائقة الجمال. 
وسرح فجأة، فطافت عائشة ببصرها عليهم، وغمغمت بضيق  : 
_ يا ادي النيلة هي العيلة كلها عايزة تتجوز فجأة كده. 
وتناهى لها صوت وليد يسأل آراس في اهتمام  : 
_ أركان لم يأتي؟ 
فرد آراس، قائلًا  : 
_ بلى، لكني لا أعرف لما تأخر. 
كان في هذا الوقت دارين تتحرك بجعفر الباكي إلى الخارج وهي تناغيه، قائلة  : 
_ بس يا حبيبي بس.. خالوا وليد يلا جاية عاوزة اقعد معاه. 
فهتف هو باكيًا  : 
_ ماما.
_ يا عيون ماما بس. 
وتراجعت في حركة حادة، عندما كادت تنصدم بـ أركان الذي تراجع بدوره، هاتفًا: 
_ عفوًا لم أقصد .. آه دارين كيف حالك  . 
ردت دارين مبتسمة  : 
_ بخير، متى جئت؟ 
أجابها أركان وهو ينظر إليها بنظرة إعجاب  : 
_ لقد وصلت لتوي. 
بين جنبيه خافق نبأه إن شيء ما حدث له، تلك الأنتفاضة وتلك الخفقة، شيئًا ما في دارين منذُ رآها يجذبه، شيء مبهم. 
تناول منها جعفر الصغير وهو يقول  : 
_ ما به لماذا يبكي، هاته. 
حمله منها وهو يهزه ويهدهده ليصمت فلم يجدي نفعًا، فقال وهو يتطلع إلى دارين  : 
_ ساخرج به ربما يهدأ.
تبعته دارين وهي تقول  : 
_ سآتي معك. 
خرجا لخارج القاعة، فتنفست دارين الهواء وهي تقول  : 
_ لماذا الجو خانق. 
اختلس أركان نظرة سريعة نحوها، وسألها في توتر  : 
_ هل ليّ بسؤال.
فنظرت دارين له باهتمام، واومأت برأسها، قائلة  : 
_ سَل ما بدا لك بالطبع. 
تحرج اركان وهو يسأل بجدية  : 
_ أين زوجك، أقصد والد إبنك. 
لا يدر لمَ إجابة السؤال أخافته، وكان قلبه مترقبًا قي خوف شديد، لكن فجأة استراحت نفسه، وسكن قلبه من لوعته، عندما قالت في حدة  : 
_ أنا لست متزوجة او مرتبطة حتى يا هذا. 
وفي حركة حادة جذبة من بين ذراعيه جعفر وهي تصرخ  : 
وهات الصغير إياك ان تحمله. 
واستدارت مغادرة، فهز اركان كتفيه وهو يحدق في أبتعادها، قائلًا  : 
_ ماذا فعلت لكل هذا! يا لكِ من شرسة. 
في الداخل كان كل شقيقان يرقصان معًا، حمزة وشيماء، خالد وخديحة، مالك وملك، معاذ ولمياء وياسين مع إبنته وفي نص الرقصة تركها إلى حمزة، وذهب إلى سجى وطوق كتفها في حنان، وهو يقول  : 
_ بنتنا إنهاردة خلاص هتسبنا، هي كبرت امتى، إزاي السنين عدت كده. 
أسندت سجى رأسها على كتفه، وهي تقول: 
_ السنين بتعدي في لمح البصر لأن معدش في بركة في الأيام، وإحنا كمان كبرنا. 
تأملها ياسين في حنان، وهمس بنبرة مفعمة بالحب  :
_ فعلًا كبرنا بس الغريب إن حبنا زي ما هو لا قل ولا نقص دا بيذيد دون أن يشيخ زينا. 
هتفضلي بنتي وحبيبتي ونوارة البيت وضياءه. 
وتابع همسُه في أذنها  : 
_ هتفضلي قلب ياسين، وحياة ياسين، وكل حاجة حلوة لياسين يا بسمة وضحكت ياسين، والجانب الحلو الصافي في حياته. 
كانت عينا لمار تجوسان على افراد عائلتها في حنان، وتراقبهم في سعادة وهي تحمد الله، وبلغها صوت يوسف يقول  : 
_ يا تيتا بقا هو مش آراس ده مات، رجع ليه. 
ضحكت لمار بإنطلاق وهي تميل نحوه، قائلة  : 
_ وانت مالك يا روح تيتا. 
صاح يوسف كأنه يبرر لنفسه  : 
_ واخد مننا خديجة، أنا رايح ابعدها عنه أصلا، ولا اقولك .. 
همت لمار ان تستفسر لكنه أردف يقول  : 
_ أنا رايح أخد أروى وخديحة مفيش واحدة هتبيت بره البيت إنهارده، مش كفاية خديجة كمان عايزين تبعدوا اروى. 
وغادر في خطوات حادة عنيفة، فضحكت لمار وهي تسترجع ذكريات تلك اللحظة التي عادوا فيها إلى البيت وكلمات يوسف لـ آراس. 
يا الله أما زلت حيًا! .. ألم تمت بعد؟ 
فرد عليه آراس في مناغشة  :
_لا أنا ميت. 
فصاح يوسف متعجبًا  :
_ميت! ميت كيف؟ وأنت تحادثني. 
_أوه يا إلهي ألم تعرف؟ فالموتى يمنكهم الأتصال بالاحياء. 
_أنت تكذب خديجة لم تخبرني شيئًا هكذا قط.

🍃 اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد 🍃

كان عاصم يجلس مع والدته في الأرض الذراعية وسط الخضرة ولون الحياة وهواء الأرض الرطب، وفيما هم يتناجيان وهم يتذكرون حفل زفاف حمزة وأروى، إذ أقبل شاب من الشباب العاملين لديهم في الأرض، وهو يهتف بصوتٍ مرتفع: 
_ يا أستاذ عاصم .. يا استاذ عاصم .. يا أستاذ عاصم. 
هب عاصم واقفًا فورًا ليواجه الشاب الذي وقف يلهث أمامه، ويلتقط أنفاسه، وتعلقت عينا وعد عليه في اهتمام عندما قال من بين لاهثه  : 
_ في مرة طلباك بالإسم بره، وبتجول موضوع مُهم جوي. 
انزوى حاجبي عاصم في دهشة حقيقة وهو يسأله في اهتمام  : 
_ وحدة بنت! ودي عايزني في إيه؟ وتعرفني إزاي أصلًا. 
هز الشاب كتفيه وهو يقول  : 
_ مخبرش يا أستاذ عاصم. 
زم عاصم شفتيه وهو يتبادل نظرة متسأله مع والدته، فأشارت له وعد قائلة ببساطة  : 
_ روح يا عاصم شوف في إيه. 
وافقها عاصم بإيماءة من رأسه، وضرب على كتف الشاب وهو يقول  : 
_ خلي بالك من ماما لحد ما رجع. 
وذهب شبه راكضًا، والشاب يصيح من خلفه  : 
_ في عنيا يا استاذ عاصم، مش ههملها غير أما ترجع. 
كان الأمر غريبًا فعاصم ليس له اختلاط مع إي أحد سواء الرجال الذين يعملون معهم في الأرض او جيرانهم الأقربون. 
لذا كان الأمر محير أن يطلبه أحد وهذا الأحد فتاة. 
استغرق عقله في التفكير حتى خرج من الأرض الذراعيه فقفز عابرًا (الفحيرة) الممتلئة بالماء، وعيناه تدور بحثًا عن من تريده. 
فإذا بعيناه تقعان على منار التي توليه جانبها، فضيق عيناه في حيرة اكبر، ومضي نحوها وهو يقول بنبرة تفيض دهشة  : 
_ منار! 
التفتت له منار، وبدت شديدة التوتر والارتباك، وهي تتلفت حولها في خوف جلي، لكنها استجمعت شجعاتها وهي تقول  : 
_ ايوة انا منار، أنت فكرني؟ 
رد عاصم في سخرية  : 
_ قُلت إسمك يعني اكيد فكرك. 
واستطرد بنبرة جافة  : 
_  خير؟! 
كان لا يزل يذكر إنها أخت للشاب الذي أذى اروى فكان من العسير أن يعاملها بكرم أو ترحيب، ومع ذلك فقد أحس بتأنيب الضمير، وتحمحم قائلًا بنبرة لينة  : 
_ إحم، أقدر اساعدك في حاجة؟ 
ظلت عيناها تجوسان في المكان وهي لا تحر جوابًا، فنظر عاصم بدوره فيما حوله، وغمغم  : 
_ بدوري على حد هنا ولا إيه! 
أخيرًا تنبهت له فهزت رأسها نفيًا، وارتجفت شفتيها وهي تقول  : 
_عايزة دكتور مالك! 
ما كاد عاصم يستمع لطلبها، حتى صاح في تهكم: 
_ نعم يا أختي!! عايزة مين؟ مالك! أنتِ بتستهبلي حضرتك؟!.. 
بتر سخريته حينما لمح الدموع المترقرقة في عينيها، فعقد ساعديه وهو يشتف أن الأمر هام، فسألها في جدية  : 
_ ممكن أعرف عايزَة في إيه؟ 
رغم الشمس الحارقة التي تُلقي ضوءها عليهما، فقد راحت منار تمسح على ذراعيها بكفيها كمن يعاني من البرد القارص، وخرج صوتها كأنه يأتي من مكانٍ سحيق وهي تهمس  : 
_ عاوزَه يساعدني في حاجات كتير .. 
قاطعها عاصم بنفاذ صبر، وقد ارتسمت بسمة متهكمة على شفتاه  : 
_ زي!! 
أرتجف صوت منار أكثر وهي تقول  : 
_ مش هقدر أقولك، بس ضروري تبلغه إني محتجاه .. 
كرر عاصم ذاهلًا  : 
_ محتجاه؟؟!! 
لم تأبه منار بذهوله، بل بدت لم تلاحظه وهي تتلفت حولها، وتقول في تلعثم  : 
_ أنا .. أنا لازم امشي قبل ما حد يشوفني، ارجوك بلغه، أرجوك. 
قالت توسلها واستدارت مغادرة كمن يلاحقها شياطين الكون كله. 
فقلب عاصم كفيه في حيرة أكبر، وأخرج هاتفه ليجري إتصال بمالك، الذي رد قائلًا في مرح  : 
_ عصوم، عامل إيه يا عم، وخالتوا عاملة إيه؟ 
تفاجئ بصوت عاصم يأتيه قائلًا بصوت جاد، حائر  : 
_ منار كانت هنا! 
فكرر مالك متعجبًا  : 
_ منار! منار مين؟ 
واستدرك بغتة  : 
_ متقولش منار إللي كُنت بعالجها وإللي اخوه…
قاطعه عاصم في هدوء لا يخلو من القلق  : 
_ ايوة، هي بشحمها ولحمها! 
قال مالك، وهو ينهض من خلف مكتبه، ويتجه إلى النافذة لينظر من خلالها  : 
_ ودي عاوزة مني إيه؟ مالها؟ 
قال عاصم: 
_ مش عارف مقالتش غير إنها محتجاك .. 
قاطعه مالك مندهشًا  : 
_ محتجاني! 
أجابه عاصم وهو يجلس على عتبتة منزله  : 
_ ايوة، قالت إنها محتاجة مساعدتك في حاجات كتير، كانت خايفة ومتوترة بس فإيه؟ 
أستند مالك بكفه الحر على حافة النافذة، وهو يقول  : 
_ مش عارف، دي هتكون عاوزني في إيه؟ 
طب مقالتش حاجة تاني؟ 
هز عاصم رأسه نفيًا وقد ألتقط عودٌ صغير طويل راح يرسم به على الأرض  : 
_ مقالتش يا عم والله لو قالت كنت قولت، هتعمل إيه؟ 
_حاجة محيرة! 
_فعلاً.
أتكأ مالك بظهره على النافذة، وقال  : 
_طب تنصحني بـ إيه؟ 
ساد الصمت بينهما لدقيقة كاملة، قاطعه عاصم وهو يقول بعد تفكير  : 
_ تعال منه تغير جو هنا عندنا ومنه نشوف البنت دي عاوزة إيه. 
لم يتلق ردًا فورًا من مالك، فردد  : 
_ مالك .. أنت يا ابني روحت فين! 
رد مالك بصوتٍ شارد: 
_ معاك أهوه، مش عارف بجد، وبعدين انا هساعدها في إيه اصلًا. 
رد عاصم بنبرة مبهمة  : 
_ تعال يا مالك .. الموضوع شكله كبير.. 
تنهد مالك وهو يسأل  : 
_ ايوة برضو أنا هساعدها في إيه؟ 
_ مش عارف يا عم، أنت حر لو هتيجي تعال مش عاوز خلاص. 
زم مالك شفتيه لثانية، ثم قال  : 
_ خلاص يا عم أنا اصلًا ليا كتير منزلتش الصعيد وأهوه هاجي اغير جوه وسطكم ونشوف عاوزة إيه، حاسس الموضوع بخصوص اخوها. 
أيده عاصم بقوله  : 
_ وأنا برضو. 
أنهى عاصم الأتصال مع مالك، وقفز واقفًا وهو يلقي العود من كفه، وقفز من فوق الماء عابرًا إياها، وسار على جانب الأرض الذراعية حتى وصل إلى والدته، التي بادرته قائله باهتمام  : 
_ مين دي يا عاصم إللي كانت عاوزاك؟ 
سحب عاصم المقعد ليجلس عليه وهو يرد عليها  : 
_ أبدًا متشغليش بالك! 
رفعت وعد حاجبها، وغمغمت: 
_ يا واد مين دي؟ 
هرب عاصم من الإجابة عندما لمح والده فظلل فمه بكفيه وهو ينادي  : 
_ يا بابا، إنت يا عم الحج تعال شوف ماما. 
أقبل رحيم نحوهما وهو يقول  : 
_ مالك يلا عامل وش كده ليه، مش كفاية قاعد لا شغله ولا عمله. 
نهض عاصم وهو يبرتطم بكلام غير مفهوم ثم قال  : 
_ والله لنا ماشي من هنا. 
قبل ان يخطو. خطوة واحدة، وما ان استدار أحس بذراع والده يقبض على كتفه في حزم، مع صوته يقول في غلظة  : 
_ تعال هنا يلا رايح فين؟ 
غمغم عاصم في ضجر وهو يستدير له  : 
_ يا حج يا حج عيب كده، برستيجي يا جدع. 
كرر رحيم في ازدراء  : 
_ برستيجك! تاك القرف أنت وبرستيج، خد يلا امك رجعها البيت عشان لسه مش راجع دلوقتي! 
جذب عاصم ذراعي المقعد المتحرك، وهو يتمتم  : 
_ وانا إللي قُلت هسيب لكم الجو عشان تقعدوا قاعدة رومانسية متكررش. 
رد رحيم وهو يضرب على ظهره  : 
_ قعدة رومانسية وأنت موجود، بطل نق يا حبيب بابا واتكل.. 
صاح عاصم وهو يفلت من يد والده  : 
_ ظهري يا حج ظهري في يوم هتشل منك. 
راقبه رحيم ببسمة تبزغ على شفتيه وهو يردد  : 
_ بعد الشر عليك من الشل. 
وتنهد قائلًا  : 
_ يا رب اشفي ليّ وعد يا رب. 

« عجبك يعني جوزك ده، واللي بيعمله معايا» 
قالها عاصم، متصنع العبوس وهو يجر أمامه مقعد والدته، فغمغمت وعد  : 
_عيب يا ولد ده بابا يقول إللي .. 
« عاصم رحيم؟» 
قطع عبارة وعد صوت انثوي فجأة من وراءهم، فالتفت عاصم تلقائيًا إلى مصدر الصوت، ليرى امرأة ترتدي عباءة سوداء جميلة، ذات ملامح صعيدية حازمة، و قوام ممشوق، فرفع حاجبه وهو يغمغم بصوت وصل إلى مسامع والدته  : 
_ هو مال عاصم إنهاردة هي البنات مش لاقيه غيره. 
حدجته وعد بنظرة صارمة، وقالت للمرأة  : 
_ تفضلي حضرتك في حاجة نجدر نساعدك بيها؟ 
اقتربت المرأة منها فجأة ودققت في قدميها النظر وقد خفق قلبها وعلاَها السكون، فغمغم عاصم في ضجر  : 
_ في حاجة حضرتك، خير؟ 
رمقته المرأة بنظرة سريعة، وعادت تنظر إلى وعد، ثم شدت قامتها وانتصبت في وقفتها وهي تواجه عاصم،  قائله  : 
_ انا جريبة منار! 
تبسم عاصم بسمة صفراء مقيتة وهو يغمغم  : 
_ يا أهلًا هي العيلة كلها ناوية تيجي؟! 
رمقته المرأة بنظر نارية، وأفسحت له الطريق وهي تقول  : 
_ دخل أمك وتعال عايزك. 
رد عليها عاصم بنبرة مقيتة  : 
_ عاصم مش موجود إنهاردة! 
نهرته وعد قائله  : 
_ عاصم عيب كده يا بني، من امتى بنعامل ضيوفنا كده؟! 
طأطأ عاصم رأسه، وقال بكل احترام  : 
_ حقك عليا يا ماما. 
وحدج المرأة بنظرة نارية وهو يقول  : 
_ استنيني أهنا لحد ما اجيلك. 
أومأت المرأة وهي تتنحى جانبًا وشيعته بنظراتها حتى اختفى، فتنهدت في إشفاق وهي تقول  : 
_ بإذن الله تخفي يا ست وعد، منهم لله إللي ماذينك دول. 
لم يمكث عاصم طويلًا، وكان يقف قبالتها، ويقول  : 
_ نعم يا ست تؤمري بإيه حضرتك. 
تفاجئ عاصم، بل صُعق، عندما قالت المرأة بدون مقدمات  : 
_ رايدة چدتك! 
ولم يلبث إن نفض صدمته سريعًا، وهو يقول  : 
_ نعم!! رايدة مين؟ 
غمغمت المرأة وهي ترشقه بنظراتها  : 
_چدِتك، لمار الشرجاوي. 
رفع عاصم إحدى حاجبيه، وتعجب إن المرأة تعرف جدته، فقال بأنتباه  : 
_ أنتِ تعرفيها؟ 
ردت المرأة بنبرة مبهمة  : 
_ أعرفها، ومين ميعرفش لمار الشرجاوي وأنا رايدها لحاجة تبع شغلها، مش كانت حاجة كبيرة برضو في المخابرات؟؟ 
اتسعت حدقتا عاصم وهو يرمش بعينيه، فعادت المرأة تقول ببسمة واثقة  : 
_ ومش أنت برضو مقدم؟ 
هُنا وكانت الطامة الكبرى لعاصم، إذ لا يعرف احد قط بعمله إلا عائلته في القاهرة و والده و والدته، فردد في بهت  : 
_ أنتِ تعرفِ كل ده كيف ! 
قالت المرأة  : 
_ مش مهم عِرفت كيف، المهم أتساعدني واساعدك! 
كرر عاصم في حذر  : 
_ اساعدك وتساعديني، تساعديني في إيه مش فاهم؟ 
ألقت المرأة نظرة داخل منزله، وعادت تنظر إليه وهي تقول في هدوء  : 
_ هتساعدني في الجبض على تاجر مخدرات. 
بتلقائية قاطعها عاصم  : 
_ والد منار!! 
أومأت المرأة، وقالت  : 
_ اﯾوه هو. 
شبك عاصم كفيه خلف ظهره، و وقف وقفة منتصبة تمامًا، وهو يقول بصوت اجش غليظ  : 
_ مش شغلي ولا مكاني، روحي للمركز الملحق لقريتكم وأكيد هيقبضوا عليه. 
ابتسمت المرأة بسمة جعلته يندهش وهي تقول بضحكة خفيفة  : 
_ وإنت في رأيك جيت لك ليه؟ دلوج مفيش شرطة كلهم غضوا الطرف مع الرشوة والفلوس. 
تبسم عاصم في استهتار، وقال  : 
_ اكيد مش الكل في ظباط أُمنة ! 
بدا الأسف على وجهها جليًا، وهي مطرقة الرأس، وتهمس  : 
_ بالطبع في .. 
ومالت على أذنه هامسة  : 
_ وادفنوا عايشين. 
أطل هلع هائل ممزوج بالصدمة من عيناي عاصم، وهو يردد  : 
_ مستحيل أنتِ كدابة إيه اللي بتجوليه ده؟ 
زفرت المرأة بقوة، وقالت  : 
_ يا ريت أكون كدابة فعلاً، لكن دي الحجيجة! 
عشان إكده جيت لك طالبة المساعدة، وفي المجابل هساعدك! 
ردد عاصم في دهشة  : 
_ تساعديني، وتساعديني في إيه إن شاء الله! وبعدين القبض على تجار المخدرات مش اختصصنا نهائي. 
عقدت المرأة ساعديها وهي تقول  : 
_ جدتك هتجدر تساعدني، وهساعدك في إيه؟ ففي معالجت أمك مثلًا. 
كرر عاصم مبهوتًا  : 
_ أمي. 
ضغطت المرأة على حروف كلماتها وهي تقول  : 
_ مش رايد أمك ترجع تجف على رجليها إياك؟ 
استشاط عاصم غضبًا، وهو يصيح  : 
_ إنتِ مالك بـ أمي ده مو.. 
قاطعته المرأة في حدة  : 
_يخصني! أما يكون في يدي أمد المساعدة يبقي متأخرش، هات لوالدتك شيخ يرقيها وهتخف، إللي هي فيه ده سحر، اللهم إني بلغت اللهم فشهد، وكفاية لف على دكاترة مش هيفيدوكم بشيء، سلام يا عاصم. 
فتحت كفه وهو لا يزل في غمرة ذهوله و وضعت ورقها مطوقة اغلقت عليها أصابعه وهي تنظر في عينيه مباشرة، هاتفه  : 
_ ده رجمي لما تعرف إن كلامي صُح، حاكيني وبلغ جدتك إن الصعيد محتاجها أنا متأكدة إنها مش هتتأخر وهتعمل اللزم وهتكلم رؤساءكم وهتيجي. 
وغادرت من أمامه بخطوات واثقه، مخلفه عاصم متسمرًا في محله، ذائغ العينين. 
مضت لحظات ثقيلة رهيبة من الصمت،  وعاصم في مكانه، قبل أن ينتبه لنفسه، فـ دارت عيناه فيما حوله، واعتصر قبضته على الورقة، ثم تحرك لداخل منزله، فأستقبلته وعد وهي تقول  : 
_مين دي كمان يا بني؟! 
بقى عاصم يحدق فيها في صمت تام، قبل أن يبتسم ويتحرك نحوها، قائلًا  : 
_ متشغليش بالك يا حبيبتي. 
ومال مقبلًا وجنتها وهو يقول  : 
_ لينا كتير ما قرانَاش قرآن سوا تيجي نقرأ! 
تبسمت وعد ذاهلة من طلبه، وقالت ببساطة  : 
_ طبعًا تعالَ. 
تفاجئت به يميل عليها ويحملها، وهو يقول ضاحكًا  : 
_أنا هخطفك يا ست الكل وهنطلع نقرأ فوق. 
وارتقى درجات الدرج وهو يسأل  : 
_إلا قوليلي يا ماما أنتِ مش بتقرأي قرآن، مش فاكر ولا مرة شفتك بتقرأي. 
كان بالفعل لا يتذكر متى رأى والدته تقرأ، وكان هذا محير والمحير أكثر ردها  : 
_ ما أنت عارف يا عاصم مش بقدر اجيب لنفسي حاجة هقرأ إزاي؟ 
تبسم لها عاصم ولم يجب، وعاونها حتى توضأت وناولها مصحف وهو يتربع بجوارها، قائلًا  : 
_ نفسي تقرأي ليّ أنتِ، يلا... 
بدأت وعد تقرأ ومر الوقت دون أن يثير الريبة وعاصم يتابعها في اهتمام وكاد أن يتنفس الصعداء ارتياحًا، فمعنى إن والدته تقرأ في كلام الله دون تأثر فهذا جيد، و والدته ليست مسحورة. 
ولم يكد هذا الخاطر يستقر في عقله، أحس بحركة رعشة طفيفة من قدمين والدته اللاتي لا تتحركان أبدًا، فظل يحدق فيهما مصدومًا، وسمع صوت غريب أشبه بإنسان يحتضر، فرفع عينيه إلى والدته، وهب من جوارها واقفًا، وراح يتطلع فيها ذاهلًا، فقد كانت والدته أمامه تلتقط أنفاسها بصعوبة، كإنسان يحتضر، وعيناها ترمشان بسرعة غريبة، فسرت إرتجافة عنيفة في جسده، ورفرف بأهدابه بأنفاس متلاحقة، وعلى مرأى منه وجد ورأس والدته تتحرك يمنى ويسر بإنهاك قبل أن تسقط بجسد متراخ على الفراش، وبدا له إنها ذهبت في ثُبات عميق، كانت السورة التي تقرأها تحوى قصة سيدنا موسى وسحرة فرعون، وفي هلع وذُعر أسرع عاصم إليها بقلبٌ مرتجف، واحتوى رأسها وهو يهتف مجهشًا في البكاء  : 
_ ماما، ماما ردي عليَّ أنتِ كويسة. 
لم يدر ماذا يفعل، فعدل من نومتها وأسند رأسها على الوسادة، و وقف كالتائهة في وسط الغرفة، يدير عينيه في المكان بغرابة وذهب مسرعًا فشغل القرآن الكريم بصوتٍ عال. 
وردد وهو يلتقط هاتفه  : 
_ تيتا لازم تعرف، بس بس هقولها إزاي؟! 
أجرى إتصاله على ملك، وقص له وهو منهار كل ما حدث من قريبة منار غريبة الأطوار. 
وانتقلت الصدمة إلى مالك أيضًا .. 
صدمة سحيقة .. 
مخيفة .. 
لا تُصدق .. 

☘️ اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد وأصحاب محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد وأصحاب محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وأصحاب إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد ☘️

طرق مالك على باب حجرة جدته وأنتظر الإذن بالدخول، حتى سمع صوتها تأذن، ففتح الباب، وأطل من خلفه وهو يقول  : 
_ تيتا ممكن أدخل؟! 
أومأت لمار برأسها، وقالت  : 
_ أدخل يا مالك تعالَ يا حبيبي. 
دخل مالك وأغلق الباب وراءه، وأشارت له لمار بالجلوس، وهي تسبر أغواره .. 
توتره، اضطرابه .. 
كل خلجة من خلجاته أوحت بإنه يحمل خبرًا ما .. 
وانتظرت أن ينبس ببنت شَفة، لكنه ظل يحدق بها في توتر، فقالت تحثه  : 
_ مالَك يا مالِك، قول إللي مخبيه على طول، في حاجة معاك ولا إيه؟ 
غمغم مالك بنبرة متوترة  : 
_ خالتوا وعد. 
رددت لمار بقلق أطل من عينيها  : 
_ مال وعد، حصل معاها حاجة؟! في إيه أتكلم. 
قال مالك في سرعة، كلا يتراجع من فرط توتره  : 
_ بصي هو الموضوع بدأ إن منار راحت .. 
بدأ مالك يقص على مسامعها كل ما حدث بحذافيره، وعيناها تضيقان في تركيز عميق، حتى وصل الموضوع إلى ابنتها فأطل غضب كفيل بإحراق العالم أجمع من مقلتيها، وما إن فرغ مالك حتى هبت واقفة، وقالت في صرامة  : 
_ هو كده؟ أنا .. انا بنتي يتعمل لها سحر. 
تهدج صوتها في غضب هادر، وهي تتابع  : 
_ جهز نفسك أنت وخالد إحنا هننزل الصعيد. 
وتابعت بصوت هادئ كالفحيح  : 
_ إنهاردة هنركب، وبكرا الصبح نكون هناك. 
واقترن قولها، بالفعل فما كاد الليل يُلقي ستاره ويعم الآفاق حتى كانت ترحل برفقة حفيديها إلى الصعيد، ومرت ساعات الطريق وهي تغلي غضبًا، لكن غضبها تلاشى مع إتصال خديجة لتسألها متفاجئة عن سبب سفرها المفاجئ، فاخبرتها لمار بكل ما عرفته، فكان دورها لتتفاجئ بصمت من خديجة طويل استغرقت خلالها في تفكير عميق تسترجع خلاله كل لحظة قضتها مع وعد، فأخبرت لمار بكل ما حدث من وعد في بعض الأحيان التي كانت تقرا فيها القرآن، وذهب الشك تمامًا ليحل محله كل اليقين إن أبنتها قد سُحرت، وهي لن تترك الفاعل ينجو إيًا كان .. 
لم يهدأ للمار بال منذُ وصولها إلى الصعيد، معلله لأبنتها التي نست ما مرت به وهي تقرأ القرآن إنها حضرت فقط لأنها اشتاقتها، وخرجت مع رحيم للبحث عن شيخ يعالج السحر بأمانة، و وجدته وأحضرته إلى منزل رحيم، وجلسوا جميعًا في ردهة المنزل، والشيخ يتلو بعض الآيات، ويحرك حبيبات مسبحة بين أصابعه، وجلب عاصم والدته التي ما ان رأت الشيخ حتى ارتجف جسدها كله، وخوف شديد تمكن من قلبها، وهي تلتفت إلى عاصم هامسة بأنفاس متلاحقة  :
_ عاصم مين ده؟ 
رد عليها عاصم وهو يترك مقعدها جوار جدته  : 
_تيتا هتقولك. 
وذهب مبتعدًا لأحد الزوايا، و وقف بجانب خالد ومالك الذين راحوا يتابعون ما يحدث في اهتمام. 
ونظر الشيخ إلى وعد باهتمام، وانفرجت شفتاة عن بسمة وضاءة، وهو يسألها بوقار  : 
_ إزيك يا وعد يا بنتي، عاملة إيه؟ 
لم تجب وعد وان دمعت عينيها وتلفتت إلى أمها و زوجها، وسمعت صوت الشيخ يقول  : 
_ غمضي عينك يا بنتي. 
لم تعره وعد اهتمامًا، لكن والدتها نهرتها أن تنفذ ما قاله ففعلت. 
وران صمت رهيب لم يلبث أن شقه الشيخ بصوته الرخيم وهو يقرأ سورة الفاتحة تلَها بسور أخرى وآيات. 
ومع استرساله كانت وعد تطلق آهات ألم وهي تحرك رأسها يمنى ويسر، وتتنفس بصعوبة، وقلبها يخفق في سرعة، وتنميل حاد سَرَى في قدميها، وفجأة راحت تصرخ وهي تحرك قدميها المشلولتين، وهمت لمار أن تهرع إليها، لكنها ما لبثت ان عادة إلى مكانها بإشارة من الشيخ. 
وراقبت ابنتها التي سكن جسدها وبدت كالنائمة رغم إن عينيها ينهمر منهما الدمع، فاستدمعت عينيها 
وبغتة نهض الشيخ وراح يسأل الجن الذي حضر على جسد وعد  ( الجن المكلف بالسحر او خادمه) 
من الذي صنعه ولماذا؟ وما نوعه. 
والجني يجيب .. 
من سحرها هي إبنة عم رحيم .. 
لإنها تكره وعد.. 
ونوعه مدفون في المقابر .. 
وما كادت لمار تسمعُ كل هذا، وقبل حتى ينهي الشيخ، تحركت لمار خارج المنزل ولحق بها الشبان. 
وقرعت باب منزل إبنة عم رحيم، التي لم تلبث إن فتحت وهي تلف الخمار على رأسها، وتبسمت وهي تستقبل لمار قائلة  : 
_ يا مرحب، يا مرحب.. يا ست لمار .. 
ما كادت تسترسل في حديثها وكان كف لمار يهوى على وجهها بصفعة قوية، وتدفعها للداخل وتعبر الباب، ورابحة تصيح وهي تتحسس خدها  : 
_إنتِ .. إنتِ إزاي تعملي إکده؟ 
في غضب هائل كان يعربد في كل خلياها، صرخت لمار وهي تهزها  : 
_أخرسي يا كلبة، مش عاوزة اسمع صوتك. 
وغرست أصابعها في عنقها، وهي تهمس بفحيح  : 
_ عملتِ سحر لبنتي أنا؟ 
في فزع تراجعت رابحة مصدومة، والخوف يطل من عينيها، وهمت أن تكذب، أن تثور وتصرخ رفضًا على هذا الأدعاء. 
إلا أن نبرة لمار الرهيبة أخرستها تمامًا، وهي تتابع  : 
_ بنتي طول السنين دي مش بتتحرك بسببك لحد ما فقدت الأمل، أنتِ إيه؟ معندكيش قلب! بتكفري بربك عشان إيه؟ هو أنتِ متعرفيش إن ده كفر بالله عز وجل! 
ودفعتها على الحائط مغمغمة  : 
_ معندكيش ضمير أنبك إن اللي عملتيه حرام، ولا قلب فيه رحمة وأنتِ شايفة بنتي من دكتور للتاني!! 
وجذبتها من حجابها وهي تدفعها خارج الدار،  هاتفة  : 
_ قدامي أمشي. 
كادت رابحة تنقلب على وجهها من عنف الدفعة، لكنها اصطدمت فجأة بعاصم أمامها، فشحب وجهها وهي تتراجع، فوجدت لمار خلفها، نظر لها عاصم نظرة مميتة وكاد يتقدم نحوها لولا إن جذبه خالد من ذراعه، قائلًا  : 
_ إياك تقرب منها يا عاصم متربناش على كده. 
وصاح صوت رجل من المنزل يقول  : 
_ مين إللي على الباب يا رابحة؟ 
وظهر فجأة زوجها، وصرخت رابحة تستنجد به، لكن لمار اغلقت الباب قبل وصوله إليه وهي تصيح  : 
_ إياك تفكر تنجدها من إيدي، بدل ما أقلب عليك إنت. 
وسحبت رابحة من مرفقها في عنف وهي تسير بها إلى المقابر، وما إن بلغاها رمت لمار رابحة على اعتابها، فسقطت على وجهها، مع صوت لمار  : 
_ طلعي السحر. 
همت رابحة ان تعتدل .. 
أن تفر من امامها هربًا .. 
أن تصرخ باي أحد ينقذها .. 
لكن شيء ما في لمار كان يصيبها بالرعب، اهو ذاك البريق المخيف في عينيها، إما الغضب الذي يشع من كل ملامحها، إما في صوتها المهيب الذي يقطر حِدة؟ 
وهوت دموعها في حسرة وهي تنهض كي تخرج السحر من مخبئه. 
بينما إلتفتت لمار إلى خالد، وغمغمت  : 
_ روح هات الشيخ. 
لم يمر وقت طويل، وكانت رابحة تخرج أثر لـ وعد هو ما تم عليه السحر، وفكه الشيخ .. ولأول مرة 
لأول مرة منذُ سنون طوال .. 
سنون مرت بالكثير من التعب، والمرارة، والقسوة. 
تقف وعد على قدميها، وتبكي فرحًا وهي تضم إبنها و والدتها وخالد، ومالك، وزوجها، دون ان تصدق عينيها. 
كانت فرحة تستحق الأحتفاء .. 
وتستحق أن تطير لها وعد فرحًا كعصفور صغيرٌ يغرد في حرية بعد أسر طويل. 
و واجهت لمار رابحة، وسألتها في حدة  : 
_ مين الكلب إللي عمل السحر! 
بكت رابحة وهي تهتف في بكاء  : 





_ أنتِ هتعملي فيَّ إيه؟ 
ردت لمار عليها في إزدراء  : 
_ ولا حاجة إحنا مش زيك خالص. 
وانقصت فجأة عليها، وقبضت على فكها في عصبية، وهمست بصوت كالفحيح بدا لرابحة  : 
_ هسيبك كأنك معملتيش حاجة ولكن قسمًا بالله هتقربي من بنتي تاني لهشرب من دمك. 
ودفعتها في عنف، و بعد إن أخذت منها عنوان الساحر، ذهبت مع أحفادها إلى منزله، وألقت القبض عليه رغم اعتراض الرجل ونفيه لكل شيء، ولم يهدأ بالها بل جعلت عاصم يتصل بقريبة منار لتمليها اسماء الرجل الدجاليين والسحرة وألقت القبض عليهم في ليلة لم تشهد الأرض مثلها قط .. 
وهنا فهمت لمار، قريبة منار معها جن .. 
جن يخبرها بكل شي .. 
ويعاونها  في كل شيء .. 
وتقابلت معها بعد ذاك، اول سبب كان لشكرها، إما الثاني فسيكون سبب في ضياع مالك حفيدها ربما 




أو دفنه حيًا.. 
وسينقلب إنتقام لمار من والد منار إلى أنتقام شخصي .. 
أنتقام سيجعل الصعيد تنقلب رأسًا على عقب .. 
بين آل الشرقاوي وتاجر مخدرات يمتلك، ويسيطر على كل أهل الصعيد …

🌿 لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير 🌿

كان الصغير جعفر يتفرش الأرض وسط المكعبات ودارين تصنع منها شيئًا وهي تشاركه اللعب كطفلة صغيرة تلهو، وأمام النافذة المغلقة كان طائر ضخم، ذو ذراعين وقدمين أشبه بجسد البشر، مع أختلاف ضخامته المثير للرعب، يمتلك جناحان بلون الرماد يحلق بهما، ورأس ضخم كبير بعينين بلون الدم، وفمٌ غليظ وأسنان أغلظ، يراقب بعينيه الحادتين، المخيفتين، الصغير جعفر ودارين. 
وارتفع صوت إسلام بغتة، صائحًا  : 
_ دارين، تعالي ثمة من يريد رؤيتك، اسرعي. 
ولم يلبث إن فُتح الباب، وأطل إسلام برأسة، قائلًا  : 
_ دارين في شاب بالأسفل يريدك، يقول إنه امر هام، وإنك تعرفيه. 
كررت دارين باهتمام ذاهل وهي تنهض: 
_ اعرفه! من هذا؟ انا لا أعرف غير شباب العائلة. 




اقترح إسلام في اهتمام  : 
_ هل اصرفه؟ 
نفت دارين وهي تتجه إلى الباب، قائلة  : 
_ لا، لا .. سأنزل لأرى من هذا، إبق مع الصغير. 
غمغم إسلام  : 
_ وأتركك مع الغريب بمفردك؟ 
قالت دارين وهي تقف على عتبة الباب  : 
_ ولن نترك جعفر بمفرده ايضًا يا حبيبي، ثم أنا في البيت من ذا قد يفكر في اذيتي في بيتي، لا تقلق عليّ. 
هبطت دارين درجات الدرج وهي ترمق الشاب الذي يوليها ظهره في حيرة، معتقدة إنها قد رأته قبلًا، لكن متى؟ 
وما كان الشاب يشعر بوجودها إذ التفت إليها، هنا واتسعت عينا دارين، وبدت رؤيته كالصاعقة وهي تتراجع هاتفة، بصدمة  : 
_ أنت؟!!  كـ.. كيف! 
وحق لها الصدمة، فـ أمامها مباشرة كان يقف الشاب الذي رأته في مملكة ميليا، بل في مملكة اولمان على وجه الدقة. 
بالتحديد إنه الشاب الذي انقذها مع صهيب من السجن. 
وخرج صوت الشاب، هادئًا  : 
_ دارين ، عاملة إيه؟ 
لم تحر دارين جوابًا وهي تواصل هبوط الدرج بقدمين لا تحملاها، حتى وقفت امامه، هامسة في تلعثم  : 



_أنت .. أنتَ! 
قاطعها الشاب، مبتسمًا في هدوء  : 
_ أنا زيك بس أنتِ كنتِ في ميليا وأنا وصلت لمملكة الأولمان من تدبير القدر، وجاهدت إني انقذ إبن الأميرة ميليا .. 
وامتزج صوته بالألم وهو يتابع  : 
_ لكني لم أفلح وخسرت صديقي هناك. 
دعته دارين إلى الجلوس، ولا تزل في صدمتها، وجلست قبالته، وهي تسأله في لهفة  : 
_ ميليا، كيف هي بعد ما خسرت أميرها؟ 
أطرق الشاب برأسه طويلًا، حتى حسبته لم يسمعها، وامتزج صوته بألم هائل وهو يردف  : 
_ لقد أبيدت ميليا من بكرة أبيها، ولم يعد منها إلا أعداد قليلة من العائلات، حتى عائلة صهيب. 
ترقرق الدمع في عيناي دارين، وهي تردد  : 
_ أُبيدت! 
واستطردت في اهتمام  : 
_ ما حدث لعائلة صهيب! 
أطل وجع هائل في عيناي الشاب، وهو يقول  : 
_ لم يعد منها إلا إبنه الأكبر وأخته الصغيرة فرحة، وقريبته جودي. 
وكانت صدمه حقيقية لدارين .. 
صدمة قاسية .. 
مؤلمة .. 
فظيعة .. 

             💦 لا إله إلا الله 💦

( ميليا) 
إنطلق شاب راكضًا، و وثب على صهوة جواده، وجذب عنانه، وضرب بقدميه جانبي الفَرَس الذي أطلق صهيلًا طويلًا، ورفع قامتيه الأماميتين وأنطلق بصاحبه. 
و وراء الشاب صاح صوت يهتف  : 
_  لا يمكنك فعل هذا لقد أسروه! 
فصاح الشاب بصوت امتزج بحوافر فرسه التي تنهب الأرض نهبًا : 



_ ويحك يا رجل .. وهل أجلس اتفرج عليهم وهم يقتلون كل الفنية والفنية واحدًا منا. 
لم يدرك إن صوته ضاع هباءً مع إنطلاقته. 
وأشهر سيفه قبيل وصوله إلى جنديين من جنود مملكة الأولمان، مع رجل من ميليا يبكي في انهيار، وهو يتوسلهما أن يخلو سبيله، فأطلق صيحة شرسة، جعلت الجنديين يلتفتان إليه، ويغمغم إحداهما ساخرًا  : 
_ هل أنتهى كل اهل ميليا ليرسلوا فتى لمقاتلتنا! 
في حين اشهر الآخر سيفه، وهو يقول بضحكة ساخرة: 
_ دعُه ليّ يا رجل، وخذ هذا الرجل للأسر .. هيا. 
انتصبت قامة الفتى الميلي على صهوة جواده، وجذب عنان فرسه أكثر وهو يقول له  : 
_ لنرهم يا صديقي. 
هُنا وذاد الفرس من ركضه وصهيله، وألتقى سيفاي الميلي، والأولماني بصليل مخيف برائحة الدم، ولم تدُم دقيقة وكانت المعركة تسفر عن نصر الميلي، فغضب الشاب الأولماني لصراع صديقه، واستل سيفه وانقض على الشاب الذي من ميليا ليهوى بالنصل الحاد على قلبه، وما كاد الشاب يرى إذ رجع برأسه للخلف، فشق السيف الهواء، واعتدل الشاب وهو يضرب بمقبض سيفه على مؤخرة عنق الجندي، الذي اندفع للأمام، لكنه تحكم في نفسه سريعًا، وذاد غضبه وهو يجهم على الشاب، صارخًا  : 
_ لا يمكنك أن تنجو منيَّ، ساقتلك يا فتى وامثل بجثتك! 
قبض الشاب بقبضتيه على مقبض سيفه في تحفز، وتلقى ضربة سيف الجندي عليه، والتقى السيفان، سُرعان ما دفع كُلاٍ منهما الآخر للخلف، وتلحما مجددًا، في صراع قاتل، إنتهى بإن هوى الشاب على ظهر الجندي بطعنة أردته صريعًا، وقفز معتليًا صهوة جواده، وهو يرفع الرجل، قائلًا  : 
_ هيا يا رجل أسرع، دعنا نخرج قبل أن يأتوا باقي الجنود... 

هُنا ونقول إلى اللقاء مع نهاية روايتنا، ومع ابطال عشنا معهم معاناتهم، ضحكنا لضحكهم، وبكينا لبكاءهم، وتألمنا لألمهم، كنا معهم لحظة بلحظة دون فراق، وها قد حان الفراق، وسنفارق روايتنا  الحبيبة، فأتمنى لو كانت خفيفة على قلوبكم، آنيسه لأوقاتكم، وإن وجدتم مني تقصيرًا فسامحونني. 
إن كانت آخر أعمالي وتناهى لكم خبر موتي فإدعوا ليّ بالرحمة والمغفرة. 

                       
هنا.في كرنفال الروايات  ستجد. كل. ما هوا جديد. حصري ورومانسى. وشيق. فقط ابحث من جوجل باسم الروايه علي مدوانةكرنفال الرواياتوايضاء  اشتركو على

 قناتنا        علي التليجرام من هنا

ليصلك اشعار بكل ما هوه جديد من اللينك الظاهر امامك

  🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹

                     تمت

لقراة باقي الفصول اضغط هنا


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-