أخر الاخبار

رواية رحيق الهلالي الفصل الثاني2بقلم داليا السيد


 رواية رحيق الهلالي

 الفصل الثاني2

بقلم داليا السيد

اتفاق 
ترنح جسده من ثقل المرض حتى كاد يسقط لولا أن شعر بيد رقيقة دافئة تسنده فرفع نظره إليها فقالت بقوة
“من أخبرك أنك الرجل الذي لا يقهر؟ تلك الحمى تحتاج يومان على الأقل راحة حتى تزول"



اندهش من لسانها ووضع ذراعه على كتفها النحيل وقال وهو يقاوم الدوار "هو بذاته الذي خدعك وأخبرك أنك الفتاة المنقذة، لا داع لكل ذلك لست بحاجة لك"





شعرت بثقل جسده الذي عاودته الحرارة وقالت بصعوبة "أعلم لأنك بحاجة لأن تغلق فمك المتكبر هذا وتعترف بمرضك"
كانا قد وصلا إلى الفراش فتركها وقد تساقط جسده على الفراش، لم تتركه وهي تساعده على التمدد بالفراش وقد غيم الظلام حوله وترك نفسه للدوار الذي تملكه فلم يشعر بشيء
وضعت الغطاء على جسده ووقفت تلتقط أنفاسها وهي تتأمله، كم هو عنيد ومغرور ولكنه جذاب و.. قطعت أفكارها وهي تستدير لتخرج ولكن صوته وهو يسعل




 أوقفها فاستدارت مرة أخرى ولم تعرف ماذا تفعل هل ترحل كما طلب منها؟ أم تبقى حتى يعود إلى وعيه ثم تقرر؟ نعم هذا هو الحل




عادت إلى الكمادات مرة أخرى وبعض الدواء وعصير الليمون الدافئ تجرعه رغم أنه ما زال فاقد للوعي..
بالسابعة دق الباب، فزعت وقد كانت منهكة من الليلة الطويلة عندما رأت جواد يطل برأسه من خلف الباب فاعتدلت بالمقعد وهو يقترب منها إلى أن وقف بجوارها وقال 
“كيف حاله؟"
ابتسمت وهي تداعب شعره الأسود وقال "بخير لقد زالت الحرارة لماذا استيقظت مبكراً هكذا؟"
نظر إليها وقال "من أجل المدرسة طالما أن فراس لن يقوم بتوصيلي"
تراجعت وهي تتأمل ملامحه الجميلة ثم قالت "هل تحب أن أقوم أنا بتوصيلك؟"
قال بتأني "لا، ربما لا يعجب ذلك فراس"
قالت "كما تشاء سأعد لك الإفطار وبعض الساندويتشات حتى تجهز"






لم يعترض وتحرك كلاهما لطريقه وقد تملكها صداع، أنهت الإفطار بذات الوقت الذي دخل فيه جواد بملابس المدرسة ونظر إلى المائدة وهتف 
“يا له من طعام شهي! كيف تفعلين ذلك وأنت مجرد مدبرة منزل صغيرة؟ من سبقوا لم يجيدوا فعل أي شيء"
رمقته بنظرة خاطفة قبل أن تجلس أمامه وتتناول قطعة خبز مع الجبن والزبد وقالت "علمتني جدتي الكثير، هل عمتك تستيقظ مبكرا؟"
تناول الطعام بشهية وقال "لا، إنها تنزل إلى الحديقة متأخرة ولا أعلم ماذا تفعل بحديقة جرداء مات كل شيء بها؟"
تأملت الطفل وقالت "ألا يعتني بها أحد؟"
مسح فمه بالمنديل وتناول كوب اللبن ثم قال "بالطبع لا، لا مال ولا وقت يكفيه، الأرض والحيوانات بالمزرعة تأخذ كل وقته لذا هو دائما مريض بسبب قيامه بكل شيء وحده حتى أمور البيت هنا منذ أن توقفت المدبرات عن التواجد"
وتحرك الطفل إلى الباب وقبل أن يذهب التفت إليها وقال "هل ستذهبين مثل كل من سبقك؟"






ابتسمت برقة وقالت "وماذا تريد أنت؟" 
لم تتغير ملامحه وقال "ما من أحد يرفض مثل هذا الطعام الشهي، أتمنى ألا تذهبي" 
ثم انطلق إلى الخارج وتابعته هي من نافذة المطبخ وقد تعلق قلبها به وشعرت بالأسى والشفقة تجاهه 





غسلت الأطباق وأعادتها مكانها ثم أعدت قهوة لنفسها ومشروب دافئ له وأخذت بعض الطعام وصعدت به مرة أخرى إلى غرفته 





كانت العاشرة عندما هبت مفزوعة على سقوط شيء بالأرض فاعتدلت وتناثر شعرها على كتفيها وهي تحدق به وهو يعتدل بالفراش وقد سقط كوب الليمون الفارغ على الأرض 
كان قد استيقظ ليراها نائمة على المقعد أمامه للحظة نسى أمرها ولكن سرعان ما تذكرها وتذكر ما كان بالليل وأنها ساعدته رغم أنه طردها وما زالت باقية ولم تذهب ومع ذلك تملكه الغضب مرة أخرى لوجودها غصبا عنه فنفض الغطاء عنه مما أصاب الكوب وأسقطه فأفزعها وانتفضت أمامه وهو يحاول أن يعتدل رغم ثقل جسده 
أسرعت إليه وساعدته ثم وضعت الوسائد خلف ظهره ثم التقطت الكوب فقال رغم الصداع الذي يأن برأسه "لا أعلم ماذا أفعل لإخراجك من غرفتي يا فتاة"
تراجعت بدهشة وقالت بغيظ "لا تكلف نفسك أي عناء فأنا راحلة فقط كنت انتظر إفاقتك وها أنت قد عدت"
تحركت لتذهب ولكنه تراجع بدون سبب وقال "أين جواد؟"
توقفت دون أن تلتفت إليه وقالت "ذهب إلى مدرسته بعد أن مر عليك وتناول إفطاره"
ضاقت عيونه الزرقاء وهو يتأمل قوامها الملفوف بزي رقيق وجميل ومكلف وتابعها وهي تكمل فقال "ماذا فعل معكِ؟"
التفتت إليه وقالت "لا شيء تناول الإفطار معي وشكرني عليه ورفض أن أقوم بتوصيله من أجلك"





حدق بها ثم أبعد عيونه وهو يبحث عن سجائره حتى عثر عليها فأشعل واحدة فأسعل فقالت بضيق "ألا يمكنك التوقف حتى تكمل شفائك؟"
نفخ الدخان بعيدا ثم قال "أنا كفيل بنفسي يا آنسة فلا داعي لنصائح لا معنى لها لست بطفل صغير"
هزت رأسها وقالت "نعم أنت على حق أنت رجل بالغ عاقل تدرك ما تفعل عن إذنك"
أسرع يقول "ألا تظنين أن وجودك هنا أمر مثير للتساؤل؟"
التفتت إليه مرة أخرى وقالت "ولماذا؟ أنا أتيت من أجل زيارة إحدى الصديقات ولكني لم أجدها وقتها كان الوقت متأخر ومطر ورياح وقد فقدت وسيلة المواصلات ووجدت الإعلان ثم وجدت رجل بحاجة للمساعدة قدمتها إليه رغم عدم اعترافه بها ثم عرفت أنكم لا تريدون إكمال إعلانكم ولا رغبة لكم بوجودي فسأرحل دون أي تساؤلات أخرى"
نظراته كانت ذات معنى وهو يقول "كيف لفتاة بعمرك هذا أن تعمل مدبرة منزل؟"
استوعبت الأمر وأدركت أنه فهم الإعلان على أنه طلب المدبرة وليس إيجار الغرفة، لا تعلم لماذا لم تحاول تصحيح فكرته ولكنه أكمل..
“بالتأكيد احتياجك للعمل هو ما دفعك للتشرد بوقت متأخر من الليل للبحث عن عمل، يبدو ألا أهل لك أو أقارب"
فتحت فمها لتخبره أنها ابنة المهندس اسماعيل أبو الدهب صاحب مصانع الأغذية والتي باعها قبل وفاته تاركا كل أمواله باسمها وقد تركت جدتها أم أمها أيضا أموالها لها، ربما ليس لديها أهل ولا أقارب ولكنها ليست متشردة كما يتصور فقط جرح قلبها هو الذي شردها هكذا، أغلقت فمها ولم ترد وأخفضت وجهها لن تخبره أنها ثرية لربما ظن أنها كاذبة أو لا تعلم ماذا سيفعل لو علم 
تأكد أنه على حق وأنها فتاة من الشارع تسعى إلى ملجأ ولكن سنها الصغير لن يمكنه من قبولها فأهل البلدة لن يتقبلوا وجودها ببيته هكذا لذا قال 
“حسنا ولكن لا يمكنك العمل هنا"
رفعت وجهها إليه وقالت "أعلم سبق وأخبرتني برأيك"
والتفتت لتذهب ولكنه استوقفها قائلا "لا، ليس الأمر كذلك وإنما لعدة أسباب أخرى أهمها لسانك السليط هذا، كذلك سنك الصغير هذا ما لن يتقبله أهل البلدة ببيت أنا به مع فتاة بعمرك"






قالت بضيق "حسنا ولكن أنا لست صغيرة كما تظن ولساني أمر يخصني أما أهل البلد فلا يمكنني التصرف حيال أفكارهم"
تأملها من خلف دخانه قبل أن يقول "لست صغيرة؟ تبدين بأوائل العشرينات"
هزت رأسها وأخفت نظراتها وهي تكذب "لا أنا بالخامسة والثلاثين يا سيد"
تراجع وهو يحاول التصديق ثم قال "ولو أني لا أصدق ولكن يمكنني أن اتغاضى عن السن ولكن الناس"
قالت وقد صمت "أخبرهم أني من أقربائك ومات أهلي ولم يعد لي سوى عائلتك وأتيت لأعيش معكم"
لاحت ابتسامة ساخرة على طرف شفتيه زادته وسامة وجاذبية وهو يقول "لهذا الحد تريدين العمل هنا؟"
احمر وجهها من كلماته الجارحة والوقحة وقالت رغم إحراجها "البحث عن العمل لا يعيب الأفراد يا سيد إذا كنت ترحب بوجودي فأخبرني وإلا فاتركني أرحل"
ظل ينظر بتلك العيون التي تشبه العسل الذي يأخذ من خلية النحل، وشعرها ذا اللون الغريب الذي لمع تحت ضوء النهار المجهد من ليلة شتاء قوية تركت آثارها عليه، وأخيرا قال 
“حسنا سأخبر الجميع أنك ابنة سهير قريبة أمي التي كانت تعيش بلندن مع والدها ولم يراها أحد منذ رحلت معه وهي طفلة عمرها شهور وقد توفت أمها دون أن تعرف ابنتها واليوم أنت عدتِ بحثا عن أمك سهير التي كانت تقيم معنا هنا قبل أن تموت، هذا أمر لابد ألا يعرفه سوانا"
هزت رأسها وقالت "وجواد؟"
قال "يمكنني التعامل معه، هذا فقط لأنني لم أسمح لامرأة تقل عن الخامسة والأربعين لأن تعمل عندي ولكن أنت بعمرك وشكلك هذا سيثير الكثير من الأقاويل وأنا لست بحاجة إليها ولكن لأنك بحاجة للعمل فلن أطردك للشوارع كي لا تتلقاك قسوتها ولكن لتدركي أن مرتبك سيكون زهيد جدا ومسؤولياتك كثيرة وقد لا تناسب الخمس والثلاثين عاما خاصتك"
هزت رأسها نفيا وقالت "لا دخل لك بعمري، ما يخصك هو عملي وغير ذلك لست مطالبة به تجاهك"









عاوده الغضب وقال من بين أسنانه "لسانك الطويل هذا سأقصه إن لم تحفظيه داخل فمك ولا تنسي أني سيدك"
نظراتها كانت قوية مليئة بالتحدي وهي تقول "إذن احفظ لسانك معي وأنا أعدك أن أفعل المثل والآن هل أذهب لإعداد الغداء؟ اقترب موعد جواد هل من مسؤولياتي توصيله من وإلى المدرسة؟"
حدق بها لحظة قبل أن يبعد وجهه ويستلقي بالفراش وهو يقول "طالما لست بخير، لو معك رخصة قيادة هناك سيارة أونو بالجراج يمكنك الذهاب بها المكان سهل فقط لابد أن تلفي من وراء ترعة الري"
ثم تركها وأغمض عيونه واستسلم للنوم الذي تملكه وغلب قوته
تابعته وهو يلتفت ويمنحها ظهره وقد تملكها الغيظ منه فهو حتى لم يشكرها على ما فعلته معه بل وجعل منها متشردة ولاجئة ومنّ عليها بوجودها هنا بمرتب زهيد، تحركت خارجة وهي لا تفهم نفسها وتتعجب مما فعلت وكيف وافقت على تلك الطريقة المهينة التي أظهرها بها وهي ليست بحاجة لكل ذلك وما عليها إلا أن تحمل حقيبتها وترحل من هنا ولكن..
توقفت يداها عن صنع الطعام وهي تتذكر مروان وخداعه وخيانته لها وتذكرت أنها رحلت لتهرب منه كي لا يجدها بعد تلك الرحلة التي كانت بها معه ومع صديقتها هند التي غشتها وظنت أنها أخته لتكتشف أنها عشيقته وقد دبر الاثنان الأمر لينالوا من مالها الكثير، منها تلك الرحلة إلى العالمين تلك المدينة الجديدة التي لا يدخلها إلا رجال الأعمال المعروفين أو مشاهير الفنانين الذين رأت 






البعض منهم كي يشاء الله أن يكشفهم لها من أول يوم وهي تستمع لحديثهم وتدرك خطتهم فعادت لتحمل حقيبتها وتترك ما دفعته لقاء الرحلة وتعود وقد انهار قلبها من وقع الغش والخيانة وتقرر الرحيل لأي مكان ولولا أن الوقت ضيق لسافرت إلى الخارج ولكنها لم تشأ أن يسأل مروان ويعرف مكانها فاختارت تلك القرية..
الآن تذكرت أن من الأفضل لها البقاء هنا في الخفاء لا يعرف عنها أحد شيء كي لا يصل لها مروان ويعيد ما كان
بالثانية عشرة رأت امرأة ستينية أو ربما أكبر تدخل عليها المطبخ فتوقفت عن العمل وهي تحدق بالمرأة التي فعلت المثل وقالت 
“والآن من أنتِ يا فتاة وماذا تفعلين هنا؟"
كانت ملامح المرأة تشبه فراس ما عدا الجسد الممتلئ والقصير، اعتدلت وقالت "أنا رحيق ابنة.."
تلعثمت وهي تتذكر الاسم ثم قالت "ابنة سهير التي كانت تقيم معكم قبل وفاتها الذي لم أكن أعرف به إلا عندما وصلت بالأمس"
ضاقت عيون العمة وهي تحدق برحيق وكأنها لا تصدقها ثم قالت "رحيق؟ لم يذكر أحد اسمك منذ أن أتيت أنا هنا بعد موت أمك ولكن لماذا عدت؟"
ارتبكت وقالت "مات أبي وقد أفلس ولم يعد لي مكان هناك فعدت أبحث عن أقاربي"
تحركت المرأة ببطء وجلست على مقعد المائدة وقالت "ومن سمح لك بالبقاء هنا؟"
قالت بتأني "السيد فراس وافق على بقائي نظير خدمتكم حتى يمكنني إيجاد أحد من أقاربي"
نظرت المرأة إلى أطباق الإفطار وقالت "وهل تجيدين ما تفعلين؟" 
انتبهت لنظراتها فأحضرت الأطباق أمامها وقالت وهي تقاوم إحساس من يدخل اختبار وينتظر نتيجته "يمكنك التجربة" 
أمضت المرأة وقت غير قصير بصحبتها وهي تعد الغداء ولكنها لم تكن ثرثارة وكلماتها حذرة وغير مفرطة وبعد أن تناولت الشاي الثقيل كما طلبت والقهوة السادة قررت النزول للحديقة كما أخبرها جواد بينما أسرعت هي تبحث عن الجراج والسيارة التي عثرت على مفتاحها معلق بحائط جانبي ثم أدارتها وانطلقت كما وصفت لها العجوز إلى مدرسة الصبي
أسرع جواد إليها عندما وجدها واقفة تتابعه من بعيد وهو يخرج بين باقي الأولاد في زي المدرسة وتلاقت نظرات كثيرة عندها ولكنها لم تهتم وهي تبتسم له وتقول
“لم أتأخر عليك؟"





قال "نعم هل وافق على بقائك؟"
نظرت له بدقة وقالت "تقصد من؟"
لم يركب السيارة وقال "فراس! هو لا يوافق على الفتيات أمثالك ودائما ما يختار امرأة عجوز لا تأتي إليّ وتتركني للمطر وحدي"
ملست على شعره وابتسمت بحنان وقالت "لقد وافق لأنني قريبتكم، والآن هل ترشدني إلى السوق لنبتاع بعض الأشياء"
هز رأسه وقال "نعم ولكن لنترك السيارة هنا الطريق لا يصلح لها"
أغلقت السيارة وتحركت معه وبدا السوق بسيط ولكن كل ما به طازج وجميل رغم تأخر الوقت، ابتاعت أشياء ضرورية من أموالها بالطبع والكثير من الحلوى لجواد مما أسعده جدا، وبعض الأدوات المدرسية التي طلبها فلم ترده وعندما دفعت المال سمعت فتاة تقول
“جواد؟ ما الذي أحضرك هنا؟"
التفت الفتى لها ثم قال "أهلا زينب، أتيت مع رحيق لشراء بعض الأشياء"
نظرت الفتاة التي لم تدخل العشرينات بعد إلى رحيق بعيون زرقاء ضيقة ووجه برونزي طويل ونحيف تحت طرحة تغطي نصف شعرها ثم قالت بعيون متفحصة 
“ومن رحيق هذه؟ وماذا تفعل معك؟"
قال الطفل "قريبتنا وهي أتت لتوصلني إلى البيت"
كل هذا ورحيق تحاول ألا تبدي اهتمام للفتاة التي بدت أصغر منها ولكن الفتاة قالت "وأين فراس؟"
تملكها الضيق من أسئلة الفتاة فقالت "ألا نذهب يا جواد كي لا نتأخر على موعد الغداء؟"
تحركت ولكن زينب وقفت أمامهم ونظرت بتحد لرحيق وقالت "انتظري هنا، ألا يمكن أن تكوني خاطفة لهذا الطفل"
وقبل أن تتدارك رحيق الأمر كانت زينب تصرخ بصوت مرتفع "النجدة، النجدة إنها تخطف الأطفال"
وتلفتت رحيق حول نفسها لتجد الجميع يهرع إليهم بفزع وهم يحيطونها وكأنها مجرمة ومطالب بإحضارها..
****
جذبه صوت الهاتف من غيبوبته وكأنه حلم بعيد ولكنه فتح عيونه بصعوبة ليتأكد أنه صوت الهاتف بالفعل وليس حلم فمد يده دون أن يعتدل وأمسكه ليجيب على صوت عمدة القرية الذي قال 






“أستاذ فراس أين أنت؟"
سعل قليلا قبل أن يجيب بتعب واضح "بالبيت يا حاج أحمد الحمى أصابتني،  ماذا حدث؟"
أجاب الرجل "هناك فتاة تدّعي أنها قريبتك وهي تأخذ جواد معها ولكن زينب ابنتي ظنت أنها تخطفه"
اعتدل بالفراش بصعوبة وهو يحاول أن يستوعب ما يحدث وقال "فتاة؟ أي فتاة؟ وما اسمها؟"
قال الرجل "رحيق نعم هذا هو اسمها كما تقول"
أشعل سيجارة وقال وهو يبعد خصلات شعره عن وجهه "نعم إنها قريبتي وهي تعرف جواد وهو أيضا يعرفها فلماذا كل ذلك؟"
ارتبك الرجل قبل أن يقول "معذرة يا بني إنها ابنتي التي ارتابت في الأمر آسف لإزعاجك وألف سلامة عليك" 
نفض الغطاء عنه ونهض والغضب يتملكه من تلك الفتاة زينب والتي لم تتوقف يوما عن مطاردته رغم أنه صدها كثيرا والآن تثير الجدل والقيل والقال حول تلك الفتاة من أول يوم لها
****
اشتبكت زينب مع رحيق وهي تحاول أن تمسكها بقوة وما زالت تصرخ حتى تجمع الناس ولكن رجل كبير تسلل من بين الجميع ليقف بين الفتاتين وهو يقول بغضب "كفى يا آنسة زينب كفى، ماذا حدث لكل هذا؟"
نظرت زينب إليها ثم قالت "تلك الفتاة تخطف جواد ابن الأستاذ فراس"
التفت الرجل الذي يرتدي ملابس الفلاحين إلى رحيق وتأملها قبل أن ينظر إلى جواد ويقول "جواد حبيبي من تلك الفتاة؟ هل تعرفها؟"
هز جواد رأسه وهو يلتصق برحيق وقال "نعم هي قريبتنا وتقيم معنا بالبيت وأتت لتأخذني من المدرسة بسيارة أبي"
نظر الرجل إلى رحيق ولكن زينب صرخت "لا إنه طفل ولا يدرك الحقيقة"
ولكن جواد قال بقوة "أنا لست بطفل وأدرك كل شيء ولا دخل لك بنا"
ربت الرجل على كتف جواد وقال "هيا فليذهب الجميع هيا، وأنت يا آنسة تعالي معي إلى بيت العمدة"
قالت رحيق بقوة وغضب "ولماذا؟ ألم تسمع كلمات جواد؟"
ابتسم الرجل وقال "نعم فقط نتأكد"
لم تجادل رحيق كي تتخلص من كل ذلك وقد فقدت أعصابها ولم يبتعدا حيث وصلا إلى بيت فاخر يجلس بحديقته رجل تبدو الهيبة على ملامحه وعرفت من الرجل أنه العمدة ثم عرفت أنه والد زينب، وبعد أن سمع لابنته 




وجواد ورحيق اتصل بفراس وتأكد من صدقهم فقال 
“نأسف يا آنسة على ما حدث وأرجو أن تعذري ابنتي في خوفها على الصبي"
هزت رأسها ورمقت زينب بنظرة غاضبة وقالت "نعم ولكن كان عليها التأكد قبل إثارة كل تلك الزوبعة التي لا معنى لها اسمح لنا حضرتك"
قالت زينب ببرود "وماذا تفعل شابة مثلك ببيت رجل عاذب وحدكما؟"
التفتت رحيق إليها وقالت "أولا فراس لا يقيم وحده وإنما عمته وابنه معه، ثانيا أنا قريبة والدته التي كانت تقيم معهم وليس لي أحد سواهم، ثالثا والأهم هذا أمر لا يخصك نهائيا، عن إذنك يا حاج"
وتحركت دون أن تمنحها فرصة للرد والغضب يسري بأوصالها وهي عائدة مع جواد إلى السيارة ثم إلى البيت في صمت لا معنى له سوى الغضب المكتوم..
عادت إلى البيت في صمت وضيق مما حدث وما أن دخلت حتى رأته يقف أمام النافذة يتابع وصولهم، تحرك جواد إليه وقال بضيق
“تلك الفتاة زينب مزعجة جدا فراس"
نظر إلى جواد بقوة وقال "لا تشغل بالك بها ألم ينتهي الأمر؟"
أجاب جواد "نعم، ولكن الجميع استمع لها وكادوا يمسكون برحيق"
نظر إليها ولكنها ابتعدت وهي تخلع معطفها وتتجه إلى المطبخ فقال "ولكنهم لم يفعلوا، هيا اغتسل واستعد للغداء"
ابتعد جواد فتحرك هو إلى المطبخ وتابعها وهي تعمل بمهارة وكأنها تحفظ ما تفعل فقال "تبدين سعيدة بعملك الجديد يا آنسة؟"
لم تنظر إليه وهي تقول "وأنت تبدو سعيد بخروجك من الفراش رغم مرضك يا سيد"
جلس على أحد المقاعد وقال "الحمى بالنسبة لي ليست مرض"
نظرت إليه من تحت أهدابها الطويلة وقد كان يلقي بدخان سيجارته بعيدا فقالت "وما هو المرض إذن؟"
قال بسخرية "المرض هو وجود امرأة سليطة اللسان بحياة رجل يكره ذلك، اسمعي لم تتقبلين العمل هنا وأنت تدركين أنه أكبر من قدرتك؟"
وضعت الأطباق والطعام وقالت "ومن منحك الحق بأن تصدر حكما بدون أي قرائن؟ أنت لك عملك وأنا علي أداؤه"







نهض واتجه إليها ووقف أمامها ولكنها لم تتوقف عن وضع الأطباق ولكنه قال "وإن لم تؤديه كما أريد لن يكون لوجودك داعي"
توقفت ورفعت وجهها إليه ونظرت له بتحد واضح وقالت "انتظر لترى إذن"
طالت النظرة إلى أن دخل جواد مسرعا وهو يقول "رائحة الطعام شهية رحيق، أنت ماهرة حقا، أبي هل رأيت ما أحضرته لي رحيق؟"
كان قد جلس بجوار جواد وقال "نعم جواد، وأنتِ اجلسي لتناول الغداء، عمتي ذكرتك وليست راضية عن وجودك" 
جلست لتتناول الطعام فلابد أن تفعل ثم قالت "وهل لابد أن تفعل؟ أم يكفي رأيك؟" 
اعترف بطعم الطعام الشهي ولكنه قال "لن أنكر أن رضاها يهمني" 
قالت "وما المطلوب مني؟" 
لا تعلم لماذا كانت حادة في كلماتها معه وتتخذ الهجوم وسيلة لها، لم يهتم وقال "لا شيء فقط كبار السن بحاجة لاهتمام أكثر لو أمكنك" 
هزت رأسها وصدقت كلماته وهي تقول "نعم أعلم" 
نظر إليها فقالت "كنت أعيش مع جدتي قبل أن ترحل من الدنيا" 
هز رأسه ولم يعلق وإنما اختار الصمت من أثر الصداع وألم جسده وما أن انتهى حتى انتبه إلى الأشياء التي أحضرتها فنظر إليها وهي تفرغها وقال 
“ما هذا؟" 
قالت "إنها أشياء اشتريتها اليوم وهناك الفاتورة" 
خرج جواد فقال بعصبية "ليس من اختصاصاتك شراء أي شيء تلك الأشياء ستكفيك حتى نهاية الشهر ولا تحاولي التصرف من رأسك الحجر هذا قبل الرجوع لي هل تفهمين؟" 
تلجم لسانها واتسعت عيونها وهي تقول "أنت تمزح تلك الأشياء لا تكفي اسبوعين حتى فكيف.." 






قاطعها بقوة وهو يرفع إصبعه للتحذير "هناك نظام يا آنسة وعليك اتباعه" 
ثم أخرج المبلغ المالي وقذفه على المائدة ثم قذف مبلغ آخر وقال "وهذا الجزء الآخر من المصروف وليس لك حرية التصرف بأي شيء خارج البيت إلا بعد الرجوع لي" 
ولم يمنحها أي فرصة للاعتراض وهو يتحرك إلى غرفة بعيدة لم تعرفها بعد فهي لم تستكشف ذلك البيت الذي هدمه الزمن بدون رحمه
حملت الغداء إلى العمة بغرفتها ولم تكثر من الحديث معها 
بعد الظهيرة كان لديها وقت كافي لاستكشاف البيت بغرفه المهجورة والمهملة ووضعت خطة طويلة الأجل لإعادة الحياة لهذا المكان وأخيرا دخلت غرفتها بتعب واضح فهي لم تنم منذ أن وصلت لهذا البيت 
غيرت ملابسها وأطلقت شعرها على ظهرها ولكن سرعان ما دق بابها فرفعته مرة أخرى وأذنت لترى جواد ينظر إليها ويقول 
“هل لي بمساعدتك بالواجبات المدرسية؟ عندي امتحان غدا"
ابتسمت بتشجيع وهي تهز رأسها بالإيجاب فأسرع إليها واندمجا سويا بدون ضجر أو ملل
لم تراه إلا عندما أعدت العشاء وصعدت به إلى العمة وعادت إلى الغرفة التي دخلها فدقت الباب مرتين ومر وقت كادت تذهب عندما أذن ففتحت واكتشفت بنظراتها أنه مكتب كبير به الكثير من الكتب ومكتب عريض انتشرت عليه أوراق كثيرة بدون نظام وغيم دخان السجائر على جو الغرفة فسعلت منه فقال 
“ماذا تريدين؟"
قالت "ما هذا الجو الذي تخنق نفسك فيه؟ ما زلت مريض وبحاجة لهواء نقي"
تراجع بمقعده وترك القلم الذي كان يمسكه بدون اهتمام وقال "ألم نتفق على أن تهتمي بشؤون البيت فقط؟"
اتجهت إلى زجاج النافذة وفتحته بإصرار رغم برودة الجو بالخارج وقالت "وأنا أفعل وإلا احترق البيت أو أصيب الجميع باختناق أو التهاب بالشعب الهوائية"







نهض واتجه إليها بغضب فقد أثاره تدخلها بكل شيء، جذبها من ذراعها بقوة فتراجعت وهي تنظر إليه بفزع وهو يقول
“اسمعي يا آنسة يبدو أنك لا تفهمين ما أقوله جيدا، عملك هنا خاص بالبيت وربما جواد وعمتي أما ما يخصني فلا علاقة لك به"
نفضت ذراعها منه وقالت بعناد واضح "ألا تعرف التحدث بلسانك يا سيد دون استخدام يدك؟ لا أحب أن يلمسني أحد، وإذا كان اهتمامي يضايقك فأعدك ألا أفعل وأنت حر بحياتك حتى ولو ألقيت بها بالجحيم"
كادت تتحرك إلى الخارج ولكنها لم تدرك أنها زادت من نار غضبه ونفخت فيه حتى وصل لذروته فلم يهتم لكلامها وعاد يقبض على ذراعها بقوة أكبر وقربها منه حتى تلاقت الأنفاس الحارة وكأنها لهيب النيران التي تستعر بقلب كلا منهما وقال وقد تلونت عيونه وفقدت لونها المميز 
“إلى هنا وكفى، أنا لست بحاجة إلى امرأة مغرورة سليطة اللسان لذا أنا اكتفيت منك ولا أريدك هنا لم أعينك كي تعلميني كيف تكون الحياة لذا اعتبريني استغنيت عن خدماتك"
استوعبت ما قاله وبالطبع لم تتوقع أن يطردها ولكنه فعل ولأن كرامتها ثمينة فقالت بتحد لم تقلل منه "حسنا وأنا راحلة، لن تتوقف حياتي على العمل عندك يا سيد، والآن اتركني ليس من حقك أن تمسكني هكذا"
استوعب نفسه وتلك الدموع التي تألقت بعيونها من ألم ذراعها فتركها على الفور وتحركت لتذهب لولا أن اندفع جواد مسرعا وهو ينادي 
“أبي، أبي عمتي، عمتي سقطت على الأرض فاقدة للوعي"
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-