
رواية كانت وما تزال
الفصل الثامن 8 والاخير
بقلم حكاوى مسائية
بعد أن اتفقوا على رايى،وارتاحت بعد الصلاة ،هاتفته تدعوه لوجبة غذاء بيت اسرتها.
غادر الطريق الرئيسية الى طريق متربة بين حقلي زرع ترعى به أغنام سيقان خلفها الحصاد ، ثم ظهرت شجرة كافور يختبئ خلفها بيت بسيط ، رفض أصحابه أن يصبح مسخا شبيها ببيوت المدينة ،فاحتفظوا ببناء الطين والتبن، جدران سميكة تمنع حر الصيف وبرد الشتاء ، وبهو واسعو دون سقف يتوسط غرفا كثيرة ،بعضها للخزين .
يقف على بابه رجل خمسيني ، يد حياة الريف ولفح الشمس اعطياه مظهرا أكبر من عمره.
نزل من سيارته قائلا:
-عساني لم أخطئ البيت .
فاجابه مبتسما
-وعساني لم أخطئ الضيف .
مد يده مصافحا
-نبيل مجدي .
-لم نخطئ إذن ،احمد الجامعي ،تفضل.
رجل رغم بساطة عيشه شامخ الهامة ، أدخله البيت كأنه يدخله قصرا ،وةأشار إليه لينحني حتى يلج الغرفة ذات الفراش المغربي بسيط الخامات.
-أهلا بك بني .
ماكاد يأخذ مكانه حتى لاحت له تتبعها سيدة قليلة الشبه بها ، تحمل صينية الشاي بينما أمها(كما خمن)بيدها طبق حلويات .
-اهلا وسهلا ، لعلك لم تته .
-أبدا، أدخلت الموقع لتطبيق الدليل على الخريطة وتبعت إرشاداته.
-ولكن الحر اليوم شديد ، ليس مناسبا للسفر ، لم افكر في هذا قبل أن اكلمك
-كأنني ولدت بأوروبا !!! انت لا تعلمين أنني كنت اقضي عطلتي بالبادية ، هناك أجد براحا لأعدو انا وخالي،فنخرج كل الطاقة المكبوتةفي ضيق شقة المدينة .
-وهل مازلت تذهب هناك ؟
سأله احمد
-للأسف ماتت جدتي ، هي ليست جدتي ولكنها أم جدتي التي ربتني مع خالي حسن ، أمي لا أعرفها ولم ارها .
ترحم عليها الجميع سواه ،مما أثار تعجب الزوجين .
غير الأب الحديث نحو أخبار البلد والطقس ،حديث عام،في انتظار الأكل.
لم يطل الانتظار إذ جاءت غالية تدعوهما الى غرفة أخرى حيث أعدت مائدة الغذاء ، سعدت العمة بمديح نبيل وتلذذه بطعم الأكل ، قبل أن يحمد الله على نعمه .
-تشرب شايا او قهوة ؟
-قهوة يا أمي، السيد نبيل يفضل القهوة بعد الغذاء .
جواب أسعد شخصين ،العمة بنداء أمي، ونبيل لأنها تذكر أنه يفضل القهوة ،إذن فهي تهتم.
-أعديها انت غالية ، وانت يا أحمد ،خذ نبيل الى المجلس تحت ظل الشجرة .
المجلس تحت شجرة فيء شجرة الكافور بطاطين من صوف على حصير من دَوم ، تركه أحمد واستأذن ليقيل كما اعتاد بعد الظهر ، الجلوس على الأرض صعب بالنسبة له ، تعذر تني ركبته جعله يستند على الشجرة وينزلق بروية حتى مدد ساقيه واتكأ على جذع الشجرة ،ثم جعل بينها وبينه وسادة من الوسائد المنثورة على الفراش.
جاءت غالية تحمل القهوة ، تذوقها ،تماما كما يحبها
-أذكر أنك كنت تقدمينها لي فقط ،فكيف عرفت كيف أحبها .
-بكل بساطة ،كنت أرى كيف يعدها لك طاهر بينما انتظر لأحضرها لك .
-هذا يعني أنك تتعلمين بسرعة .
-عن اية سرعة تتحدث ،تخيل كم عدد المرات التي رأيته يعدها ، حتى أغبى الناس كان ليتعلم.
ضحك على استنكارها، ثم لمح :
-كنت آمل جوابا غير هذا ، ما علينا ، هل فكرت في عرضي .
-دع ذلك جانبا ،وأحبني، لماذا ظننت أنني رفضتك بسبب ماتسميه عجزك ؟
-صراحة بصراحة ؟
-بمعنى؟
-أحكي لك قصتي ، وتصارحينني إذا سألتك.
-اتفقنا ،هيا أخبرني. أولا كيف أصبت؟
-متأكد انك لست من هواة كرة القدم .
وماشأن الكرة وحديثنا؟
-لأنك لو كنت هاوية لها اتعرفت علي ، انا كنت لاعبا دوليا ،تتهافت علي النوادي العالمية ، إتقاني للعب وإحرازي للاهداف جعلني نجما ،وحنيت من المال ما أخرجنا من الفقر ، كما قلت أصبحت نجما ،المال والشهرة ،حلم كل الشباب، خطبت فتاة احببتها وظننت انها احبتني، حتى استكثر علي حاسد ما في يدي ، تعمد أن يوجه ضربته الى ركبتي ، لم يفلح علاج ولا تقويم، النتيجة استحالة أن اثني ركبتي .
-لو انتبهت إليه لتركت له الكرة ، هزيمة آنية ولا إعاقة دائمة .
-المؤلم أنه لم يكن من الفريق الخصم ،كان من فريقي ،وأظهرت التسجيلات أنه تعمد إصابتي ، حوكم وفقد سمعته ،رفضه النادي وتجنبته جميع الفرق، ولكن بم أفادني كل ذلك ، كما قلتِ ها أنا بإعاقة دائمة .
شردت كأنها تحدث نفسها
-جاءتك الطعنة من حيث لم تحتسب ، ممن أمِنت إليه.
-بعد علاج طويل ،و تأكيد الطبيب على إعاقتي، خبت أضواء الشهرة ، فاختفت خطيبتي ، ولم تكن وحدها ، زوجة حسن والتي كانت صديقتها هي أيضا هجرته وتخلت عن ياسمين ابنتها.
-وما شان حسن بإصابتك؟
-اللعب أدر مالا اسسنا به شركة استيراد وتصدير ،كانت في بدايتها حين أصبت، طبعا ظنت زوجته أن الينبوع قد نضب ،لا لعب لا مال ، وهي وصديقتها اعتادتا الإنفاق والمظاهر، الحمد لله لم تكونا تعلمان بأمر التأمين ، كل ناد يؤمن على صحة لاعبيه ،وخصوصا على إصابات القدم ، اخذت نصيبي من التعويض ،وبع بدأت سلسلة المطاعم ،أما الشركة فاجتهاد حسن وتخصصه في التجارة وإدارة الأعمال ساعدانا كثيرا .
- الجميل هو جبر الله لكسر النفس ،عوض يخلف به ماضاع وقد يزيد .
-الثمن لم يكن هينا ، بعد الجري والقفز أصبحت أجد صعوبة في الحركة ، لم تريني وأنا احاول الجلوس أرضا، كأنني أحرزت هدفا.
-هو قدرك ، تصور لو أصبت وانت طفل ، قدرك أن تصاب ركبتك ،ولكن الله احاطك بلطفه، أصبحت لاعبا ثمينا، لتحصل على تعويض يغنيك ،وتنشئ شركة ثم سلسلة مطاعم ،عمل لن تحتاج فيه للياقة بدنية ، لطف الله يا سيد نبيل يهيئ لك الأسباب لتتجاوز محنتك.
-عرفت حكايتي ، فهل لي أن أعرف ولو القليل عنك .
- صراحة بصراحة ، دعوتك اليوم لأعرِّفك من اكون ، أعلم أنني سأودعك سرا دفينا، ولكنني أكيدة انك ستحفظه مهما كانت الظروف ،فهل انا محقة ؟
-لن أقول لك في بئر ،جائز أن يمر على البئر من يخرج السر ، ولكنني أقسم لك بكل غال أن سرك سيبقى بقلبي دفينا كما هو بقلبك.
-انا لست غالية ، اسمي بهية ،بهية اليعقوبي ، من قابلتهما اليوم هما عمتي وزوجها .
استقر بصرها على الأفق البعيد ،وحكت له قصة بهية
-بعد أن صفعها أبوها وقعت مغشيا عليها ، سواء من قوة الصفعة او من حرقة قلبها ،حملها أبوها الى البيت
-بهية ،ابنتي ما بها؟
-ضاعت بهية ، ضاعت بهية يا أم بهية
نواح ولطم خرج على إثرِه علي من غرفته ،أخته مسجاة على الأرضسها بحجر امه، وابوه جاث جوارها دموعه سيل على وجنتيه.
-ما الذي حدث ،مابها بهية ؟
-اضعت بهية ، سلمتها بيدي لذئب افترسها ، قال أنه سيرافقها حتى البيت فاتمنته عليها ، خان الأمانة وأضاع بهية .
عرف علي من يكون
-والله لأقتلنه. الخسيس ابن الكلب.
دخل المطبخ وتسلح بأكبر سكين وهم خارجا ،لتصيح أمه.
-أدرك عليا ،سيضيع نفسه .
هب أبوه يحكم ضمه
-الق السكين علي ،لابد أن الجبان احتمى بوالده، لن تطاله ولدي ،لا تقهر قلبي عليك.
انهارا باكيين، مصابهما كبير ،بهية وعرض وشرف ،سمعة قد يشوهها الشيخ ليبرئ ابنه.
-وثأر بهية ابي ،انتركه؟
-مهنا ثأرت ، حتى لو قتلته ،لن تعود بهية ،بهية ماتت ،ماتت بهية .
مافتئ يعيدها :ماتت بهية ،ماتت ابنتي ،ذبحها ابن الشيخ وانا من سلمتها له بيدي .
ثم نظر فجأة إلى زوجته
-ادخلي بهية إلى فراشها يا أم بهية، دثريها وتعالي .
بعد أن فعلت ، جلس يخبرهما بما قرر.
-سنأخذها الى اختي حسنية ، تعيش معها ، ابعدها عن الشيخ وابنه ،وعن ذكراه.
لم يجادلاه، بل أسرع علي يحضر سيارة أجرة ،أخبر السائق أن أخته مريضة وسيأخذونها عند عمته الممرضة بإحدى أكبر المستشفيات.
حسنية لم تروق بغير غالية التي ماتت وقد تجاوزت العشر سنوات بشهور قليلة ، دفنتها بحديقة البيت ،هناك حيث يتوسط قبرها تلك الدائرة من شجيرات الورد تمنع عنه الوطء،لم تستخرج لها شهادة وفاة ، لأنها عانت شهورا من إنكار وفاة وحيدتها.
استقبلهم احمد وحسنية ، وعلما ما حل ببهية التي كانت كلما أفاقت من غيبوبتها تبكي وتصفع وجهها حتى تغيب مرة أخرى.
-سأذهب إلى صديقة لي طبيبة ،تصف لي مهدئا ودواء مساعدا، انتبهوا لها حتى أعود .
عملها السابق كممرضة ،اعلها لتعتني ببهية ، تحقنها بالمهدئ كل مساء ، أما نهارا فكأنها تهرب إلى النوم من واقعها المرير.
يوما بعد يوم تماثلت بهية للشفاء ،ولكنها لا تتكلم بل لا ترفع بصرها عن الأرض، وحسنية تفكر في مخرج لأخيها وابنته من مصيبتهم.
كانت مستلقية على فراشها ،تنظر إلى السقف وتشابك أنامل يديها على صدرها .
-ماذا لو عادت غالية يا أحمد؟
-ومتى رجع ميت من قبره حسنية؟
-تعود بجسد آخر ، جسد بهية .
قفز كالملسوع
-استغفري ربك حسنية، بهية ليست غالية ،نعم هيةفي مثل عمرها لو عاشت ،ولكن غالية لم تكمل الحادية عشرة من العمر ،ولا درست كما درست بهية.
-غالية لم تمت فيىالسجلات هي حية ترزق،وبهية قتل الخسيس روحها ،ألا تراها جسدا دون حياة ،ترفض الكلام ،ترفض أن تنظر بعين أبيها او أمها او اخيها كأنها تعمدت أن تجلب لهم العار ،بهية انتهت، وحتى تعود لأعطيها الحياة التي لم تعشها غالية .
-نامي يا حسنية نامي هداك الله.
لم تعره جوابا وأكملت حديثها
-ملف غالية الدراسي احتفظ به ،بقليل من المال وهدية لمستحقها يوضع عليه رقم بهية الوطني، سأهتم بها ،وأعالجها بمساعدة دكتورة نفسية من معارفي ، تجتاز امتحان الباكالوريا وتتخطى حياتها السابقة .
أخبرت أخاها وزوجته بما انتوت، طبعا ناحت أم علي وبكى علي و غص أبوه، ابنته ستنسب لغيره ،ستنمو بغير أرضه، يا الله أي ألم هذا .
-وبهية ،ابنتي هكذا ستختفي؟!!!
أم علي لا تريد ،لا تقبل أن تموت بهية وإن على الورق.
-بهية ستعيش، سنغير اسمها ،و تبدأ حياة جديدة ، بعدها عن مكان الحادث سيساعد على تخطيها ازمتها، بهية ستكون بخير ، نعم ستشتاقين وجودها معه ،احاديثها التي تصيبك بالصداع وتتظاهرين بالاهتمام ،ستشتاقين الى وقوفها بجانبك وانت تطبخين ،ستشتاقين الى تسريح شعرها وهي تطالبك بتسريحة لا تعرفينها ، نعم ستشتاقين حتى لغضبك منها وصراخك عليها،ولكنها ماتزال هنا ،ويمكنك رؤيتها وضمها الى صدرك متى شئت.
-ونعود دونها عمتي؟
-نعم يا بني، عالم بهية قد دمره مغتصبها ، قد تعود معكم ،ولكنها ستعاني من تبعات الحادث، ستقتلها نظرات الاتهام بعيون ونظرات شفقة بأخرى ، كلام جارح من هاته وإشارة من تلك ،همز ولمز ، جحيم على الأرض قد لا تتحمله .
تحدث الأب مقررا:
سنعود دونها، ونقول انها مرضت وتوفاها الله بالمستشفى .
علا وجيب أمها بينما انتحبت هي بالغرفة حيث يظنونها نائمة لم تسمع ما يقال.
في الصباح ،حاولوا جميعا إقناعها بما قرروا ، لم ترفع عينيها ولم تحرك ساكنا ،فقط دموعها هي الدليل على انها تسمع وتتألم زربما ترفض ولكن ما باليد حيلة .
عادت الأسرة ناقصة ،وأقيم العزاء ،وماتت بهية .
اعترض ابراهيم عليا يوما،وسأله عن قبرها ،ولماذا دفنت بغير مقابر البلدة ، علي كأنه كان ينتظر سؤاله ،سبق و كوم تراها وحصى بالمكان حيث انتهكت اخته،وجعله على هيئة قبر وعلى رأسه وضع حمرا كبير صلدا كأنه الشاهد .
-تسألةعن قبر بهية ، تعال معي .
أحكم قبضته على ساعده وجره نحو شجرة الأركان، أشار الى ما يوحي أنه قبر
-هاهي بهية ،دفنها ابي حيث ذبحتها ، تلك الليلة ضربها حتى ماتت تحت يده ،ودفناها حيث فعلت فعلتك وهربت .
-لم أهرب، تبعتها ولكنها لجأت إلى ابيك ،هربت مني إليه ولكن بعد فوات الأوان، عدت الى البيت وحكيت لأمي واتفقنا أن نأتي في صباح الغد لنتفق على كتابة عقد الزواج .
-بعد ماذا ؟ وهل تظن أنني غبي لأصدقك ؟
-صدق أو لا تصدق ماعاد يهم الآن .
وهكذا ،ماتت بهية ودفنت ،وبعثت غالية بعد شهور علاج ومتابعة .
-انت قوية بهية .
-لا ،لست بهية ،انا غالية ،الميت لا يعود سيد نبيل .
-ولكن غالية عادت .
-عادت في جسد بهية التي قتلت روحها على يد من اؤتمن عليها ، القبر هناك ربما لم يحفر ،ولم يضم جثة ،ولكن ترابه تشرب دمها ،ومعه روحها ،علي كأنه احس ان هناك انتهت بهية وهناك دفنت فبنى لها مدفنها.
أما أنا فغالية حسنية واحمد ،غالية ابي وأمي وأخي،غالية نفسي.
-وغاليتي.
رفعت كفها أمام وجهه
-انتظر سيد نبيل ، فكر ، انا صحيح غالية ،ولكن الجسد لبهية التي انتهكت، امنح نفسك وقتا لتفكر ، ألن تعيرني يوما بنقصي ، بشيء اخذ مني رغما عني ؟
لا تأخذك الشهامة ، ليس الأمر حاجة لعمل يساعدني على مصاريفي، هو قرار حياة ، خذ وقتا كافيا ومحص الأمور من جميع جوانبها قبل أن تقرر .
-سؤال واحد ، أنت، هل تجاوزت حادث اغتصابك، الن يؤثر على علاقتك ،أعني، أعني..
--فهمتك، ، بفضل عمتي والعلاج النفسي ،والاهم قربي من الله استطعت تجاوز الأمر، وساعدني بعدي عما يذكرني به، أما عن ما سألت عنه فلا أعلم ،لأنني لم أسمح يوما لشاب أن يتقرب مني ، كما ترى أضع حواجز حولي بلباسي وتعاملي الضيق معهم ،حتى زميلاتي لا أتجاوز معهن حدود الزمالة ،حتى سلمى لاةتدري عني غير ما أظهر لها ،حتى أنني لا أزيل خماري بوجودها.
ودعهم ورحل ،ولم يتكلموا عن زيارته بعده كأنه لم يأت.
قصد البيت الذي لم يقترب منه منذ زمن ، قد غيروا الباب بآخر من حديد ،طبعا بعد غدرك لن يأمنوا حتى للقطط. هكذا حدث نفسه وطرق
اجابه علي
تريث صالح انا قادم.
تنحى جانبا وانتظر. بعد برهة خرج علي
-أين أنت صالح ؟
-ليس صالح إنه انا.
-كيف تجرؤ ؟
-حان الوقت لأجرؤ ، غدا أهاجر، إنما جئت اودعك .
-وما شأني بك ، هاجر او لا تفعل ،متى اتصل حبل الود بيننا لتودعني.
-مهما عاديتني لا ألومك، تظل أخ بهيتي.
-لا تنطق اسمها
-بل انا من يحق لي ذكرها ، لا تقس علَيَّ علي، ماعاد بالفؤاد موضع اصبع لا يتألم.
-لماذا ؟ لماذا فعلت فعلتك وخنت الأمانة؟
-غباء ، علمت أن أبي لا ينوي أن يزوجنا ،وأنه يظن أنها نزوة شاب ستخبو مع القرب ،ولهذا قبل أن يتقدم وخطبها من أبيك، قررت أن اضعه أمام الأمر الواقع، كانت قاصرا وسيخاف أن اسجن فيزوجنا ،ولكنها لم تنتظر ، ما إن خرجت من حصار يديَّ حتى انطلقت كالسهم نحو أبيها، قلت غدا ستهدأ و أعقد عليها ،ولكن امر الله نفذ.
-نفذ فيها وعشت انت.
-من قال أنني اعيش، وكيف أحيى من غير قلب وقد كانت نبض قلبي ،كيف أحيى وقد رافقتها روحي ، بهية تحتل كياني وتسري مني مسرى دمي . حاولت ولم استطع ،ترافقني بهية في حلي وترحالي، لا أقبل الحياة دونها ،ولا تحلو لي الأحلام إلا لو كانت بها.
دموعه كأنها لا تنضب، وخلف الباب تقف تستمع له ، تريد أن تخرج له وتضربه حتى تدمي وجهه ثم تضمه لتواسيه.
-دعني اضمك علي ،لعلني اختزن بصدري أثرا منها.
خرجت باكية
- ولمَ ترحل إبراهيم ؟
-لأنني حاولت الحياة هنا ولم استطع .
-بهية عاشت ماكتب الله لها ، أينما كانت فقد ارتاحت، ارح نفسك واشفق على قلبك بني ، سمعت كلامك لعلي ،مادمت لم تقصد أذيتها فأنا اسامحك ، يكفيك تعذيب لنفسك وأمك ، ارح قلبك بني وطمئن أمك ، لن تسعد بهية بعذابك، انا متأكدة أنها سامحتك حيث هي .
ومن خلف دوى صوت آخر
- وعدتني يومها وعدين ،أخلفت أحدهما، فما حال الآخر .
-أخلفت الوعد و نقضت العهد وخنت الأمانة ، فكيف ألقى وجه الكريم ؟
-وعدتني أن تحفظ القرآن أم تراك نسيت سباقنا؟
-ما نسيت وما وفيت عمي ، أملي أن تسامحني وتغفر زلتي .
-كما قالت خالتك ام علي ، هو قدر ولا اعتراض على قضاء الله، فلنغفر كما نحب أن يغفر الله لنا ، اِذهب بني وسامح نفسك ، معدنك طيب وإلا كنت استصغرت ما حدث واستهنت به كما يفعل أشباه الرجال ، صدق حبك لابنتي يشفع لك ، هون عليك ويكفيك ما ضاع من عمرك ،عد الى والديك ، عش حياتك ،وانجب لنا بهية صغيرة .
-نعم بني لي عليك أن تسمي ابنتك بهية .
اجهش باكيا :
-سامحيني خالتي ؟
مد يده مودعا ،وفاجأ عليا بضمه إلى صدره وهمس بأذنه
-لا تنس أن تزور بهية مل يوم علي .
انهارت دموع علي ،اشفق عليه فاي حب يحمله في قلبه هذا العاشق.خطرت له فكرة فقال:
-هات بريدك الإلكتروني قد اراسلك يوما .
أسرع يدونه له على هاتفه ، آملا في تواصل مع أخ حبيبته.
مر على قبرها ،وتمدد جواره
-بهيتي ،ساغيب عنك ،ولكنك معي أينما كنت ، سامحيني بهية وادعي لي حبيبتي ، انتظريني فلن أطيل الغياب حبيبتي وقد تعب الفؤاد من الفراق.
اقترب موعد الفجر ،فتذكر حديث والدها
-سأذهب بهيتي ، اريد أن أفي بوعدي لابيك ، سألجأ إلى ربي لعله يردني إليه ردا جميلا ، الى اللقاء حبيبتي.
تجلس وحيدة على فراشها تبكي حظها العاثر ، هو لا يحبها ولا يقبلها في حياته ، لا أمل لها فيه وقد جن بحب أخرى ، أخرى ماتت قتيلته هو وأبيه.
هل تعود إلى بيت أبيها ؟ وماذا سيقال عنها وقد عادت بعد شهر من زواجها؟ هو قرر الهجرة ،إذن فلتبق، تقضي شهورا معظم أيامها ببيت أبيها بحجة سفر زوجها، ثم تطلب الطلاق لنفس السبب.
ارتاحت لهذا القرار ،فنامت من تعب التفكير وإجهاد البكاء.
سمعت صوتا يرسل القرآن فخرجت من غرفتها حيث اعتزلت منذ حادثة بهية ، حزن ابنها وتعنت زوجها أغضبها فهجرت جناحهما.خطت نحو الصوت ،ثم وقفت تتأمل وحيدها يصلي
-يا الله! اول الغيث قطرة .
سلم ،فرآها مد يده إليها فجاورته على السجادة .
-عودا حميدا بني.
-بإذن الله، ذهبت لأودع عليا، فإذا بهم جميعا وقد سامحوني أني ، ذكرني أبوها بوعدي له أن احفظ كتاب الله، نصحني أن ألجأ الى الله وارجوه أن يرحم ضعفي وقلة حيلتي ، سامحتني أمها ودعت لي ،اوصتني بك ، ورجتني ألا اسافر ، قالت لي سامح نفسك بني وعش حياتك ، تخيلي أني انها طالبتني أن انجب بنتا واسميها بهية .
تسابقت دموعهما ، وضمته كأنها تريد أن تعيده الى رحمها وتخفيه عن آلام الحياة .
من ورائها رآه يقف دامع العين ،فقام إليه وقبل يده
-سامحني أبي.
التفت إلى أمه
-يكفي بعادا أمي ، أعيدي إليه حبيبته وعودي إلى حبيبك ، يكفي بالبيت عاشق واحد مكلوم.
أوصيك أمي بابنة الهواري ، احسني إليها حتى تذكرنا بخير. واوصيك ببهية لا تقطعي زيارتك لها ،ولا صحن الحناء كل خميس ، أعلم أنك من تخضبين شاهد قبرها بالحناء ، زورينا أمي وحدثيها لتأنس بك ، بلغيها أشواقي أمي وقولي لها أن تنتظرني.
وهكذا غادر يبحث عن الخلاص بعيدا عن أرض الذكريات ،لعله يجده حيث لا ريح بعبق بهيته.
أما غالية ،فبعد شهور هاهي تحتفل بخطبتها لنبيل ، حاول علي أن يقنعها بمراسلة إبراهيم ،تخبره بحقيقة ما جرى ،ولكنها رفضت واقنعته برايها:
-ليس من مصلحته أن يعلم ، إبراهيم نعى بهيته وأقام سرادق العزاء عليها بصدره، كل شيء يولد صغيرا ويكبر إلا الحزن يولد كبيرا ويصغر ، اي نعم يبقى رغم صغره بمكان ما بالقلب ، ولكنه لا يؤثر ، إبراهيم بنى سجنا يعاقب به نفسه على ما ارتكب ، سفره سيحرره، تماما كما ساعدني البعد والتغيير على العلاج وتجاوز ما حدث.
لو بقيت هناك ،سيعقد علي ابراهيم ، لم أكن مغرمة به ،وبعد جريمته ربما كرهته ، سيخبو حبه أمام برودة مشاعري ، سارفض اقترابه مني ، وتصبح حياتنا جحيما.
سفر إبراهيم هو أول خطوة نحو شفائه، إن علم بوجودي سيعود ، سيطالب بي كحق مكتسب باسم عشقه لي ، وباسم عذابه في بعدي ، وانا ماعدت بهية ،أنا غالية ، وقد اخترت حياتي بعيدا عنه وعن البلدة ، بهية ماتت يا علي ، اختك السعيدة ماتت ، وحيث شيدت لها قبرا مزيفا دفنت فعلا، هنا ،بداخلي أثر جرح لو عادت بهية سيعود وسيدمرها .
دع إبراهيم يبحث عن خلاصه ، سيجده مادام ابتعد عن ذكرياته واقترب من الله ، يوما ما سيطمئن قلبه وسيعود .
أما أنا فانوي أن الد بهية صغيرة ، أدللها و لا ااتمن عليها غريبا.