رواية زاد العمر وزواده الفصل العاشر 10بقلم رضوي جاويش

     


رواية زاد العمر وزواده

الفصل العاشر 10

بقلم رضوي جاويش



دخل المعلم خميس شقته ليهتف بنعمة وكذا ناصر وشيماء الذين تحلقوا حول المائدة في انتظار وضع صحون العشاء : إيه الدماغ دي !؟ حجر صوان .. والله ما فرق حاجة عن جده زكريا .. وعمه حمزة .. حتة دماغ صعيدي إيه !! .. ملهاش حل .. 

قهقت نعمة مؤكدة : أه والله .. ما حد شاف زكريا ولا عاشره أدي .. من قبل جوازه ببدور الله يرحمها .. مكنش يقبل على نفسه لا لقمة ولا هدمة مدفعش تمنها لو هيموت من الجوع .. كانت نفسه عزيزة قووي .. 

أكد خميس : أهو ده شرحه .. أقوله وأنا معدي ع الورشة .. تعالى يا راضي اتعشى معانا .. وده أبدا .. اجيبه يمين احلف شمال .. مفيش فايدة .. 

ابتسم ناصر مؤكدا : الشهادة لله واد أخلاق وعينه مبتترفعش عن الأرض .. بيجلنا زباين حريم أشكال وألوان .. مرفعش عينه فواحدة فيهم .. دول حتى بيخافوا منه .. 

قهقت شوشو هاتفة : ليه هياكلهم !! 

أكد ناصر ضاحكا : لا .. بس طريقة كلامه معاهم شديدة .. والنسوان عايزة ال.. 

هتفت شوشو تقاطعه في حنق : عايزة إيه ! 

انفجر كل من نعمة وخميس في الضحك .. ليهتف خميس ساخرا : جالك الموت يا تارك الصلاة .. 

هتف ناصر يحاول الخروج من المأذق الذي وضع نفسه فيه متصنعا الحنق : يا بت يا نعمة .. فين العشا !! .. هو إحنا هنتسحر ولا إيه !؟ .. 

هتفت نعمة من داخل المطبخ وقد تركت ما كانت تصنع تسترق السمع لحديثهم عن راضي في اهتمام : حالا أهو يا بابا .. الأكل جاي .. 

وبدأت بالفعل في تحضير المائدة .. أكدت عليها أمها هاتفة : روحي نادي على أخوكِ يطلع يتعشى .. وأنا هجيب باقي الأطباق.. 

اندفعت نعمة تضع غطاء رأسها بشكل عشوائي لتطل من الشرفة هاتفة تستدعي نادر .. لكن من ظهر من داخل الورشة كان راضي الذي رفع ناظره لثانية واحدة حتى يعلم من أين يأتيه النداء .. قبل أن يخفض ناظريه تأدبا هاتفا يبلغها : نادر راح مشوار سريع وراچع .. خمس دجايج وأول ما يوصل هجوله يطلعلكم .. 

هتفت نعمة : شكرا .. 

هز رأسه واندفع لداخل الورشة من جديد .. لتتطلع لموضع غيابه لبرهة قبل أن تعود للداخل .. 

انشغل راضي بتلك القطعة التي كان يعمل عليها لكنه تنبه لصوت امرأة يصله مرتفعا عن طبيعته .. ترك ما كان يعمل عليه وخرج من الورشة متطلعا حوله يحاول استطلاع مصدر الصوت فإذا بها حُسن تهتف في حنق لشخص ما .. اندفع نحو ورشتها هاتفا في حزم : إيه في يا ست حُسن !؟ .. 

هتفت حُسن في ضيق : ببيع اللي بنتعب فيه بخسارة يا باشمهندس راضي .. 

تطلع راضي لمحروس متحدثا في هدوء : أنت اللي بتسوج لها البضاعة .. مش كده !؟ 

هز محروس رأسه في إيجاب يتوجس من ظهور راضي الذي لم يكن فالحسبان ..فبعد ما أشيع عما فعله بقدورة والكل يخشاه .. 

هتف راضي مؤكدا : يبجى أنت المسؤول عن.. 

هتف محروس مقاطعا في اعتراض : مسؤول عن إيه يا باشمهندس !!.. ده سوق وعرض وطلب .. والبضاعة متجبش أكتر من كده .. ده أنا كارمها عشان ظروفها و.. 

اندفع راضي ممسكا بتلابيه هاتفا : ابلع لسانك ومتنطجش بولا كلمة تاني وإلا هطفحهولك .. أنت هتچبي عليها بمالها يا عفش .. 

هتف محروس بأحرف مهزوزة يحاول التملص من قبضة راضي: خلاص يا باشمهندس .. هطلب سعر أعلى ولو مرضيوش هرجع لها البضاعة .. 

هتفت حُسن مؤكدة : أيوه كده تمام .. يا تعلي السعر يا ترجع البضاعة .. 

هز محروس رأسه موافقا واندفع ينفذ ما طُلب منه.. مخلصا نفسه من راضي الذي تركه يرحل في سلام هاتفا لحُسن : نصيحة لوچه الله يا ست حُسن .. الواد ده متشغليهوش معاكِ .. اسمعي مني .. ده ضلالي .. ويكون فمعلومك .. البضاعة تساوي أكتر من اللي كان عايز يديهولك .. بس هو مخنصر من الفلوس وحطهم فچيبه.. 

تنهدت حُسن وهتفت متحسرة : طب وهعمل إيه بس يا باشمهندس !!.. محوجاله .. والله ما عنديش مانع ياخد سمسرة أو عمولة ع التسويق للبضاعة بس كده هو ناهبني .. وأنا لسه عندي هم ما يتلم لازم يتسدد .. كان فيه اقساط وفواتير على أبويا الله يرحمه.. كل ده هيجي منين !؟ .. 

همس راضي مؤكدا : سبيها على الله .. كله هيتعدل .. 

همست حُسن : ونعم بالله .. 

وصل صبي القهوة الذي أرسله راضي لشراء بعض الشطائر من أجل العشاء.. تناولهم منه هاتفا بها : ياللاه بسم الله .. 

وفتح كيس الطعام مادا كفه يقدم إليها بعض الشطائر لتهتف في حرج : بالهنا والشفا يا باشمهندس .. ده واجب عليا .. ده أنت من ساعة ما وصلت الحارة ومجملتكش فحاجة.. اعذرني بقى.. ما أنت شايف بنفسك.. طول النهار فالورشة بخلص أموري .. 

أكد عليها راضي : مدي يدك متكسفنيش .. أهو يبجى عيش وملح .. 

مدت حُسن كفها في حرج تتناول من راضي ما جاد به من شطائر عشائه .. ليصل نادر في تلك اللحظة ليرى راضي مندفعا من داخل ورشتها في اتجاه ورشتهم وبكفه كيس الشطائر التي تحمل هي بعضها تقف على باب ورشة أبيها وقد بدأت في تناولها بالفعل .. 

لا يعرف ما الذي جعل ذاك الشعور السام يسري في شرايينه ويتوغل ليستقر بقلبه دافعا دمائه لتغلي غضبا .. مستشعرا قهرا عجيبا جعله يندفع صوب الورشة متطلعا لراضي الذي استقبله في بشاشة مبلغا إياه برغبتهم في تواجده بالأعلى .. 

حاول السيطرة على غضبه وكبح جماح غيرته التي كانت تعمي عينيه عن رؤية حقيقة الأمور .. تلك الغيرة التي لا يعلم حتى اللحظة أنها ها هنا كامنة بين طيات نفسه ..تنخر في ثباته .. 

هتف براضي متسائلا : هو في حاجة عند حُسن !؟ .. أصل شايفك جاي من عندها .. 

أكد راضي في أريحية وهو يقضم بعض من شطائره : لاه خير .. بس شكل الواد محروس ده مش هيچبها البر .. واضح إنه بياخد عمولة لنفسه من الباطن .. ويبيع لها البضاعة بملاليم .. 

هتف نادر في حنق : والله هي اللي غاوية تعب .. قلنا لها اقعدي معززة مكرمة ونجيب لك عمال تفهم فالشغلانة وحد واعي يدير الشغل .. رفضت .. وقالت فلوس أبويا وماله .. وديونه في رقبتي .. 

أكد راضي مدافعا : حجها .. هي حرة فمالها .. والشهادة لله .. الست حُسن دي ست ب مية راچل .. دي صنف من الحريم مبجاش موچود منه دلوجت يا نادر .. حُسن دي صنف نااادر.. 

تطلع إليه نادر في حنق ولم يدرك ما كانت ترمي إليه كلمات راضي .. كانت الغيرة ما تزل تغشى بصيرته عن إدراك حقائق الأمور رغم ظهورها جلية أمام ناظريه .. ترك راضي بالورشة واندفع في اتجاه بيت جده لتقع عيناه على حسن التي جلست أمام ورشة أبيها تتناول شطائر راضي ما أورثه حنقا مضاعفا ليتطلع إليها في غضب مكبوت مهرولا نحو درج بيت جده .. 

           ***************** 

تطلعت من فوق سطح السراي لعلها تلمحه قادما ..كان يسربلها شوقا هائل لمرآه قادما لطلب يدها .. لقد علمت بقدومه اليوم في  البارحة بعد أن هربت من أمامه حياء .. عندما وجدت رقم غريب غير مسجل لديها يرن على هاتفها .. لتفاجأ به .. 

أخبرها أنه اتصل بوالدها وحدد موعد بعد صلاة الظهر لمقابلته .. وها هي تنتظره ترافقها فريدة .. لقد كانت الوحيدة التي على علم بما ينتويه منتصر اليوم .. 

تجرأت ودقت على جواله ليرد في سرعة مازحا : والله ما هربت .. أنا جاي أهو .. ده إيه البنات دي !؟ .. أنت ما صدقت يا سيد !! 

قهقهت مؤكدة : أيوه بقى .. ويكون في علمك .. أنا علقة وزنانة ورخمة .. 

أكد منتصر مبتسما : على قلبي زي العسل. 

وغير نبرته متحسرا : وربنا يعني بقى .. 

أكدت بدور ضاحكة : ياااارب .. بص يا بني عشان نبقى على نور من أولها .. أكيد أنت عملت حاجة منيلة فحياتك عشان ربنا يبتليك بيا .. 

قهقه مؤكدا : والنعمة ما عملت حاجة .. ده انا غلبان .. بس عادي .. لو كان وجودك في حياتي تكفير عن ذنب حتى لو معملتوش أنا راضي يا بدور .. 

ساد الصمت بينهما ولم تعقب .. فقد دمعت عيناها .. ولم تدرك بما يمكن أن تجيبه .. وهل هناك كلمات يمكن أن تعبر عن احساسها في تلك اللحظة من الأساس !! 

همس متعجبا : بدور .. رحتي فين !؟ 

همست بصوت متحشرج تأثرا : انا معاك يا منتصر .. 

همس مؤكدا بعشق : وها تفضلي معايا يا بدور .. 

تطلع لبوابة السراي فهتف مسرعا : طب اقولك سلام مؤقت ..عشان أنا وصلت .. 

أكدت بدور : ما أنا عارفة .. شيفاك .. 

تطلع منتصر حوله رافعا ناظره لأعلى ليبصرها تطل عليه من سطح السراي ليهتف على الهاتف أمرا : مجنونة والله العظيم .. انزلي طيب بدل ما تخدي ضربة شمس .. الشمس النهاردة حامية .. 

أكدت بدور في محبة : طب لما تدخل الأول.. 

قهقه مؤكدا : والنعمة هدخل .. ده أنا لو معتقلني مش هيحصل فيا كده !! .. 

قهقهت بدور هاتفة : عريس يا بوي .. طخه بس متعوروش يابوي .. 

ارتفعت ضحكاته هاتفا : طب على ذكر السيد الوالد .. اقفلي بقى عشان هرن عليه أبلغه إني وصلت .. سلام .. 

استوقفته بدور هاتفة : منتصر !! 

همس في محبة : يا نعم .. 

همست بدور في حروف مبعثرة : أنا .. أنا.. 

هتف منتصر يستوقفها حتى لا تكمل : أنت إيه بس !؟ أوعي تنطقيها دلوقتي .. جاية تقوليلي الكلمة اللي مستني اسمعها بقالي زمن وأنا داخل اقابل أبوكِ .. 

أكدت هاتفة في مزاح : أيوه عشان تديك دفعة وتدخل بقلب جامد .. 

أكد هو ساخرا : يا بنتي أنت متعرفيش إن العبد لله يروح فيها .. ده أنا لو سمعتها دلوقتي هدخل اقعد قدامهم زي خيبيتها .. أصل المواضيع دي بتقلب معايا بغباوة كده على شوية تخلف على كرشة نفس وزغللة في العين .. واحتمال يطلبوا لي الإسعاف يا النجدة .. 

قهقهت بدور وهمست في لهفة : يا عيني يا بني .. طب ياللاه سلام .. عشان تكلم بابا تبلغه بوصولك .. 

هتف فيها مدعيا الحنق : مصلحجية .. 

قهقهت من جديد وهي تغلق الهاتف ليضغط أزرار هاتفه مؤكدا لحازم على وصوله خلال دقائق .. 

بينما تنهدت بدور في راحة وابتسامة واسعة ترتسم على شفتيها شاركتها إياها فريدة في سعادة وهي تقترب منها تضمها في فرحة هاتفة : ألف مبروك يا بدور .. ربنا يتمم لك على خير .. باين عليه بيحبك بجد وشاريكِ .. وأهو دخل البيت من بابه .. يعني فعلا راجل .. ربنا ييسر لكم الحال .. 

هتفت بدور في تضرع : يا رب يا فريدة .. يا رب .. ويرزقك أنت كمان بابن الحلال اللي يستاهلك .. 

ابتسمت فريدة في شجن مؤكدة : لا انسيني أنا خاالص .. أنا حياتي بقت فالشغل وبس .. مواضيع الحب دي قفلت عليها بالترباس من زمان .. 

تنهدت مستطردة وهي تجذب يد بدور : بقولك ايه !! تعالي نتسحب زي زمان ونتصنت عليهم ونشوف هيقولوا إيه !؟ 

هتفت بدور في اضطراب : لا يا فريدة .. أخاف حد يشوفنا من ولاد عمي مهران .. وخصوصا عاصم .. شوفتي عامل إزاي !؟ .. أنا خفت منه .. 

قهقهت فريدة ساخرة : بقى بدور بتخاف !! طب كويس والله .. 

ثم استطردت في جدية : بس على فكرة .. عاصم انسان محترم وكويس جدا .. هو بس عشان ملتزم ومش بتاع ضحك وهزار أنت شيفاه شديد .. بس هو انسان ممتاز .. 

همهمت بدور هاتفة : إيه يا فرفر .. عينك من الشيخ عاصم ولا إيه !؟ 

قهقت فريدة مؤكدة : شوف أنا اقولها إيه تقولي إيه !! يا بنتي أنسي .. أنا مفيش فحياتي إلا الشغل وبس .. 

لكزتها بدور مازحة : طب ما تفكري بس .. ده الشيخ تقيل كده وعليه هيبة تسرع .. اللهم بارك .. 

انفجرت فريدة ضاحكة وتطلعت نحو بدور تهز رأسها مؤكدة أن لا فائدة ترجى من ابنة خالها تلك .. فقررت النهوض وتركها وحيدة إلا أن بدور لم ترغب فالبقاء مفردها يتآكلها القلق من الاجتماع الدائر بالأسفل ما دفعها لتلحق بفريدة مجتمعة بالفتيات استعدادا لتلك المأدبة المقامة على شرف زوج زهرة الدكتور محمد عزام .. 

          ****************** 

كانت المحاضرة قد بدأت لتوها لكن طرقات على باب قاعة المحاضرات جعلت دكتور المادة يتنبه نحو الباب الذي انفرج بشكل مبالغ فيه وظهر من خلفه ذاك الكرسي المدولب وصاحبه .. 

تطلع المحاضر لذاك الذي اقتحم المحاضرة بهذا الشكل وهتف به متسائلا : خير !! أي خدمة !؟ 

شهقة مكتوبة ندت عنها ما أن أدركت ماهية الطارق .. لم يكن إلا مروان على كرسيه المدولب ..ماذا يفعل هنا !؟ .. 

كادت أن تفقد وعيها ذعرا .. هل جاء خصيصا من أجلها !؟ .. يبدو أنه فقد عقله كليا ليأتي إلى هنا لكي يراها بعد أن امتنعت عن الحضور أو حتى الاقتراب من حديقة داره .. كانت قد اتخذت عهدا على نفسها أن تبتعد قدر استطاعتها عن هذه القصة .. وذاك الشاب الذي تعلم تمام العلم أنها .. إن لم تبتعد عنه ..فسيكون مصيرها جرح قلبها لا محالة .. 

هتف مروان في ثبات وثقة : آسف يا دكتور على التأخير عن ميعاد المحاضرة .. دي أول مرة حضور ليا .. وأوعد حضرتك مش هتتكرر .. 

تطلع له المحاضر متسائلا : هو أنت معانا هنا !؟ .. 

أكد مروان في هدوء مبتسما : أيوه يا دكتور أنا طالب فنون جميلة .. لكن الحضور كان بعافيه شوية زي صاحبه .. 

وأشار لوضعه على كرسيه وهو يلقى بكلماته الأخيرة ما دفع المحاضر ليبتسم لخفة ظل مروان وهز رأسه في قبول لعذره مشيرا سامحا له بالدخول .. 

تحرك مروان بكرسيه ولم يعر للنظرات المتطفلة أي اعتبار .. كان كل ما يعنيه هو معرفة موضع جلوسها .. ليكون الأقرب له. 

لحسن الحظ لم تكن القاعة بها مدرج لا يمكنه الصعود على درجاته بمقعده دون مساعدة أحدهم .. كانت القاعة عبارة عن قاعة درس بسيطة جعلت من حركته أكثر حرية .. 

وقعت عيناه على موضعها أخيرا .. ليجدها تحاول التخفي .. تتدارى قدر استطاعتها كأنما تدرك أنه يبحث عنها وقررت جعل المهمة أكثر صعوبة عليه من تلك الأيام والليالي التي قضاها باحثا عن طريقة حتى يستطيع الوصول إليها من جديد .. فما عادت رسائله بسرج عنتر توتي ثمارها .. فقد كانت تعود له كما ذهبت .. 

أوقف كرسيه محاذيا لموضع جلوسها حتى يستطيع أن يراها من مكان استقراره .. 

تابع المحاضر درسه لكنه ما كان اهتمامه منصبا على ما يقول .. بل جل اهتمامه كان منصبا على تلك التي تجلس هناك أخذة بمجامع الفكر ولب الفؤاد بين كفيها الرقيقتين .. وهي لاهية تماما عما تحدثه به من أوجاع .. وما يعانيه قلبه في بعادها .. 

            **************** 

دخل حازم القاعة على عاصم الجد جالسا جواره هاتفا : يا عمي .. الظابط اللي جاي عشان يخطب بدور .. اللي كلمتك عليه .. لسه مكلمني دلوقتي وجاي فالطريق .. 

ابتسم عاصم مؤكدا : ألف مبروك يا حازم يا ولدي .. اللهم بارك ..الفرح لما يهل بيهل بالكوم .. ربنا يجعل البيت كله مليان فرح . 

ابتسم حازم رابتا على كف عاصم هاتفا في مودة : في حياتك يا عمي .. 

هتف عاصم متسائلا : تعرفه أنت العريس ده يا حازم !؟ ..ما أنت بتجول ظابط !؟.. 

أكد حازم : ايوه يا عمي .. ظابط كويس .. كان خدم مع لوا زميلي واحنا في اسكندرية وكان دايما بيشكر فيه وفأخلاقه.. أنا اتنقلت المنصورة ..وهو كمان اتنقل برضو ..بس معرفش إيه اللي لم الشامي ع المغربي .. وجاي يخطب بدور دلوقتي !؟.. 

هتف عاصم : في اسكندرية ! .. يعني چاي من أخر الدنيا عشان يخطبها هنا !؟ .. والله فيه الخير برضك .. 

هم حازم أن يصلح له المعلومة إلا أن هاتفه ارتفع رنينه ليتطلع لشاشته ليسطع اسم الضيف جليا .. هتف حازم : الضيف وصل يا عمي .. 

أكد عاصم : يتفضل يا ولدي .. خليه ياچي على هنا نجعدوا معاه جبل دوشة العزومة اللي چاي لها عريس زهرة .. 

هز حازم رأسه موافقا وخرج لبعض الوقت ليعود ومعه منتصر لداخل قاعة عاصم .. 

جلس كلاهما أمام عاصم الذي ابتسم في استحسان لمنتصر هاتفا في ترحاب : شرفت السرايا والنچع كله يا حضرة الظابط .. خير إن شاء الله .. 

تنحنح منتصر في احراج هاتفا في ثبات على قدر استطاعته : طبعا خير يا حاچ.. أنا چاي اتشرف وأطلب ايد الآنسة بدور بنت سيادة العميد .. يمكن يكون جال لحضرتك إنه مش أول مرة يشوفني .. شافني جبل كده ف.. 

هتف عاصم مقاطعا : ايوه يا حضرة الظابط جالي .. فاسكندرية .. يعني على كده تعرف عيلة الهواري كلها هناك .. زكريا واد عمي و حمزة الهواري .. دول رچال أعمال كبار هناك .. 

تطلع منتصر لحازم لحظة وهتف مؤكدا لعاصم : ايوه طبعا يا حاچ ..نار على علم هناك .. دول من أكبر عائلات اسكندرية .. بس أنا .. 

هتف عاصم مقاطعا من جديد : أنت بتتكلم صعيدي تمام .. شكلك خدمت هنا فترة .. ولا أنا غلطان !؟ 

تطلع منتصر لحازم يطالبه بالتدخل ليهتف حازم مؤكدا : منتصر صعيدي يا عمي .. منتصر من هنا من نجع الصالح .. 

ضاقت عينى عاصم وتطلع نحو منتصر في محاولة لمعرفة أين يمكن أن يكون قد رآه لكنه لم يستطع الاستنتاج فهتف متسائلا في توجس : من هنا ..من بيت مين يا ولدي !؟ 

أكد منتصر في أريحية : من بيت أبو منصور يا حاچ عاصم .. 

امتقع وجه عاصم ..وساد الصمت للحظة قبل أن يتمالك عاصم أعصابه في قدرة وخبرة اكسبتها له السنين هاتفا في ثبات : أحسن ناس .. بس أنت ليه چاي لحالك يا حضرة الظابط !؟ .. يعني كنت فاكرك غريب جلت ميعرفش عوايدنا وچاي لحاله يتعرف فالاول .. لكنك من النچع وعارف إنك لازما تاچي مع ناسك .. 

تنحنح حازم محرجا بينما اضطرب منتصر مستجمعا شجاعته هاتفا : هايحصل طبعا يا حاچ .. العيلة كلها هتكون عندكم .. بس أنا جلت أچي امهد الطريج .. وأعرفكم .. 

هز عاصم رأسه يزعم موافقته هاتفا : طب تمام يا ولدي .. وماله .. أدينا عرفنا واتشرفنا بك.. وإحنا مستنظرين ناسك يشرفونا .. 

تطلع منتصر نحو حازم الذي لم يعقب بحرف وقد أدرك أن هناك أمر ما دفع عمه ليتصرف بهذا الشكل .. على الرغم أنه لم يخرق الأصول أو قواعد الذوق .. لكنه كان شديدا بعض الشيء .. 

نهض منتصر مستأذنا في هدوء ليهتف عاصم خلفه : متنساش يا حضرة الظابط .. ناسك كلهم .. وسلامنا لستك .. الحاچة وچيدة .. جولها عاصم الهواري بيجولك .. الأيام بتدور .. 

تطلع منتصر نحوه في تعجب عندما جاء على ذكر جدته .. بالتأكيد يعرفها كما يعرفها كل أهالي نجع الصالح .. لكن ماذا كان يقصد بكلمته الأخيرة !؟ .. ماذا كان يقصد بأن الأيام تدور !! .. أي أيام !! .. 

هز منتصر رأسه في تيه .. ورحل لخارج السراي لا يعلم ماذا هناك !؟ .. 

لكن كل ما عليه فعله هو إعلام جدته برغبته في خطبة بدور .. وليكن ما يكون.. 

تطلع حازم لعاصم هاتفا في تعجب : هو فيه حاجة يا عمي !؟ .. أصل الحوار كان ماشي كويس مع الولد وفجأة حسيت إنك شديت عليه .. 

هز عاصم رأسه موافقا وتنهد مؤكدا : عارف ده يبجى مين !؟ ..ده منتصر واد چعفر أبو منصور .. اللي كان عايز يجتلني من سنين وضرب سيد واد عمك بالنار وصابه فيده اللي لسه لحد دلوجت تعبانة .. واللي سيد اتنازل عن المحضر ضده .. 

هتف حازم في صدمة : يااااه ده عمر .. ده أنا كنت لسه فأول خدمتي هنا .. فاكر يا عمي !! .. 

ابتسم عاصم مؤكدا : ايوه طبعا .. واتكعبلت أيامها فالبت تسبيح .. وخدتها معاك وأنت ماشي .. 

قهقه حازم مؤكدا : ايوه يا عمي ..ولسه متكعبل وحياتك .. 

أكد عاصم مقهقها : مصدجك .. عيال سهام أختي دول يكعبلوا بلد .. عيلة مچانين .. 

ارتفعت ضحكات حازم مؤكدا : طب حاسب يا عمي لتسبيح تسمعنا .. 

أكد عاصم هاتفا : يا عيني على ظباط الداخلية الشداد .. 

استمرت ضحكات حازم مؤكدا : من خاف سلم يا عمي .. 

أكد عاصم وقد اتسعت ابتسامته : ايوه صدجت .. مع الحريم بالذات .. ربنا يسلمنا كلنا يا واد أخوي .. 

علت ضحكاتهم من جديد .. لكن ما أن ساد الصمت حتى هتف حازم مستفسرا : يعني كده خلاص الجوازة باظت يا عمي !؟ 

تنهد عاصم مؤكدا : والله لو چاب ناسه وچه .. يبجى كدها .. والواد أنت بتجول عليه اخلاج وچدع .. يبجى ليه لاااه.. 

تساءل حازم : طب لو مقدرش يقنع عيلته يا عمي .. وجه يطلبها تاني !؟ .. الواد فعلا كويس .. أوافق !؟.. 

هتف عاصم متعجبا : هتدي بتك لراچل چايلك بطوله يا حازم !! ملوش كبير يرچع له ويترد عليه !؟ .. يا ولدي ده اللي ملوش كبير بيشتري له كبير .. وبعدين إحنا ليه ندي بتنا لراچل أهله مش موافجين عليها.. ناجصها إيه !؟ ..بناتنا ميتاجلوش بالدهب .. 

واللي ياخدهم يتجلهم بالغالي .. والفرحة بها تبجى كبيرة .. سامعني يا حازم !!. 

هز حازم رأسه موافقا على كلام عاصم الذي كان كلام لا يقدر بثمن .. 

              *************** 

انتهت المحاضرة ليبدأ الطلاب في المغادرة تباعا .. كانت تنازعها نفسها ما بين التلكوء حتى تعرف كيف سيغادر مفرده دون مساعدة .. وما بين الاندفاع هربا حتى لا يتعقبها وهي التي ما خالطت شبابا منذ دخولها الجامعة .. 

ظلت تتابع صراعها الداخلي في اضطراب حتى وجودته يرحل دون حتى إلقاء نظرة نحوها .. لم تكن تدرك أنه نال ما اشتهى  ولم يحد بناظريه عنها طوال زمن المحاضرة .. 

تحرك نحو باب القاعة في هدوء .. وما أن خرج حتى انتفض خفيره يساعده حتى الوصول لسيارته التي كان الخفير قد صفها جانبا بمكان قريب .. 

تطلعت نحوه دون أن يدرك لتتأكد أن كل شىء على ما يرام .. ومن ثم اندفعت بدورها نحو عربتها التي كانت منتظرة بالخارج يأخذ خفيرها قيلولة بسيطة حتى انتهاء محاضراتها .. 

اندفعت السيارتان ليتلاقا بشكل منطقي على الطريق صوب النجع .. لتصبح كلتاهما بمحاذاة الأخرى .. 

تنبه مروان متطلعا من نافذة مقعده الخلفي لعربتها وهي تحتل مقعدها الخلفي كذلك .. ابتسم عندما تلاقت نظراتهما بلا اتفاق .. كانت ابتسامة شفتيه جذابة لكن ابتسامة عينيه كانت حكاية أخرى .. مزيج من شقاوة مخلوطة بإصرار دفعها لتبعد ناظريها عنه متشاغلة بإحدى الروايات تدفن وجهها بين ضلفتيها .. تدعي تجاهل ما يحدث .. عندما حاول سائق عربتها تجاوز سيارته .. ما دفع مروان ليحرض سائقه هاتفا : إيه .. أنت هتسيبه يسبقك ولا ايه !؟ 

تحفز الخفير وضغط على دواسة البنزين لتسرع سيارته .. ليعانده خفيرها مسرعا بدوره .. 

كان سجال ما بين أسرع ومسرع .. تعالت فيه ضحكاته وهو يخرج رأسه من نافذة مقعده صارخا في حماسة .. لتنتفض هي بمقعدها لصرخاته الحماسية الأشبه بصيحات أحد فرسان الروديو ..أو الكاوبوي.. وهو يعتلي فرسه الجامحة محاولا السيطرة عليها وترويضها .. ما دفع الضحكات لشفتيها وهي تحاول أن تخفيها.. تدفن وجهها بين صفحات روايتها حتى لا يفطن خفيرها لما يحدث .. 

وأخيرا .. عندما اقتربا من مدخل النجع وجدته يعطي إشارته لسائقه أن يبطىء من سرعة سيارته بالقدر الكافي الذي يجعل سيارتها تمر أمامها .. حتى تسبقه .. 

لتتوقف سيارته بعد دقائق معدودة خارج باب داره .. استقبلته ثريا في سعادة .. فهي تدرك أن هناك شىء ما يدفع ولدها لينفض تلك العزلة عن كاهله ويبدأ في استعادة حيويته من جديد .. 

هتفت به ثريا في فضول : ايه أخبار الكلية!؟.. تمام !؟ .. 

اشار لها رافعا إبهامه وعلى شفتيه ابتسامة واسعة لم ترها مرتسمة على وجهه منذ زمن بعيد .. حتى أنه هتف مطالبا بالطعام.. 

دمعت عيناها فرحا .. ذكرها ذلك بالأيام التي كان يدخل فيها للمنزل من تدريبه يتضور جوعا .. صارخا مطالبا بالطعام .. 

هتفت في فرحة : من عنايا يا فنان .. الغداء چاهز بس أنت تأمر .. أحضر لك تصبيره لحد ما بابا يرچع ولا هتاكل أنت !؟ 

همهم لبرهة قبل أن يقرر الاكتفاء بالتصبيرة لتزداد فرحتها أضعافا .. فقد مر وقت طويل جدا منذ أن جمعتهما طاولة طعام واحدة .. 

فدوما ما كان زاهدا في الطعام غير راغب فيه ..وإذا ما تناوله .. كان يكتفي بالنذر اليسير .. 

وضعت له بعض من مقبلات ولحقته بها إلى غرفته لتجده يجلس إلى لوحاته وألوانه.. وضعت الطبق في هدوء وتركته مغلقة الباب خلفها ولأول مرة تغادر حجرته وعلى شفتيها ابتسامة مشرقة لا دمعات منسابة على خديها .. 

شهقت في ذعر عندما اصطدم جسدها بجسد شخص ما كان يتعمد اخافتها لتنتفض متطلعة إليه .. قهقه في مشاكسة عندما نظرت إليه تعاتبه على افزاعها بهذا الشكل هامسة: كده برضك !؟ .. حرام عليك يا سيد مبقتش حمل الخضة دي .. 

همس متطلعا نحوها : بقى الباسمهندس ثريا على سن ورمح .. يركب الهوا كده .. 

والله وراحت عليك يا باشمهندس .. 

قهقهت متجهة نحو الردهة ليتعقبها مستفسرا : أنتِ متغيرة النهاردة .. فيه إيه!؟.. حاسس أن وراكِ حكاية .. 

هتفت نافية : الحكاية مع إبنك .. ويا ريتني أعرف فيه إيه .. بس اللي متأكدة منه أن الموضوع فيه إن .. 

تطلع لها سيد متعجبا : يعني إيه !؟ مش فاهم .. 

اقتربت هامسة في رقة : مروان قلبه دق .. واضح إنه بيحب يا سيد .. 

همس بدوره متعجبا : مين !؟ .. تعرفيها !! 

هزت رأسها نفيا هامسة : لا .. يا ريت .. بس جلب الأم ميخيبش أبدا .. ابنك عاشج.. وهي اللي جاعد يرسم صورها على لوحاته .. وأول حرف من اسمها .. وكمان نزل الكلية بتاعته النهاردة .. 

تطلع لها سيد مبهورا لتتابع في حماسة : تخيل بقاله سنتين مش عايز يعتبها وكل سنة بنقدم اعتذار وميدخلش الامتحان .. ألاجيه فچأة بين يوم وليلة عاوز يروح .. وهيدخل الامتحان السنة دي .. 

هتف سيد مستفسرا : طب محاولتيش تعرفي منه بشطارتك تكون مين !! أنا خايف عليه تكون بنت بتلعب به .. أو حتى متعرفش ظروفه وتتصدم وتبعد لو عرفت.. وأنت عارفة ده هايبقى إيه .. صدمة ممكن يتعرض لها .. إحنا في غنى عنها يا ثريا .. 

تنهدت هاتفة في عتب : ربنا يعديها على خير وبلاها تخوفني .. أنا ما صدجت إني فرحت شوية وأنا شيفاه بيرچع مروان الجديم من تاني .. 

ربت سيد على كتفها معتذرا وقد أبصر بريق دمع يترقرق بمآقيها اقترب يطبع قبلة على جبينها مطيبا خاطرها .. ليصدح صوت موسيقى كلاسيكية دوما ما كانت سلوى مروان وهو يرسم .. ما دفع سيد ليقترب من ثريا مازحا : تسمحيلي بالرقصة دي يا هانم!؟ .. 

هتفت به ثريا مازحة تقلد فردوس محمد في أحد افلامها مجيبة على استيفان روستي: ما ترقص ياخويا.. هو حد منعك.. 

ما أن هم سيد بالتعليق ضاحكا حتى على 

شدو لإحدى أغاني الغرام من داخل حجرة ولدهما .. 

تطلع سيد إليها لبرهة قبل أن ينفجر ضاحكا هاتفا في تأكيد : ده عاشق وغرقان لشوشته كمان .. أغاني حب !! ..اممم .. وقفل مقطوعات باخ وبحيرة البجع اللي هوس بها راسنا طول النهار!؟ الحالة مؤكدة يا ثريا يا أختى .. 

قهقهت ثريا مؤكدة : شكل البچعة خطفت قلبه .. 

ابتسم لها سيد وهو يرى سعادتها وانشراح قلبها والذي غاب عنها منذ حادثة مروان فلم يشأ أن يلق ببذور القلق بجوف صدرها وهو يستمع لكلمات الأغنية التي كانت تأتيه اللحظة من داخل حجرة وحيده .. 

إذا أنتِ تركتيني ..وبطلتي تحبيني.. 

والله لأخلي عيني ما تعود تشوف.. 

وإذا أنتِ فليتي .. يعني انخرب بيتي .. 

شو بعمل بحالي .. مش معروف .. 

ابتسم سيد لثريا من جديد دافعا بها لتحضير الغذاء وكل ما كان يشغل باله هو قلقه على مروان من تلك التجربة التي لا يعلم إلى أي مدى قد تدفع بحياتهم .. بعد كل معاناتهم مع تجربته الأخيرة التي ما زال أثرها حي لم يندمل جرحه .. 

              **************** 

جهز سماحة ركوة الشاي لينضم إليه يونس جالسا قبالة النار يحاول الحصول على بعض الدفء .. قرب الشتاء على الرحيل لكن ما زالت هناك لفحة من برودة تخالط هواء المساء خاصة في مكان مكشوف لحد كبير مثل مجلسهما بسطح دار الحناوي .. 

مد سماحة كفه بكوب الشاي ليونس والذي تناوله مرتشفا إياه في استمتاع مؤكدا : عليك كباية شاي يا واد يا سماحة تعدل برج بيزا المائل .. 

اتسعت ابتسامة سماحة على ظلال نار الركوة في عتمة الليلة الشتوية هاتفا في سعادة : بالهنا يا بيه .. الف هنا .. 

على عواء بعض الذئاب من عدة أماكن متفرقة بالنجع .. 

ليهتف يونس مؤكدا : ديابة الچبل نازلة النچع چعانة .. 

تنهد سماحة هامسا : الچوع كافر يا بيه ..لا ليه دين ولا ملة .. بيخلي الصاحب يخون صاحبه والأخ ينهش فأخوه .. 

تطلع يونس إليه هامسا : أنت منين يا سماحة !؟ 

هتف سماحة متعجبا : منين كيف يا بيه !؟ .. بلاد الله لخلج الله .. 

أصر يونس على سؤاله هاتفا : جصدي .. انولدت فين !؟ .. فين ناسك !؟ .. وبلدك اللي چيت منيها !؟.. 

أكد حماسة : والله ماوعالها يا بيه .. أنا من سن الحداشر وانا مطلوج أدور على أكل العيش لأمي وأخواتي بعد ما أبويا مات وسابهم فرجبتي .. معرفتليش دار ولا مطرح إلا داركم ..ولا بلد إلا نچع الحناوي.. 

تطلع إليه يونس في إكبار متسائلا : طب وكنت بتشتغل فإيه على كده !؟ .. 

أكد سماحة : فكله يا بيه .. معمار شوية .. وفأرض الناس شوية .. فجهوة ع الطريج شوية .. وأهي كانت بترزج .. 

سأل يونس: أنت عندك كام سنة يا سماحة؟ 

هتف سماحة : والله يا بيه م الهم ما فاكر .. بس يعني تجريبا كده ياچي ٢٢ سنة .. 

هتف يونس في شجن : أنت صغير جوي ع الهم ده .. 

ومد كفه رابتا على كتفه في قوة هاتفا : بس أنت چدع يا واد وكدها .. 

تصلب كتف سماحة تحت كف يونس ما استرعى انتباهه معتقدا أنه زاد من شدة ضرباته المشجعة والتي يبدو أنه لم يحتملها ما جعل جسده يتصلب بهذا الشكل .. رفع كفه عن كتف سماحة متعاطفا هاتفا في أريحية : تعرف يا سماحة .. أنا عمري ما فتحت جلبي لحد إلا لأخويا راضي ربنا يمسيه بالخير ويسهلهاله مطرح ما راح .. أنت الوحيد يا فجري اللي بحكيلك وبشكيلك معرفش ليه !؟ .. مع أن كان ممكن أرفع التليفون وأجعد ارغي مع راضي بالساعات بدل الخلجة العفشة اللي بطلع لها كل ليلة دي .. 

همس سماحة في قلة حيلة منكس الرأس : الله يسامحك يا بيه .. 

قهقه يونس هاتفا : شوف عامل فيها مؤدب كيف !؟ .. اللي يشوفك دلوجت ميشوفك وأنت هتاكل واد نچم وإحنا فالأرض .. والله لولا ملحجتك لكنت فلجت الراچل نصين .. 

ساد الصمت لبرهة ولم يعقب سماحة ما جعل يونس يتعجب هاتفا : رحت فين يا واد!؟ عجلك خدك على فين !؟ .. 

واستطرد مازحا : إيه عجلك بيوزك وجلبك مش مطاوعك وناوي تجوم تطخه عيارين ولا إيه !؟ .. 

لم يعقب سماحة على مزاح يونس بل هتف بنبرة هادئة : بجولك يا بيه !! هو أني ينفع أوصيك على حاچة !؟ .. 

تطلع له يونس في دهشة متسائلا : حاچة إيه !؟ .. 

همس سماحة مؤكدا : أمي واخواتي البنات .. أمانة في رجبتك يا يونس بيه.. 

انتفض يونس موضعه هاتفا بصوت متحشرج تأثرا : واد يا سماحة .. إيه في !؟ .. أنت وراك إيه يا حزين !! انطج .. 

أكد سماحة في نبرة هادئة ثابتة : مفيش يا بيه .. هيكون إيه يعني .. أني لا وراي ولا جدامي .. على فيض الكريم كيف ما چنابك واعي .. بس العمر مش مضمون .. جلت أوصيك عليهم .. مش هأمن عليهم حد غيرك .. 

تنهد يونس زافرا في راحة هاتفا : منك لله يا بعيد .. سيبت مفاصلي .. اعملي دور شاي تاني اعدل دماغي اللي جلبتها .. جال أوصيك ولا موصيكش .. 

هتف سماحة وهو يزيد من نيران الركوة : سماح يا بيه .. ده أنت جلبك رهيف جوي.. 

أكد يونس متحسرا : ايوه .. مچبناش ورا إلا الجلب الرهيف .. وحكاويه .. 

أكد سماحة مادحا : والله دي احلى حاچة فيك يا بيه .. جلبك الرهيف ده .. ربنا يزيدك طيابة .. 

همس يونس في شجن : جول خيابة .. خدنا إيه من طيابة الجلب إلا وچعه .. 

تطلع له سماحة هامسا : ما تغني يا بيه !! 

خلي الليلة الطويلة دي تعدي .. والجلب يدفا بالغناوي .. أهي سلوة اللي مش طايل .. يمكن فالحلم ينول .. 

تطلع إليه يونس لبرهة متعجبا من حديثه ثم بدأ في الشدو الشجي : 

أنا بعت الدموع ..الدموع والعمر.. 

طرحت چنايني .. فالربيع ..الصبر .. 

وجلت أنا عاشج ..سجوني .. كتير المر .. 

           *************** 

كان يقف بشرفته متطلعا للأفق المظلم الأشبه لصدره بتلك اللحظة .. سيخلف هذه الأرض وتلك السراي ورائه هربا من حلم ضائع بغية السلوى في بعاد ينسيه بعض من أوجاعه كما يأمل .. 

تنهد زافرا في قوة قابضا على سُوَر الشرفة يهم بالدخول ليتناول حقائبه ويرحل مودعا أهله .. فقد حانت اللحظة التي كان يتحاشاها رغم إدراكه باقترابها ..  

ما أن هم بالدخول حتى تناهى لمسامعه أصوات بالأسفل قرب مدخل السراي الداخلي .. على ما يبدو .. عريس زهرة مغادر .. يقف بالخارج ليودعه الجميع تاركينها معه وحدهما .. كان مقتربا منها يتطلع إليها في سعادة بينما تنكس هي رأسها في حياء .. كان من الواضح أنه يسمعها بعض من كلمات الغزل قبل أن ترتبك هي مبتعدة لداخل السراي فيندفع هو لركوب سيارته راحلا .. 

كان المشهد قاتل .. كأنما سكين طعنت بخاصرته واستمر نصلها زاحفا كحية سامة ليمزقه قهرا من الشريان إلى الشريان .. 

ما عاد للتحمل موضع بصدره.. وما عاد للصبر محلا بقلبه.. وعليه الرحيل قبل أن يموت كمدا .. 

اندفع للداخل جاذبا حقيبتيه في عنف هابطا الدرج حيث وجد الكل مجتمعا يحكي عن السهرة الرائعة .. 

تطلع الجميع إلى ذاك الذي ظهر بأعلى الدرج حاملا أمتعته وما أن أصبح تقريبا بينهم حتى هتف عمه ماجد في ضيق : برضو مأجلتش سفرك يا عاصم ... 

هتف عاصم في هدوء مصطنع : أوامر الشركة يا عمي .. مليش يد ف الموضوع . 

هز ماجد رأسه متفهما بينما هتف مهران : استنى هاچى أوصلك .. 

هتف سمير كذلك : وانا كمان هروح معاك يا عاصم .. 

رفض عاصم مؤكدا : لاااه محدش يتعب نفسه .. واحد صاحبي چاي ف الطريج مسافر معاي أخوه.. هيوصلنا .. ملوش عازة تعبكم .. 

واتجه نحو أمه تسنيم التي بدأت في النحيب وكذا أختيه نوارة وسجود منحنيا يقبل 

هامتها هامسا : مش عايز اشوفك بتبكي .. هو أنا يعني رايح فين !؟ كلها كام شهر وهتلاجيني عندك .. ادعيلي بجى وبلاش بكى.. وبعدين هي فين ستي !؟.. 

هتفت زهرة بدورها متأثرة : ف أوضتها .. 

تطلع عاصم اليها يتشبع من ملامح وجهها التي سيفتقد لكنه أدرك أنها أصبحت ملكا لغيره فأبعد ناظريه هامسا : بالمناسبة .. ألف مبروك .. ربنا يسعدكم .. 

هتفت زهرة بدورها : الله يبارك فيك .. وعقبالك يا عاصم .. 

هز رأسه شاكرا واندفع تجاه حجرة جده مودعا جدته.. لكنه لم يقدر على وداع جده.. الذي طلب منه ألا يأتيه لحظة رحيله مودعا .. فقد كان يكره لحظات الوداع دوما.. 

لحظات وخرج متطلعا للقاعة التي بها جده.. لكنه لم يتجرأ على الدخول إليها .. كان يخشى أن يضعف ويلغي الأمر برمته.. وهو بحاجة ملحة للرحيل بعيدا .. 

وجد الجمع لم ينفض بعد .. فبدأ بالسلام عليهم فردا فردا .. حتى إذا ما جاء دور سمير إلا وتشبث به مدركا أنه ما قرر الرحيل إلا فرارا من قلبه الذي أودعه تلك الزهرة هناك .. لكنها ما كانت تدرك أن بين كفيها فؤاد غال اثقله هواها .. 

أرتفع النحيب من هنا وهناك ليندفع هو لخارج السراي جاذبا نفسه من بين ذراعي سمير مهرولا لا قبل له على البقاء لدقيقة أخرى وحمد الله أن صاحبه قد وصل بعربة أخيه أخيرا فألقى بنفسه داخلها .. محاولا أن لا يستدير ملقيا نظرة أخيرة على مستقر أحلامه وأرض أمانيه الضائعة .. 

حاول أن يشارك في الحديث الدائر بين صاحبه وأخيه الأكبر على قدر استطاعته .. لكنه لم يستطع أن يتفوه بحرف .. واحترم أصحابه صمته .. مدركين حجم الاحساس بالوحشة الذي يكتنفه اللحظة وهو في سبيله لمغادرة أهله لمجهول لا يعلم عنه شيئا .. 

لم يعِ عاصم ألا وهو يخرج جواله ليخط على صفحته بعض كلمات كانت محاولة منه لبث مشاعره المحترقة على الصفحات ربما يكون في البوح بها بعض التعزية عن ما يكابده .. 

"لما كلما هم القلب أن يخط على صفحة الحياة كلمة.. أحبك.. أجدني أغمس القلم بمداد الوجع وماء الروح الشحيح .. ليكتب تأبينا لأمل أزهقت روحه غفلتك المرة.. عما يقاسيه الفؤاد المفطور" .. 

                            شيخ العاشقين 

نشر الخاطرة .. ورفع رأسه عن شاشة جواله لتقع عيناه على جمع من البشر متجمهر على ضفة الرياح الكبير خارج حدود النجع الشرقية .. 

انتفض متسائلا : إيه في !؟ .. 

هتف صديقه : الظاهر حادثة .. 

مرت عربتهم بين الجمع المحتشد في صعوبة لتسقط عيني عاصم على العربة التي كان منتصفها تقريبا غارق مغمور بالمياه ليهتف في صاحبه : وجف ..اركن بسرعة. 

هتف صديقه : إيه في !؟ .. إحنا كده هنتأخر على ميعاد الطيارة يا عاصم .. 

هتف عاصم أمرا : بقولك وجف حلا .. 

توقف صديقه بالعربة ليترجل عاصم منها مسرعا أمرا إياهم : روحوا انتوا .. وأني هحصلكم .. متأخروش روحكم .. 

غاب وسط الجمع الذي كان يتطلع للعربة الغارقة متحسرا على من كان فيها والذي لا يعلم أي منهم أن كان ميتا أو ما زال حيا.. 

ما أن أبصر عاصم السيارة عن قرب حتى تأكد له أنها سيارة محمد زوج زهرة .. لم يتوان لحظة عن الاندفاع نحو المياه ملقيا نفسه سابحا في اتجاه باب السيارة .. رغبة في إنقاذه .. حاول البعض منعه من الإقدام على هذه الفعلة المجنونة .. لكنه غافل الجميع واستطاع القفز والوصول للسيارة والتي ما أن حاول فتح بابها للدخول إليها .. ونجح في ذلك بالفعل .. إلا وبدأت المياه في ابتلاع السيارة بكاملها .. كأنما هي هوة من الجحيم قد فُتحت .. 

صرخ الناس في رعب وتعالت الصيحات والحوقلة من هنا وهناك .. فقد كان الجميع على يقين أن لا أمل هناك في نجاة أحد من ركابها..  

        

             الفصل الحادي عشر من هنا 

لقراءة باقي الفصول من هنا 

تعليقات