أخر الاخبار

رواية زاد العمر وزواده الفصل الثالث 3بقلم رضوي جاويش

     


رواية زاد العمر وزواده

الفصل الثالث 3

بقلم رضوي جاويش



هللت شيماء في سعادة وهي تحمل صينية العصير والشاي إلى داخل حجرة الضيوف حيث كان حازم وتسبيح وابنتهما بدور في زيارة للعائلة.. فما أن استقر الأمر لحازم بالقاهرة حتى قرر زيارة تلك العائلة التي لم ينس فضل كبيرها المعلم خميس على والديه زكريا وبدور وما كان منه وصنعه لأجلهما وكذا لأجله هو ..فقد قضى اول ثلاث سنوات من عمره بين جدران هذا البيت كابن لهما . وكانت نعمة نعم الأم البديلة له حتى خرج أبوه زكريا من محبسه .. 

هتفت نعمة وهي تربت على كتف حازم في سعادة : والله اصيل وابن أصول يا حازم ..جيت تسأل عن أمك نعمة !! 

هتف حازم مؤكدا وهو يربت على كفها في امتنان : طبعا ..ربنا يخليكي لينا يا ست الكل .. 

وضعت شيماء الصينية على الطاولة قبالة الجمع المحتشد هاتفة في ترحاب : خطوة عزيزة يا سيادة العميد .. والأمورة بقى في سنة كام !؟.. 

أكدت تسبيح بابتسامة عريضة: بدور خلاص في نهائي هندسة .. 

هتف ناصر في فخر : الله اكبر ..ربنا يبارك لكم فيها .. إحنا كمان عندنا نادر في نهائي هندسة ..ونعمة الصغيرة في تانية كلية آداب قسم اجتماع .. 

سمع الجميع صوت باب الشقة يفتح بالخارج ..همت شيماء بالخروج لاستطلاع الأمر إلا أن نادر توجه إلى حيث موضع الجميع ملقيا التحية : السلام عليكم .. 

هتف ناصر بعد أن رد الجميع : أهو الباشمهندس نادر وصل ..يمكن .. 

قاطع نادر أباه هاتفا في حنق : إيه ده هو أنتِ !؟ 

تلعثمت بدور عندما طالعها محياه وقد تذكرت أنه الشاب الذي أعتذر عندما اصطدم بها دون قصد وهي حتى لم ترد عليه اعتذاره .. 

هتف حازم متعجبا : هو انتوا تعرفوا بعض ولا إيه !؟ 

هم نادربالحديث مفسرا إلا أن بدور قاطعته مؤكدة : أه يا بابا ..الصراحة الباشمهندس نادر كتر خيره .. كنت تايهة النهاردة في الكلية وهو وصلني للمدرج اللي كنا هناخد فيه المحاضرة .. 

تطلع إليها نادر صامتا معتبرا كلماتها لأبيها اللحظة هي اعتذار متأخر عما بدر منها بحقه .. فلزم السكوت ولم يعقب بينما 

هتفت شيماء في سعادة : يعني طلعتوا زمايل في نفس الكلية .. 

وتطلعت شيماء هاتفة لبدور في فخر : أي حاجة عايزاها بقى نادر تحت أمرك .. ده بيطلع من الأوائل الله أكبر .. 

هتفت تسبيح في إعجاب : ربنا يحفظه .. كده بقى ضمنتي يا بدور .. بقى ليكي ضهر فالكلية أهو .. 

واستطردت تسبيح وهي توجه كلامها لشيماء: أصل بدور كانت زعلانة إنها هتسيب كليتها فأخر سنة فالمنصورة وهتسيب صاحبها كلهم هناك وهي متعرفش حد هنا .. 

اكدت شيماء في محبة أم : بعد الشر عليها من الزعل.. أهو ربنا بيعوض .. ونادر معاها واللي هي محتاجاه كله .. هيقولها عليه .. مش كده يا نادر !؟ 

كان نادر غارقا في تذكر لقاءاته ببدور وهما صغارا فوق سطح تلك البناية .. وكم استغرقهما الرسم واستخدام الألوان .. وكيف كان حزنه وشقاءه عندما كانت تهم بالرحيل تاركة إياه.. 

تنبه لسؤال أمه فهتف مسرعا مخرجا نفسه من بين طيات ذكرياته : اه طبعا يا ماما .. أكيد.. 

هتفت نعمة في أريحية مشيرة للشباب : ما تخدي بدور يا نعمة وفرجيها ع السطح .. زمانه وحشها ..ما هي ياما لعبت عليه وهي صغيرة .. 

وكأنما قرأت جدته نعمة خواطره فعرضت مثل هذا العرض مستطردة : قومي يا بدور متتكسفيش .. ده بيت أبوكِ.. ولا إيه يا حازم !؟ 

أكد حازم في ثقة موجها حديثه لابنته : أه يا بدور .. قومي يا حبيبتي مع نعمة .. ونادر كمان يقدر يديكِ فكرة عن دكاترة الكلية.. عشان تقدري تخلصي السنة دي على خير بإذن الله .. 

نهضت بدور خلف نعمة وكذا نادر الذي لحق بهما صعودا للسطح .. جلسا على الأرائك التي كانت موضوعة بشكل مرتب لتستأذن نعمة لتحضر بعض المشروبات من الأسفل تاركة نادر وبدور يشملهما الصمت.. والذي كان نادر أول من قطعه هاتفا في مشاكسة : أنا هعتبر الكلام اللي قلتيه لوالدك تحت اعتذار على أسلوبك اللي عاملتيني بيه في الكلية .. 

هتفت بدور في لامبالاة : على فكرة أنا مغلطش معاك فالكلية .. أنت اللي غلطت واعتذرت وانتهينا .. مش لازم أبدا أخد وأدي معاك وكأنك عملت فيا جميل إنك اعتذرت لي .. 

هتف نادر مغتاظا : إنتِ مغرورة قوي على فكرة .. 

قهقهت بدور في لامبالاة : وأنت شايف نفسك أوي على فكرة .. 

هتف نادر محتدا : أنا عمري ما .. 

توقف عن الكلام عند حضور نعمة بالمشروبات والحلوى، وتناول قطعة من الكيك دافعا بها لفمه في حنق، لتحذو بدور حذوه ممسكة بتلك القطعة التي ناولتها إياها نعمة في محبة تقضم منها في تلذذ أورثه المزيد من الحنق دافعا إياه ليهبط الدرج مبتعدا عن محياها .. تاركا تلك المغرورة بصحبة نعمة .. 

         ***************** 

دفع مروان الباب ذو المفصلات المرنة التي تساعده على فتحه لأي إتجاه، ما يساعده على مرور كرسيه المدولب في بساطة لخارج حجرته، والملحق لها شرفة واسعة تطل على حديقة يتم الاعتناء بها على الدوام.. اعتقادا أنها قد تساعده على الخروج من عزلته التي فرضها على نفسه.. 

قرر سيد وثريا أن لا يحيطا الدار بأي سياج أو سور مرتفع كما هي العادة .. وخاصة من ذاك الجانب الذي يا يحيط بغرفته ليعطيا له شعورا بالبراح والراحة دون حدود أو حواجز .. 

خرج للشرفة يتطلع لمفردات ذاك النهار الشتوي الدافئ مستمعا لنصيحة أمه التي تحاول جاهدة أن تدفع به للخروج من شرنقته التي أحاط بها روحه .. 

تنهد في راحة متطلعا حوله وقد شعر بحركة وحفيف لبعض الأغصان المتكسرة هنا وهناك .. أرهف السمع محاولا استطلاع مصدر ذاك الصوت .. حتى ظهر هو دون مقدمات .. كان يسير في عظمة غير مكترث بما أو بمن حوله .. 

ارتفعت ضربات قلب مروان عند مطالعته هذا الجمال الذي افتقده لسنوات طويلة .. 

كان متمثلا روحا وجسدا وعنفوانا لا صور يرسمها يحاول بها تذكر فرسه التي رحلت حزنا عليه بعد حادثته .. 

ظل متسمرا موضعه لا يقو على الحركة حتى لا يفزع ذاك الفرس الأشهب فيولي هاربا .. إلا أنه تذكر أن طبق الخضراوات التي يصر على وضعه جواره وهو يرسم هاهنا بالقرب منه .. كان قد جلبه معه من الداخل لحسن الحظ بلا رغبة حقيقية في تناوله .. مد كفه في هدوء يتناول جزرة من الطبق وبدأ في إصدار صوت ترحيب يستدعي به الفرس إليه مظهرا الجزرة النضرة ملوحا بها .. 

نفر الفرس واشرأبت عنقه عن الأرض التي كان يبحث بها عن أثر لطعام وتطلع نحو مروان في توجس .. 

طال الوقت ومروان يحاول استمالته حتى يقترب مغريا إياه بالمزيد من الجزر .. ما دفع الفرس ليتخلى عن حذره متقدما بخطى وئيدة نحو مروان .. حتى توقف قبالته ينتظر مكافئته .. 

قدم مروان له الجزرة والتي بدأ يتناولها الفرس في شهية واستحسان ليمد مروان كفه لعنقه رابتا عليها في ترحيب وسعادة لا توصف، متسائلا وهو يمد له كفه بجزرة أخرى: اسمك إيه بقى !؟ ومين صاحبك اللي ساب الجمال ده كله جعان كده !؟ .. 


صهل الفرس في سعادة وكأنما استشعر مجاملة مروان.. ما دفع مروان للضحك في سعادة مماثلة .. 

وما أن هم بإعطائه المزيد من الجزر حتى ظهر رجل ما هاتفا في حنق : أنت هنا يا سي عنتر وملففني النچع وراك .. أموت وأعرف أنت بتهرب من الإسطبل كيف !!.. 

وجذب الخفير رسن الفرس في شدة هاتفا بلا مقدمات لمروان : متشكرين يا بيه.. 

صهل الفرس اعتراضا على المغادرة، إلا أن الخفير جذبه بعنف ليسير خلفه مهادنا بلا حول ولا قوة، ونظرات مروان تتبعه في حسرة ..  

           *************** 

جلست نوارة على أحد المقاعد وجاورتها الدكتورة سميحة هاتفة بنبرة ودودة : أنت ايه اللي خلاكي تقبلي التكليف هنا يا دكتورة !؟ .. وإحنا نجع بحضن الجبل والطريق أكيد شوفتيها بنفسك صعبة .. والمهمة هنا كمان هتكون صعبة !؟ 

ابتسمت نوارة مجيبة في دبلوماسية : عشان أتعلم على إيدك يا دكتورة ..الصراحة أنا سمعت عنك كتير ..ويشرفني أكون تلميذة حضرتك .. 

ابتسمت سميحة في مودة : بإذن الله .. ها نقوم بقى أوريكِ الاستراحة .. 

نهضت سميحة لتتبعها نوارة هاتفة في نبرة متنحنحة حرجا : بس أنا حابة أبلغك يا دكتورة إني مش هبات هنا ..انا هخلص شغلي مع حضرتك وبعدين أرچع على بلدنا.. ده كان شرطهم عشان أشتغل هنا .. 

ساد الصمت للحظات واخيرا هتفت سميحة مؤيدة : مفيش مشكلة .. كان نفسي تبقى إقامتك كاملة لأن أكيد أنتِ عارفة إن تخصصنا بيخلينا نشتغل بالليل أكتر لأن معظم الولادات ليلية .. بس نحاول نتغاضى عن الشرط ده عشان خاطرك .. 

ابتسمت نوارة في راحة لتستطرد سميحة مؤكدة ومشيرة لها لتتبعها : لكن ده ميمنعش إنك تشوفي الاستراحة .. عشان لو أحتاجتي تستريحي فيها خلال النهار .. وكمان تشوفي الوحدة وتتعرفي على المكان .. 

ابتسمت نوارة مؤكدة : كلام حضرتك مظبوط .. ياللاه بينا .. 

اندفعت سميحة خارج الغرفة ونوارة بأثرها.. تركتها مستئذنة للحظة لتحضر مفاتيح الاستراحة .. هزت نوارة رأسها موافقة في تيه فقد كان ناظرها يتأكد أن ذاك المتغطرس الذي طالعها محياه أول ما أن خطت قدماها تلك الدار قد غاب عن المشهد وترك موضعه الذي كان يحتله كملك متوج ما أن وقعت عليه عيناها.. 

لكنها انتفضت عندما سمعت الدكتورة سميحة تهتف به متسائلة : يا رائف !! فين مفاتيح الاستراحة !؟ 

إذن فاسم ذاك المتغطرس هو رائف .. أي اسم ذاك !؟ ..لا يمت بصلة لهذا العابس الذي كان ماثلا بمخيلتها اللحظة محياه الكشر .. 

انتفضت مستفيقة من خواطرها وعيونها تتبع ذاك الشبح الذي مر على مقربة منها، دافعا كرسيه المدولب في اتجاه رواق ما كأنه لا يراها من الأساس .. 

خرج من إحدى الغرف الجانبية على الجانب البعيد من الردهة مارا بمحازاتها كأنها ليست هنا .. لم يعرها انتباها وأكمل طريقه نحو الخارج في لامبالاة عجيبة .. 

كان رجل طاعن بالسن ..ربما أكبر قليلا من جدها عاصم .. لكنه لا يشبه أبدا .. فذاك الذي مر بها لتوه، كان متجهما، تملأ التجاعيد قسمات وجهه المتغضن، يبدو أن العبوس هو سمت هذه العائلة العجيبة .. وتذكرت وجه ذاك العابس الأصغر .. لكن ما أن هلت سميحة حتى تعجبت، كيف لهذه المرأة ذات الوجه البشوش أن تكون فردا من عائلة " ذوي الوجوه الكشرة" .. 

اشارت لها سميحة لتتبعها ..فأطاعت في حماسة، سارتا سويا حتى دارتا خلف تلك الدار الحجرية الضخمة التي يبدو أنها بنيت منذ عهد بعيد .. وصلت لنقطة ما لتنتبه إلى ذاك الجسر الخشبي الصغير المصنوع من ساق شجرة ضخمة تم صقلها لتنقلها للجانب الآخر لذاك المجري المائي الضيق الاتساع والأشبه بترعة صغيرة لا يزيد اتساعها عن المتر ونصف المتر .. عبرته خلف سميحة دون مهابة .. فقد اعتادت على مثله في نجع الصالح وكان موضع لمرحها ولهوها وهي صغيرة .. خطوات ووصلت سميحة لباب الاستراحة لتضع به المفتاح وتدفعه بعد معالجته في سرعة .. 

هتفت في أريحية : اتفضلي يا دكتورة .. 

مرت للداخل وتبعتها نوارة لتستطرد سميحة مشيرة بكفها للاستراحة: هترتاحي هنا لأني دايما بهتم بها بنفسي .. ودايما محافظة على نضافتها .. 

وتنهدت وابتسامة رقيقة تحمل عبق حنين مخبأ بين طيات الأحرف هاتفة : الاستراحة دي لها ذكريات جميلة قوي معايا .. عشان كده اهتمامي بها كبير .. 

ابتسمت نوارة بدورها في دبلوماسية، محترمة نوبة الحنين الذي دفع بالمرأة إلى التطلع نحوها في وله، تجول بناظريها أركان المكان كأنها تحتضنه بعيونها في محبة طاغية .. 

لم تكن نوارة بفتاة حالمة تقيم للمشاعر وزنا.. بل كانت فتاة عملية تقيس الأمور دوما بمقياس العقل وتزنها بميزان المنطق.. دوما ما تنعتها أختها سجود بالباردة المشاعر .. قاسية القلب .. كانت تتهمها أن دراستها للطب حولتها ل "جزارة" لا موضع لشعور أخر يزاحم التعقل داخلها .. 

تنبهت سميحة أنها شردت فابتسمت من جديد في حرج هاتفة لنوارة : ياللاه بينا على الوحدة .. هي على بعد خطوتين من هنا .. مش بعيدة .. هيعجبك جدا بعض الإضافات اللي اقترحها رائف وأشرف على اضافتها بنفسه .. 


اضطربت عند ذكر هذا الرائف لكنها اومأت في طاعة لتتبع سميحة التي هتفت مؤكدة وهي تمد لها كفا بالمفاتيح : اتفضلي ده مفتاح الاستراحة ..لازم يكون معاكِ نسخة منه ..عشان لما تكوني عايزة ترتاحي فأي وقت، متتكسفيش تطلبيها .. 

هتفت نوارة وهي تتناوله منها في امتنان : كلك ذوق يا دكتورة .. متشكرة .. 

عادتا من جديد عبر الجسر الخشبي للجانب الأخر لتسيرا بمحازاة سور الدار على طول الطريق حتى وقع ناظرها على ذاك المبني الأبيض ذي الطابقين الماثل لها بالأفق هناك.. ظلت عيناها متعلقة بالمبنى حتى مر أمامه ذاك الطيف قاطعا الصورة .. كان أشبه بهؤلاء الفرسان في أحد الأفلام القديمة مارا على فرسه الأدهم الذي أطلق ساقيه للريح .. لولا أنه لا يرتدي عمامة ولا يشهر سيفه .. لاعتقدت أنه بالفعل فارس يندفع في بسالة لخوض غمار معركة حامية.. 

كان يسابق الريح عدوا، ترفرف خلفه عباءته في حرية والتي كان يرتديها على ملابس حديثة من قميص وبنطال .. 

غاب سريعا عن المشهد كما ظهر بشكل خاطف .. مخلفا خلفه عاصفة من غبار والتي اختفت في التو ليظهر مبني الوحدة الصحية الأبيض من جديد لكنه اكثر وضوحا وقد أصبحتا قاب قوسين أو أدنى من عتباته، لتنسى نوارة كل ما مر بها منذ وطأت قدماها هذا النجع، إلا مهمتها التي جاءت من أجلها عندما تخطت عتبات الوحدة وشعور الحماسة يغمرها .. 

          **************** 

كان يقف متطلعا الى الحديقة الخلفية من موضعه كعادته وابتسم رغما عنه عندما سقطت عيناه على تلك الأرجوحة القديمة التي ما عاد أحد يستخدمها .. 

كان قد صنعها عمه ماجد من أجل زوجته إيمان بناء على رغبتها .. وأصبح الجميع يتنافس في الجلوس عليها والاستمتاع بها .. يذكر يوم أن جاءت تحاول الصعود إليها ولم تستطع، فهتفت به تستوقفه وهو يحمل الكرة التي سقطت أسفل الأرجوحة ليعود بها لرفاق لعبه : تعالى يا عاصم .. ساعدني عايزة أركب.. 

تذكر يومها كيف نهرها في حنق : وهو ده وجته .. اصبري أخلص الفورة وأجيكي .. 

صمتت ساعتها ولم تعقب، بل إنها وقفت بلا حول ولا قوة جوار الأرجوحة، تتطلع إليها في حزن، ليتنهد هو في قلة حيلة، لا قبل له على تحمل حزنها الذي كان يتسرب من نظراتها، فيوقظ الرحمة بداخله من سباتها ويشعل قناديل المودة بجنبات روحه، فدفع بالكرة بعيدا حيث كان ينتظر أصدقاءه، وتوجه إليها يحملها في حرص حتى وضعها فوق الأرجوحة وبدأ في دفعها بخفة، لتتعالى ضحكاتها مع كل دفعة ويعلو بالتبعية إحساس عجيب من السعادة لديه، فسره كطفل لحظتها أنه سعيد لإرضائها .. لم يكن يدرك أن قلبه الغر سقط صريع تلك النغمات الملائكية التي كانت تجود بها في فرحة ليترنح قلبه منتشيا .. 

اليوم، بل في تلك اللحظة ود لو يعود الزمان إلي تلك اللحظات التي ما عرفا فيها قيدا، ولا عرف قربهما حدا.. تمنى أن يعودا طفلين فما نفع عمرا اضافت سنونه إليهما وجعا وباعدت بينهما قسرا .. 

انتفض موضعه عندما هتفت أمه توقظه من أحلام يقظته هاتفة : إيه يا عاصم !؟.. اللي واخد عجلك.. 

ابتسم متطلعا إليها هاتفا : هيكون إيه يعني!؟ الشغل ومشاكله .. 

ابتسمت تهتف متخابثة : الشغل ومشاكله هيخلوا الضحكة على وشك كِده !؟.. ده باينها مشاكل حلوة جوي .. 

قهقه عاصم مؤكدا : أه من اللف والدوران بتاع الأمهات ده .. عايزة إيه يا حاچة تتسنيم!! حاكم أنا عارف مبتشرفنيش فأوضتي إلا لو وراكِ إن .. اعترفي.. 

قهقهت تسنيم مؤكدة : وحياتك أبدا .. أنا بس عايزة أفرح بيك .. ده أنت أول فرحتي يا عاصم .. معجول يعني مفيش بت ناس حاطط عينك عليها !؟.. 

اضطرب عاصم للحظة، وأخيرا هتف مؤكدا : ما أنا جلت لك .. مش هتچوز إلا لما أطمن على نوارة وسچود .. البنات تتچوز وبعدين أفكر ف حالي .. 

هتفت تسنيم معترضة : بنات مين اللى هتستناهم دول !؟.. نوارة وچاها التكليف وفاكرة نفسها هتعدل ميزان الصحة ف مصر .. 

قهقه عاصم لتستطرد في حسرة :- وسچود.. دخلت لنا آداب فرنساوي.. وجاعدة تبرطم ف الرايحة والچاية، زي اللي راكبها عفريت.. 

قهقه عاصم من جديد : طب ما البنات زي الفل أهو يا دكتورة .. اللى يشوفك وأنتِ بتتكلمي كِده، هيقول إنك ضد تعليم المرأة .. 

تنهدت مؤكدة : لا ضد ولا حاچة .. أنا نفسي رفضت اتچوز أبوك إلا لما اخلص كليتي، بس أنا بتكلم كأم نفسها تطمن على بناتها مع رچالة تستاهلهم .. 

يا رب يبعت لهم رچالة ميتخيروش عنك يا حبيبي .. 

ابتسم عاصم وأقترب منحنيا يقبل هامة أمه هامسا: ربنا يعزك يا أمي .. هايبعت لهم الأحسن بإذن الله.. 

هتفت تسنيم معترضة : وهو أنت فيه زيك!! طب ده يا سعدها وهناها اللي ربنا هايكرمها بيك.. 

قهقه عاصم مشاكسا امه : الجرد ف عين أمه غزال.. 

هتفت تسنيم في دفاع مستميت : فشر .. جرد إيه !؟.. ده أنت الباشمهندس عاصم الهواري .. ست البنات تتمناك .. يا رب يرزجك يا حبيبي باللي تريح بالك .. 

تضرع قلبه في خشوع مؤمنا.. واستقرت عيناه خارج النافذة من جديد بعد أن غادرته أمه.. ليجد زهرة تسير باتجاه الأرجوحة القديمة، تتطلع إليها في سعادة وتدفع بها في أريحية .. وتساءل في نفسه .. أتراها تذكر كم من المرات أخرجته من معترك مباراة ما حتى يدفع بها لتجلس على الأرجوحة، وينتهي به الأمر لترك المباراة والدنيا بأسرها في سبيل اسعادها وسماع رفرفات ضحكاتها الندية كالفراشات تحط فوق بتلات قلبه الغض !؟.. 

تركت زهرة الأرجوحة تترنح كقلبه في حضرة طيف ذكرياتهما.. وسارت حتى حجرة القراءة لتجلس بعد أن تناولت أحد الكتب، تغرق بين صفحاته كعادتها، بينما يغرق هو في محياها كعادته .. 

        ******************* 

طرق سمير على باب غرفة سهام طرقات متتابعة أشبه بالطبول ما دفعها لتبتسم هاتفة له : ادخل يا سمير .. 

دلف للحجرة هاتفا بدوره : أخبار عروستنا اللي هنخلص منها جريب إيه !؟ .. 

تطلعت سهام نحوه متعجبة وهتفت مستفسرة : عروسة إيه !؟ وتخلص من مين !؟ أنت جصدك إيه !؟ 

هتف سمير متخابثا : چالك عريس يا مفعوصة .. چه وطلبك مني .. 

هتفت سهام بلا اهتمام : ومين ده بجى !؟ وليه مچاش يطلبني من أبويا على طول !؟ 

أكد سمير : لا ما هو چه يچس النبض ويشوف فيه جبول وبعدها يچيب العيلة كلها.. 

أكدت سهام في حزم : بس أني مش عايزة اتچوز .. 

هتف سمير متعجبا : طب مش لما تعرفي هو مين الأول وبعدين أبجي جولي مش عايزة !؟. 

هتفت سهام : هيكون مين يعني !؟.. 

هتف سمير مجيبا : يونس بن الحاچ حامد الحناوي .. 

هتفت سهام مؤكدة : مخلفش كتير ..هو نفس الرد .. أنا مش عايزة اتچوز جبل ما أخلص دراستي .. وأنا لسه بجيلي سنتين .. 

هتف سمير : يعني أرد ع الراچل ولا اسيبك تفكري شوية !!.. 

هتفت سهام : أصبر يومين وبعدين جوله .. وكويس إنك مبلغتش أبوك وأمك .. وكمان ستي سهام .. كانت مسكت فيه وجالت لك خليه ياچي هو وأهله وكانت هاتبجى حكاية وكنت هرفض برضك .. يبجى ليه من أساسه!! .. 

هتف سمير محتجا : بس أنا شايف يونس ميتعيبش يا سهام .. باشمهندس زراعي 

وأخلاجه كويسة .. أنا بجول أجول لأبوكِ وهو يتصرف .. 

انتفضت سهام ترجوه : لاااه ..بلاش يا سمير .. انا مش عاوزة دوشة دماغ ع الفاضي .. أنا مش عوزاه .. 

همس سمير متطلعا لأخته في ريبة : بت يا سهام .. هو فيه حد تاني !؟ .. 

هتفت سهام في عجالة : والله ما في لا حد ولا سبت .. الموضوع بس إني مش عايزة الناس تاچي ويترفض وممكن تبجى زعلة.. خليها كده فالمداري يا سمير .. هو بنفسه شاكك إني أجبل.. عشان كده جالك أنت مش لأبويا على طول .. يبجى ليه !؟ .. 

تنهد سمير في قلة حيلة مؤكدا : أنتِ عندك حج .. واضح إنه مش عايز الموضوع يوسع.. وهو جالها ..يچس النبض .. يبجى تمام على كده .. يومين على جولك وأجوله مفيش نصيب .. مع أن الواد كويس ..طب فكري تاني لحد ما أرد عليه .. يمكن .. 

أكدت سهام تحاول مهادنة أخيها الأكبر : طيب تمام وماله .. مش هيچرا حاچة ..هفكر .. 

هز سمير رأسه موافقا وتركها مغادرا يتمنى لو غيرت رأيها خلال اليومين القادمين .. فهل ستفعل !؟ .. 

            **************** 

طرق باب حجرة المكتب في هدوء ليسمح له ماجد بالدخول وهو ينهي حديثه مع زهرة ابنته التي كانت تحتل المقعد المقابل له .. 

دخل الدكتور محمد هاتفا : السلام عليكم يا دكتور ماجد .. ليا طلب بس عند.. 

توقف محمد ما أن وقعت عيناه على زهرة التي تغير لون وجهها خجلا واخفضت نظراتها حياء .. 

استطرد محمد هاتفا في إحراج : أنا آسف.. معرفش أن حضرتك عندك حد .. 

هتف ماجد مبتسما : حد مين !؟ تعالى يا دكتور محمد أدخل .. دي زهرة بنتي ..  عندك كمان .. يعني المفروض هي اللي تقوم تعمل تعظيم سلام دلوقتي لأستاذها.. 

قهقه محمد في أريحية وزهرة تتطلع لأبيها بنظرات لأئمة على إحراجها بهذا الشكل .. 

هتف محمد مؤكدا : إحنا اتقابلنا مرة فعلا.. وكانت خارجة من عند حضرتك برضو .. 

هتف ماجد مبتسما : أه يا سيدي .. دي من المرات النادرة اللي الأستاذة بتتكرم عليا فيها بالزيارة .. قال إيه ..عايزة تحس إنها طالبة عادية .. مش بنت الدكتورة إيمان و الدكتور ماجد الهواري.. 

تطلع محمد في إكبار إلى زهرة التي كانت تجلس يتأكلها الخجل مؤكدا في نبرة ودودة والإبتسامة لا تفارق شفتيه : عندها حق .. عايزة تكون جديرة بترتيبها الممتاز على الدفعة .. من غير ما يكون لكم يد في ده .. تلميذة نجيبة .. 

هتف ماجد مازحا : ماشي يا دكتور .. ع العموم ربنا يسهل وتفضل نجيبة السنة دي كمان، عشان تستحق التعيين في الكلية .. 

ابتسم محمد متطلعا إلى زهرة التي رفعت رأسها تهم بالرد على كلام أبيها، لكنها ابتلعت كلماتها ومحمد يهتف مؤكدا : أنا متأكد إنها هتكون زميلة بعد كام شهر .. وهتستحق التعيين بجدارة .. 

تنبهت زهرة لنظراته التي كانت لا تحمل إلا التقدير والاحترام لكنها رغم ذلك أربكتها كليا لتصمت دون أن تنبس بحرف واحد ولا حتى شكرًا على مجاملته وتمنياته الطيبة لها.. بل على العكس نهضت في عجالة مؤكدة بكلمات متعجلة مضطربة أن عليها المغادرة لتلحق بالمحاضرة القادمة والتي هي على وشك البدء .. خرجت من غرفة مكتب أبيها.. مستشعرة ضربات قلبها تصم أذنيها عن كل ما حولها عدا صوته.. الذي كانت نبرته الرخيمة تطرب روحها .. 

             **************** 

لا تعلم كيف جاءها ذاك الملف دون أن يمر على أبيها للاطلاع وإجازته .. كان ذاك إهمال لا يمكن السكوت عنه .. نهضت مندفعة نحو مكتب أبيها باحثة عن سكرتيرته الحسناء التي لا تحسن شيئا إلا التزين والوقوف أمام المرآة .. هكذا كانت تصفها فريدة دوما متحاملة .. رغم أنها تقوم بعملها على أفضل وجه .. فلولا تمكنها لما كانت سكرتيرة رئيس مجلس الإدارة ذاته .. وما حظيت بهذا المنصب الهام .. 

وصلت فريدة إلى المكتب واندفعت للداخل هاتفة في حنق : أنتِ أمتى هتشوفي شغلك صح !؟ 

ودفعت بالملف ليسقط أمام السكرتيرة التي اضطربت في توتر لعلمها بشدة فريدة وعدم تهاونها في ارتكاب أية أخطاء مهما كانت هينة .. أمسكت السكرتيرة بالملف بين يديها هاتفة في تساؤل وبنبرة مضطربة : إيه بس اللي حصل يا أستاذة فريدة !؟ .. 

هتفت فريدة في ضيق : سؤالك من أساسه بيأكد إنك مش عارفة تشوفي شغلك مظبوط.. من أمتى بيتعرض عليا ملفات مخدتش تأشيرة من البلشمهندس حمزة بنفسه !؟ .. بصي كده ع الملف ..فين تأشيرة خروج الملف ده من مكتبه .. ده اسمه استهتار .. لأن لو ده ملف صفقة مهمة وكبيرة .. كان هايبقى فيها كلام تاني يا أستاذة .. 

وقفت السكرتيرة ترتجف لأن فريدة كان لها كل الحق في تأنيبها وهتفت تدافع عن نفسها بنبرة معتذرة : أنتِ عندك حق يا استاذة فريدة .. بس الظاهر عم منعم الساعي اللي بعته بالملفات لحضرتك .. خد الملف ده معاهم بالغلط .. 

هنا ارتفع صوت فريدة مؤنبة : عذر أقبح من ذنب يا .. 

هنا انفرج باب مكتب أبيها ليظهر حمزة مستفسرا عن تلك الضوضاء الآتية له حتى الداخل : إيه في !؟ .. إيه اللي چرى يا فريدة عشان صوتك يعلى للدرچة دي !؟ .. تعالي چوه نتفاهم .. 

كتمت فريدة حنقها، وتطلعت للسكرتيرة في لوم مندفعة خلف أبيها لداخل غرفة المكتب مؤكدة في نبرة عملية : إهمال وتسيب .. دي مش طريقة شغل محت.. 

قطعت كلماتها التي غصت بحروفها وهي تتطلع لذاك الذي كان يجلس على أحد مقاعد طاولة الاجتماعات الضخمة ملتهيا ببعض الأوراق المبعثرة أمامه .. والذي ما أن رفع رأسه متطلعا إليها، حتى شعرت بأن الأرض تميد بها .. لكنها قاومت في بسالة واستجمعت قواها وشحذت همتها التي استنفذت كل طاقتها تقريبا وهي تسير نحوه برفقة أبيها لينهض في تأدب مادا كفه إليها وحمزة يعرفه لها وكأنها لا تعرفه : الباشمهندس نزار الغمري يا فريدة .. طبعا أكيد سمعتي باسمه .. أشهر من نار على علم .. 

مدت كفها الباردة ليتلقفها نزار محييا إياها في رسمية ظاهرية متطلعا نحو حمزة هاتفا: العفو يا حمزة بيه .. 

وحاد بناظريه تجاهها : تشرفنا يا آنسة فريدة .. 

سحبت كفها منه في ثبات تحسد عليه، وهتفت في نبرة باردة : أستاذة فريدة .. 

تطلع نحوها في تعجب، قبل أن يهتف في نبرة حاول أن يكسوها الثبات : تشرفنا يا أستاذة فريدة .. 

ما أن أنهى كلماته، حتى تجاهلته فريدة موجهة ناظريها تجاه أبيها مؤكدة : أنا فمكتبي يا باشمهندس حمزة .. عن إذنك.. 

وتحركت في اتجاه باب المكتب مغادرة، تاركة إياه غارقا في حيرته .. حتى أنها غادرت دون أن تلق التحية المعتادة، كأنه ليس هنا من الأساس .. 

            ************** 

نزلت الدرج في هوادة كعادتها .. كانت مثالا للرقة والوداعة على حق .. طالعتها جدتها الحاجة وجيدة .. رأس عائلة أبو منصور .. والتي كانت لها جذور عريقة في نجع الصالح هاتفة في محبة : اللهم بارك .. ربنا يحفظك من العين يا حبيبة ستك  .. الله أكبر .. 

ابتسمت لجدتها لأمها هاتفة في نبرة هادئة : مش للدرجة دي يا ستي .. 

هتفت الحاجة وجيدة معترضة : للدرچة دي ونص كمان .. أنتِ معرفاش جدرك ..ولا عارفة أنتِ بت مين ولا إيه!؟ 

هزت رأسها مؤكدة أنها تحفظ سلسال العائلة الكريمة حتى الجد السابع قبل أن تفكر جدتها في سرد حكاياتهم عليها كما كانت تفعل عندما كانت فتاة صغيرة .. 


وهتفت مستأذنة : أنا خارچة اتمشى شوية يا ستي .. النچع وحشني .. 

هتفت الحاجة وجيدة مؤكدة : وماله يا بتي.. بس خدي مرعي الغفير معاكِ .. 

هتفت معترضة : هاخد الغفير معايا وأنا بتمشي يا ستي !؟ .. ليه يعني !؟ .. 

هتفت وجيدة في صرامة : إيوه .. يا كده يا بلاها .. يعني 

هتفت الفتاة في ضيق تحاول كبح جماحه: خلاص يا ستي .. هروح الإسطبلات .. بلاها خروچ .. 

هتفت جدتها بلامبالاة : يبجى أحسن .. 


سارت الفتاة لخارج دار أبو منصور في اتجاه الإسطبلات التي كانت تقبع في الجهة الخلفية من الدار .. دخلتها باحثة عنه .. صهل كأنما أستشعر وجودها .. وصلت لموضع وقوفه شامخا وربتت على عنقه في ترحاب ليهز رأسه في سعادة بالغة لمرأها.. فتحت الحاجز ودخلت إلى محبسه الذي كان الخفير يحكمه حتى لا يخرج كعادته على حين غفلة منه .. 

افتقدت اعتلاء صهوته فوضعت قدمها على  المهماز ..موضع القدم المدلى من السرج الذي للعجب وجدته موضوعا على ظهره وكأنه كان معدا من فترة للركوب .. لكن لمن يا ترى !؟ .. لم تشغل بالها .. فهي تعلم أن الخفير لم يكن بالكفاءة الكافية للتعامل مع الأحصنة .. كان الإسطبل يلزمه خبير منذ زمن .. لكن رغبة جدتها في عدم تكليف أحدهم بمسؤولية الإسطبل ..جعل الخفير يهمل قليلا فيما يخص الفرس .. 

شعرت بالسعادة وهي على صهوة الفرس بهذا الشكل الذي لم تستشعره منذ زمن ..فقد كانت تركبه دوما في غفلة من جدتها حتى لا تنل منها وصلة تقريع لا داعي لها .. أمسكت برسنه متخيلة أنها تقوده على الطرقات في خيلاء .. لكن للعجب وجدت الفرس قد تحرك كأنما أحس رغبتها دافعا الحاجز الذي نسيت إغلاقه عند دخولها .. 

كادت أن تصرخ مستنجدة وهو يبتعد بها وهي لا قدرة لها على إيقافه فهي لم تكن خبيرة في امتطاء الخيل .. 

بدأ الفرس يسرع الخطى مغادرا حدود الدار من منفذ بالسور الخلفي كان يحفظه عن ظهر قلب.. 

حاولت من جديد إيقافه بلا جدوى ولا تملك الشجاعة الكافية والجرأة للقفز من على صهوته قبل أن يسير بها متبخترا بطرقات النجع، لتصبح مثار حديث ولغو هي في غنى عنه.. وإذا ما وصل الأمر لجدتها فلن تكن العواقب سليمة أبدا .. فالحاجة وجيدة لا تتهاون في مثل هذه الأمور .. 

تنفست الصعداء عندما أتخذ الفرس مسارا مغايرا للطريق الترابي للنجع متسللا لحديقة خلفية لدار ما .. كانت مهجورة لفترة ثم عاد لها ساكنيها .. لم تكن تهتم بمثل هذه الأخبار.. من عاد ومن رحل .. لم يكن هذه الأخبار تعنيها.. فقد وضعتها جدتها بمعزل عن النجع وناسه وكل ما يدور به .. 

توقف الفرس عند شرفة الدار ولم يتزحزح ولو خطوة .. كان جل اهتمامها ينصب على محاولة إقناعه بالابتعاد عن الدار فلربما يخرج أحد قاطنيها موبخا إياها .. لكن الفرس لم يستجب بل إنه صهل في ثقة كأنه ينادي أحدهم نكاية فيها .. 

كادت أن تسقط عن ظهر الفرس هلعا عندما دُفع الباب ليخرج منه شخص يجلس على كرسي مدولب حاملا صحن ضخم مملوء بالفواكه وبعض الخضروات .. 


هتف الشاب في أريحية من خلف الباب قبل أن يصبح على الشرفة بالفعل : في ميعادك بالظبط يا أستاذ عنتر .. 

تنبه مروان لوجود إحدهم يعتلي صهوة الفرس فتوقف بكرسيه للحظة متطلعا إليها في اضطراب عندما أدرك أنها فتاة لم تكن بأقل من اضطرابا وهي تقف هكذا أمام غريب لا تعرفه.. غير قادرة على التحكم في الفرس لترحل أو حتى عندها الشجاعة لتترجل عن صهوته دون مساعدة من أحدهم .. 

كان مروان المتحدث أولا قاطعا الصمت السائد بينهما هاتفا : ده فرسك !؟ .. 


هزت رأسها إيجابا ثم في نفس اللحظة هزت رأسها نفيا .. ابتسم لهذه الإجابة المتضاربة .. 

تحرك عنتر عندما استشعر أن مروان لم يعد يوليه الاهتمام المعتاد وتأخر في تقديم هداياه من الجزر، لينم عنها شهقة فزع ما أن بدأ عنتر بالتحرك .. استشعر مروان خوفها ما دفعه ليهتف بعنتر ليعاود ثباته ما أن قدم مروان له الجزر الذي تلقاه في لهفة وسعادة .. 

هتفت الفتاة في خجل : متشكرة .. 

هتف مروان في ثبات رغم اضطرابه الداخلي: لو حابة تنزلي استغلي إن عنتر ملهي في الجزر .. وياللاه .. 


اضطربت هي غير قادرة على الإجابة لكن عندما تذكرت العواقب التي يمكن أن تواجها اذا ما خرج عنتر للطريق قبل أن تترجل عن صهوته جعلها ذلك تهمس في خجل: مبعرفش أنزل لوحدي .. 

تطلع مروان إليها للحظة قبل أن يشير لكرسيه المدولب في خيبة : وأنا زي ما أنتِ شايفة .. عاجز .. 

تطلعت نحوه عندما نطق كلمته الأخيرة بهذه النبرة التي تحمل وجع الكون بمكنوناتها .. 


تلاقت نظراتهما لبرهة، قبل أن يستطرد في نبرة مغايرة، بعد تنهيدة حسرة : بس خليني أحاول .. 

تحرك بكرسيه في اتجاه ذاك الممر الخشبي الذي صنعه والداه عبر الحديقة ليستطيع التجول بها دون أن تعلق عجلات كرسيه ببعض الحصى أو الأوحال .. 

توقف بكرسيه بالقرب من موضع المهماز الذي يحمل قدمها على سرج الفرس ..ومد كفه ممسكا بالسرج مثبتا الفرس على قدر استطاعته ..هاتفا بعنتر أمرا إياه ألا يتحرك.. وقد اطاعه الفرس منصاعا .. وما أن تأكد له أن الفرس تحت السيطرة حتى رفع ناظريه إليها أمرا إياها : شيلي رجلك من على المهماز وحطيها هنا .. 

كان قد ضم كفيه معا، مشبكا أصابعه ليصنع لقدمها موضع تستند عليه لتستطيع النزول .. لكنها تطلعت لكفاه المتشابكتين في اعتراض هاتفة برفض : لااا.. مش هاينفع .. لااا خلاص .. 

هتف بها مروان مطمئنا : متخافيش .. مش هفلتك ومش هتوقعي ..ربنا عوضني عن قوة رجلي فأيدي .. 

هتفت به الفتاة في اضطراب : أنا مش خايفة عليا .. أنا خايفة عليك .. يمكن أاذيك في نزولي .. أنا هحاول أنزل لوحدي وخلاص .. 

هتف بها مروان محاولا إقناعها : اسمعي كلامي بس .. دي أأمن طريقة ل.. 

لم تكن تستمع من الأساس.. بل إنها جابهت خوفها وتشجعت لتترجل عن الفرس بالفعل.. لكن قدمها هي من خانتها وتعلق حذائها بالمهماز.. لتسقط بالفعل.. لكن وجوده في موضعه كان كافيا ليحميها من إصابة محققة .. وهي تسقط بين ذراعيه .. تقريبا جالسة بأحضانه .. 

ساد الصمت المشوب بالصدمة وكل منهما يتطلع للأخر مأخوذا .. لكن مروان همس أخيرا بصوت متحشرج حاول أن يكسوه بنبرة مرحة لتلطيف الأجواء المضطربة : أنا قلت هاتي رجلك بس على فكرة .. 

واتسعت ابتسامته المضطربة ما جعل الفتاة تنتفض مبتعدة عن ذراعيه.. تهرول راحلة من حيث جاءت.. وقد نسيت عنتر الذي انتهى من تناول الجزر الطازج بالفعل وبدأ في تذوق التفاح في استمتاع لا يبال بما يحدث على بعد خطوات منه .. 

ظل مروان مأخوذا يتبع بناظريه تلك الهاربة التي لم يعرف حتى اسمها أو من تكون ..شاردا النظرات لموضع اختفائها .. لكنه استفاق على هتافات الخفير المعتادة، كلما جاء باحثا عن عنتر الهارب، والذي أصبح يعلم جيدا اين يجده دون جهد يذكر ..  جذب الخفير عنتر في سرعة .. ولم يكن مروان بعد قد استعاد رشده .. فلم يفطن لسؤال الخفير عن من يكون صاحب عنتر.. ساعتها كان سيعرف من تكون تلك التي سقطت بأحضانه وهربت كأرنب مذعور تاركة إياه مستشعرا افتقاد شيء ما بدواخله لا يعرف كنهه .. سلبته ورحلت هكذا بكل بساطة .. تاركة خلفها قلب يتألق بكفه الآن.. يحمل حرف اسمها الأول.. ظل يتطلع إليه مروان أمام ناظريه تخالط جنباته مشاعر شتى .. وأخيرا.. ضم على القلب الفضي كفه في وجل ..  


                   الفصل الرابع من هنا 

لقراءة باقي الفصول من هنا 

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close