أخر الاخبار

رواية لعنة الغراب الاسود الفصل الاول1بقلم خلود خالد خلف


رواية لعنة الغراب الاسود 
الفصل الاول1
بقلم خلود خالد خلف



-هروب من الماضي - 

__________________ 

إحدى قرى مدينة طنطا 1978 

إذا كنت تظن أن جريمتك ستختفي إلي الأبد مع دفنك لها فأنت واهم و إذا كان لا يوجد شهود عليك فالله شاهد و و هو وحده القادر- علي تصفية الحسابات . 

إنتهي من إهالة التراب علي جزء من جريمته التي دفنها تحت إحدى الأشجار وأخذ فأسه و وعاء الوقود الذي أخرجه من سيارته و إتجه إلي المنزل الذي يقبع في ظلام البلدة و علي أطرافها و لا يشعر أحد بما يدور به مهما حدث لبُعد مكانه عن المناطق المأهولة و أيضًا هدوء البلدة خاصة في الليل .

دخل المنزل و نظر إلي الجسد الملقي بنظرات خاوية حينها اشتد ألم ذراعه و رمي ما بيده و هو يمسكه بشدة و قد احمرت عيناه ألماً .

تحامل علي نفسه و أمسك الوقود يسكبه في كل مكان بذراع واحدة ثم خرج إلي الحديقة و هو يسكب أخر جزء منه أمام الباب .

أخرج علبة الثقاب من جيبه و أشعل عودًا و ألقاه.. ليبدأ بعدها الجحيم .

*************** 

بعد مرور ثلاث سنوات 

جرت السيدة العشرينية في طرقات الطابق العلوي للمنزل في الصباح الباكر و هي تنادي بجزع : زياد أنت فين ؟ زياد ؟

قابلها زوجها و هو يصعد السلالم من الطابق السفلي قائلاً بلهفة : لقتيه يا سعاد ؟

هزت رأسها نفياً و هي علي وشك البكاء قائلة : لأ 

تصاعد القلق بأعماقه، قائلًا بجزع : هيكون فين ده نايم في أوضته قدامي إمبارح 

أمسكته سعاد من قميصه، قائلة بلوعة و هي تبكي : ابني فين يا حاتم ؟ أنا عايزة ابني هات لي ابني يا حاتم 

 و فجأة صاح أحد الرجال في الأسفل و هو يدخل المنزل مهرولاَ : يا حاج جبريل.. الحق يا حاج.. يا أستاذ حاتم 

هرعوا إلي الأسفل، و قابلهم والد حاتم الذي قابل الرجل قائلاً بانفعال : في ايه ؟ لقيتوا زياد؟

نظر لهم الرجل بإشفاق، و قال بتردد خافت : أيوه 

سعاد ببكاء : ابني هو فين مجاش ليه ؟

صمت الرجل و هو يبتلع ريقه بصعوبة.. فقال حاتم بغضب : ما تنطق يا بني ادم.

الرجل كمن يلقي قنبلة : لقناه غرقان في الترعة.

شهقت سعاد غير مصدقة، و سقطت مغشيًا عليها.. بينما بدأ ألم ذراع حاتم فمسكه و هو يكتم انفعاله، و صرخ جبريل بالرجل قائلًا بصدمة : أنت بتقول ايه ؟ ************** 

القاهرة 1983 

- لقد كان يوماً عصيباً عليِ .. يوم خرجت في أخر نزهة لي مع والدتي و أخي الحبيب .

اعتذر أبي عن المجئ لإنشغاله بتوديع  عمتي تهاني وزوجها و أبنائهم قبل سفرهم إلي دولة العراق الشقيق لقد كان محظوظاً لأنه لم يرى ما رأيته ..لم يحضر لحظة مزقت قلبي .. لحظة حبست صوتي في حلقي .. لا أعلم لما تركتهما في هذه اللحظة تحديداً حتي يفارقت الدنيا بدوني .. لقد كان بيني و بينهما بضع خطوات فقط ..ولكن هو النصيب .. النصيب الذي جعلني أركض خلف قطة صغيرة لملاعبتها، فسقط سور الحديقة المتهالك فوقهما ..عجباً لقد كنت أجلس معهما منذ أقل من ثانية .. لقد سقط الجدار أيضاً في محل جلوسي ولكني كنت قد فررت منه.. لأني ما زال في عمرى بقية  واأن هناك من تنتظرني في مكان أخر تنشد المساعدة .

- جلست في شرفتها تتأمل طلاب المدرسة الابتدائية المواجهة لمنزلها و هم يركضون خروجاً من المدرسة بعد إنتهاء اليوم الدراسي.. و رغم أن الوقت قد تجاوز الظهيرة بقليل إلا أن نسمة هواء واضحة لفحت وجهها الهادئ فتطاير شعرها الأسود، و ابتسمت بهدوء فهي تعرف أن هذه النسمة تعني بالنسبة لها دخول فصل الخريف.. الفصل المفضل لوالدتها و أخيها التوأم رحمهما الله .

خرج مدرس في الأربعينات من عمره من المدرسة بعد إنتهاء خروج الطلاب،و أشار لها بحب أبوي و هي تجلس بالنافذة، ثم أغلق البوابة مع حارس المدرسة مغادراً . 

ما هي إلا دقائق، و فتح الباب و دخل منه. فأسرعت إليه لتُلقي نفسها بين ذراعيه احتضنها بحنان قائلاً  بعتاب :برضه ما رحتيش المدرسة النهاردة يا ليلي؟

أشارت برأسها علامة النفي، وهي تضع وجهها الحزين في الأرض خجلاً.

ربت علي شعرها بحنان قائلاً: و لا يهمك يا حبيبة بابا وقت ما تحبي تروحي روحي.. غير كده ما تضغطيش علي نفسك. 

أتت سيدة في أواخر الثلاثينات وهي تمسح يدها بفوطة صغيرة قائلة : أنت جيت امته يا كمال؟ 

كمال و هو يضع حقيبته الصغيرة علي الطاولة، و يجلس مُستريحاً : لسه حالاً يا تهاني. 

جلست تهاني بجواره وهي تقول بامتعاض : بنتك غلبتني زي كل يوم.

نظرت لها ليلي بحزن وخجل، وانسحبت بهدوء إلي غرفتها.. تبعها كمال بعيون حزينة .

كمال بعتاب لأخته : يعني مكنتيش عارفة تقولي الكلمتين دول بيني وبينك.. أنا ما باصدق إن البنت تتحسن شوية

تهاني بامتعاض : بنتك بتدلع سنة دلوقتي على وفاة أخوها و مامتها وهي لسه زي ما هي ما بتتكلمش وعاملة فيها درويشة لا مدرسة بتروح، ولا اختلاط بحد.. الكلام ده ما ينفعش لازم تشوف طريقة معاها.

كمال بضيق : اعمل معاها ايه يا تهاني؟.. اقتلها يعني عشان ترتاحي.. واحدة شافت أمها و أخوها ميتين قدام عينها..عايزه حالتها تبقي عاملة ازاي.. ده حتي الحيوانات بيحزنوا علي بعض.

تهاني بعدم رضا وهي تُخرج الأطباق من الخزانة المجاورة لهما: يعني عاجبك إنها ضيعت السنة اللي فاتت علي نفسها وهي ثانوية عامة وشكلها هتضيع السنة دي كمان. 

لم يجيبها كمال وزفر بضيق وهم .. بينما  انهمكت هي بوضع الغداء على الطاولة.

****

سعاد بتعملي ايه؟

أطلق السؤال شاب في الثلاثينات من عمره لزوجته التي شارفت على الثلاثين من عمرها.

أجابت بحدة وهي تضع ملابسها في حقيبة : زي ما أنت شايف باجهز شنطي أنا والولاد.. رايحة لماما.

أولته ظهرها وهي تُكمل ما بيدها، فجذبها من ذراعها بعنف إليه، قائلًا بغضب: احنا مش خلصنا من الموضوع ده.

نفضت يدها من قبضته، قائلة بقلب جريح: لأ ما خلصناش.. أنا مش هاستني لحد ما ولادي كلهم يموتوا هنا.. أنا نازلة طنطا لماما يعني نازلة يا حاتم. 

حاتم باستعطاف مزيف: طيب استني لحد بالليل. 

سعاد وهي تُكمل ما بدأت : اشمعن؟

 حاتم  بصوت مُتأثر: عشان بابا زمانه راجع من القاهرة وقالي جايب ألعاب لطارق وياسمين، و عايز يتعشي معانا يرضيكي نزعله.

توقفت سعاد عن عملها، قائلة  في حيرة : الحاج جبريل علي راسي من فوق بس خلاص فاضل شهر بس و أنا.. 

أمسك حاتم يدها ليوثر عليها، قائلًا بحنان : شهر  ايه بس وبتاع ايه.. الأوهام اللي في دماغك دي مش هتحصل إن شاء الله.

فرت دمعة من عين سعاد، قائلة بصوت مختنق : موت زياد ابننا كان وهم يا حاتم؟

اعتصر الألم قلب حاتم قائلًا : لا مكنش وهم للأسف .. أنا قصدي إن اللي بتفكري فيه دلوقتي وخوفك المرضي على الولاد ده هو اللي وهم. 

سعاد بخوف : أنا قلبي مش مرتاح يا حاتم.. أرجوك سيبني اروح لماما علي الاقل الفترة دي.. أنا هاكون أنا والولاد أحسن هناك.

حاتم ليجاريها : حاضر بس هتمشي بالليل؛ عشان نقعد مع بابا و ما يزعلش.

سعاد باستكانة : حاضر. 

حاتم وهو يحيطها بذراعيه مبتسماً: أنا عارف إنك عاقلة وقلبك كبير.

رغم محاولته لطمأنة قلبها إلا أن قلبها  كان يصرخ فزعاً على أطفالها، وناره  لم تبرد بعد علي ولدها الأكبر  الذي توفي منذ عامين تقريباً في ظروف غامضة، وتخاف أن تتكرر المأساة مرة أخرى ولكنها ستنتظر للمساء فهي مجرد ساعات وترتاح بجوار والدتها في طنطا وفي أحضانها طفليها اللذان لا تملك من  الدنيا سواهما.  

*** 

انتهي كمال من صلاة العشاء، وخرج من غرفته مُرتدياً ملابس الخروج. 

تهاني بألية: أنت رايح القهوة برضه؟ 

كمال : ايوه.

تهاني بتردد : علي فكرة أنا مسافرة أخر الشهر.. أنا قعدتي هنا طولت وجوزي و ولادي محتاجين لي. 

كمال بتنهيدة : براحتك يا تهاني..كفاية تعبك معانا الفترة اللي فاتت. 

تهاني بقلق : طاب وبنتك هتقعد مع مين؟.. وأنت بره بعد كده؟

كمال بحيرة : هاشوف الموضوع ده ما تقلقيش.

تهاني بجدية : بقولك ايه ما تشوف لك بيعه للشقة دي وتعزل يمكن ليلي نفسيتها ترتاح. 

كمال بسرعة غاضبًا : لا طبعًا.. أنا عمري ما أبيع ذكرياتي مع مراتي وأولادي.. أنتِ ازاي تقولي كده ؟

تهاني بحدة مُفاجئة: و بنتك عمرها ما هتتحسن طول ما أنت قاعد هنا.. لازم تمشوا من هنا حتي لو هتسافروا.. البنت محتاجة تغير جو طول ما هي هنا هتعيش وسط الصور والذكريات ومش هتختلط بحد. 

نظر لها كمال بحزن ولم يجيب فهو يعرف أنها علي حق تماماً،و دائمًا ما يعجز عن الرد عليها، فقطع الكلام قائلًا: أنا نازل. 

 أغلق باب المنزل خلفه مغادراً، بينما قالت تهاني بتنهيدة: ربنا يصلح حالك يا أخويا،ٍ ويشفي بنتك يارب.

ذهبت لغرفة ليلي وفتحتها، لتجدها تغط في نوم عميق وهي مُحتضنة ألبوم صور عائلتها، وصوت القرآن الكريم يملأ الحجرة، فيشعر من يدخلها بالهدوء و السكينة.

أخذت تهاني الألبوم بحرص من بين ذراعي ليلي ووضعته علي مكتبها، ودثرتها بغطائها، وخفضت صوت الراديو قليلًا، ثم طبعت قبلة علي خد ليلي، قائلة بحنان : أنا مش وحشة يا ليلي.. بس مشكلتي إني ما بعرفش ازوق الكلام.. ما تزعليش مني يا بنتي. 

وأغلقت أضواء الحجرة مغادرة.

****** 

انهمك الخدم في رفع أطباق طعام العشاء من علي الطاولة الفخمة في منزل الحاج جبريل. 

بينما جلس الحاج جبريل أرضًا، وهو يُدير لعبة القطار لأحفاده طارق وياسمين، وعندما انطلق القطار مصدرًا أصوات طفولية.. قفزا الطفلان فرحاً محتضنين جدهما قائلين : شكرًا يا جدو. 

قبلا لحيته البيضاء، فقبلهما قائلاً بسعادة:  انتوا تطلبوا عيني يا حبايب جدو. 

نظر لهما حاتم بسعادة، بينما كان عقل سعاد مشغول بالسفر لوالدتها.

في هذه اللحظات، كان كمال يجلس مع صديقه علي المقهي.

صديقه بهدوء :أختك عندها حق يا كمال.. بنتك لازم تغير جو وكمان تحول من مدرستها دي.. لأنها طول ما هي فيها مش هتروحها تاني؛ لأن المدرسة دي مرتبطة بأخوها برضه.

كمال بحيرة : طيب اعمل ايه بس.. دبرني؟ 

صديقه : ربنا المدبر يا كمال، وأنا شايف إنها محلولة.

كمال باستغراب :ازاي؟ 

صديقه بهدوء: إنك تقبل الترقية المعروضة عليك، وما تأجلهاش أكتر من كده.

كمال باستنكار : عايزني أروح الغربية يا عزت؟

عزت بسرعة:  وفيها ايه أنت هتبقي ناظر مدرسة هناك... يعني وظيفة أي حد في سننا يتمناها، وبنتك كمان تنقلها مدرسة الثانوي اللي في طنطا، وتندمج بناس ومجتمع جديد.

كمال بعدم اقتناع: بس أنا طول عمري عايش في القاهرة هعيش هناك ازاي وخصوصًا كمان إن المدرسة في قرية يعني مجتمع ريفي، وعادات مش زينا خالص وخايف ليلي تضايق. 

صديقه برزانة : ليلي مكان ما أنت تروح هتروح معاك.. ما تبقاش متردد.. أنا عارف إن أنت كمان مرتبط بهنا عشان ذكريات مراتك و ابنك الله يرحمهم.. بس مصلحة ليلي أهم والجو هناك هيساعدها علي الشفا إن شاء الله. 

كمال باستسلام : عندك حق.

عزت : خلاص بكرة إن شاء الله تروح الإدارة تخلص ورقك وكمان تجهز ورق ليلي عشان تنقلها و إن شاء الله خير.  

****

دقت الخادمة باب غرفة سعاد ودخلت لتجدها بملابس الخروج  وهي تغلق معطفها.

سعاد بهدوء : خدي الشنط دي نزليها يا نعمات، و قولي السواق يجهز و نادي الولاد يلا.

الخادمة بتردد : بس... 

سعاد بتساؤل : بس ايه؟ 

دخل حاتم قائلًا للخادمة : روحي أنتِ يا نعمات. 

نعمات مُغادرة : حاضر يا بيه. 

سعاد بترقب : في ايه؟ 

حاتم مُظهراً الأسف : للأسف مش هينفع تسافروا الليلة. 

سعاد باعتراض : ليه بقه إن شاء الله أنت وعدتني.

حاتم ليُهدئها : بالراحة بس ده ظرف طارئ والله
.. عم لمعي السواق مراته بتولد واضطر يروح. 

نظرت له سعاد بعدم تصديق، فقال مُسرعاً: صدقيني ده اللي حصل. 

سعاد بثورة مفاجئة : أنت بتكدب عليا عشان ما اسافرش.. بتحطني قدام الأمر الواقع يا حاتم.

حاتم نفياً: لا و الله ده اللي حصل.. وطبعًا مش هينفع تسافري دلوقتي مواصلات. 

سعاد مُنهية الحديث وهي تحمل حقيبتها:  خلاص وصلنا أنت. 

نفخ حاتم بضيق قائلاً : أنتِ عارفة إني ما باسوقش بالليل عشان نظري ما يسمحش بكده.. وألا مش واخده بالك من نضارتي. 

وأشار لنظارته الطبية، فأزاحته سعاد بيدها بعيدًا عن طريقها، قائلة بحسم : أنا مش هاستني هنا دقيقة زيادة.. أنا غلطانة إني رجعت من عند ماما أصلًا.

خرجت من الغرفة مُسرعة وهي تنادي أطفالها: ياسمين.. طارق.

اعترض حاتم طريقها، قائلًا بحدة: بلاش الطريقة دي قدام بابا.. مش عشان بحترمك تسوقي فيها.

سعاد بصراخ: ابعد عني.. أنا همشي يعني همشي. 

دفعته بعيداً مُسرعة الي السلم الداخلي للمنزل.. أتي الحاج جبريل مع الطفلان من غرفة في الطابق الأرضي قائلًا بغضب: في ايه يا حاتم؟ 

لم يجيبه حاتم، وأسرع خلف زوجته التي اقتربت من السلم للنزول وحاول مسك ذراعها قائلاً بغضب : لا أنتِ اتجننتي بجد. 

أفلتت سعاد ذراعها منه بسرعة، فاختل توزانها و سقطت فوق السلم لتأخذ درجاته سقوطًا إلي الأسفل وهي تصرخ بفزع حتي استقرت تحت اقدام حماها و أطفالها الصغار

بينما أسرع حاتم إليها بفزع قائلاً: سعاد!!!!



                الفصل الثاني من هنا

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close