رواية إعلان ممول
الفصل الخامس والعشرون 25 الاخير
بقلم رحمة نبيل & فاطمة طه سلطان
_____________
صلوا على نبي الرحمة.
____________
في أحد المطاعم.
كان يجلس داوود وفي قبالته تجلس سكر وأفكار، وتطعمها أفكار وكأن والدتها أصبحت طفلة صغيرة فهى تدللت عليها اليوم وأخبرتها بأنها تشعر بألم في يديها فلتطعمها هي، ولم تتأخر أفكار أبدًا.
فذهب داوود برفقتهما إلى المطعم الخاص بالمشويات كما قررت سكر لأن هذا هو الطعام التي تفضله كأي أمرأة في عمرها لا تحب المعجنات أو طريقة طهي الدجاج المقلي المقرمش المنتشرة، كان داوود يراقبهما وبالأخص يراقب أفكار، هي كتلة مشاعر متحركة فوق الأرض، لا يظن بأن هناك شخص تعرفه ولا تحنو عليه، فهي تبذل قصارى جهدها من أجل أن يعيش الجميع في راحة من حولها، ناسية نفسها تمامًا هذا هو الشيء الذي قام بملاحظته، فهو يتعهد بأنه سيعطيها كل ما أعطته للجميع ولم تحصل عليه.
تحدث داوود بود مقاطعًا هذا الصمت:
_ايه يا سكر عجبك الأكل؟!.
نظرت له سكر في صلف وهي تقول كاذبة حانقة:
_يعني مش بطال، أنا اصلا جيت أنا وأفكار هنا كتير، مش كده يا بت يا أفكار؟!.
لكزتها سكر في نهاية حديثها ونظرت لها نظرات نارية، مما جعل أفكار تعقب وهي تنظر إلى داوود غامزة له:
_اه طبعًا انا وماما كل يوم بنيجي هنا ناكل مرة مرتين كده.
فهم داوود من غمزة أفكار، مما جعله يحافظ على غرور سكر قائلا:
_يا حاجة سكر أنا مبقولش جيتي هنا قبل كده ولا لا، أنا بس بقولك الأكل عجبك؟!.
سألته سكر ببرود:
_هو أنتَ اللي شاويهم ولا طابخهم ايه الهم ده؟! وبعدين ولا حلو ولا نيلة.
تمتمت أفكار بعد أن نظرت لوالدتها نظرة رجاء:
_يا ماما داوود مخرجنا علشان ننبسط وبيسألك الاكل عاجبك ولا لا في ايه بقى قافشة ليه يا سكر؟!.
جاء المشرف من المطبخ وهو يرتدي ملابسه البيضاء والقبعة البيضاء العالية وهو يتنحنح باحترام:
_مساء الخير يا جماعة.
رد الثلاثة في نفس واحد في حبور وابتسامة هادئة:
_مساء النور.
أردف الرجل ببشاشة وبنبرة عملية في الوقت نفسه:
_ايه اخبار الأكل كل حاجة تمام ولا فيه أي مشكلة؟!.
عقبت سكر بابتسامة واسعة قبل أن يتحدث داوود أو أفكار:
_أحلى كفتة وكباب كلتهم في حياتي، عمري ما كلت حاجة بالحلاوة دي تسلم ايدك يا ابني، أنا اول مرة اجي هنا ومش اخر مرة إن شاء الله، المرة الجاية أعرف سر خلطة الكفتة بقا.
نظر لها داوود بذهول وأفكار كانت ترمق نظراته تلك بيأس..
أردف الرجل يتحدث بنبرة عملية:
_تسلمي يا حجة، نورتونا وفي انتظاركم مرة تانية ان شاء الله.
_ان شاء الله يا ابني هاجي ده كفايا وشك السمح مش زي ناس.
قالت سكر تلك الكلمات بحبور والرجل يرحل من أمامها ذاهبًا إلى طاولة أخرى حتى يفعل الشيء ذاته، بعد أن شكرها على كلماتها "تسلمي يارب".
تحدثت داوود بحنق وهو يوجه حديثه إلى أفكار:
_أنا نفسي افهم عملت لأمك ايه علشان مطقنيش كده؟!.
أبتلعت أفكار ريقها وقالت بخفوت:
_معلش يا داوود هي بتحب تهزر معلش، يعني الانسان كل ما بيكبر ب....
تحدثت سكر مقاطعة حديث ابنتها وهي تضربها بخفة على كتفها متمتمة بحنق:
_بتقولي حاجة يا بت؟!.
أردفت أفكار على مضض:
_مبقولش.
أردفت سكر بنبرة ساخرة ومرتفعة بعض الشيء:
_بحسب، أصل أنا مش قاعدة قرطاس جوافة معاكوا ما اقوم واجيبلكم شجرة واتنين ليمون احسن، الواد بيقرطسني وأنا قاعدة.
هتف داوود بغضب يحاول كتمه:
_أقرطسك ايه؟!، وطي صوتك يا حجة سكر، والله لو حد سمعك هيفهمنا غلط، كملي أكلك يا سكر.
أجابت سكر بنبرة لينة وكأنها لم تفعل شيئًا مع ابتسامة زينت ثغرها:
_معاك حق يا حبيبي، اكليني يا أفكار.
ابتسمت أفكار وعادت تضع الطعام في فم والدتها مدللة إياها بينما داوود يشفق عليها فهي لم تتناول شيء تقريبًا وانشغلت بإطعام والدتها، وحينما تكرمت سكر وتوقفت عن تناول الطعام بدأت أفكار تتناول القليل.
وبعد أن أنتهى الجميع، طلب داوود عصائر طازجة ومشروبات غازية لهما..
وبعدها اقتحم الصمت الأجواء مرة أخرى، تحدث داوود:
_قوليلي يا أفكار عايزة ايه اجيبهولك بمناسبة أنك حليتي حلو، او بتتمني ايه عمومًا قولي اللي نفسك فيه،..
بدون وعي تحدثت أفكار بجراءة لا تدري من أين أتت لها:
_نتجوز...
لاحظت أعين داوود المفتوحة على أخرها، مما جعل أفكار تتحدث محاولة إصلاح الوضع لا تدري أنها تفسده أكثر كلما حاولت إصلاحه كعادتها:
_نكتب الكتاب بس أقصد.
هنا أدركت أفكار بأن لسانها سبب المتاعب في حياتها، فهي أصيبت بالخجل تمنت لو أن تنشق الأرض وتبتلعها..
تحدثت سكر بجنون شديد وبنبرة منفعلة:
_يابنتي اتقلي شوية، أنتِ مدلوقة عليه كده ليه، اومال لو كان حلو شوية كنتي عملتي فينا ايه؟! والله اخوه رغم أنه أقرع وقرعته منورة كده زي البطيخة، بس أحسن منه واهو طلق الاتنين، والتالتة تابته يعني هتبقي الأخيرة، إنما ده مش مضمون.
شعرت أفكار الشرار يتطاير من أذنيه عقب كلمات والدتها، فهو يغار بشدة ولا تعلم سكر كم تغضبه حينما تذكر هذا الأمر تحديدًا.
_يا ماما بس...
أخذ داوود رشفة من العصير المتواجد أمامه ومرر أصابعه في خصلاته الفحمية ثم غمغم بهدوء حاول تصنعه وهو ينتقل إلى الموضوع الآخر:
_سكر أنتِ عندك باسبور؟!.
سألته سكر بعدم فهم:
_يطلع أيه الباسبور ده يا ابني؟!.
حاولت أفكار شرح الأمر لها ببساطة:
_باسبور يا امي، اللي هو جواز السفر اللي بيطلعوه علشان يسافروا بيه.
ثم وجهت حديثها إلى داوود بحرج فهي مازالت تشعر بالحرج بسبب ما قالته منذ دقائق:
_معندهاش يا داوود.
غمغم داوود مشاكسًا أياها:
_حلو يبقى تطلعه، ونمشي في إجراءات الباسبور ونمشي في إجراءات كتب الكتاب.
توردت وجنتي أفكار وحاولت قول أي شيء قد يحفظ ماء وجهها:
_أنا، أنا، أنا كنت بهزر أصلا، هفكر أنا عايزة أيه وهقولك.
قال داوود بعبث وابتسامة مشرقة:
_أنا عرفت أنتِ عايزة أيه خلاص.
عقبت سكر حانقة:
_عايزين نروح يا حبيبي، هنعوز ايه يعني من جنابك.
تأكد داوود أن هذا ذنب يقوم بتكفيره بسبب حبه لأفكار ابنه سكر، اعترف لنفسه بأنه أصبح عاشقًا لها، ومتيم بها بطريقة هو نفسه لم يستوعبها.
_____________
تعقد ساعديها وتقف على باب المطبخ تلقي اوامرها على ابنه شقيقها، لا تهتم حتى بحملها وأنها في بدايته، ويجب عليها الراحة كما أخبرهم الطبيب.
أنهت روضة تنظيف الحوض وتلميعه بعد أن أنهت غسيل الصحون والأواني، هتفت عمتها بحنق وبنقد دائم:
_لمعي عدل مش كفايا بعد ما غسلتي ياست هانم المواعين بتاعت البشاميل كان في حتة بشاميل على الحلة من برا وأنتِ تقوليلي غسلتها يا عمتو وخلصت يا عمتو، لو أمك كان بترضى بشغل التلصقة ده أنا مبحبهوش.
تمتمت روضة من بين أسنانها وهي تنظر لها بضيقٍ وحنق:
_لا أنا مكنتش بشيل حاجة من على الارض من بيتنا.
خرجت ضحكة ساخرة ومائعة من عمتها وهي تتحدث باستخفاف:
_مهوا باين يا حبيبتي أن امك مش معلماكِ اي حاجة من غير ما تقولي واضحة وضوح الشمس.
شعرت روضة بألم في صدرها، لطالما كانت والدتها تعاملها كأميرة لا تفعل اي شيء في منزلها، لا تتذكر أنها ذات يوم قامت بطهي الطعام، أو قامت بتنظيف الشقة حتى، غسيل الأواني لم تكن تعرف لها طريق لذلك كانت أظافرها دائما طويلة تعتني بها بمهارة وخبرة، عند ذكر الأظافر نظرت على أظافرها المتهالكة التي تكسرت معظمها وباتت ضعيفة وهشة فعمتها لا تترك أي مهمة في المنزل إلا لها..
لم ترها روضة تفعل شيء منذ زواجها في منزلها بل تجعل كل المهام على عاتقها هي، رُبما لو كانت مريضة أو حتى أمرأة عاجزة لتفهمت الوضح ولكنها تجد أمرأة مفعمة بالصحة ترغب في اذلالها لا أكثر.
شعرت روضة بالدوار الذي ينتباها منذ بداية حملها وأخبرها الطبيب بأن هذا الأمر طبيعي، فجلست روضة على أقرب مقعد مما جعل عمتها تتحدث بحنق:
_ايوة مثلي مثلي.
كادت روضة أن تتحدث من وسط دورانها بغضب فهي لا تتحمل كلماتها السامة، ولكن قاطع هذا الحديث ياسر الذي جاء من الخارج وأخذ يبحث عنهما حتى وصل إلى المطبخ ليجد والدته تقف وتوجه نظراتها النارية ناحية زوجته التي تدفن وجهها بين كفيها تحدث ياسر بلهفة وهو يقترب من روضة:
_روضة أنتِ كويسة؟!.
تمتمت روضة باقتضاب:
_مفيش حاجة دايخة شوية بس.
غمغمت والدته بعدم رضا وهي تلوي فمها بتهكم:
_دلع مِرق، ومرقعة بس علشان تهرب من الحاجات اللي وراها.
أردف ياسر للمرة الأولى تقريبًا مدافعًا عنها:
_في ايه يا ماما ما الحاجات تستنى مدام تعبانة، خفي شوية عليها وساعدوا بعض.
شهقت والدته بعنف وهي تضرب بيدها على صدرها متمتمة بانفعال:
_بترد على امك وبتبجح فيا علشان السنيورة؟! ايه لحقت كلت عقلك يا ابن بطني؟!! وبتقويك على امك؟!..
لم تتحمل روضة هذا النزاع فنهضت تاركة أياهم رغم شعورها بالاعياء والدوران ولكنها لا تتحملها حقًا مما جعل والدته تتحدث بنزق بعد رحيلها:
_شوفت اهي زي القردة قامت علشان تعرف انها بتمثل اول ما سمعت باب الشقة اترزع وانك جيت عملت الشويتين بتوعها..
قاطعها ياسر بضيقٍ:
_امي أنا مش عبيط أنا عارف انك رامية الحِمل كله على روضة وهي حامل يعني خفي عليها مش كده.
صاحت والدته في صلف وسخرية:
_والله يعني قاعدين في بيتي وعايزني اخدمكم أنا؟! وفيها ايه يعني انها حامل هي اول واحدة تحمل؟! ما النسوان كلها بتحمل وزي الفل تقوم تقضي طلبات بيتها، ده وأنا حامل فيك كنت اغسل السجاد وارفع المراتب واعمل كل حاجة، أفضل أنتَ دلعها لغايت ما تركبك وتبقى دلدول الست..
بعد وقت استمع فيه إلى حوار والدته الذي يحفظه جيدًا، حاول مراضاتها قدر المُستطاع ثم توجه إلى غرفة النوم ليجدها جالسة على الفراش تتناول ادويتها.
تحدث ياسر حتى يجذب انتباهها فهي تتجاهله دومًا تنفر منه ومن الحديث معه في أغلب الأوقات:
_أنا لقيت شغل وهبدأ فيه من بكرا.
ردت روضة على مضض:
_طيب مبروك.
جلس ياسر على طرف الفراش بجانبها متمتمًا بنبرة هادئة:
_مش حاسك فرحانة من قلبك دي خطوة كويسة يعني، وكمان المرتب كويس، ويعني ممكن نأجر شقة في أقرب فرصة ونعمل جمعيات بس طبعا كل ده بعد ما استقر في الشغل.
ضيقت روضة وهي تنظر له ببلاهة لا تصدق ما تسمعه وسألته باستغراب:
_أنتَ بتتكلم بجد ولا بتشتغلني؟!.
لم يكن يريد أن يظهر في موضع الضعيف أمامها كما تخبره والدته ولكن رغمًا عن أنفه منذ معرفته بحملها تغيرت أحواله إلى درجة كبيرة، شعر بالمسؤولية كما لم يشعر من قبل، رغب في أن يكون رجل ذو شأن من أجل الجنين المتواجد في أحشائها، ويحاول ألا يقسو عليها كما كان يفعل في السابق وبالفعل بدأت روضة أن تلاحظ ذلك ولكنها تخشى أنه يوهمها..
_بجد يا روضة أحنا لازم نكون أحسن ولازم نفكر في المستقبل علشان اللي في بطنك ونبدأ صفحة جديدة، وإذا كان على امي سيبك منها هي اخرها كلام وخلاص.
ردت روضة بنبرة مُبهمة:
_أنتَ بتعمل ده كله ليه؟! وايه التغيير اللي حاصل ده مرة واحدة؟!..
افحمها باجابته الغير متوقعة من رجل مثله:
_مش تغيير ولا حاجة بحاول أكون اب كويس.
وهذا كان أكثر من كافي لها لتمنحه واخيرًا بسمة راضية .....
____________
تناول حامد الغداء مع عائلته وبعد ذهاب داوود إلى متجره مرة أخرى، جلس أمام التلفاز بذهن شارد يفكر في حياته وما حدث فيها في أقل من عام خسر ألاء، بعدها قام بخسارة أمنية، يحمل ذنب الأثنتين..
أتت جيهان من المطبخ وهي تحمل أكواب الشاي بارهاق واضح وكأنها قامت بقلب المنزل رأسًا على عقب رغم أن كل ما فعلته هو أنها وضعت الماء في الغلاية الكهربائية والشاي والسكر وضعتهما في الأكواب.
وضعت الصينية على الطاولة، ثم جلست بجوار ابنها، على أي حال المنزل هادئ اليوم فمنذ ليلة أمس يبيت الأولاد في منزل ألاء وعائلتها.
تمتمت جيهان بنبرة حانية وهي تربت على كتفه:
_ايه يا حبيبي لسه مفيش امل محاولتش مع ألاء؟!.
قال حامد بضيقٍ شديد وهو يشتكي إلى والدته كما أعتاد:
_لا والله يا ماما ولا في أمل ولا في جديد، ألاء قاطعة كل السكك مياة ونور هي وأبوها، كل ما أتكلم معاهم ينفضولي.
أبتلع ريقه ثم أسترسل حديثه هازئًا من الحالة التي اصبح عليها:
_ألاء فاكرة أنها مغلطتش في حقي تقريبًا مش معترفة ان اهمالها فيا سبب من ضمن الأسباب اللي مخليانا دلوقتي حالنا كده أنا عارف كويس اني غلطت جامد وعارف اني استحق اي حاجة بس الغلط مش مني لوحدي.
تمتمت جيهان بعقلانية:
_يا حبيبي ألاء عارفة ده كويس، بس هو حصل فجوة بينكم كبيرة والفضايح اللي عملتوها لبعض في الشارع وكل حاجة صعب اوي انها في ثانية تقبل ترجع لازم تاخد وقتها ولازم أنتَ كمان تاخد وقتك علشان محدش ياخد قرار يندم عليه.
أبتلعت ريقها ثم أردفت بنبرة خانية وهي تدعو بداخلها بأن تعود له زوجته:
-لازم كل واحد ياخد هدنة مع نفسه وحياته تستمر من غير التاني شوية وتهتموا بولادكم وبس، تعدى فترة مناسبة واللي فيه الخير يعمله ربنا ساعتها الوقت كفيل يحل أي مشكلة.
يبدو أن والدته محقة لذا سيترك الزمن ليحل مشكلتهما، تاركًا الأمور تسير كما هو مقدر لها.
_____________
بعد مرور أسبوع..
تجلس على المقعد أمام الجميع وتراقب ما يحدث بأعين سعيدة مبتهجة، فهذا حلم ظنته يومًا بعيدًا وها هو يتحقق أمام عيونها، صغيرتها الحبيبة التي رزقها الله بها لتكون عكازها في آخر أيامها، ها هي قد أصبحت مسؤولة من رجل يحبها ويقدرها.
جففت سكر دموعها وهي تراقب إجراءات عقد القرآن سعيدة، حتى رنّ صوت المأذون يقول بسعادة وصوت صاخب :
_ بالرفاء والبنين إن شاء الله
وبمجرد نطقه لتلك الكلمات ارتفعت أصوات الزغاريد في المكان بأكمله ولا أحد يعلم ما المصدر، لكن النساء في المكان والذين جاءوا خصيصًا لمباركة أفكار كانوا كُثر، فها هي افكار التي خدمت الجميع يومًا ما تتزوج.
ابتسمت أفكار بسمة واسعة وهي تشعر بجسدها يحلق من شدة سعادتها، ابتسمت بسمة واسعة ترى داوود ينهض عن مقعده متحركًا صوبها مبتسمًا بسمته المعتادة، حتى توقف أمامها يمسك كفها بحنان قائلًا :
_ مبارك يا افكار ...
اخفضت افكار نظراتها ارضًا بخجل فطري تولد دون شعور بها تهمس له :
_ الله يبارك فيك يا داوود .
شعرت أنها ترغب في إضافة جملة أخرى حين صمتت، وهو شعر بذلك فابتسم مشجعًا، لكن هيهات أن يفعلا وهم في وسط تلك المعمعة، إذ بدأت الأصوات تعلو والجميع يزغرد ويصفق، وقد هجمت السيدات على أفكار ليباركن لها والرجال سحبوا داوود ليفعلوا الشيء ذاته ..
استقبلت أفكار ترحيبات الجميع ببسمة واسعة وهمسات النسوة حولها تزداد :
_ والله عريسك زي العسل يا بت يا افكار .
نظرت لها افكار ببسمة صغيرة :
_ الله يكرمك يا ام منة عقبال عريس منة يارب ..
اقتربت منها ام منة بسرعة ولهفة وهي تهمس بصوت منخفض :
_ بما أنك يعني ذكرتي الموضوع ده، فبقولك يا حبيبتي هو يعني اسم الله عليه جوزك ده معندوش اخوات ؟؟
ابتسمت افكار تقول بصوت ممازح لها :
_ عنده أخ واحد ..
اتسعت بسمة السيدة لتتلاشى شيئًا فشيء حين أكملت افكار حديثها عن حامد :
_ ومطلق مرتين .
اسود وجه السيدة تبتعد بعض الشيء :
_ مرتين ؟؟ ليه هو سلفك بيتاجر فيهم ولا ايه يا افكار يا ختي ؟!
ضحكت افكار بصوت مرتفع قبل أن تبصر والدتها ترمق الجميع بعدم رضا .
تحركت صوبها تضمها بسعادة :
_ ايه مالك كده يا سكرتي زعلانة ليه ؟؟ حد يبقى زعلان يوم كتب كتاب بنته ؟؟
ربتت سكر على كتفها بحنان تقول :
_ صعبانة عليا يا بنتي يكون ده آخر بختك .
اتسعت عين افكار من حديثها، بينما سكر امتصت شفتيها تقول بصوت وصل واضحًا لمسامع داوود الذي جاء يتحدث مع زوجته :
_ كان فيها ايه يعني لو سمعتي كلامي واتجوزتي اخوه، اهو على الأقل عاقل وراسي ومش كل ما يشوف وشي يتخانق معايا.
_ أنا برضو اللي كل ما اشوف وشك اتخانق معاكِ ؟؟ وانا اللي جاي عشان اديكِ هدية جوازنا يا سكر ؟؟
كانت تلك كلمات داوود الذي توقف على مقربة منهم لتنظر له شكر بفضول كبيرة وبسمة :
_ هدية جوازكم!!
وكذلك افكار رددت نفس الكلمات بتعجب :
_ أيوة صحيح، هدية جوازنا ؟! هي مش المفروض الهدية دي بتروح للعروسة مش امها ؟!
رمتها سكر بنظرات مغتاظة وهي تهتف من أسفل أسنانها :
_ اخص عليكِ تكرهي الخير لأمك؟!.
ابتسم داوود يجذب افكار جواره مبعدًا إياها عن سكر :
_ أيوة يا سكر عندك حق، هي كده متحبش الخير غير لنفسها، إنما أنا ...داوود حبيبك، احب ليكي الخير قبل نفسي.
همست له افكار بغيظ :
_ ايه يا داوود أنت هتعمل زي ما سكر كانت بتقول وتوقع بينا ولا ايه !!
_ يا ستي اسكتي خلينا نسكت امك الاول، وبعدين يبقى نشوف موضوع الوقوع بينكم ده .
تنفس ينظر لسكر وهو يتحدث ببسمة واسعة:
_ مش انا كنت قولتلك اعملي باسبور عشان تسافري وأنتِ طلعتيه ؟؟
هزت رأسها بإيجاب ثم حدقت به سكر بفضول شديد وهي تنتظر كلماته حتى أخرج هو ورقة يقول بسعادة :
_ جبتلك تأشيرة العمرة يا سكر، هتروحي تعملي عمرة .
اغرورقت أعين سكر بدموع الفرحة وصوتها خرج متلهفًا :
_ بجد والله ؟؟ أنا هروح اعمل عمرة ؟؟ يا فرج الله .
أخذت سكر تزغرد بسعادة كبيرة رغم صعوبة الأمر عليها وافكار تراقبها ببسمة غير مصدقة، تنظر لداوود بامتنان وحب :
_ داوود بجد ... أنا...مش عارفة اشكرك ازاي والله ده كتير اوي اللي بتعمله ..
ضمها داوود من كتفها ضمة صغيرة وهو يقول بحب :
_ بالعكس ده قليل اوي يا افكار، وكمان سكر دلوقتي في مكانة أمي، فقولت اطلعها هي وامي عمرة مع بعض بعد الفرح باذن الله .
_ امك ؟؟
وكانت تلك الكلمة المعترضة صادرة من سكر التي التقطت أذنها حديثهم :
_ هتطلعني مع امك ؟! أنا عايزة اروح لوحدي .
نظرت لها افكار بحدة، وداوود أطلق ضحكات عالية يقول بمهادنة :
_ عشان تاخد بالها منك يا سكر وتساعدك هناك، وكمان عشان تبقوا صحاب .
نظرت له برفض لكل ما يقول، ثم هزت رأسها تقول بصوت منخفض :
_ ماشي، امري لله .
ابتسم لها داوود وهو ينادي والدته وحامد كي يزف لهم هذه الأخبار، وانتشرت البهجة بين الجميع واستطاع داوود أن ينجو بيومه الخاص دون أي خسائر...
والآن عليه أن يفكر في زفافه...
___________________
وها هي الايام تتسابق، حتى جاء اليوم الموعود والذي طال انتظاره، داوود اليوم سيحقق حلمه وليد ليلة واحدة، ليلة نامها ليستيقظ بشعور غريب أنه يريدها زوجة له .
ها هو يقف أمام مرآته يراقب نفسه برضى وسعادة كبيرة :
_ ايه رأيك يا حامد ؟؟
ابتسم له حامد يراقبه من فوق لاسفل بسعادة كما لو كان يزف طفله الاول :
_ وسيم ما شاء الله عليك يا داوود، احلى عريس والله .
ابتسم له داوود يتحرك صوب أحضانه يضمه بحب كبير وهو يهمس له :
_ عقبال يارب ما اشوفك سعيد كده يا حامد ومرتاح يا حبيبي .
_ أنا مرتاح طول ما أنتَ مرتاح يا داوود .
ابتعد عنه داوود يربت على صدر أخيه موضع قلبه :
_ وهتكون مرتاح اكتر لما ده يرتاح يا حامد .
نظر له حامد ثواني وهو يفكر في حديثه، قبل أن يُفتح الباب ويدخل ابناؤه وهم يهللون ويغنون ويباركون لعمهم بسعادة كبيرة .
انحنى داوود يضمهم لقلبه مُقبلًا إياهم بحب :
_ حبايب عمو أنتم عقبال لما احضر كده فرحكم بنفسي..
ابتسم له علي يقول :
_ ايه رأيك في بدلتي؟!
_ قمر يا علي هتبقى عريس قمر يا حبيبي .
اقترب الآخر من والده يجذب قدمه لينحني حامد يقبله بحنان :
_ نعم يا قلبي ؟؟
_ هو أنا ينفع اروح مع ماما انهاردة ؟! هي تحت هروح انام معاها النهاردة وهي مروحة.
نظر له حامد بلهفة كبيرة يقول بصوت خافت وكأنه يتحدث مع نفسه :
_ تحت ؟! ماما تحت ؟!
هز الصغير رأسه ليرفع حامد رأسه لداوود الذي هز كتفه ونظر له نظرة صغيرة، وكأنه يقول أن الأمر الآن بين يديك أنت فلا تتسرع لئلا تندم ...
سمع الجميع في الغرفة طرقة عالية يتبعها صوت جيهان تقول :
_ يلا يا داوود عشان العروسة مستنية يا ابني ...
تنفس داوود بصوت مرتفع ليشعر بتربيته حامد الذي نحى مشاعره جانبًا يقول ببسمة واسعة :
_ يلا يا داوود سيبك من كل حاجة وفكر بس في سعادتك أنت يا حبيبي ...
____________
زفرت سكر بعصبية واضحة :
_ يا بنتي ما تترزعي خايلتيني، ايه يا ختي الهم ده ؟؟
نظرت لها أفكار بتوتر، ثم نظرت لوردة تقول :
_ يا جماعة أنتم ايديكم في المايه الباردة ؟؟ بقولكم متوترة خايفة، راعوني شوية أنا أول مرة اتجوز .
نظرت لها سكر بسخرية تجيب حديثها :
_ يا ختي ايه أول مرة تتجوزي دي ؟؟ المفروض يعني كنا عملنا ايه ؟؟ نجوزك كده وكده عشان تجربي الأول !!
أشارت أفكار صوب والدتها باعتراض شديد وهي تشكوها لوردة الحائرة بينهما فهي لا تقدر على الحديث أمام الخالة سكر:
_ سامعة ؟؟ المفروض إن دي امي اللي هتهديني انهاردة وفي يوم زي ده .
رمقتها سكر باعتراض تتمتم مع نفسها :
_ أنا مش مصبرني على كل ده غير اني هطلع احج بعد الفرح وإلا كنت سيبتكم ورجعت قعدت في الشباك اتفرج على خلق الله بدل الكتمة اللي احنا فيها دي.
ارتفع صوت طرقات على الباب تنبأ بوصول داوود الذي قال بصوت هادئ لطيف :
_ أفكار ؟! خلصتي عشان ننزل ؟؟
ازداد توتر أفكار وهي تنظر لوردة على أمل أن تنقذها، لكن كل ما صدر من رفيقتها هو :
_ أيوة يا عريس خلصنا.
وهذه الكلمات كانت بمثابة إعلان الإفراج عن قلب داوود الذي ظل يقرع حبيس صدره، مشتاق لرؤيتها التي حاول أن يتخيلها طوال الليل، هل ستكون ملائكية الهيئة كما تصور، هل ستكون خجلة ؟؟ هل وهل وهل وألف هل ..
لكن أيًا من هذه الأفكار لم توفي حق هذا المشهد الذي أبدع الخالق به وهو يراها تقف أمامه تخفض وجهها وقد علت حمرة وجنتيها تضفي لها بهاءً اضافيًا، في هذه اللحظة كان داوود ينازع نفسه لئلا يتحرك صوبها ينتزعها من بينهم ويفر بها بعيدًا عن الجميع..
لكن ما حدث هو أنه تقدم منها مرجل راقي يمسك كفها يتحرك بها بهدوء للخارج ومن ثم استقر معها على المقاعد المخصصة لهم لتبدأ حفلة الزفاف والتي أصر أن تكون في إحدى المنازل الراقية المخصصة لمثل هذا النوع من الحفلات..
اقترب كلٌ من خليل وراضي لهما ليباركا لأفكار، وبعد الاحضان والقبلات نظر خليل حوله باستياء لم يستطع كبته :
_ مش فاهم انا ليه صممتوا على المكان ده ؟؟ فيها ايه لو كنا جبنا فراشة الواد صاصا وفرشنا الحارة كلها نشارة ملونة ونرسم بيها ونحط كوشة حلوة ونجيب شوية درامز ونعمل اجدعها ليلة ؟؟
ابتسم له داوود يربت على كتفه وهو يقول ببسمة :
_ ربنا يديك طولة العمر يا خليل وتعمل كده في فرح عيالك .
هز خليل رأسه:
_ أيوة طبعا هعمل كده، امال هعمل زيكم كده؟؟ هنزل اشوف امي .
وقبل أن يتحرك نظر لأفكار يقول لها :
_ مبروك يا أفكار، تتهني بحياتك يا حبيبتي .
ابتسمت له أفكار بسمة صغيرة، بينما مال راضي يقبل رأسها وهو يبارك لها قبل التحرك بعيدًا وهي فقط نظرت لهم وتفكر، هل يمكنها أن تدعو لهما الله بالسداد والتوفيق في حياتهما ؟؟ هي فقط تتمنى من اعماق قلبها أن يهديهما الله مع الوقت وستكون أكثر من راضية لذلك ...
نظرت جوارها لداوود الذي كان يصافح أحد اصدقائه قبل أن ينظر لها ببسمة حنونة ..
ثواني وجاء حامد لجذبه بعيدًا حتى يشارك الرجال رقصتهم وعمت البهجة المكان وقد شارك الجميع في تلك الرقصة، خاصة حامد الذي كاد يطير من السعادة لأجل شقيقه وأثناء رقصاته سقطت عيونه عليها صدفة أو ربما قصدًا .
رآها تقف جوار والدها ووالدتها يباركون لوالدته ببسمة قبل أن تتحرك عيونها هي في المكان وكأنها تبحث عن أحدهم، حتى رأته، طالت النظرات في حديث ختمه هو ببسمة، وهي بهروب من عيونه.
كان الجميع يقذف داوود في الهواء وهو يحاول الإفلات من بين أيديهم :
_ يا جماعة مش كده نزلوني ...يا حامد خليهم ينزلوني مش بحب كده يا اخي .
ارتفعت ضحكات حامد وشارك الجميع لقذف داوود عاليًا بينما أفكار تراقب من بعيد بأعين مترقبة خائفة، حتى عاد لها داوود، واخيرًا تنفست الصعداء وهو نظر لها يقول بهمس :
_ بقولك ايه كفاية كده ونلم الليلة لاحسن أنا لو قعدت ثانية كمان مش بعيد يشيلوني يرموني في البيسين برة.
نظرت له أفكار تقول باعتراض :
_ لا طبعا واسيب فرحي ؟! ده لا يمكن .
_ يا ستي ما أنتِ فرحتي اهو وكلنا فرحنا وهيصنا...
هزت رأسها بإصرار شديد :
_ أبدًا .
زفر بصوت مرتفع وهو يضم ذراعيه لصدره يراقب الجميع وهو يهتف بتذمر:
_ يعني هنعمل ايه يعني ؟؟ هنقعد نتفرج على الناس وهي بترقص وتاكل، ايه المتعة في كده أنا مش فاهم ؟!
_ داوود أنت بتهزر ؟؟
_ والله ابدا انا فعلا زهقت وعايز اروح، تيجي معايا ؟؟
حدقت فيه بصدمة كبيرة كما لو كان فضائيًا :
_ تروح لوحدك !!
_ ما أنا بقولك اهو تيجي معايا، أنا كده كده معايا العربية بتاعتي هنروح بيها هتيجي؟؟
نظرت أفكار حولها كما لو أنها تبحث عمن يساعدها في هذه الورطة، قبل أن تعود بنظرها له تقول :
_ هتمشي بجد ؟؟
_ اه الفرح بقاله ساعتين اعتقد كده كفاية اوي، هتيجي معايا ؟؟
ابتلعت ريقها وهي تفكر ثواني قبل أن تقول :
_ اكيد هاجي معاك يا داوود اومال هروح مع نفسي؟! ماشي نروح بس هنقولهم ايه ؟؟
ابتسم يغمز لها بمشاكسة :
_ ولا نقول ولا حاجة أنا عامل حسابي .
رفع داوود ذراعه في الهواء يشير للشاب الذي يتولى أمر مسجلات الصوت والذي التقط إشارته ..
كان جميع المدعوين يرقصون ويغنون بسعادة، قبل أن يصدخ فجأة صوت موسيقى الزفة والتي تعلن نهاية هذا الزفاف، على التعجب والاستنكار ملامح الجميع ولم يكد أحدهم يتحدث بكلمة حتى امسك داوود يد افكار وهو يتحرك بها خارج المكان بهدوء ..
وافكار تضحك بصوت مرتفع وخلفها أصوات جيهان وسكر المعترضة على انتهاء الزفاف قبل منتصف الليل، وخليل الذي كان يتمتم باعتراض أنه لو كان بالحارة ما كانوا انهوه قبل الصباح، وحامد الذي تذمر لعدم إكماله الرقصة الخاصة به...
ومن بين كل تلك الأصوات لم يسمع داوود إلا صوت ضحكات أفكار العالية ليشاركها هو الضحكات وهو يتحرك بها صوب سيارته الخاصة والجميع خلفهم.
وحينما صعدوا للسيارة أطل داوود برأسه يقول :
_ شكرا يا جماعة لوجودكم انهاردة في حفل زفافنا المتواضع و نردهالكم في الأفراح باذن الله .
وهكذا بهذه الكلمات أعلن داوود انتهاء الليلة ليغادر وخلفه أصوات الزغاريد والدعوات تصاحبهم لبدء حياة جديدة لكليهما، حياة ما كانت على بال أيٍ منهما، لكن تدابير الله دائمًا خير لنا مما خططنا.
_____________
خطت بقدمها منزلها مع ذلك الفارس الذي أتى بحصانه الأبيض منتشلًا أياها في لحظة لا تتذكرها ولا تفهمها حتى، لا تصدق أنها الآن واقفة في شقتها معه، معه هو وحده، زوجها، أحمرت وجنتيها عند ذكر صلته الجديدة بها، هي مازالت لا تصدق، هي في حلم جميل، لو كان حلم لا تتمنى الاستيقاظ منه أبدًا.
أغلق داوود باب الشقة وهنا دق إنذار الخطر، والتوتر، ومشاعر السعادة والاستغراب كلها رحلت، حتى أحمرار وجنتيها تحول إلى صفار وتوتر ملحوظ كأي عروس في موقفها.
أقترب داوود منها قائلا بنبرة هادئة وابتسامة تزين ثغره تبرز وسامته، اليوم كان وسيمًا لدرجة أنه شكل خطرًا على قلبها الذي كان يخفق بجنون طوال اليوم:
_ مبارك علينا يا أفكار، مبارك عليا وجودك في حياتي يا حبيبتي.
رددت أفكار كلمته الأخيرة بخفوت وتوتر رهيب:
_حبيبتي!! مرة واحدة.
تحدث داوود بعبث وهو ينظر لها بدهشة رغم أنه لم يقترب منها كثيرًا المسافة بينهما طبيعية، ولكنها عادت أدراجها خطوتين إلى الخلف:
_أومال أقولها على مرتين!!.
تمتمت أفكار بتهور وهي تنظر له وكأنها عصفور قد سجن في القفص ناسية تمامًا أفكار القوية، التي لا تهاب شيء لكنها الآن أفكار العروس التي تتواجد في منزلها مع زوجها داوود، الرجل الذي حتى أحلامها الوردية عن الرجل الذي ستتزوجه لم تصل إلى هذا الحد من المثالية:
_لا بس أنا مبحبش الجراءة في الكلام لو سمحت.
ردد داوود كلمتها الاخيرة متهكمًا:
_جراءة!!.
هو لم يقل شيئًا ولم يفعل شيئًا على العكس تمامًا هو يقدر رهبتها كأي فتاة في موضعها.
حاول داوود الاقتراب خطوتين لترجع هي للخلف خطوتين، وبالرغم من حركاتها الطفولية غمغم مغازلًا أياها بابتسامة تأسرها:
_حقيقي مش فاكر قولتلك في الفرح أنك النهاردة ما شاء الله شكلك قمر ولا لا لو مقولتش اديني بقول اهو، شكلك النهاردة زي القمر يا أفكار..
أجابت عليه بتلك العفوية واللسان الذي في بعض الأحيان تظن أنها يتوجب عليها قصه:
_وأنتَ كمان كان شكلك حلو جدًا...
انتبهت لما تقوله فحاولت تخريب الأمر كعادتها:
_كلنا كنا حلويين كل الناس اللي كانت في الفرح كانت......
قاطعها داوود متهكمًا:
_متكمليش، علشان كده أنتِ هتخربيها خالص، سيبي الجملة الاولانية ونشيل العتة اللي بعدها.
ابتلع ريقه ثم غمغم بنبرة هادئة ظن أنها ستبث بها الطمأنينة:
_خشي غيري هدومك.....
قاطعته أفكار بانفعال ملحوظ:
_نعم؟!! اعمل ايه أحنا هنهزر ولا ايه؟!!..
أردف داوود بنبرة رجولية مرحة:
_سبيني اكمل كلامي، غيري هدومك وخدي دش...
صرخت تلك المرة وهي تتمسك بالفستان بذعر:
_لا أنتَ اتجننت يا داوود بقا...
أقترب منها داوود في لمح البصر مانعًا أياها من الهروب واضعًا يده على فمها:
_خشي غيري هدومك وخدي دش واتوضي علشان نصلي ركعتين مع بعض.
حينما شعر بارتخاء ملامحها أزاح يده عن فمها فهتفت بحماقة وبفرحة طفلة:
_مش تقول كده من بدري، وقعت قلبي يا شيخ، من عنيا حاضر طبعا مدام حاجة دينية أنا مش بتأخر فيها أنتَ عارفني.
_أنا عارفك فعلا دي المشكلة.
ضحك بمرح حقيقي لا يصدق أن تلك المعتوهة أصبحت زوجته، فضيق عينه وهو ينظر لها نظرات مُريبة مما جعله يسألها بمرح ساخر:
_أفكار، أنتِ مخطوفة؟! ولا جايبينك غصب عنك؟! ولا مكنتيش عارفة أنك مروحة معايا؟!..
بكل جدية أجابته أفكار وهي ترفع فستانها تستعد للدخول إلى غرفة النوم لفعل ما أخبرها به:
_لا طبعًا عارفة هو أنا عبيطة؟!.
عقب بعبث وهو يجدها ترحل ولا يدري هل سمعته أم لا:
_حاشا لله اني افتكر انك عبيطة.
ثم همس إلى نفسه بنبرة غير مسموعة:
_أنا متأكد.
بعد مرور ساعة تقريبًا.
كانت أفكار تقف خلفه باسدالها الارجواني الذي كان هدية من داوود منذ فترة وأخبرته بأنها ستقوم بارتدائه في منزلهما، وها هي وفت بعهدها.
أخذ حمام دافئ وارتدى ملابس منزلية قطنية مريحة وشرع في الصلاة وهو يسمعها صوته العذب بالقرأن، لأول مرة تسمعه، وبهذا القُرب، كأنه يشبه أحد الشيوخ الذين تستمع إليهم في القنوات والمحطات الفضائية، مخارج حروفه سليمة، يقرأ طبقًا للتجويد وأحكامه بمهارة..
حينما أنتهى من الصلاة امسك بكف يدها مساعدًا أياها على النهوض ليقف أمامها بمسافة قريبة، شعرت بالخجل يغزوها، تحديدًا حينما وضع يده على مقدمة رأسها تحت دهشتها لتسمعه يقول:
(اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ خيرَها وخيرَ ما جبلتَها عليهِ وأعوذُ بِكَ من شرِّها ومن شرِّ ما جبلتَها عليهِ).
بدأت تشعر بالراحة والسكينة وقل ذعرها قليلًا فسألته أفكار بنبرة هادئة خجولة:
_حلو الدعاء ده أوي يا داوود.
ابتسم لها داوود بحب، وهو ينظر لها نظرات متفحصة تختلف عن أي مرة، تلك المرة هي حلاله، في منزله وبيته، أصبحت زوجته، عليه أن يتأمل ملامحها بعمق وكيفما يشاء، نظراته اربكتها على أي حال مما جعلها تتحدث بنبرة جادة وكأنها شعرت بحاجتها لهذا الدعاء مرة أخرى:
_داوود.
_نعم يا أفكار!!.
طلبت منه بأدب ورقة:
_ممكن تقول الدعاء تاني.
لم يرفض طلبها وهو يغمغم بسعادة:
(اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ خيرَها وخيرَ ما جبلتَها عليهِ وأعوذُ بِكَ من شرِّها ومن شرِّ ما جبلتَها عليهِ)
ابتسمت أفكار وهي تقول له فجأة:
_خليك مكانك يا داوود اوعى تتحرك.
_في ايه؟! هترسميني ولا ايه ؟؟
_خليك مكانك بس.
نفذ طلبها، فتوجهت هي صوب غرفة النوم، وبعد دقائق كانت تأتي راكضة وهي تحمل هذا الدفتر المهترئ الذي رأه أكثر من مرة، مرة في السوق ومرات عديدة في مواقف أخرى يجدها دومًا تدون أشياء كثيرة به لا يفهم حتى سر حركتها تلك، فطلبت أفكار منه مرة ثانية:
_داوود قوله تاني معلش.
كانت تتحدث بتلك الكلمات بعد أنا فتحت الدفتر وأتت بورقة شبة فارغة وحينما بدأ يقوله لها أخذت تدونه تحت انظاره الثاقبة.
تحدث داوود بجدية:
_افكار هي البتاعة دي مش هتفارقك بقا؟!.
غمغمت أفكار باعتراض شديد:
_لا كله إلا كده، دي حياة أفكار فيها وتجاربي وعصارة خبراتي وخبرات اللي حواليا، دي أعز ما املك مفيش حاجة في الدنيا مش هتلاقيها هنا دي فيها، دي كنز هبيعها في المتحف واعمل عليها مزاد..
سحب منها داوود الدفتر في لمح البصر وهو يقول بجدية:
_تعرفي يا افكار ايه اول حاجة هعملها لما اصحى بكرا؟!.
سألته باستغراب:
_هتعمل ايه؟!
رفع داوود الدفتر قائلا وهو يطيح به ليسقط على الاريكة:
_هولع فيها.
لاحت ملامح الذعر على وجهها وهي تقول:
_لا يا داوود علشان خاطري انا يجرالي حاجة لو حصله حاجة.
_بعد الشر عليكِ يا حبيبتي.
ثم ابتسم داوود وهو يتمتم:
_بهزر معاكي بس ده مش وقت كتابة يا أفكار ركزي معايا.
عقدت أفكار ساعديها متمتمة بجدية:
_ انا معاك اهو كلي أذان صاغية.
عقد ساعديه مُقلدًا أياها:
_لا دي تعمليها لما تكوني قاعدة قدام حد بيعاقبك، مش مع جوزك يوم فرحكم، أحنا مش بنشرح نحو.
تمتمت أفكار بلهفة بعد أن فكت ذراعيها وامسكت ذراعيه بتلقائية:
_داوود أنا عايزة اتعلم اقرأ قرآن صح زيك بالتجويد وكل حاجة واحنا بنصلي حسيت ان قناة المجد شغالة.
ضحك داوود وتأثر بلمستها رغمًا عن أنفه وهو يتمتم بنبرة رجولية خشنة ولكنها منخفضة:
_مش المفروض بيشروحوا ليكِ في الدروس اللي بتروحيها.
أجابته أفكار بصدق:
_بس حاسة انك هتفهمني وهتعلمني اسرع منهم.
_حاضر من عيوني.
أقترب منها وبمشاعر دافئة كان يترك قُبلة على رأسها جعلت رعشة بسيطة تسري باوتارها، فلم يقترب منها رجل بهذا القدر، هي مع داوود تعيش كل شيء للمرة الأولى كطفل يخطو أولى خطواته..
هتف داوود بمشاعر عميقة لم يتخيل يومًا بأن يكنها لأي أمرأة..
_مش مصدق انك في بيتي وبقيتي مراتي يا أفكار.
أردفت أفكار بعفوية:
_وانا كمان يا داوود.
ثم أسترسلت بثرثرة غريبة من نوعها:
_لولا إن سكر ملهاش في الأعمال وكله كلام على مفيش، كنت افتكرت انها عملت حاجة علشان تجمعنا.
وضع يده على فمها متمتمًا بجدية شديدة:
_افكار انا حاسس انك لما تقولي حاجة المفروض اكتم بوقك بعدها مسبكيش تكملي علشان بتخربي الدنيا لما بتفكري تقولي ايه.
هزت أفكار رأسها موافقة وهو يضع يد على مؤخرة رأسها ويد على فمها، هي تتفق معه في تلك النقطة، ففي ثواني كانت بين أحضانه يشبع من حضنها وقُربها، راغبًا في أن يعطيها كل ما تستحقه، كل ما تستحقه أمرأة وفتاة مميزة مثلها، أن يعطيها الامان والحب والاهتمام .
فتاة يحبها رجل كداوود ولم يحب مثلها، رجل أتى لها كهدية من السماء تعويض عما فعلته بها الدنيا.
___________________
مرت أيام كانت كالنعيم على زفاف داوود وأفكار وها هو يقف الآن مع زوجته الحبيبة أمام المطار لاستقبال زوار بيت الله العائدين من رحلتهم.
وبمجرد أن أبصرت افكار والدتها ترتدي الابيض حتى دعت عيونها تقول بسعادة :
_ سكر ..
نظرت سكر صوب افكار لتتحرك لها بسرعة تستند على كف جيهان التي كانت تبتسم للجميع بسعادة، وحين وصلت ضمت ابنتها وهي تقول :
_ أفكار حبيبتي وحشتيني، وحشتيني اوي يا بنتي، دعيتلك ودعيت لراضي وخليل وجوزك وللكل...
مازحها حامد الذي كان يمسك بأيدي صغاره :
_ وانا يا سكر ؟!
ابتسمت سكر تقول :
_ دعيتلك ربنا يرزقك بالتالتة يا بني .
ضحكت جيهان وهي تضم ابناءها بحب :
_ يا ستي الله يكرمك مش ناقصين خليه ساكت اليومين دول قبل ما ندخل في دوامة التالتة بجد.
ابتسم داوود يقترب من سكر يقول :
_ حمدلله على سلامتك يا حجة سكر، اتمنى تكون فرحتي بالرحلة .
نظرت له سكر تقول بهدوء غريب عليها خاصة حين التحدث مع داوود تحديدًا :
_ الحمدلله الذي رزقنا بزيارة بيته يا بني، أنا خلاص قررت بعد الحجة دي ..
صحح لها داوود :
_ عمرة يا حجة ..
_ يا بني ما تسكت بقى خلينا اعرف اقول الكلمتين متخلنيش اتعصب عليك .
اتسعت أعين داوود لتعود ملامح سكر للهدوء وهي تقول ببسمة :
_ انا قررت اني هتوب باذن الله عن كل حاجة وحشة النميمة والغيبة والحلويات وكل حاجة .
قال داوود بتلميح :
_ والفنجان يا سكر ...
_ والفنجان، أنا خلاص هتوب لربنا وباقي أيامي هعيشها عشان اعبده وبس، أنا خلاص اديت رسالتي في الدنيا، وهنتظر الموت بقى .
قبلت افكار كفها بلهفة وحزن :
_ بعد الشر عليكِ يا حبيبتي، ربنا يطول في عمرك يا سكر ويديمك ليا يارب، وتشيلي عيالي كده ويجولك البيت يقرفوكِ ويقولولك يا تيتة و..
وقبل أن تكمل حديثها دفعتها سكر بحنق شديد :
_ ياختي وهو انا ناقصة؟! أنا ما صدقت اخلص منك أنتِ واخواتك عشان تيجي تقرفيني بعيالك، ده ايه الهم اللي على آخر العمر ده ؟؟
انفجر داوود في الضحك يجذب افكار المصدومة لاحضانه يقبل رأسها دون وعي، ثم نظر لسكر يقول :
_ طب يا سكر هنبقى نديهم لتيتة جيهان هي تربيهم..
تدخلت جيهان معترضة :
_ لا يا حبيبي تيتة جيهان خلاص، هتعتزل الدنيا مع سكر، أنا كده جبت اخري منك ومن اخوك ومن عيالكم أنتم الجوز، كل واحد يشيل شيلته بقى وانا هقضي الباقي من عمري أعبد ربنا واتفرج على الشيف الشربيني.
ضحك الجميع على أحاديثهم وهو يتحركون صوب السيارات وصوت داوود يصدح بينهم وهو يقول :
_ يلا طيب عشان تغيروا وترتاحوا وناكل سوا ..
صعدت سكر السيارة الخاصة بداوود رفقة جيهان بينما أخذ حامد أبناءه لسيارته يتبعهم بها.
وسكر تردد بصوت هادئ:
_ لا أنا مش هغير، انا قررت خلاص هعيش بالابيض ده الباقي من عمري، أنا حابة افضل بيضة من جوا وبرا كده على طول .
نظر لها داوود ولم يجادلها وهو يقول ببسمة :
_ وماله يا سكر ده حتى الابيض حلو عليكِ، خلاص انا هجبلك كام طقم كده ابيض تغيري فيهم، يا حجة سكر.
ابتسمت سكر بسعادة كبيرة كلما ناداها أحدهم بهذا اللقب وافكار ابتسمت على سعادة والدتها تنظر لداوود بامتنان شديد هامسة :
_ شكرًا يا داوود
ابتسم لها بحب يهمس لها بالمقابل:
_ عفوًا يا قلب داوود.
عاد الجميع للمنزل وقد أعدت لهم افكار وليمة على شرف عودة الاثنتين ..
بعد أن تناول الجميع الغداء جلس داوود على الأريكة مع سكر قائلا بلؤم:
_بقولك ايه يا سكر؟!
تحدثت سكر بانتباه:
_ايه يا حبيبي؟!
تمتم داوود بمكر:
_ايه رايك يا سكر لو اشرب فنجان قهوة وتشوفيلي الفنجان.
نظرت له سكر في دهشة حينما أتت افكار من الداخل وهي تحمل عصير المانجا التي صنعته من أجل سكر التي ستمكث معهما الليلة بعد أن اقنعتها بصعوبة فهي ترفض أن تغادر منزلها.
قالت سكر وهي ترفع السبحة أمام عينه مستغفرة ربها :
_يا ابني بطلت استغفر الله .
غمغم داوود بإصرار رهيب:
_علشان خاطري يا سكر مش هيحصل حاجة من مرة واحدة، أنا أول مرة أطلب منك حاجة، علشان خاطري انا نفسي جدًا حد يقرأ ليا الفنجان.
كانت أفكار تنظر لوالدتها بتحذير، ولكنها لم تركز في نظراتها بل كانت تنظر إلى داوود بنظراته الخبيثة لتقول بعفوية :
_عشان خاطرك بس يا ابني ماشي موافقة علشان اول مرة تطلب مني، لكن المرة التانية مش هرضى، روحي يا بت اعملي فنجان قهوة لجوزك..
قال داوود بحنق فالطبع يغلب التطبع حقًا :
_ملهوش لزوم، أصلا مفيش فايدة فيكِ يا سكر، ده كان اختبار وفشلتي فيه....
نظرت له سكر وقد شعرت بالغدر :
_ روح يا بني ربنا يهديك .
رمقها داوود معترضًا على حديثها :
_ يهديني أنا ؟؟
أطلقت افكار ضحكات مرتفعة وهي تحول بينهما، تجاور زوجها، تفتح مواضيع مختلفة تبعد الاثنين عن الشجار الوشيك ..
لينغمس الجميع في أحاديث كثيرة منها الودية ومنها ما تحمل في طياتها الكثير من الخلافات ..
تنهدت افكار براحة وهي تنظر للجميع، ولأول مرة لا تحمل في صدرها حزن أو خوف من القادم أو حتى هم، وكيف تفعل وقد رزقها الله برجلٍ يشاركها كل ذلك، بل ويستأثر بكل تلك الأمور لنفسه تاركًا لها الدلال والراحة .
حياة لو أخبرها أحدهم قبل شهور أنها ستحياها أضحكت وكذبته، فأنىّ لأفكار التي حملت الهموم منذ الصغر، أن تحيا بسلام ؟!
لكن تدابير الله تفوق كل شيء، وما عند الله خير، وهي نالت كل الخير على هيئة رجل يُسمى داوود.
___________
وبعيدًا عن كل تلك الحكايات ...
وفي فيلا عتيقة وعريقة في الزمالك.
كان يصدح صوت أبو محمد (حمدان) بجنون وهو يرى ابنه (مهند) مستلقى على الأريكة ويديه ورأسه ملفوفة بالشاش الطبي.
كان يصرخ في وجه سوزان، وأبيها مهران، سوزان أو كما تحب أن يناديها الناس -سوزي- البالغة من العمر سبعة وأربعين عامًا في الواقع عند النظر إليها تجد أمرأة جميلة ذات جسد متناسق وكأنها عارضة أزياء رغم احتشام ملابسها يظهر جسدها الممشوق من يراها يظن بأنها لم تتخطى الخامسة والثلاثون، تمتلك بشرة بيضاء وأعين بنية اللون ذات أهداب كثيفة، لا يظهر عمرها سوى على خصلاتها البيضاء التي تتمرد عليها في بعض الأحيان تعلن عن عمرها الحقيقي فتقوم بصبغها في أسرع وقت، وبعض التجاعيد الخفيفة التي تظهر لم هم في عمرها.
يجلس بجانبها والدها مهران البالغ من العمر تسعة وسبعين عامًا، يعشق ابنته الوحيدة وهي سوزان، هي حياته كلها، التي أتت بها زوجته رحمها الله بعد سنوات من العناء في العلاج بسبب المشاكل الكبيرة التي كانت تتواجد لديه وتمنع انجابه، يغار عليها بشكل كبير، حتى أنه لم يكن يرغب في زواجها أبدًا هي مدللته، لولا عشقها الأعمى لبائع الخضار كما يسميه..
فابنته طبيبة تعمل في المستشفى الخاصة به وهو أيضًا كان طبيبًا ولكنه تعاقد ورغب في أن يأخذ قسطًا من الراحة، بعد سنوات طويلة من العمل، لن ينسى ذلك اليوم المشؤوم كما يسميه حينما أتى ذلك الرجل إلى المستشفى والده جريح ويود اسعافه ومن وقتها دبت قصة حب غريبة من نوعها بينه وبين ابنته الوحيدة، هو كان يغار عليها وفي الوقت نفسه لا يرى بأن ابنته الوحيدة تتزوج من بائع خضار لولا خوفه أن تفعل شيء بنفسها أو تترك دراستها حينما هددته ذات مرة لولا ذلك لم يكن ليوافق أبدًا.
عرض مهران عليه أكثر أن يمكثا معه في الفيلا ولكن رفض حمدان وبشدة كأي رجل حر لتمكث معه سوزان في الحي الشعبي في البناية التي تتواجد أعلى متجره، وبعد عام تطلق الأثنان بسبب والدها، الذي كان يضغط عليها دومًا وهي تحبه وتقدر تضحيته من أجلها بأنه لم يتزوج رغم وفاة والدتها منذ زمن بعيد، كان دومًا يبتزها عاطفيًا، ورغم عشقها الكبير لحمدان قُبلت بالطلاق حتى يكف والدها عن الضغط عليه وعليها..
_ازاي يا ست هانم ابني يعمل حادثة ومحدش يديني خبر؟!
كادت سوزان أن تجيب عليه ولكن تحدث والدها مهران ساخرًا:
_محصلناش الشرف نقولك، وبعدين مسمهاش ست هانم اسمها دكتورة سوزي.
غمغمت سوزان برجاء:
_بابي لو سمحت..
قاطعها والدها بضيقٍ:
_لو سمحت أنتِ لازم يعرف الألقاب والفرق اللي ما بينكم.
تمتم مهند البالغ من العمر خمسة وعشرين عامًا ويعمل حديثًا كدكتور تخدير في المستشفى الخاصة بجده، يشبه والده بشكل كبير في طول قامته وعيناه الخضراء قد ورثها عنه وبشرة والدته الفاتحة، فمن يراه يظن في بعض الأحيان بأنه اجنبي أو يمتلك عرق أوروبي:
_يا جماعة أرجوكم...
هتف مهران بمكرٍ:
_ايه يا حبيب جدك؟!.
تحدث حمدان وهو يقف أمام ابنه :
_ايه يا محمد كويس واحسن؟! مش عيب عليك متقولش لابوك واعرف زيي زي الغريب لولا ابن عمتك شاف على النت اللي كنت منزله وقالي.
أردف مهران بانفعال مبالغ فيه:
_اسمه مهند، محمد ايه اللي ماسك فيه ده؟!.
صرخ حمدان ولم يسيطر على أعصابه فهذا الرجل يستفزه بجنون منذ سنوات وليس اليوم فقط:
_بقولك ايه يا راجل أنتَ جو الاسماء والمسلسلات التركي ده مبحبهوش اللي عايش فيه أنتَ وبنتك، بالنسبالي هو اسمه محمد.
ردد مهران باستنكار:
_يا راجل أنتَ؟!..
ثم وجه حديثه إلى سوزان قائلا بحنق لن يكف عنه:
_شايفه مجايبك اللي هنفضل نتحمل نتيجتها العمر كله؟!!..
وضع مهران يده على قلبه متحدثًا بطريقة مسرحية تصدقها ابنته مهما فعلها أو كررها:
_اه، قلبي، اه، ضغطي علي، حسبي الله ونعم الوكيل..
نهضت سوزان قائلة بذعر وهي تمسك كف يده قائلة بحنان :
_مالك يا بابي حاسس بايه بس؟!.
_ضغطي علي، دماغي هتنفجر.
نادت سوزان بعلو صوتها على الخادمة لتأتي متمتمة:
_ايوة يا ست هانم؟!
_هاتي جهاز الضغط علشان اقيس ضغطه بسرعة.
_امرك يا دكتورة.
-بعد ثواني-
كانت سوزان تقوم بقياس ضغطه بطريقة عملية، بينما حمدان وحتى مهند ينظرا لهما باعتياد لهذا المشهد..
تمتمت سوزان بنبرة هادئة وهي تنظر إلى والدها بحنان:
_متقلقش يا حبيبي ضغطك مضبوط.
لم تعجبه تلك الإجابة ليغمغم مهران هازئًا:
_ازاي مضبوط؟!! لا انا ضغطي عالي قيسي تاني بقولك.
ضحك حمدان متهكمًا وهو يقول:
_قسيه وطلعيه عالي علشان يهدى ويرتاح.
قامت سوزان بقياس ضغطه مرة أخرى لتقول بهدوء:
_بابي ضغطك مضبوط والله مية وعشرين على ثمانين.
تمتم حمدان بانفعال وضيقٍ:
_ابوكي زي الفل ياريت تحفظي الفيلم الحمضان بتاعه ده، حتى ابنك حفظه وأنتِ لسه بتصدقيه، ضغطه مظبوط، ده ضغطه ضغط شاب بصحته لو قيستي ضغطي او ضغط ابنك هتلاقيه في السما.
تحدث مهران بجنون وهو يشير له:
_شايفة مجايبك؟! بيقر على أبوكي وقصده اني كداب.
أردف مهند بنبرة هادئة حتى يلطف من حدة الأجواء:
_يا جدو بابا ميقصدش.
قال مهران بتبرم:
_بابا؟! مش شايف امك بتقولي بابي ودادي ساعات ازاي؟! جاي أنت تقولي بابا ؟؟
تمتم حمدان بلؤم وسخرية :
_معلش يا حمايا أصل العرق دساس مهما وديته ومهما جيبته دمي بيجري فيه، اسمها ابويا يا محمد يا بني سيبك من حوارات جدك دي.
خرجت ضحكة من مهران وهو يغمغم:
_للأسف يا حبيبي ياريت نعرف نغيرها.
ثم أسترسل حديثه بشراسة:
_وبعدين حماك ايه؟! أنتَ مطلق بنتي من أكتر من أربعة وعشرين سنة، قال حماك قال.
نظر مهران إلى ابنته قائلا بنبرة منخفضة وخافتة:
_اه قلبي واجعني يا بنتي اوي..
تمتمت سوزان بحنان:
_اوديك المستشفى طيب؟!..
عقب حمدان ساخرًا وهو يشاهد هذا المشهد بألم:
_والله ما حد قلبه واجعه ولا ضغطه في السما غيري، ابوكي ده صحته بومب ده هيحضر عزانا وهنموت واحد واحد احنا قبله.
قاطعه مهران بسخرية:
_وانا احضر عزاك ليه يا حبيبي؟! مبقاش فيه حاجة تربطنا ببعض، ولا اقولك اعملها أنتَ ونبقى نشوف ساعتها..
انسحب مهند بانفعال من بينهم بعد أن قال:
_حرام عليكم، حرام عليكم بجد..
سيظل الشجار مستمر كما كان مستمرًا طوال الأعوام سيبقى مهران يرى ابنته المُلقبة بسوزي مهران هي كنزه، والذي لا يستحقه رجل كحمدان أو للحق حتى أي رجل أخر لا يستحقها..
وسيظل مهند كما يحب جده مناداته ومحمد كما يفضل والده تسميته يعيش في هذا الصراع طويلًا .
لكن إلى أين ستصل أبعاد هذا الشجار؟!
هل سيظل مستمرًا أو سيتم وضع حد له يومًا ما...
_________________
كانت البداية لكل ذلك هو خطأ، خطأ حدث نتج عنه كارثة لداوود تحولت مع الوقت لمصير، بسبب هدية خاطئة وصلت لمخطوبته تدمرت علاقة لتُبنى أخرى، لكن مهلًا، لم يفكر أحدكم بمصير الطرد الآخر ؟؟
أقصد ذلك الذي ابتاعه داوود وأُرسل بالخطأ لشخص غيره ؟؟
ما الذي حدث له؟؟! ومن ذلك الشخص الذي تسلمه ؟!
كان مجدي يقود سيارته على الطرقات وهو يزفر بغضب ويصرخ :
_ يا بني بقولك متنيلتش عملت حاجة، هو أنتم مُصريين تودوني في داهية ؟!
صمت يستمع لصوت رفيقه (مهند) على الهاتف، قبل أن يقول بغضب:
_ كله بسبب الاوردر اللي طلبته ده، يا اخي يا ريتني ما طلبته كان يوم ما يعلم بيه إلا ربنا لما طلبته، أنا مش فاهم يعني هي دماغها دي تعبانة عشان تشك فيا بسبب اوردر جه غلط؟!.
ضحك بسخرية :
_ هتعمل ايه يعني؟ ما أنتَ عارفها، سابتلي البيت وراحت بيت ابوها ولولا الملامة كانت طلبت مني الطلاق بس علشان مسحيين ده اللي موقفها لا اكتر ولا أقل.
وصلت له ضحكات مهند ليقول هو بغيظ :
_ أيوة اضحك اضحك ما أنتَ مش حاسس باللي أنا فيه، على العموم اقفل، اقفل خليني اروح اشوف هنخلص من الحوار ده ازاي .
أغلق هاتفه يلقي به جواره وهو يتنفس بصوت عالي يحاول الهدوء وهو يتذكر بداية تلك العاصفة التي أصابت حياته، أو هي ليست بداية بالمعنى الصحيح، لكن زوجته العزيزة تشك في كل تصرف يصدر منها، ولو ألقى عليها في يوم التحية لاتهمته باخفاء اسرار قومية خلف تحيته تلك..
حياة صعبة لكنه اختارها لنفسه حين تزوج بزوجته الحبيبة " كاثرين " أو كما تحب أن يدعوها البعض "كاتي" زوجته التي أحالت حياته لجحيم حين تلقت الهديو التي انتقاها لأجلها.
انتقى بعض الغلالات والفساتين القصيرة الجميلة لاجلها وبكامل الحب، هدية ظن أنه سيلقى مقابلها حب ودلال يكفيه لشهور، لكن ما حد كان عكس ذلك .
عاد منزله بارهاق بعد يوم طويل في عيادته، ومن ثم المشفى التي يعمل بها، والآن جاء ليرى نتيجة المفاجأة التي صنعها لزوجته.
والنتيجة لم تكن سارة أبدًا .
وجد كاثرين تجلس على المقعد تضع ذراعيها على المسندين جوارها في شكل درامي كما في الأفلام القديمة تقول بصوت ساخر واعين حادة :
_ اخيرا رجعت يا دكتور مجدي ؟؟
نظر مجدي حوله يحاول فهم ما يحدث، هل يعقل أن الثياب لم تعجبها :
_ أيوة يا روحي، مالك كده شكلك مش في المود ليه ؟!
_ لا طبعًا ازاي مكونش في المود وجوزي حبيب قلبي محضرلي مفاجأة متخطرش على بال حد .
ابتسم مجدي بسمة واسعة يقترب منها يميل على المقعد وهو يهمس لها بصوت شاعري حالم :
_ لا بس ايه رأيك في الألوان ؟! مختارهم لون لون بايدي عشان الليالي بتاعتنا تكون احلى واحلى .
اتسعت أعين كاثرين تتذكر ألوان الحجاب التي تلقتها ومعها العديد من الثياب الفضفاضة، هدية كانت لتسعد بها وتعجبها كثيرًا، لو أنها لم تكن مسيحية متزوجة من مسيحي ؟؟؟؟
_ أنا كان قلبي حاسس والله، تصرفاتك آخر فترة مكانتش عجباني، كنت حاسة أنك بتلعب بديلك، بس مش بالشكل ده يا مجدي، ولا اقولك يا شيخ مجدي .
ابتعد عنها مجدي بعدم فهم :
_ شيخ مجدي ؟؟
_ أيوة شيخ، قلبي قالي خلي بالك جوزك هيعمل حاجة غبية، لكن مش للدرجة دي يا مجدي.
ومجدي المسكين يقف أمامها يحاول معرفة ما تقصد :
_ أنا مش فاهم أنتِ عايزة ايه بالضبط ؟!
وجاءه الرد صادمًا :
_ أعلنت اسلامك امتى يا مجدي ؟!
اتسعت أعين مجدي من حديثها يتراجع للخلف وقد شحب وجهه مما تقول وهي لم تصمت بل اخذت تصرخ في وجهه أنها ستخبر الجميع بهذا وأنه ابتاع لها خصيصًا تلك الهدية مع رسالة بكلمات قصيرة مفادها (بداية جديدة لنا، حتى يجمعنا الله على خير )
ومجدي يقف أمامها يتلقى كل تلك الكلمات بأعين متسعة لا يفهم ما يحدث، حتى انتهى ذلك الشجار الذي لا يعلم كيف بدأ وخرجت هي تحمل حقيبتها صوب منزل والدها .
وهو نظر لتلك الهدية الموضوعة على الطاولة بأعين مصدومة يهمس بعدم فهم :
_ يعني ايه ؟؟ ايه ده ؟؟ ايه ده ؟!
اقترب من الهدية يجمعها بسرعة يصعد للسيارة وهو يتحرك بسرعة كبيرة صوب عنوان شركة الشحن المدون على الطرد وهو يصرخ بجنون :
_ أنا استاهل الضرب عشان فكرت اجيب هدية بالشكل ده، كان فيها ايه لو روحت بنفسي اشتريها من المحل وجيبتها ؟؟ الله يسامحك يا مهند الزفت أنتَ ونصايحك...
وصل ليدخل الشركة وهو يصرخ بجنون في الجميع :
_ أنا هخرب بيتكم واحد واحد، ده تسيب واهمال، ده أنتم لو فاتحين تحت بير السلم هيكون عندكم ضمير عن كده، أنا عايز المسؤول في المخروبة دي ...
اقترب المدير وهو يهتف بريبة :
_ ايه تاني ؟؟ مش هنخلص بقى ؟؟
ابتسم لمجدي يقول بصوت هادئ :
_ أيوة يا فندم اتفضل، اقدر اساعدك ازاي ؟؟
وضع مجدي الطرد على الطاولة يقول بحنق وصوت مرتفع :
_ ايه ده ؟!
_ ايه يا فندم مش فاهم ؟؟
_ ده مش الاوردر اللي انا طلبته ؟؟ حضراتكم مش ده اللي انا طلبت شحنه على البيت عندي، باعتين ليا خمارات واسدالات ؟؟
ابتلع المدير ريقه وقد بدأ يربط بين هذا الطرد والآخر الذي أثار صاحبه مصيبة البارحة يقول ببسمة :
_ خير يا فندم حصل خير والله، هو بس خطأ بسيط مش مستحق كل ده، بعدين يعني حضرتك والله الخمارات والاسدالات ذوقهم حلو اوي، واكيد هيعجبوا المدام و...
وقبل أن ينهي حديث رفع له مجدي يده يشمر عن ثيابه مظهرًا ذلك " الصليب " الذي يعلو معصمه وهناك بسمة باردة مرتسمة على فمه، ليحرك المدير رابطة عنقه مبتلعًا ريقه :
_ اه، هو ...هو الحقيقة يا فندم الموضوع كان غلط من عندنا بس احنا طردنا العاملة المسؤولة عن الغلط ده، واسفين بجد وشوف حضرتك نعوضك ازاي واحنا في الخدمة .
_ تعوضني ؟! تعوضني عن ايه بالضبط ؟؟ أنا مراتي غضبانة عند اهلها بعد ما فكرتني شاري ليها الهدايا وعملت مصيبة ليا .
تمتم المدير بريبة :
_ الله يسامحك يا أفكار، الله يسامحك هتعملي فتنة طائفية بغبائك ده ..
ختم حديثه ثم أخذ يعتذر له محاولًا التعويض وما بين حوارات كثيرة خرج مجدي من المكان متعودًا لهم بالويل ..
وها هو في طريقه ليصالح زوجته الحبيبة التي تشكل في أصابع يدها ..
رحلة طويلة سيخوضها مجدي مع زوجته.
وهو هل سيكون صبورًا لتحمل كل ذلك ؟؟؟؟!!
تمت بحمد الله
بكل ما هوه جديد من اللينك الظاهر امامك
🌹🌹🌹🌹 🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹
