رواية تزوجت مـدمـنا
الفصل الثلاثون 30
والواحد والثلاثون 31
والثاني والثلاتون 32
بقلم نوران شعبان
الفصل الثلاثون✨
-: بص يا بني، انا لما شفت حياه اول مرة في الحفلة كانت عاملة زي الملائكة .. هادية و مثقفة و جميلة .!
-: أنجز يا بابا انت هتعاكس مراتي قدامي ..!
-: مستعجلنيش بقى بدل ما اقوم و اسيبك .!
-: خلاص آسفين، كمل ..
-: المهم، كل ده كان مجرد ظواهر، مجرد شكل من برا ابيض و من جوا سواد .!
امال كريم رأسه للأمام وهو يحدق بوالده بسخرية تامة
-: فكرت انها عروسة مناسبة ليك، اسم و نسب و كمان دكتورة شاطرة ممكن تطلعك من حالتك الانطوائية الي كنت فيها ..
عشان كدة مفكرتش و طلبت ايدها من صديق على طول، مكنتش اعرف الجحيم الي ممكن يجي من وراها .!
زم كريم شفتيه بدهشة و سخرية وهى يكرر
-: جحيم. !! ده ليه بقى ؟؟
-: عشان دي طلعت شيطانة .!
انا مكنتش اعرف ابدا انك مدمن زفت مخدرات ..
انما هى كشفتك و جت تهددني بكل بجاحة وقلة أدب ..
تحولت ملامح كريم للجدية وهو يسأله باستنكار
-: جت تهددك.؟ ازاي.؟!
-: طلبت تقابلني، و اتفاجئ انا بغرورها و تكبرها .. تقعد تبصلي من فوق لتحت بمنتهى الوقاحة ، و كملت سلسلة الانحدار و الكدب بإني عايز اسرق أبوها و آخد فلوسه و شركته فهددتني بيك .. قالتلي لو فكرت تهوب ناحية ابويا انا هدمرلك ابنك و اخلي سيرته على كل لسان .!
استوقفه كريم وهو يتذكر شيئا ما
-: أيوة أيوة ،، بس انت فعلا قولتلي اقرب منها عشان كنت داخل صفقة مع صديق و خايف تخسرها .!
توتر أحمد بعض الشئ لكنه برر الموضوع
-: أيوة يا بني كنت داخل مجرد صفقة معاه، لكن مش داخل اسرقه و لا ابوظ شغله .!
-: امتى حياه قالت الكلام ده.؟
-: قبل ما تتجوزوا، كنا لسا بنرتب للفرح و الفيلا ..
المشكلة مش في كدة يا كريم ..
المشكلة انها هددتني بيك مقابل مصلحتها كمان ..
-: و ده ازاي ده كمان.؟
-: قالتلي انها هتعالجك من الإدمان و تخليك احسن من الأول ، مقابل انك تبقى رسالتها .. استغلتك و استغلت ضعفي و ادمانك مقابل الرسالة الي هتشهرها و تاخد عليها جوائز .. خصوصا انك هتبقى جوزها هيبقى اسمها عالجت جوزها مش مجرد مريض عندها .!
هز رأسه نفيا غير مستوعب لما يقوله والده ..
-: لا لا لأ .. كل ده كدب ! حياه عالجتني عشان بتحبني .. عشان انا جوزها بدليل انها مأذتنيش في حاجة طول المدة دي .. حتى لو هى عايزة تستخدمني كرسالة مكنتش هتخلف مني اكيد انت بتقول ايه.!
-: بتكدبني و تصدقها عليا.؟ طيب لو هى كانت عايزة مصلحتك و مش عايزة تفضحك قالت لمحسن ليه على ادمانك.؟ على العموم أمسك، الورق ده لاقيته في عيادتها أقرأه و شوف الي بتدافع عنها و بتكدبني عشانها أقرأ ..
أمسك كريم بالورق يقلبه بين يديه بدون تصديق ..
-: هتلاقي في ورق يثبت انك كنت مدمن، وورق تاني فيه معلومات عن حياتك كلها ، وورق ثالث عن فترة علاجك كاتبة كل حاجة بالتفصيل .!
كاتبة انها حبستك و إنها كمان كانت بتحطلك حبوب هلوسة في الاكل .!!!
ابتلع كريم شهقته قبل ان تصدر منه وهو يتطلع على أدق التفاصيل المكتوبة من حياه ..
كل شئ مكتوب حقيقي و صار بالفعل و لكن " حبوب الهلوسة " هو الجديد عليه ..
وقف كريم مصدوماً مُتسع المقلتين، لآ يصدق ما سمعه للتّو من والده ..
تقف الحروف في حلقه لتضيّق عليه وصلة أنفاسه بجهدٍ كبير ..
صعقة كهربائية تشبثت بفؤاده بفجور كشخص على حافة الموت يتشبث بآخر أنفاسه ..
و دوار بسيط احتل عقله ليشعر ان الكون مزغللاً أمامه ..
" كريم انا عارف ان الموضوع صعب عليك جدا خصوصا ان حياه بقت شايلة في بطنها ابنك، انا بعترف اني كمان غلطت عشان مقولتلكش حاجة زي دي من الأول بس انا كنت خايف لأحسن الشيطانة دي تفضحك و تضيع مستقبلك و آ .. بعد كدة اتشغلت في شغلي زي ما انت عارف و اتلهيت. !
- توقف عن الحديث ثوان، ليردُف بعدها بصوت شيطانيّ مليئ بالحقد و الكراهية
" بس خلاص .! الورق كله معانا و مش هتقدر تثبت عليك حاجة يا بني ..
كل الي ناقص إنك تاخد ابنك الي في بطنها و تهرب .. تهرب و تسيبها تتحسر على حقدها و انانيتها الي جواها. !! "
شعر كريم برغبة جامحة في البكاء و الندب، لم يصمد أكثر من ذلك بل فرّ بعيدا تاركاً والده وحيداً ..
~~~~
" الهاتف الذي طلبته مغلق و غير متاح "
زفرت حياه بضيق بعد ان سمعت تلك الجملة للمرة المائة ..
تجلس بنصف جلسة على الفراش و القلق يتملكها فمنذ البارحة و كريم مختفي و هاتفه مغلق ..
تميل برأسها للخلف و الدموع تنساب على وجنتيها لا تعلم من آلام الحمل أم آلام غياب كريم ، لأول مرة يغيب فجأة هكذا دون أخبارها و حتى هاتفه مغلق .. " هل أصابه مكروه.؟ "
" miss hayah.! Are you fine.? "
سمعت صوت المساعدة الأجنبية التي أحضرها والدها سابقا حتى تعينها أثناء فترة حملها ..
فتحت عيناها بصعوبة و قد غمرتهما الدموع
" yeah lena, i'm fine.."
" do you want any thing.? "
" thank you lena, only i want to sleep please leave me alone .! "
غادرت " لينا " الغرفة و تركت حياه لترتاح قليلا ..
غفت حياه مكانها لساعة، لتشعر بحركة خفيفة في الغرفة ..
و بعدها تخلل لأنفها رائحة مميزة تعشقها و بجنون ..
رائحة ذكورية حنونة تبث الاطمئنان في داخلها دائما ..
رائحة تشعر بها ولو من على بعد أميال ضحلة ..
فتحت عيناها ببطئ لتجد الغرفة خالية، خاب أملها و عادت تغمض عيناها مرة ثانية لكن صوت مقبض الباب وهو يفتح استوقفها ..
ضلت تحدق بالباب لتجد كريم يدلف للغرفة بآمان، ضحكت و رقص فؤادها مهللا بعودة كريم ..
نهضت من على السرير بسرعة لا تتناسب مع فترة حملها و بطنها العملاقة الممتدة أمامها بكثير ..
ركضت بخفة نحو كريم لتحتضنه بجنون و تطبع عدة قبلات متفرقة حول وجهه ..
-: كل ده سايبني و قافل موبايلك .! انت كنت فين انا كنت هموت من القلق عليك.؟
حاول كريم الهروب من مقلتيها السود حتى لا يغوص فيهما للأعمق و يضعف ..
-: شوية مشاكل في الشغل و صفقة كبيرة جدا كنا شغالين فيها ..
-: طب ليه مطمنتنيش عليك يا كريم كنت خايفة عليك جدا .!
تجاوزها كريم بصعوبة وهو يحاول ان يتماسك أكثر من ذلك ..
-: معلش يا حياه بس زي ما قولتلك الصفقة كانت محتاجة شغل كبير ..
فهمت حياه انه هلكان من تلك الصفقة و من العمل بصفة عامة، فالتزمت الصمت الآن حتى لا تزعجه ..
~~~~
مر يومان يحاول كريم التصرف طبيعيا حتى لا تشك به حياه ، و حياه مشغولة بحملها و آلامه فلم تلاحظ ذلك كثيرا ..
و في اليوم الثالث طلبت حياه من كريم شيئا بخصوص عملها ..
-: كريم، معلش يا حبيبي ممكن طلب صغير.! ممكن تاخد الفلاشة دي و تنقل عليها file بعنوان شيزوفرينيا من على اللاب بتاعي .؟
اومأ كريم بإيجابية و ذهب لفعل ما طلب منه ..
كان واقفاً ينحني للأمام قليلا و يتابع شئٍ ما على جهاز " اللاب توب " الخاص بحياه ..
يبحث عن الملف الخاص بعملها الذي طلبت منه حياه نقله على " الفلاشة " الصغيرة
ظل يفتح الملفات و يغلقها حتى يعثر على هدفه ، استوقفه ملف يحمل عنوان message ليفتحه و يدعو الله من صميم قلبه ان لا يكون ما يتوقعه ..
خُذل، خُذل و انصدم مرة ثانية ..
كل الحچچ التي كان يخترعها تبخرت بلا رجعة و بقى فقط معلومة وحيدة بعقله
- حياه كانت تستغله " كرسالة " لعملها لا أكثر ..
ابتلع غصة متعلقة بحلقه بصعوبة، و بدأ بتفقد المحتويات بالملف ليجده عبارة عن " فيديوهات " له وهو يتعالج، وهو يدمن، وهو أيضا يلقى بأكياس البودرة بحوض المرحاض بعد توقفه عن الإدمان ..
أيقن ان كل ذلك جاءت به عن طريق " كاميرات مراقبة " متربَصة له في كل مكان ..
أغلق الملف سريعا عندما سمع صوتها يناديه، حاول إخفاء تعابير وجهه المتجهم و هو يضغط على صف أسنانه السفلى بغِل و ثمة قرار وحيد احتل كيانه و تفكيره ....
" الانتقام ..! "
سمع صوت صريخها الحاد ينتشله من أفكاره و يعيده لأرض الواقع ..
ركض للخارج ليجد حياه تنحني للأسفل و تصرخ بهستيريا و كلمة واحدة ترددت كثيرا " انا بولد "
لم يتمهل كريم، حملها ووضعها بالسيارة و فر مسرعا للمشفى ..
~~~~
في المشفى نجد كريم يجلس على مقعد من المقاعد البلاستيكية المرصوصة على أحد الجوانب داخل المشفى ..
يحدق بالغرفة التي دخلت فيها حياه منذ ساعات و مازالت في الداخل ..
يفكر في اتخاذ قراره الذي بالتأكيد سيحدد مصيره و مستقبل فتاته التي تلدها حياه الآن ..
هل سيسير في حدود الانتقام التي تتقاذف بها الأشواك ، إم يغفر لعله يكون مخطئا و يعيش معها و مع ابنتهما بسلام.؟
اتى على مخيلته كلام والده و تهديد حياه له، ورق رسالة حياه و الفيديوهات الخاصة به وهو يدمن، حبوب الهلوسة التي اضافتها له وقت العلاج أيضا .!
تذكر ان بعد اتمام مرحلة علاجه في ليلة مع حياه لاحظ غرابة تصرفاتها، و انكماشها بين ذراعيه رغم انها ليست الليلة الأولى ، أيضا دماء عذريتها التي جاهدت هى لتخفيها بعيدا عن اعينه ..
إذا كل الليالي السابقة ما كانت إلا هلوسة كاذبة.؟
نعم، فبالتأكيد لن تضحى الطبيبة المبجلة بعذريتها لمدمن مخدرات .!
اصتك على أسنانه بغيظ و قد قرر قراره النهائي المصيري ..
" سينتقم ! "
وجد والده يجلس على المقعد المجاور، و أتاه صوته الرخيم وهو يربت فخذة كريم بتهاون
-: هتعمل ايه.؟
تنهدت كريم طويلا قبل ان يخرج صوته المتحشرج المختنق
-: عايزك تجهزلي المكان الي هنهرب ليه، وواحدة تخلي بالها من جنة تبقى زي ضلها .!
تهللت اسارير والده و لمعت عيناه بالظفر، لكن اندهش قليلا و ابتسم بتأثر
-: جنة ؟ هتسميها على اسم امك يعني ..
شرد كريم لبعيدا متذكرا ذلك الموقف ..
فلاش باك ..
كانت حياه ممدة على الفراش تمسك بكتاب ما تقرأه، حتى وجدت كريم يخرج من المرحاض و يتمدد هو الآخر جانبها ..
تركت الكتاب و امالت برأسها على منكبه العريض .. و بعد قليل تحدثت بخفوت
-: كان نفسي في ولد،، ولد يكون نسخة منك .! نفس عيونك العسلي و شعرك الناعم .. نفس شخصيتك الحنينة و ضحكتك الي بتنور حياتي ..
طبع قبلة أعلى جبينها ممسكا بكف يدها الصغير معقبا
-: و انا كان نفسي في بنت و ربنا حققلي أمنيتي !
تكون شبهك، نفس ذكائك و هدوئك، نفس العيون السود الي بيسحروني، نفس الشعر الأسود زي سواد الليل .!
نفس بشرتك الصافية زي قلبك ..
عايزها تكون انتي اساسا .!!
ابتسمت بحب وهى تنصت لكلماته و تحفرها داخل قلبها و توصد عليها جيدا ..
رفعت رأسها لتقابل عيناه متسائلة
-: طب فكرت هنسمي البنوتة ايه.؟
زم شفتيه بمعنى " لأ " و قد ترك لها حرية الاختيار
-: تؤ، فكري انتي كدة كدة بالنسبة ليا هتبقى حياه الصغيرة ..!
شردت حياه أمامها تفكر بشئ، لتهتف بحماس
-: جنة .! نسميها جنة يا كريم ..
و هى فعلا جنتنا بعد عذاب طويل.!
-: اممممم، و مالو جنة. ؟ حلو جنة ده حتى على اسم امي ..
-: بجد.؟؟ اول مرة اعرف على فكرة .. خلاص يبقى جنة كريم الراجي حلو اوي .!
~~~~
عودة ،،
أفاق كريم على صوت بكاء طفولي يأتي من داخل الغرفة، لتخرج الممرضة بعدها بدقائق تحمل الطفلة بين ذراعيها ، اقتربت من كريم و مددت الطفلة له ، ارتعش بدنه كاملا و شعر بالبرودة تدب في اوصاله وهو يمد ذراعيه ليلتقط طفلته الصغيرة ..
سمع صوت الممرضة تخبره ان الولادة تمت على أكمل وجه و ان حياه بخير الآن ..
لينغمس بعدها مع طفلته الصغيرة ..
كان حجمها مناسب ليست بالضئيلة ..
و لم تتبين ملامحها جيدا فقط قطعة دماء مشكلة آخذه اللون الأحمر الفاتح ..
كبر كريم بصوته الهادئ العذب في آذان تلك الصغيرة ..
وجد آباه يربت على كتفه من الخلف و يتأمل أيضا في حفيدته، مد له ذراعيه وهو يأمره
-: العربية و كل حاجة جاهزة ، روح خلص الإجراءات انت و هاتها .!
سلم كريم الصغيرة لآباه و سار مطأطأ الرأس حيران .. يشعر بخزيان يسود و يغلف قلبه تماما ، و لكن صدمته خذلانه من حياه أقوى بكثير ..
الفصل الحادي والثلاثون✨
بعد مرور سبع سنوات،،
تقف طفلة قصيرة القامة أمام نافذة عملاقة يهب فيها النسيم و تملأه رائحة الياسمين العذبة ..
تقف ممسكة بتلابيب قميصها الطفولي الوردي القصير بيد، و الأيد الأخرى تطبعها على النافذة بحزن متطلعة للأشجار و النهر الصغير الذي يمر قريبا من منزلها ..
تنهدت بهدوء مكتوم، و طأطأت برأسها أرضا و دمعة شفافة انسابت من مقلتيها السودوين المحفوفين بالبراءة و الجمال ..
يتحرر شعرها من عقصته لينسدل شلال اسود غزير يغمرها حتى الركب ..
سمعت صوت طرقات حذاء هادئة يقترب، نظرت للباب لتجد ذلك الشخص صاحب النظارة الطبية يقترب منها بابتسامته البشوشة، لم تعبأ به بتاتا فقط رمته بنظرات عابرة و اشاحت وجهها للنافذة مرة ثانية ..
" جنة الجميلة عاملة ايه دلوقتي .؟ "
هتف بها بلهجة طفولية حتى صار جانبها ..
لم تنظر له " جنة " الفتاة الصغيرة و لم تعقب حتى ، فأخرج ذلك الرجل من حقيبة عمله - لعبة صغيرة على هيئة فتاة باربي المشهورة - و غازل " جنة " بها بلؤم
" مش عايزة تردي علي .؟ خلاص هلعب انا بالعروسة دي لوحدي .."
النتيجة صفر، لم تتأثر جنة بل و كأنها في عالم آخر لا تسمعه حتى ..
جلس الرجل على ركبتيه يحدق بها، انحنى برأسه يترجى إياها
" جنة .. عشان خاطري اتكلمي، قولي أي حاجة انشالله تشتميني ! اطلبي اي حاجة نفسك فيها، طب قولي ايه الي مضيقك اتكلمي يا جنة مش هتفضلي طول عمرك ساكتة. ! "
لم يحدث اي تغيير، ملامحها كما هى ..
أخفض رأسه بيأس و سحب حقيبته معه و سار لخارج الغرفة ..
خرج ليجد صاحب المنزل ينتظره ، طأطأ رأسه بحرج لتتحول ملامح اللهفة لصاحب المنزل الي حزن فورا
" أستاذ كريم .. انا حاولت معاها كتير، بقالي اسبوعين بشوفها يوميا و في كل يوم بجيبلها حاجة شكل على امل انها تتكلم او حتى تفرح بالحاجة بس مفيش ردة فعل نهائيا ..
انا مش قادر احدد هى عندها ايه بالظبط بس الي شاكك فيه بنسبة كبيرة هو اشتياقها لأمها، حضرتك بتقول ان وهى صغيرة كانت طبيعية تماما زي اي طفلة و ان أعراض الصمت و الاكتئاب دى ظهرت بعد ما تمت الخمس سنين يعني بدأت تكبر و تعرف يعني ايه ماما، اكيد بتشوف كل الأطفال في سنها معاهم أمهاتهم وهى لأ فاتأثرت بكدة .. "
انصت كريم لكل حرف بإهتمام، يعرف جيدا ذلك الشعور فصدق الحديث على الفور ..يعرف معنى وجود الام خاصة في تلك المرحلة الطفولية ، وضع كفه خلف رأسه بيأس و قلة حيلة
" عارف يا دكتور، انا بجيبلها كل يوم دادة شكل على امل انها تقرب من واحدة منهم و تعتبرها امها بس مفيش ميل من ناحيتها ابدا ، بتتصرف معاهم بعدوانية مش طبيعية .! "
" والله ممكن يكون بسبب واحدة من الدادات دي كانت بتعملها وحش فكرهت كله بسببها، يمكن يكون عشان عارفة ان ولا واحدة منهم تنفع والدتها .. الله أعلم هى حسا بإيه دلوقتي ."
قطع حديثهم باب غرفة جنة وهو يفتح، لتظهر منه تلك القصيرة التي بالكاد ظاهرة من خلفه، وضعت تلك اللعبة التي أحضرها الطبيب النفساني الخاص بها على الارض خارج الغرفة و أغلقت الباب بهدوء تام دون حرف ..
حركك الطبيب رأسه بيأس و أمسك باللعبة و رحل ..
تحرك كريم بضعة خطوات لينزل درجة من السلم أمامه و يجلس عليها واضعا رأسه بين كفيه، يتذكر آخر ثمان سنين من عمره عندما ترك حياه وحيدة داخل المشفى لم ترى طفلتها ولو لمرة واحدة حتى و أخذ طفلته و هرب لتركيا بوسطة والده ..
من بعدها انقطعت الأخبار، لم يعرف اي شئ عن حياه .. تولي رعاية ابنته و قد أحضر لها العديد من المربيات و لكن من بعد الثلاث السنوات لم تتقبل ابنته واحدة فقط فأصبح لها الام و الاب ..
أصبحت لا تتحدث مع أحد إلا والدها فهو كل ما تملك تقريبا، حتى جدها لم تراه كثيرا منذ خمس سنوات تقريبا عندما هجره كريم ..
هجره كريم عندما خداعه له كل ذلك الوقت ، و ان امرأته التي هجرها بسببه بريئة لم تكن بمظهر الشيطانة الذي يصوره دائما، أيضا وفاة والدها " صديق" ، ترك تركيا وقتها و ترك والده و عاد الي مصر باحثا عن حياه لكن لم يجدها .. انشقت الأرض و ابتلعتها فعلا.!
بحث عنها في كل مكان و سأل عنها الكثير ولا حياه لمن تنادي ..
و ها هو يندم اشد الندم على تسرعه و غبائه، و اول من دفع الثمن ابنته ..
و لكن ثمة أسئلة تقف في عقله تمنع الأفكار من العبور ، لماذا أعطته حبوب الهلوسة ؟ لماذا كانت تصور له و تدس كاميرات المراقبة ؟ لماذا كتبت كل ذلك في الورق .؟!
شعر كريم بطفلته تقف على الدرج فاستدار لها، وجدها تقف بوجهها الأبيض و عيناها الكاحلان ..
يعشق التأمل بأقسام وجهها الملائكي الذي دائما يذكره بحياه .. يرى حياه بداخلها، عيناها ضحكتها شعرها و النظرات .. حتى حكمتها تأخذها، هادئة و ذكية لماحة ..
أمسك جنة من كفها ليجلسها على فخذتيه و يمسح بحنان على شعرها ..
مدت " چنة " كفها الصغير لتلمس ذقنه الخشنة الفوضوية ، داعبها كريم فلوى رأسه فجأة و اوهمها بعّض كفِّها الصغير فجذبت يدها فوراً ..
كررت بحذر حركتها و لمست ذقنه مرة ثانية ليوهِمها بهدوئه و سْرعان ما قرّب فمه من كفها حتى يقبض عليه لكنها سحبته سريعاً مرة ثانية ..
كررت فعلتها للمرة الثالثة و ابتسمت بخفة ، و انتهز كريم الفرصة و داعبها مرة و اثنان و ثلاثة حتى تعالت ضحكاتها الجميلة و تميزت أسنانها اللّبنية القصيرة تحت ثغرها الوردي الكَنِز ..
ظلّ يداعبها و تقهقه هى بدورها فتتردد ضحكاتها كالألحان العذبة داخل أُذنه .. منذ زمن و لم يسمع تلك الاناشيد و احلاهم فتمنى لو يتوقف الزمن عند تلك اللحظة و يخلد الذكرى في سجِّل اغلى المعزوفات ..
~~~~
غرفة مظلمة يعم فيها السواد ..
و في زاوية من الزوايا الأربعة للغرفة تجلس ضاممة قدماها لصدرها و يحوط شعرها المقصف وجهها كخيوط سوداء متناثرة هلى صفحة ورقة بيضاء ..
تشدد من التفاف ذراعيها حول بدنها المرتجف بجنون كهاتف وضع على وضع الاهتزاز .. و قلبها تضارب دقاته كمن رأى حيوان مفترس على وشك الفتك به .. تبكي كالشخص التائه وسط صحراء لا ماء معه ولا طعام ..
فتح باب الغرفة ليدلف شعاع ضوء بسيط يدب في الغرفة نور ، لتصرخ بهستيريا صريخ هائل يخرج من حنجرتها التي لو تكلمت لأشتكت للخلاق على سوء المعاملة و التقدير ..
ثوان و كانت الغرفة كلها مضاءة بالانوار وسط صريخ " حياه " ..
و دلف للغرفة ثلاث او أربع ممرضات في لباسهن الأبيض ليحاولن تهدئتها قليلا ..
ظلت تصيح بخوف هستيري
" لأ .. ﻷ سيبوني في حالي انتو عايزين مني ايه تاني سيبووونيي !! "
وجدت " شريف " هو الآخر يدخل للغرفة بملامح حزينة مهمومة فانطلقت تجاهه و قبضت على قميصه و دموعها مازالت تنساب على وجنتيها دون توقف ..
" شرييف .! شريف انا عايزة بنتي ،، بنتي فين عملته فيها ايه.؟؟ ط طب جوزي هاتولي كريم هاتولي كريم متعملوش فيا كدة يا شريف .. "
ركعت على الأرض و قبضتها عن قميصه انحلت لتتعالى صوت شهقاتها كأنها آخر أنفاسها
" طب بابا .. عايزة ابوياا هو مماتش هو عايش انا متأكدة ! "
- بااباا ، كريم ، بنتي -
شهقت حياه و هى تهب جالسة على الفراش بفزع، وضعت كفها على صدرها لعلها تهدئ من روعها قليلا فوجدت سترتها مبتلة تماما و العرق يغمرها بالإضافة لوجهها ..
زفرت بضيق بسبب تلك الذكرى المأسوية التي عاشتها من سبع سنين و لازالت تلاحقها حتى الآن على هيئة كوابيس ..
أمسكت كوب الماء الموضوع على الكومود جانب الفراش لترتشف قطرات منه ..
سمعت صوت اهتزاز قريب، نظرت ناحية الكومود لتجده هاتفها التي وضعته على وضعية الاهتزاز ..
تبدلت ملامحها للجدية و فورا أجابت على الاتصال عندما أمسكت الهاتف ..
-: الهدف نزل من بيته حالا و معاه البنت الصغيرة ..
اظلمت عينان حياه بشدة و أعقبت
-: حلو اوي .. خليك ماشي وراهم من غير ما يحسوا، و اول ما الفرصة تسمحلك نفذ الي اتفقنا عليه ..
-: اوامركك يا هانم ..
~~~~
تعطلت سيارة كريم فجأة وسط الطريق .. ترجل من السيارة ليكتشف ما الخطأ لكن فشل في الاستكشاف ..
ذهب بأفق نظره لآخر الطريق ليحاول معرفة هل من مكان لتصليح السيارات ام لا ..
فتح نافذة السيارة و ببشاشة تحدث مع صغيرته
-:حبيبة بابا ممكن تستنى في العربية متطلعتش غير لما آجي. ؟ هروح أشوف حد يصلح العربية و آجيلك يا قمر عشان اوديكي الجنينة الي بتحبيها ..
اومأت جنة ايجابيا فقط دون اهتمام، أغلق كريم النافذة مرة أخرى و أسرع في خطواته باحثا عن احد ما لإصلاح سيارته ..
و بعد ثوان، سمعت " جنة " صوت طرقات على زجاج نافذة السيارة جانبها، ضغطت على الزر لينخفض مستوي الزجاج تدريجيا و تظهر من خلف الزجاج فتاة ترتدي نظارة شمسية ..
خلعت الفتاة النظارة الشمسية و ابتسمت بهيام نحو " جنة " ، أما جنة فكانت تحملق بها و بملامحها التي حفرتها داخلها .. فتلك الفتاة الماثلة أمامها هى نفسها التي تراها دائما في الصور مع والدها ..
دائما ما كانت تذهب لغرفة والدها ليلا تراه يتأمل في الصورة حتى ينام، تارة يبكي، تارة يقوى، تارة يتحدث مع الصورة ..
و من تلك الصورة أيقنت انها " امها " لا محالة .!
اعتدلت جنة في جلستها و التفتت نحو تلك الفتاة و اقتربت بوجهها خارج النافذة، و بمنتهى العفوية مدت كفها لتلمس بشرتها البيضاء ..
زلزال قوي أصاب بدن حياه عقب تلك اللمسة البريئة الناعمة، تورد وجهها و توترت قليلا لكنها حاولت استجماع كلماتها و همست بهدوء
" تحبي نروح ناكل ايس كريم مع بعض.؟! "
ابتسمت جنة دون وعى، ابتسمت دون حاجة الابتسامة، ابتسمت لأنها احست بالود و اللين و الحنان في نبرتها ..
و فتحت باب السيارة و نزلت و ابتسامتها لا تفارقها كأنهى عرفت للتو معنى الابتسامة الحلوة ..
أمسكت حياه بكفها الصغير و تحاول السيطرة على مشاعرها حتى لا تنهار الآن ..
سارا حتى سيارة حياه، ركبا و حياه تضغط على كفها و تحاول كبح دموعها من الهطول .. فلأول مرة تشاهد طفلتها منذ ان ولدتها .. لأول مرة تحدثها .. لأول مرة تجلس جانبها و تمسك يدها هكذا ..
الفصل الثاني والثلاثون✨
عاد كريم محبط، لم يجد اي " ميكانيكي" في ذلك الطريق ..
ركب السيارة و هو يزم شفتيه بضيق، لم يجلس حتى فقد وجه بصره للمقعد المجاور و لم يجدها .!
لم يجد " جنة " .. فرك عينيه جيدا وهو يعيد النظر و ينظر في المقاعد الخلفية، ينزل و يحدق بالشوارع و المتاجر ..
يجري يمينا و يسارا بهلع، يسأل اي شخص يمر و اي شخص متواجد عنها و لكن لا يوجد أحد رآها ..
وقف في منتصف الطريق و الشمس تتساقط آشاعتها عليه عمودية، يضغط على شفتيه محاولا عدم البكاء خاصة الآن ..
~~~~
تحركت سيارة حياه العملاقة تشق الطرق، و حياه و جنة صامتان ..
قطع تلك اللحظات " جنة " وهى تخرج من حقيبتها صورة لحياه مع كريم ..
رفعت الصورة جانب وجه حياه و ظلت تقلب بصرها بين الصورتين ..
اتسعت ابتسامتها أكثر عندما تأكدت انها هى نفس الشخصية ..
صاحت بحماس و فرحة
" مامااا ...انتي ماما .!! "
اتسعت مقلتي حياه بصدمة ولم تستطع كبح دموعها ولا شهقتها ..
سالت دموعها كالثلج على وجنتيها وهى تحدق بجنة و بالصورة معها ..
اقتربت منها جنة كثيرا و تأثرت ملامحها لبكاء حياه، فببراءة الأطفال مدت كفها لتمسح دموع حياه ..
و كانت هذه الشرارة التي اشعلت حياه و جعلتها تنهال عليها بالقبلات و الاحضا، جعلتها تعتصرها بين ضلوعها و تنستنشق اكبر كم من رائحتها العطرة كملكة الليل ..
~~~~
تصبب العرق من وجه كريم، ظل يركض مرة ثانية لليمين و ينده بأعلى صوته اسمها " جنةةةةة "
و يذهب لليسار و يفعل المثل ..
حتى انهكته قوة الشمس الخارقة فانهارت قوته و جلس على ركبتيه وسط الطريق كالتائه ..
سمع صوت هاتفه ليجد رقم مجهول .. اجاب بخوف ملحوظ، لينطلق صوت غليظ سميك لأذنه مباشرة
-: اسمع، لو عايز تطمن على بنتك تعالى على العنوان الي هتلاقيه في ورقة تحت كرسيك في العربية الساعة 11 .. تيجي ولوحدك ده لو عايز تشوف بنتك مرة ثانية في حياتك ..
~~~~
بعد فترة،، هدأت حياه و اخذت جنة تضمها لأحضانها لا تسمح بتركها ابدا ..
و احبت جنة عناقها كثيرا، وجدت فيه كل ما كان ينقصها ..
ظلا يتحدثون طويلا في شتى المواضيع ..
ضربت " جنة " بكفها على جبهتها بنسيان
" اووبس.! بابا زمانه قلقان على كتير كنا لازم نقوله الأول .! "
تنهدت حياه قبل ان تعقد معها اتفاقا
-: بصي يا روح قلبي .. دلوقتي بابا زعلني جامد جدا قبل كدة و اخدك مني و مخلينيش اشوفك ابدا، فأنا كمان لازم اعاقبه و اخدك منه ..
ابتعدت جنة عن أحضان حياه قليلا للتساءل
-: يعني انتي مش هتخليني أشوف بابا تاني.؟
-: لا طبعا،، مش هقدر اعمل كدة عشان انا بحبك و عارفة إني لو عملت كدة هزعلك .. انتي هتشوفي بابا عادي جدا و تتفسحي معاه كمان بس تبقى عايشة معايا انا و تنامي في حضني كل يوم كمان !
زمت " جنة " شفتيها تفكر في الامر بجدية .. لكنها تشعر بالانجذاب نحو حياه أكثر ..
~~~~
دقت الساعة 11
كان كريم يقف أمام المكان بالعنوان تماما ..
اخفى مسدسه في بنطاله و توجه بعنف ناحية المكان ..
وجد على البوابة حارسان ضخمان ،
سمحا له بالدخول ليجد اثنين آخرين اوصلاه لغرفة ما بتلك الفيلا الواسعة ..
دخل من باب الغرفة بملامح قاسية و أسنان تكاد تفتك بهؤلاء الحراس لكنه التزم الهدوء ..
توقفت خطواته و اتسعت مقلتيه بصدمة ، صدمة قاتلة .!
