أخر الاخبار

رواية وبالعشق اهتدى من ميثاق الحرب والغفران الجزء الثاني الفصل الثالث 3 بقلم ندي محمود توفيق

     

رواية وبالعشق اهتدى من ميثاق الحرب والغفران الجزء الثاني 

الفصل الثالث 3

بقلم ندي محمود توفيق



انزلقت قدامها وسقطت من فوق الدرج حتى انتهي بها المطاف فوق الأرض وهي فاقدة الوعي، كانت إخلاص تقف تشاهد سقوطها من فوق الدرج وهي فاغرة عينيها وشفتيها بصدمة وكانت ستسرع نحوها محاولة إنقاذها لكنها تراجعت فور سماعها لصوت ابنها وهو يتحدث في الهاتف ويصعد السلم، فهرولت وابتعدت تختبئ خشية من أن يراها ويعرف أنها هي التي أسقطت زوجته.

أما عمران فقبل أن يصل للسلم الذي ينتهي للطابق الثاني انهى اتصاله، وأكمل صعوده السلم لكن تسمر بأرضه عندما رأى آسيا ملقية على الأرض في الزاوية المقابلة للسلم المؤدي لطابق غرفتهم، جثى أمامها على الأرض مزعورًا واضعًا رأسها فوق ذراعه ويهتف بهلع:

_آسيا.. آسـيـا ردي عليا

بتلك اللحظة عادت إخلاص التي وقفت وتصنعت الدهشة وهي تضرب فوق صدرها صائحة بفزع:

_يامُري إيه اللي حُصل ياولدي 

 أسرعت تنزل السلم لهم أما عمران فقد ازدادت دقات قلبه المرتعدة عندما لمح نقاط دماء صغيرة في ملابسها فللحظة شعر وكأن عقله توقف عن التفكير وبات ينظر لزوجته الملقية بين ذراعيه وكأنه عاجزًا لا يقوي على فعل شيء ولم ينتشله من ذهوله سوى صوت إخلاص وهي تصيح به بقلق:

_مستني إيه ياعمران قوم خد مرتك على المستشفى بسرعة

كان صوت أمه وعباراتها بمثابة الإنذار الذي اعاده للواقع وبيد مرتعشة استقام واقفًا وحملها بين ذراعيه واسرع ينزل السلم بها متجهًا لخارج المنزل بأكمله، رأتها عفاف التي شهقت هي الأخرى بفزع وتبادلت النظرات المستفهمة مع إخلاص محاولة فهم ما الذي حدث، وإخلاص لم يكن حالها أفضل من ابنها فكانت ترتجف خشية من أن يصيبها مكروه فأذا حدث وفقد ابنها طفله لن يسامحها أبدًا.


داخل المستشفى.......

ظل هو جالسًا على أحد المقاعد الحديدية خارج غرفة الطبيب، وقدمه كانت تهتز بعنف من فرط توتره وبيده يقبض على فكه بقوة، أما قلبه فلا يتوقف عن دقاته العنيفة في صدره، لم يحاول تخمين ما الذي حدث ليصل الأمر لهذه الدرجة فالذي كان يستحوذ على  اهتمامه الآن هو خروجها سالمة هي وطفله ولن يهتم لأي شيء آخر سواهم.

راح يدفن رأسه بين راحتي كفيه دليلًا على أنه وصل لأقصي مراحل التوتر العصبي، وكان يمنع نفسه بصعوبة من النهوض والطرق فوق باب غرفة الطبيب فقد طال انتظاره وهو لم يعد يستطيع التحمل أكثر من ذلك، وعندما رفع رأسه رأى أخيرًا الطبيب يخرج من الغرفة فأسرع نحوه متلهفًا:

_طمني يادكتور 

ابتسم له الطبيب بعذوبة وتمتم في لطف:

_اطمن الحمدلله المدام بخير والجنين كمان كويس بس الفترة الجاية هتحتاج راحة تامة تحسبًا لأي حاجة يعني لازم ترتاح على ضهرها، واحنا دلوقتي هننقلها غرفة عادية وهتكون فاقت وتقدر تاخدها وتروحوا للبيت

ثم رفع يده يعطيه ورقة بها الدواء اللازم مكملًا بجدية:

_وده العلاج اللي هتمشي عليه الفترة الجاية، وحمدلله على سلامتها

شكره عمران بابتسامة صافية وراح يردد " الحمدلله " وهو يشكر ربه ويحمده أنه حفظ له زوجته وابنه، ثم عاد يجلس على مقعده مجددًا ينتظر خروجها وبعد دقائق طويلة نسبيًا اقتربت منه ممرضة وهي تخبره بأن تم نقل زوجته لغرفتها ويمكنه الدخول لها، فهز رأسه بالموافقة واستقام واقفًا ليتجه للغرفة في خطوات سريعة.

فتح الباب ودخل ثم اغلقه ببطء خلفه فوجدها ممدة فوق الفراش وتحدق في الفراغ بعبوس لكن فور رؤيتها له اعتدلت في نومتها وطالعته بعين تلمع بوميض مختلف كله حب وآمان وكأنها تشكيه من أمه بنظراتها الموجوعة، اقترب هو منها بلهفة وجلس بجوارها على حافة الفراش فارتمت بين ذراعيه وانفجرت باكية بخوف:

_خوفت قوي اخسر ولدي ياعمران

راح يوزع قبلاته فوق رأسها وهو يضمها إليه أكثر بحنو:

_الحمدلله ياغزالي أنتي وهو بخير، ربنا يحفظكم من كل شر يارب

تشبثت به أكثر وعيونها مستمرة في ذرف الدموع، فاحتضن وجهها بين كفيه وأبعدها عن صدره لينحني عليها ويلثم وجنتها بعدة قبلات متتالية دافئة وهو يهمس:

_بزيادة بكا، أنا كنت هتچنن من الخوف عليكي والله ياغزال متقلقنيش تاني عاد

ابتسمت له بعشق وراحت ترفع أناملها تمسح دموعها وكان هو يساعدها قبل أن تهمس له بدلال:

_اتوحشت دلعك ليا وأنت بتقولي ياغزال

عاد يلثم وجنتها وجانب ثغرها مجددًا هامسًا:

_أنتي بس لو تفضلي عاقلة مش هحرمك منها ولا من حناني واصل ياغالية

اتسعت بسمتها بعين لامعة بالعبرات من فرط هيامها به واطمئنانها بقربه منها فهي وجدت ملاذها الذي سيحميها من أي شيء حتى من أمه، انحنت عليه وطبعت قبلة ناعمة فوق وجنته وتحديدًا فوق لحيته الرجولية فرأت ابتسامته الساحرة تشق طريقها لثغره ثم سألها باهتمام وجدية:

_قوليلي إيه اللي حُصل عاد؟ 

 تلاشت ابتسامتها واختفت تمامًا لتتقوس تعابير وجهها للغضب والنقم وهي تجيبه:

_وهي أمك مقالتلكش على اللي حُصل

غضن حاجبيها باستغراب مجيبًا بهدوء:

_أمي مالها باللي حُصل؟! 

هتفت آسيا منفعلة بعينان دامعة:

_أمك زقتني من على السلم ياعمران وكانت قاصدة تأذيني وتموت ولدك اللي في بطني 

تبدلت نظراته من الهدوء للحدة وأظلمت بشكل مخيف لكنه هتف بصرامة:

_زقتك كيف يعني أكيد أنتي وقعتي من غير ما تاخدي بالك يا آسيا 

ردت عليه برفض وثقة تامة:

_بقولك زقتني تقولي من غير قصد وكانت بتقولي أن لولا الواد اللي بطني ده كانت خلتك تطلقني من زمان

عقله يرفض تصديق ما تقوله ويرفض استيعاب فكرة أن أمه من حاولت قتل طفله، بل لا يصدقها من الأساس فقال بغضب:

_امي متعملش إكده يا آسيا

صاحت به بغضب ونظرات كلها عتاب:

_يعني أنا هكدب عليك ياعمران وهتبلى على أمك مثلا!! 

استقام واقفًا وأجابها منفعلًا بلهجة آمرة:

_قفلي على الموضوع ده خلاص ومتفتحهوش تاني، ويلا قومي عشان نرچع البيت.. انا هروح اچيب العلاچ وانتي تكوني چهزتي لغاية ما ارچع

تابعته وهو يغادر بنظرات مندهشة، هل حقًا لا يصدقها ويرى أمه ملاك لا يأذى، يعني أنه لن يحاسب أمه ويأخذ لها حقها وحق ابنه، لكن هيهات فأن سكت هو ولا يصدق هي لن تسكت أبدًا عن حقها هي وطفلها.

                                        ***

بعد مرور ساعات طويلة....

توقفت سيارة عمران أمام باب المنزل، فتح هو باب مقعده ونزل أولًا ثم التف حول السيارة ليفتح باب المقعد المجاور له ويساعد آسيا على النزول وهو يحاوطها بذراعه من خصرها وباليد الأخرى يمسك بيدها في لطف، كانت تسير معه على مضض متعمدة عدم النظر في وجهه.

 كانت إخلاص بانتظارهم ومعها عفاف وفور دخولهم وثبت إخلاص واقفة وهرولت باتجاههم هاتفة بقلق:

_الدكتور قالكم إيه ياولدي

ابتسمت آسيا بسخرية.. هي حتى لم تسألها عن حالها أولًا، اجابتها آسيا بنظرة نارية وهي تحتضن بطنها بكفها:

_الحمدلله ولدي ليه نصيب يچي الدنيا وربنا حفظنا من الشر

تنهدت إخلاص الصعداء براحة وردت مبتسمة:

_الحمدلله، خد مرتك واطلع خليها ترتاح ياولدي، حمدالله على السلامة يا آسيا

سمعت آسيا عبارة عفاف وهي تتمتم أيضًا بـ " حمدالله على سلامتك " لكنها لم تكترث لها وظلت مسلطة أنظارها على إخلاص حيث قالت لها بغضب:

_طبعًا أنتي كان نفسك العيل ينزل عشان ميبقاش في حاچة بتربط ولدك بيا

اتسعت عيني إخلاص بصدمة وراحت تنتقل بنظرها بينها وبين ابنها في حزن وتقول ببراءة وهي تشير لنفسها مندهشة:

_أنا عايزة اموت ولد ولدي.. شكل الخبطة أثرت على نافوخك يا آسيا.. ده أنا كنت بتمنى اشيل عياله كيف هأذي حفيدي 

ضحكت آسيا مستنكرة كذبها وتمثيلها البراءة أمامهم، ثم فجأة صاحت بها منفعلة:

_وعشان إكده زقتيني من فوق السلم

تزامت مع صيحتها صوت عمران الرجولي وهو يصرخ بها بعصبية:

_آسيا أنا قولت إيه مش قولت نقفل على الحديت ده واصل

انتفضت فزعًا على أثر صرخته بها لكن صوته لم يكبت روحها الثائرة حيث راحت تصيح به هو أيضًا دون اكتراث لأي شيء:

_مش هنقفل على حاچة ياعمران، أمك كانت عايزة تخلص من ولدك ومني وأنت مش فارق معاك ومصدقها

خرج صوت إخلاص الضعيف وهي تبكي بقوة وتتحدث لابنها:

_والله ياولدي ما عملت إكده أنا مقدرش أذي ولدك أبدًا ده غلاوته كيف غلاوتك عندي

نزل بلال من غرفته بالأعلى على صوت صياح زوجة أخيه العالي ووقف يتابع الذي يحدث دون فهم وبنفس اللحظة وصل عبد العزيز وبشار من الخارج فخرج صوت عبد العزيز الغليظ وهو يسأل:

_إيه اللي بيحُصل ده في إيه! 

لم تبالي آسيا بوجود رجال العائلة كلها وأكملت صياحها بإخلاص في حرقة:

_بزياداكِ كذب وقولي الحقيقة.. قولـ.....

ابتلعت بقية عباراتها في جوفها بعدما صدح صوت عمران الجهوري صارخًا بها:

_قسمًا بالله لو سمعت حسك تاني لأكون قاطع لسانك وكاتم نفسك واصل، يلا اطلعي على اوضتك فوق

ازدردت غصة مريرة في حلقها وهي مازالت تقف مكانها دون حركة وتتمعنه بقهر فصرخ بوجهها بكل قسوة:

_أنتي لساتك واقفة يلاااا اتحركي

سارت بخطواتها السريعة تجاه الدرج مجبرة وهي تحاول التحكم في سيل دموعها أما عبد العزيز فاقترب من ابن أخيه ورتب على كتفه بلطف يحاول تهدأته وهو يتمتم:

_اهدى ياعمران وبراحة على مرتك ياولدي هي حامل وتعبانة


 تعابير وجهه باتت لا تبشر بالخير وعيناه أظلمت بشكل مخيف حتى أنه فقد زمام التحكم في انفعالاته وخرج عن طور رزانته فصاح برجولة مخيفة:

_وهي عشان حامل ياعمي تسوق فيها وتنسي روحها، مش عاملة حساب لوچود أي حد بس من إهنه ورايح هيكون في نظام وحسابها عسير معايا

انسحبت إخلاص في إحدى الزوايا وأخذت تبكي بقوة رغم سعادتها الداخلية بتوعد ابنها لزوجته وفساد علاقتهم معًا لكنها كانت تستمر في تصنع البراءة والظلم، متعمدة إثارة جنون ابنها أكثر عندما يراها تبكي بهذه الطريقة بسبب زوجته.

وكأن بشار كان يفهم التكتيك الذي تتبعه زوجه عمه في زيادة اشعال النيران فراح يقترب منها ويهمس بالقرب منها في دفء:

_كفاية بكا ياما احنا بنحاول نهديه متشعللهوش انتي بزيادة


هزت رأسها بالموافقة له وراحت ترفع أناملها تجفف دموعها من فوق وجنتيها بينما عمران فاندفع للأعلى ثائرًا كالثور الهائج وراح عبد العزيز يضرب كف على كف مستغفرًا ربه.

                                    ***

دفع الباب على مصراعيه ودخل وجدها جالسة فوق فراشها ساكنة تمامًا تحدق في الأرض بهدوء زاد من هيجانه، فغار عليها وهو يجذبها من ذراعها صارخًا بها:

_أنتي مصممة تطلعي الوحش اللي چوايا وكل ما أهدى عليكي واقول حالها هيتصلح بترچعي أنيل من الأول، أنتي شكلك عايزة تتربي من چديد كيف ما قالت أمي ودلعي ليكي قواكي وبقيتي تتچرأي حتى عليا 

تأوهت بألم من قبضته وهتفت بعينان دامعة وهي تحدق به بدهشة:

_يدك تقيلة ياعمران سيب يدي

لم يكترث لها فقد وصل لمرحلة مرعبة بسببها هي وأمه جعلاه لا يرى أي شيء أمامه ولا يهتم لا بها ولا حتى بصحة طفله الذي ببطنها، حيث تابع صياحه المخيف:

_بتصغريني قصاد الكل تحت رغم أني قولتلك اقفلي خشمك وأنتي مفيش فايدة 

 رغم الدوار العنيف الذي بدأ يراودها إلا أنها تحاملت على نفسها وظلت صامدة للنهاية وهي تحاول الفرار من قبضته هاتفة ببكاء:

_بعد عني ياعمران.. هملني 

عندما وجدت لا يوجد فائدة معه فصاحت منفعلة بقهر:

_أنت اللي صغرتني لما مهتمتش تاخدلي حقي من أمك ولو حتى بأبسط حاچة وهي إنك تاخد موقف منها

صرخ بها بصوت جهوري نفضها:

_حسك ميعلاش عليا

انساب عبراتها بغزارة فوق وجهها ورغم ثباتها إلا أنها تحارب دوارها العنيف الذي بات يفقدها قدرتها على التوازن، سمعته يكمل تحذيراته القاسية لها:

_من إهنه ورايح الكلمة اللي اقولها تتسمع من غير نقاش وتنسي الدلع اللي كنت مدلعهولك وياويلك يا آسيا لو رفعتي حسك عليا تاني فاهمة ولا لا

لم تجيبه ليس خوفًا منه بقدر ما كان تعبًا وعدم قدرة على التحدث، بينما هو فترك ذراعها دافعًا إياها بلطف فسقطت هي فوق الفراش وكانت تلك آخر لحظات صمودها حيث أغلقت عيناها وفقدت وعيها.

استدار عمران وسار باتجاه الباب ينوي الرحيل وعند وصوله للباب وقبل أن يغلقه التفت برأسه لها فوجدها كما تركها مكانها على الفراش دون حركة ولا يسمع لها صوت حتى، ضيق عينيه باستغراب ووقف للحظات يراقبها بنظره منتظرًا أن يرصد أي حركة بسيطة لها لكنها كانت كالأموات، فالتفت ودخل بسرعة مجددًا يسرع نحوها ثم يصعد على الفراش بجوارها مبعدًا خصلات شعرها عن عينيها المغلقة ويهتف بهلع:

_آسـيا.. آسـيـا إنتي سمعاني

قذفت بعقله تعليمات الطبيب الحازمة حول الراحة التامة والابتعاد عن الانفعالات والتوتر حفاظًا على صحتها وصحة الجنين خلال الشهور المتبقية من الحمل، انتفض قلبه في صدره زعرًا وشعور الذنب استحوذه وراح يصرخ في داخله ليتني لما أفقد أعصابي عليها، ليتني لما أفعل.

حملها فوق ذراعيه ومدد جسدها باعتدال فوق الفراش وجلس بجوار رأسها يحاول افاقتها بتوتر شديد، فَقَدَ قدرته على سرعة الاستجابة والتصرف من فرط خوفه عليها لكن التقطت عيناه زجاجة العطر المجاورة للفراش فجذبها وراح ينثر منها فوق ظهر يده ويمرره بالقرب من أنفها وسط هزه اللطيف لها وهو يهتف بصوت مرتعد:

_آسيا فوقي.. فوقي ياغزالي حقك عليا أنا آسف 

طالت محاولاته البائسة في افاقتها حتى فقد الأمل وكان سيأخذها للطبيب لكنه رآها أخيرًا تفتح عيناها ببطء، فأخذ يردد" الحمدلله " بصوت مرتفع وهو يطلق زفيرًا حارًا من صدره بارتياح وسألها بحنو:

_أنتي كويسة يا غزال

مالت برأسها للجهة الأخرى بعيدًا عنه تتفادى النظر لوجهه دون أن تجيب عليه وفقط خرج صوتها الضعيف وهو تهمس له بتعب:

_عاوزة اروح بيت أبوي

اتسعت عينيه بدهشة من طلبها وتحولت تعابير وجهه من الحنو للجدية وهو يجيب:

_تروحي يبت ابوكي ليه؟! 

أخذت نفسًا عميقًا والتفتت له ترمقه بقوة متمتمة:

_مش عايزة اقعد إهنه وأنا تعبانة ومحتاچة ارتاح، عايزة أقعد چار أمي

رفع حاجبه وهتف بصوت رجولي خشن ونظرات ثاقبة:

_مش عايزة تقعدي إهنه ولا مش عايزة تقعدي معايا 

لم تتردد للحظة في اجابتها الجافة وهي تقول:

_الاتنين

رغم أن ردها لم يعجبه لكنه ظل ساكنًا وطال النظر إليها بأعين مريبة قبل أن يهتف بهدوء:

_ماشي يا آسيا بس خليها بكرا مش النهاردة

اعتدلت في نومتها وهبت جالسة تجيبه بالرفض والإصرار التام:

_لا النهاردة ياعمران ودلوك 

طال صمته دون أن تنظر له وترى تعابير وجهه لكن رده ونبرة صوته المحتقنة رسمت أمامها صورة عن ملامح وجهه الآن:

_أسلوب الأمر ده ميمشيش معايا بس ماشي هفضل معاكي للآخر عشان خاطر صحتك وصحة ولدي، قومي البسي يلا عشان اخدك واوديكي

نهضت من فراشها بكل ثبات وهدوء واتجهت للحمام لكي تغتسل ثم خرجت وبدأت في ارتداء ملابسها وسط نظراته الثاقبة وهو يتابعها بتمعن، سكونها غريب ويقلقه ففي المواقف الطبيعية ستنفجر بها وتصب كل غضبها منه لكنها تلتزم الصمت بشكل مريب جعله يحاول تخمين ما الذي تفكر به والذي تنوي فعله. 

انتشله من شروده صوتها وهي تقول بنظرة شامخة:

_أنا خلصت

هب واقفًا ومد يده يحمل حقيبة ملابسها الصغيرة وقبل أن يبتعد بخطواته عنها ويغادر هتف بنظرة منذرة:

_مش معنى إنك هتروحي بيت ابوكي تبقى تطلعي وتدخلي على هواكي، أي مكان هتروحيه هتاخدي الأذن الأول مفهوم

لم ترد ولم تعترض واكتفت فقط بنظراتها الثابتة عليه مما جعله يتفحصها بتعجب للحظات ثم التفت وسبقها للخارج فلحقت هي به.

                                     ***

داخل غرفة بلال.. خرج من الحمام عاري الصدر بعدما أنهى حمامه الدافيء فوجد الباب ينفتح وتدخل أمه وهي تحمل فوق ذراعيها صينية ممتلئة بأصناف مختلفة من الطعام الذي يفضلها، رمقها بطرف عينيه ثم أزاح نظره عنها وأكمل طريقه باتجاه الخزانة لكي يخرج تيشيرت له يرتديه، أما عفاف فوضعت الطعام فوق الفراش وهي تقول بحنان وابتسامة مشرقة:

_عملتلك الوكل اللي بتحبه، أنت ليك كذا يوم مش بتقعد في البيت وانت عريس لازم تتغذى ياولدي

لم تجد ردًا منه فعبس وجهها وتنهدت بيأس وهي تقترب منه وتهمس:

_مش كفاية ياولدي.. أنا خلاص اتعلمت من غلطي والله يا بلال وندمت ووعدتك مش هعمل أي حاچة تاني من غير علمك

بلال بصوت محتقن ويملأه الشجن:

_ندمتي بعد إيه ياما.. بعد ما ضيعتي راچل بريء ملوش ذنب وضيعتي أبوي

أسرعت نحو ابنها وقبضت على ذراعه تحتضنه وهي تهتف بندم وبكاء:

_سامحني ياولدي، صدقني أنا بموت كل يوم على فراق أبوك واتوحشته قوي وندمانة على اللي عملته ولو رچع بيا الزمن عمري ما كنت هعمل إكده، اوعدك أني هتغير وهكون كيف ما أنت عاوز بس تسامحني وترچعلي أنا معدش ليا غيرك يا بلال أنت ضهري وسندي

طالعها بعينان لامعة، قلبه يتمزق حزنًا على أبيه وفراقه وبنفس اللحظة حبه لامه مهما فعلت يجعل قلبه يلين لها، تابعت عفاف بعينان غارقة في الدموع والنظرات المعاتبة:

_ده أنت خطوبتك بكرا مش هتخليني افرح چارك واباركلك أنت وخطيبتك، هتفضل مبتكلمنيش ولا بتبص في وشي إكده حتى في يوم خطوبتك وفرحتك اللي كنت بتمناها

انهارت حصون ثباته كلها أمام كلماتها الأخيرة ونظرتها ونبرتها فامتلأت عينيه بالدموع وراح يفرد ذراعيها ويضمها لصدره مقبلًا رأسها بعدة قبلات متتالية هامسًا:

_أنتي مكانك موچود قبل الكل ياست الكل 

ارتفعت ضحكتها المتتزجة بدموع السعادة وهي تضمه أكثر وتعانقه بحرارة وحب أمومي أكثر هاتفة:

_اتوحشتك قوي ياواد.. ربنا يسعدك يارب ويتمملك على خير أنت وحور 

ردد خلفها بفرحة وعينان لامعة بوميض العشق:

_يارب ياما يارب 

طال عناقهم لدقائق ثم ابتعد عنها وتحدث بحزم وضيق:

_لو عملتي أي حاچة تاني ياما المرة دي مفيش سماح

رفعت كفيها وراحت تلوح بهم في الهواء بالنفي بسرعة وهي مبتسمة بسعادة متمتمة:

_ابدًا مش هعمل أي حاچة تضايقك ياحبيبي أنا خلاص اتعلمت من غلطي وندمت 

ابتسم لها بحب ودفء ثم انحنى على رأسها يقلبها في لطف مجددًا قبل أن يحاوط كتفيها بذراعه ويتجه معها نحو الطعام الموضوع فوق الفراش ليبدأ في الأكل وأصر عليها مشاركته.

                                     ***

بمكان مختلف داخل غرفة العمة فتحية، كانت رحاب تقف أمام باب غرفة أمها وشاردة تفكر بتردد في قرارها الذي اتخذته، لا تملك الجرأة للأفصاح عن رغبتها وتخشى من ردة فعل أمها إذا عرفت، لكنها لم تعد تستطيع السكوت أكثر من ذلك هي تحملت كثيرًا فقط احترامًا للود الذي بينهم وبين العائلتين، وإذا استمرت في التغاضي عن كل شيء أكثر ستدعس على كرامتها بقدميها.

طرقت الباب عدة طرقات خفيفة قبل أن تفتحه وتدخل هاتفة برقة تليق بها وهي تتحدث لأمها:

_فاضية ياما عاوزة اتحدت معاكي شوية؟ 

ابتسمت لها فتحية بحنان وقالت بترحيب بابنتها البكر:

_فاضية طبعًا ياحبيبة أمك تعالى ادخلي 

دخلت بهدوء يشبه شخصيتها تمامًا وتقدمت من أمها لتجلس بجوارها هامسة في خفوت:

_أما كنت عايزة اتكلم معاكي في موضوع إكده 

أولتها فتحية كامل اهتمامها وهي تسأل بفضول:

_موضوع ده إيه؟

تنحنحت رحاب بارتباك وتمت في صوت بات أكثر انخفاضًا:

_موضوع يخصني أنا وسالم

ضيقت فتحية عينيها بحيرة وأصبحت نبرتها أكثر جدية وحزم نابع من قلقها ليس لأن الأمر يخص خطيب ابنتها ولكن بسبب انخفاض نبرة صوتها وتوترها:

_ماله سالم يارحاب انطقي يابتي متقلقنيش؟!

تشجعت وردت على أمها بثبات:

_أنا عاوزة افسخ الخطوبة ياما 

لطمت فتحية على صدرها صائحة بصدمة:

_يامري ايه اللي حُصل يابت ده انتوا على وش چواز؟!!

احتقن صوت رحاب وتلألأت عينيها بالدموع وهي ترد على أمها بحرقة:

_احنا مننفعش لبعض ياما، وهو مبيحبنيش وأنا وهو مش بنبطل خناق واصل وهو دايمًا بيعلي صوته عليه ويتعصب ويزعقلي ده غير أننا منشبهش بعض ومختلفين في كل حاچة، كل ده وأنا كنت مستحملة وبقول معلش يمكن مع الوقت يتغير ولما نتچوز ونتعود على بعض نبقى مسبوطين مع بعض لكن بعد اللي عرفته من فترة قريبة مش قادرة اسكت ولا اكمل اكتر من إكده

اتسعت عيني فتحية بذهول وراحت تسأله ابنتها بقلق وخوف من معرفة القادم:

_عرفتي إيه؟! 

سالت دموع رحاب الحارة فوق وجنتيها الرقيقة وهي تجيب أمها بحزن:

_طلع ماشي مع شلة شباب مش كويسة وبيشرب مخدرات والله اعلم بيعمل ايه تاني كمان من ورايا 

لطمت فتحية فوق وجها بصدمة صائحة بصوت منخفض قليلًا:

_سالم يعمل إكده 

أمسكت رحاب بيد أمها تتوسل إليها ببكاء:

_ايوة سالم ياما.. أبوس يدك خليني افسخ خطوبتي منه أنا معاوزهوش تاني مش قادرة اتحمله أبوس يدك ياما

تنهدت فتحية بأسى ورفعت يدها تمسد فوق شعر ابنتها بحنو متمتمة في جدية:

_طيب يارحاب خلاص اهدي ياحبيبتي، هتكلم مع خالك وعمامك بكرا ونشوف الموضوع ده، متقلقيش أنا مش هسيب بتي لواحد بيشرب ويسكر أنا إيه يضمني يعمل فيكي إيه لما يتقفل عليكم باب


هدأت ثورة رحاب وانفاسها أصبحت منتظمة وعيناها لمعت بالأمل والسعادة بينما فتحية فتابعت بوداعة:

_يلا قومي اغسلي وشك وروحي لأختك ساعديها في البيت ومتشغليش بالك بالموضوع ده 

لاحت ابتسامتها الساحرة فوق ثغرها وهي ترتمي على أمها تعانقها بحب هاتفة:

_ربنا يباركلنا فيكي ياما وميحرمناش منك واصل 

رتبت فتحية على ظهرها بحنو أمومي وهي مبتسمة ثم حثتها على النهوض والذهاب لشقيقتها ففعلت فورًا وهي سعيدة بأنها أخيرًا تحدثت وتخلصت من ذلك الثقل الذي كان يكتم على صدرها.

                                   ***

وقفت آسيا أمام باب منزل والدها بعدما اوصلها عمران ورحل، طرقت الباب وانتظرت الرد وبعد دقيقتين بالضبط انفتح الباب وظهر من خلفه جليلة التي فور رؤيتها لابنتها تهللت اساريرها وصاحت بفرحة وهي تفرد ذراعيها وتضم آسيا لحضنها:

_آسيا كيفيك يابتي

اجابتها آسيا بابتسامة حزينة وصوت خافت:

_زينة الحمدلله ياما أنتي عاملة إيه؟ 

ابتعدت جليلة عنها بعدما ردت عليها وهي تمسد فوق ذراعها بحنو وتحثها على الدخول لكنها لمحت حقيبة ملابسها المتوسطة بجوارها على الأرض فاختفت بسمتها وغضنت حاجبيها باستغراب ورغم ذلك انحنت على الحقيبة وحملتها ودخلت بها خلف ابنتها التي جلست على أقرب مقعد وجدته أمامها، لحقت بها جليلة وجلست أمامها على أحد المقاعد وهي تتمعن في تعابير وجهها المريبة بقلق، عيناها منتفخة من البكاء ووجهها عابس وشاحب، هتفت جليلة بحزم وغضب:

_مالك يا آسيا إخلاص وولدها عملولك حاچة؟ 

أخذت آسيا نفسًا عميقًا ثم ردت بثبات انفعالي غريب على أمها:

_لا يما محدش عملي حاچة 

جليلة بعصبية بسيطة:

_امال ايه الشنطة دي وليه وشك وعينك منفخة إكده 

تأففت آسيا وهي تجيب بنفس الثبات:

_ياما قولتلك مفيش حاچة.. أنا تعبانة من الحمل وچيت عشان اقعد يومين إهنه وارتاح.. لو مش عايزاني اقعد قوليلي وانا امشي تاني

اجابتها بانزعاج وهي تنهرها بحدة:

_ايه اللي بتقوليه ده مش عاوزاكي كيف يعني ده بيت أبوكي.. أنا عايزة اتأكد بس أنا واد ابراهيم معملكيش حاچة 

هبت آسيا واقفة بإرهاق واضح عليها وابتسمت بلطف وهي تمسح فوق ذراع أمها متمتمة:

_متقلقتيش كل حاچة تمام، أنا هطلع بس اريح شوية في اوضتي


رغم عدم اقتناع جليل  وتيقنها من أن هناك شيء وابنتها تخفيه عنها لكنها التزمت الصمت وهتفت تسألها باهتمام:

_اچبلك حاچة تاكليها طيب 

هزت رأسها بالرفض وهي مستمرة في طريقها باتجاه الدرج وسط نظرات جليلة المنزعجة والقلقة، وصلت آسيا للطابق الثاني حيث غرفتها وبينما كانت على وشك الدخول سمعت صوت فريال وهي تهتف بدهشة:

_آسيا!

التفتت لها برأسها وابتسمت بخفة هاتفة:

_كيفك يافريال؟ 

اقتربت منها فريال بسرعة وتطلعت في وجهها بتدقيق قبل أن تسألها باستغراب:

_في حاچة حُصلت ولا إيه وليه وشك إكده وايه چابك فجأة

 هزت آسيا رأسها بالنفي في نفاذ صبر من استمرارهم لطرح نفس السؤال عليها، لكن فريال لم تصدقها ودون تردد فتحت باب غرفتها وجذبتها معها للداخل فاستشاطت آسيا عندما وجدتها تجرها معها للداخل من ذراعها وتذكرت زوجها وما فعله معها منذ ساعات فصاحت منزعجة:

_چرا إيه يافريال سيبي يدي هتبقى أنتي واخوكي

أغلقت فريال الباب بسرعة فور سماع عباراتها الأخيرة التي أكدت لها شكوكها، وراحت تسألها باهتمام:

_عمل إيه عمران؟

هتفت آسيا بغضب غريب وهي تلقي بهاتفها فوق الفراش بانفعال:

_روحي اسأليه وابقي اسألي أمك كمان عملوا إيه هما الاتنين 

ضيقت فريال عينيها بعدم فهم وتعجب بينما الأخرى فتابعت بعصبية وكأنها وجدت الفرصة لتنفجر بعدما كانت تتصنع الثبات والبرود:

_هو فاكرني عشان بحبه هستحمل وهسكت يبقى لساته ميعرفنيش، ومش هعديله اللي عمله معايا ولا هسامحه عليه، وهو اللي هيفضل طول عمره همچي ومتخلف ومش هيتغير، أنا هندمه على اللي قاله وعمله ومبقاش آسيا أما خليته هو بنفسه ياچي ويقولي حقك عليا أني مصدقتكيش

كانت فريال تقف تتابع لحظات ثورانها الغريب بصمت وتركتها تخرج شحنة غيظها المكتظة داخلها حتى انتهت واقترب منها تملس فوق ذراعها بلطف متمتمة:

_طيب اهدى واحكيلي إيه اللي حُصل عشان أنا مش فاهمة حاچة

راحت تسرد لها ما حدث بعصبية شديدة ومع فعلته أمها وعدم تصديق أخيها لها، وسط اندهاش فريال وعندما انتهت قالت بعدم استيعاب:

_أنتي متأكدة أني أمي زقتك قاصدة يا آسيا!! 

صاحت بها منفعلة:

_حتى أنتي يافريال

لوت فريال فمها بضيق وقالت بخفوت وصوت منزعج:

_أصل حاچة متتصدقش دي أمي روحها في عمران وكان مُنى عينها تشوفله خليفة، كيف هتبقى عايزة تسقطك وتزقك قاصدة من على السلم

ردت آسيا بغل ونقم على حماتها:

_نفسها تشوفله خليفة بس مش مني.. أمك بتكرهني وعاوزة تخلي اخوكي يطلقني ويتچوز منى بت عمتك

تقوست تعابير وجه فريال بصدمة وصاخت باستهزاء واشمئزاز:

_منى!!!.. دي آخر واحدة تنقع لعمران أصلًا 

هدأت ثورة آسيا بلحظة واقتربت من الفراش تجلس على حافته ثم انهمرت عبراتها دون مقدمات فوق وجنتيها وهي تقول بصوت مبحوح ومقهور:

_لو شفتيه بيكلمني كيف يافريال، مفرقش معاه لا ولده اللي في بطني ولا صحتي وأنا لساتني راچعة من المستشفى والدكتور منبه عليه إني ابعد عن التوتر والمجهود، ده زقني وأغمى عليا من كتر التعب ولولا أن السرير كان ورايا كنت هقع على الأرض

تقدمت وجلست بجوارها ثم راحت تربت فوق كتفها بحنو متمتمة وهي تحاول تهدأتها حتى لا تتفاقم الأمور بينهم:

_عمران بيحبك قوي وبيعشقك يا آسيا وانتي عارفة ده كويس هو بس عصبيته وحشة شوية معلش اعذريه وهو صدقيني لما يهدي هيندم وهيچي يحب على راسك

صاحت آسيا بحرقة ووجع:

_وهو ليه معذرنيش وهو عارف إني حامل وتعبانة، وبعدين دي مش عصبية دي همچية

تنهدت فريال بضيق وتابعت محاولاتها البائسة في امتصاص غضبها:

_عندك حق هو غلط بس أنتي كمان غلطانة مكنش المفروض تعاندي يا آسيا، عشان إكده بقولك سبيه لما يهدى وانتي كمان تهدي وبعدين ارچعي 

هزت آسيا رأسها بالرفض القاطع وهي تقول متوعدة بسخط شديد:

_لا أنا مش هرچع ومش عاوزة اشوف وشه حتى، وهفضل إهنه في بيت أبوي خليني اشوف هيستحمل بعادي لغاية ميتا ويبقى يوريني كيف هيعرف ياخدني من إهنه من وسط ناسي


مسحت فريال على وجهها مستغفر ربها وهي تتأفف ثم قالت برزانة وجدية محاول نصحها:

_يا آسيا متكبريش الموضوع ومتديش للشيطان مجال أنه يدخل بينكم، متعمليش كيف ما عملت عشان متندميش بعدين

ردت عليها بعناد شديد وعنجهية وهي تنظر أمامها:

_أنا وعمران غيرك أنتي وچلال وأنا مش بقولك هطلق أنا بقولك هربيه شوية واعذبه 

لوت فريال فمها بسخرية منها وقالت بصرامة:

_طب ما أنتي إكده بتسيبي الساحة لأمي ومنى يستغلوا عدم وچودك كيف ما عملت أمك معايا

نظرت لها آسيا بثقة ونظرات كلها شيطانية بعدما جففت عبراتها وقالت بشر يليق بها:

_ليه هو أنتي فاكرة أني هخلي بت عمتك اللي كيف السحلية دي تقرب من چوزي، دي تبقى چنت على روحها صدقيني امسك في رقبتها واخنقها بيدي من غير ما يرفلي چفن، طب خلي عقلها يوزها إكده ورجلها تفكر تخطي عتبة بيت الصاوي تاني بس وتشوف اللي هيچرالها مني

ضحكت فريال بقوة رغمًا عنها على نعتها لابنة عمتها" بالسحلية" ثم هزت كتفيها بقلة حيلة وقالت مبتسمة:

_ماشي يا آسيا براحتك طالما أنتي واثقة من روحك قوي إكده وعارفة أنتي بتعملي إيه، بس خلي في علمك عمران مش هيسكت ولو قالك يلا ارچعي وقولتيله لا هتقوم قيامة تاني فنصيحة متزودهاش

لم تكترث لعبارات فريال واشاحت بوجهها للجهة الأخرى كإشارة على انغلاقها على أفكارها وعدم ترحيبها بنصائحها، بينما فريال فتنهدت مغلوبة وهي تبتسم عليها ثم فتحت الباب ورحلت وتركتها بمفردها تفكر وتخطط كيف ستعذبه.

                                      ***

بتمام الساعة التاسعة مساءًا.....

دخل جلال غرفته واغلق الباب خلفه فسقط نظره على فريال الجالسة فوق الأريكة عابسة الوجه واضعة كفها أسفل وجنتها، رغم تعجبه من حالتها لكن تصنع عدم الاهتمام بسبب توتر علاقتهم بعد جدالهم الأخير، وتحرك باتجاه الخزانة يخرج بنطال منزلي وملابسه الداخلية ليتجه نحو الحمام متجاهلًا إياها، مما جعلها تستشيط غيظًا أكثر منه وأدركت أن خطتها فاشلة منذ البداية فهو حتى لم يكترث لها ويسألها ماذا بها، شعرت بحرارة في صدرها وغصة مريرة في حلقها وبدأت العبرات تتجمع في مقلتيها ومع مرور الدقائق انهمرت غزيرة فوق وجنتيها وبدأت في البكاء الحقيقي هذه المرة، خرج هو من الحمام بعدما انتهى من حمامه وكان يجفف شعره من الماء بالمنشفة وعاري الصدر لا يرتدي سوى البنطال الذي أخذه معه، توقف وراح يتمعنها بحيرة للحظات حتى استسلم لقلبه الذي لم يطاوعه أن يتركها تبكي هكذا دون أن يسألها ويطمئن عليها، فأخذ نفسًا مغلوبًا واقترب منها ليجلس بجوارها ويهتف بقلق:

_مالك بتبكي ليه؟ 

انفجرت به صائحة بوجه غارق بالدموع:

_أنت فارق معاك قوي يعني تعرف ولا مهتم بيا 

بات معتاد على حالاتها المزاجية العجيبة وقرر مسايرتها في الحديث بكل ثبات انفعالي وبرود حيث أجابها:

_اعتبريني مهتم يافريال وبسألك أهو.. مالك؟

أعرضت بوجهها عنه للجهة الأخرى وقالت بصوت مبحوح:

_شوفتني قبل ما تدخل الحمام ومهنش عليك تسألني ليه مضايقة

رفع حاجبه متعجبًا وهدر في بسمة خافتة:

_وانتي كنتي مستنياني أسألك يعني؟! 

عادت بوجهها له مجددًا وصاحت باكية في يأس:

_أيوة مستنياك تهتم لأمري لكن أنت كسرت بخاطري زي ما بتكسر بخاطري دايمًا

فغر شفتيه مندهشًا وهتف بلهجة حازمة وهو يستنكر كلماتها وينفيها:

_أنا بكسر بخاطرك يافريال.. ده انتي كل طلباتك مچابة

وضعت يدها على بطنها المرتفعة وحدقته بعيناها الدافئة والممتلئة بالدموع:

_وبتكسر بخاطر بتك كمان.. مش بتهتم بيا ولا بيفرق معاك زعلي أنا وهي مع أنك مكنتش إكده في حملي في معاذ وعمار وكنت بتشيليني في عينيك، دلوك بتزعلني ومش بيفرق معاك تصالحني


حك ذقنه ولحيته بتريث تام قبل أن يجيبها في نبرة تحمل السخرية والمزح:

_طب ما أنا دائمًا اللي بصالحك أصلًا حتى لو أنتي اللي غلطانة

رفعت كتفها وتمنعت عن النظر إليه بدلال وهي تقول بغرور:

_أيوة وايه يعني لما تصالحني لما اغلط وتقولي اغلطي ياحبيبتي براحتك

سكت وهو يمسح على وجهه متأففًا بنفاذ صبر ثم هدر مبتسمًا بقلة حيلة:

_امممم طب أنتي عاوزة إيه دلوك ياست البنات؟ 

ابتسمت برقة بعد عبارته الأخيرة وقالت بدلع:

_عاوزاك تصالحني وتاخدني في حضنك

راقب دلعها الانثوى المثير وهو يبتسم بغرام وعينان لامعة بوميض رجولي ساحر كله رغبة وشوق ثم خرج صوته الماكر:

_بس إكده من عيوني، عاوزاني اخدك في حضني بس؟!

لكزته في كتفه برقة وهي تضحك بخجل بعدما وصلها تلميحه الوقح فبادلها الضحك وراح يجذبها لصدره ضامًا إياها كما طلبت وبشفتيه تجول على شعرها ورأسها وباطن كفها بقبلات حارة وسط همسه:

_متزعليش يافريالي أنا مقدرش اشوف الدموع على وش الحُسن والچمال ده

استمر في التنقل بشفتيه على كل قطعة يطولها من جسدها وسط تغزله بها دون توقف وانتهى بعباراته الأخيرة وهو يهمس لها بالقرب من أذنها:

_هااا حلو إكده ولا اكمل لسا

ابتعدت عنه وتطلعت في وجهه بعشق وهي تضحك بخجل جميل وتقول:

_لا خلاص كفاية

وجدته يرفع أنامله ويمررها على وجنتها وشعرها بطريقة قشعرت جسدها فقالت له بعبوس لطيف:

_چلال هو أنا صُح بحب النكد؟! 

أجابها بابتسامة عريضة مازحًا وهو مستمر في ملامسة وجهها الناعم بانامله وإبعاد خصلات شعرها عن عينيها:

_لا ياحبيبتي أنتي بتتغذى عليه بس

اشتعلت نظراتها وراحت تكلمه في صدره مغتاظة بكل قوتها فأطلق هو تاوهًا بسيطًا بألم ورمقها بنظرة متوعدة جعلتها بلحظة تبتعد عنها وتهب واقفة تهم بالفرار لكنه امسكها وجذبها إليه مجددًا وهو يهتف بغل:

_رايحة وين تعالى عشان اوريكي النكد على حق 

حاولت التملص من قبضته وهي تضحك بقوة وتتوسله أن يتركها لكنه كان لا حياة لمن تنادي وصوت ضحكها الممتزج بصراختها الخفيفة كان يمتعه بشدة ويجعله يضحك معها  ويزيد من أفعاله.

                                     ***

كان كل من عبد العزيز وإخلاص وعفاف يجلسون بالصالون ويتحدثون حول خطبة بلال التي ستتم غدًا، فقطع حديثهم رنين الباب.. هب عبد العزيز واقفًا واتجه هو ليفتح فوجد أمامه زوجة أخيه الثالثة وابنتها الصغيرة، تقوست تعابير وجهه ورسم ابتسامة متكلفة على ثغره مرحبًا بها ليس عدم حبًا لها ولكن خوفًا من الشجار الذي سينشب بين الثلاثة الآن، فراح يهمس بينه وبين نفسه متمتمًا:

_والله ما عارفة ادعيلك بالرحمة ياخوي ولا اقول ربنا يسامحك

وثبت إخلاص واقفة وهي عبارة عن جمرة نيران مشتعلة وصاحت بداليا:

_أنتي بتعملي إيه إهنه؟! 

تجاهلت داليا صياح إخلاص وتصرفت ببرود مستفز وهي تبتسم بعدما دخلت وقالت:

_كنا معديين بالصدفة قريب من البيت وريم أصرت تيجي تشوف عمران وآسيا وبلال

رمقتها عفاف بغل وهتفت:

_وهو عمران مش بيروحلكم هناك ولا هو لازم تورينا جمال طلتك

حاولت داليا البقاء هادئة لأجل ابنتها وقالت لصغيرتها مبتسمة في حنو:

_اطلعي يارورو ياحبيبتي لعمران فوق وطنط آسيا

اماءت الصغيرة لأمها بالموافقة واندفعت راكضة نحو الدرج تقصد غرفة أخيها الأكبر بالاعلى، أما داليا فقد أشهرت عن أنيابها وهتفت بغضب لكل من عفاف وإخلاص:

_ده بيت جوزي وبيت بنتي وآجي وقت ما احب ومفيش واحدة فيكم تقدر تمنعني فاهمين ولا لا، وحذاري واحدة منكم تتكلم معايا بالأسلوب ده تاني قدام بنتي انا سكت المرة دي بس عشانها

ضحكت إخلاص بسخرية وهي تتبادل النظرات الشيطانية والحاقدة مع عفاف ثم ردت عليها وهي تتقدم نحوها:

_هتعملي إيه يعني

بتلك اللحظة وصل بلال الذي وقف للحظة مندهشًا من ذلك المشهد الذي أمامه فوجد عمه يقترب منه ويهمس في أذنه بجدية:

_چيت في وقتك ياولدي الحقهم عاد قبل ما ياكلوها

ابتسم بلال لا إراديًا على عبارة عمه وهز رأسه له بالموافقة، ثم اندفع نحوهم يفصل بينهم بصوته المرح وهو يرحب بزوجة أبيه:

_اهلا وسهلًا كيفك يا داليا 

بدالته الابتسامة وهي ترد بعذوبة:

_الحمدلله كويسة يابلال 

تلفت حوله مبتسمًا باحثًا عن الصغيرة وهو يسألها:

_امال ريم وين؟

_طلعت فوق لعمران وآسيا 

هز رأسه بالتفهم ثم أشار لها مبتسمًا على المقعد يطلب منها الجلوس والتفت برأسه نحو أمه يهتف في نظرة حازمة:

_اقعدي ياما 

وفعل المثل مع إخلاص متمتمًا في بسمة منذرة:

_وانتي يامرت أبوي ارتاحي

عادوا لمقاعدهم على مضض وهم لا يزيحون بنظراتهم الملتهبة عن داليا التي انشغلت بتبادل أطراف الحديث مع بلال وعبد العزيز.

                                   ***

كان عمران ممد فوق فراشه على ظهره واضعًا كفيه أسفل رأسه ويحدق في السقف بشرود وتفكير في زوجته، سمع صوت طرق الباب وبسبب انشغاله بالتفكير في آسيا لم يركز في الطرقات التي كانت لأيادي صغيرة وظنها أمه فقال بصوته الرجولي القوي:

_ادخلي ياما 

فتحت ريم الباب بسهولة ودخلت وهي تصيح بسعادة:

_أبيه عمران

اندهش عندما سمع صوتها ومال برأسه للجانب وفور رؤيته لها ظهر شبح ابتسامته على ثغره، ثم اعتدل في نومته جالسًا وبسط ذراعيه لها لتركض هي إليه وترتمي بين ذراعيه، انحنى على رأسها يقبل شعرها بحنو متمتمًا:

_عاملة إيه ياسنچاب

هتفت بصوتها الطفولي الجميل:

_أنت وحشتني أوي 

ملس على شعرها وظهرها بدفء مجيبًا:

_وأنا كمان اتوحشتك 

 ابتعدت عنه وراحت تدور برأسها ونظراتها في أرجاء الغرفة بحثًا عن آسيا ثم سألتها بفضول:

_طنط آسيا فين؟! 

عبس وجه عمران قليلًا وأجابها وهو يتنهد بخنق:

_مش قاعدة

سكتت وبذكائها الطفولي واستنتاجها من تعابير وجهه المهمومة تمتمت في عفوية تامة:

_هي زعلانة منك عشان كدا مشيت؟ 

رمقها بطرف عينيه ورد منزعجًا:

_أنا اللي المفروض ازعل مش هي 

زمت الصغيرة شفتيها بحزن ويأس فقد كانت تتمنى رؤيتها، لكنها سرعان ما عادت تسأله بفضول:

_هي هترجع تاني طيب؟

احتقنت نظرات عمران ورد بحدة:

_طبعا هترچع كلها يومين وترچع 

 مالت بشفتيها للجانب في عبوس، ثم أخذت تفكر بطريقة لا تتناسب مع سنها أبدًا وقالت له في عينان لامعة بالخوف:

_طب هي ممكن متوافقش ترجع عشان زعلانة منك

اتسعت عيني عمران للحظة عندما أنارت تلك الصغيرة مصباح في عقله أنها قد تفعل بالفعل وترفض العودة ويكون هذا هو سبب رغبتها في الذهاب من الأساس وليس التعب وحاجتها للراحة، فأظلمت عينيه بالغيظ وتوعد لها أنه لن يتركها هناك أكثر من يومين بالضبط وأن حاولت الاعتراض فسيلزم معها أسلوب مختلف وجديد، أما ريم فتابعت برجاء وهي تمسك بكف أخيها الضخم وتنظر في عينيه باستعطاف:

_صالحها يا أبيه عمران بليز عشان ترجع انا نفسي أشوفها وحشتني اوي

تجاهل كلماتها وسألها بلهجة رجولية دافئة:

_أمك تحت؟

هزت رأسها له بالإيجاب فتابع وهو يقف ويحملها فوق ذراعيه متمتمًا:

_طيب يلا ننزلها ونشوفها

مالت برأسها ونامت فوق كتفه العريض وهي مبتسمة بسكينة وفرحة طفولية أنه يحملها ويسير بها للأسفل.

                                     ***

بمنزل خليل صفوان تحديدًا بالصالة الكبيرة......

كانت العائلة متجمعة على طاولة طعام العشاء وعلى رأس الطاولة كان الجد حمزة، كان الجميع يتناول طعامه بصمت حتى صدح صوت رنين هاتف الجد واخترق فقاعة الصمت المملة ليجيب حمزة على الهاتف بحزم:

_هي وصلت وين دلوك؟ 

أجابه الطرف الآخر على الهاتف:

_خلاص ياحچ حمزة احنا داخلين على البيت أهو

انهى معه حمزة الاتصال ورفع رأسه يحدق في الجميع ويقول لهم مبتسمًا:

_أنا نسيت ما اقولكم أن بت جميلة بتى چاية من أمريكا وهي على وصول دلوك خلاص 

تبادلوا جميعهم النظرات فيما بينهم بدهشة وهم يرددون اسم العمة جميلة وابنتها التي لم يسبق لأحد ورآها من قبل، طالت الهمهمات فيما بينهم وانحنى " علي " على إنصاف يهمس لها في أذنها:

_هي من ميتا عمتي جميلة كان عندها بت ياما؟! 

مطت إنصاف شفتيها بجهل وهي تجيب على ابنها:

_معرفش ياولدي احنا محدش فينا يعرفها اصبر أما توصل ونشوفها عاد

تأفف بضجر وعاد يكمل طعامه غير مهتم بالأمر من أساسه، أما آسيا فكانت نظراتها عالقة على الباب بتفكير ولا يمكنها اخفاء فضولها في رؤية ذلك الدخيل الجديد الذي سينضم لهم.

دقائق طويلة نسبيًا حتى التفتوا جميعًا باتجاه الباب الذي كان مواربًا وسمعوا صوت أنثوي يقول بنعومة:

_thanks ياعم محمد

كان العم محمد هو أحد رجال الجد حمزة الذي كلفه الجد بأخذ حفيدته من المطار وتوصيلها للمنزل، ابتسم لها العم بصفاء مجيبًا عليها رغم أنه لم يفهم ما قالته بالإنجليزية:

_حمدلله على السلامة ياست البنات 

بادلته الابتسامة ثم استدرات وكانت ستهم بطرق الباب لكنها وجدته مفتوحًا بالفعل فدفعته بلطف ودخلت وهي تتجول بنظرها على الجميع الجالسون حول طاولة الطعام، لم تلاحظ نظرات السيدات المندهشة لها ولا حتى نظرات الرجال الذي كانت كلها امتعاض وصدمة من هيئتها المتحررة التي لا تناسب مجتمعهم ولا بيئة حياتهم أبدًا وراحت تهتف لهم بوجه مشرق وفرحة:

_Hi !!


الفصل الرابع من هنا 

لقراءة باقي الفصول من هنا

لقراءة الجزء الاول من رواية ميثاق الحرب والغفران من هنا



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close