أخر الاخبار

رواية وبالعشق اهتدى من ميثاق الحرب والغفران الجزء الثاني الفصل العشرون 20 بقلم ندي محمود توفيق

    

 رواية وبالعشق اهتدى من ميثاق الحرب والغفران الجزء الثاني 

الفصل العشرون 20 

بقلم ندي محمود توفيق


مرت ساعة تقريبًا منذ وصولهم للمستشفى ودخولها لغرفة العمليات، وجميعهم القلق وجد طريقه لأنفسهم المحبة والمهتمة بابنتهم، بينما عمران فكان يقف بجوار غرفة العمليات مباشرة مستندًا بظهره على الحائط وعاقدًا ذراعيه أمام صدره، نظراته تائهة في الفراغ وعقله مشغول بالتفكير في زوجته وابنه، دقات قلبه تتسارع مع مرور الوقت بشكل مرعب من فرط قلقه خصوصًا وأن موعد ولادتها لم يأتي بعد وكان من المفترض أن يكون لها زيارة لطبيبها الخاص ليتابع معها حالتها الأخيرة، لكن ما حدث فجأة أثار قلق الجميع وأصابه بالرعب خشية من أن يصيبها شيء هي أو طفله، ظل يردد آيات من القرآن ويذكر ربه باستمرار ليهدأ من اضطرابه.

على مسافة قريبة منه نسبيًا كان كل من جليلة وجلال وحمزة يجلسون على المقاعد الحديدية وحالهم ليس أفضل من حاله، الجميع في حالة سكون قاتلة ينتظرون خروج الطبيب وسماع صوت بكاء الطفل ليطمئن قلبهم المضطرب، لكن الوقت كان يمر كالسلحفاء والساعة كأنها عام، وعندما تعدت الساعة والنصف فقد عمران أعصابه وراح يجوب يمينًا ويسارًا أمام الغرفة وهو يمسح على وجهه ويتأفف بعصبية امتزجت بقلقه، لكن روحه الثائرة هدأت ونسي كل شيء حتى انتظاره لوقت طويل وهو يتحرك على جمرة من النيران بسبب خوفه عندما صك سمعه صوت بكاء طفله المرتفع، تسمر بأرضه ولمعت عينيه بفرحة وصعدت البسمة الدافئة على ثغره، وكذلك حلال البقية أشرقت وجوههم العابسة فرحًا وهب جلال واقفًا يقترب في خطاه من عمران ليقف بجواره في انتظار خروج الطبيب، لكن دقائق وخرجت الممرضة وهي تطلب ملابس الطفل فناولتها جليلة فورًا الملابس بفرحة وراحت تسأله بخوف:

_بتي كيفها، عاملة إيه طمنيني الله يخليكي؟ 

ردت الممرضة بابتسامة عذبة:

_الحمدلله كويسة زي الفل هي والطفل 

مسح عمران على وجهه وهو يزفر براحة بينما جلال فربت على كتفه وهنئه بسعادة:

_مبروك يامعلم يتربى في عزك وعقبال من تخاويه

ابتسم له عمران بصفاء وتمتم ضاحكًا:

_الله يبارك فيك يا أبو معاذ

اتجهوا للغرفة الخاصة التي ستمكث فيها فور خروجها من غرفة العمليات، ودقائق معدودة حتى دخلت الممرضة وهي تحمل بين يديها ولي العهد الصغير وهو ملتف بالملابس الثقيلة والأغطية، استقام عمران فورًا واقفًا وعيناه علقت على ابنه بلهفة فأسرع نحو الممرضة وبسط ذراعيه فوضعته داخل أحضانه بكل حرص، تمعنه بنظرات أبوية دافئة وسعادة غامرة وهو بين ذراعيه، تأمل ملامح وجهه البريئة التي تشبهه تمامًا وحركته القليلة داخل أحضانه فانحنى بوجهه عليه ولثم رأسه بقبلة دافئة وللحظة شعر فيض من الدموع سينهمر لكنه تمالك انفعالاته وراح يكبر في أذنه بالآذان كاملًا في صوت هادئ.

استقامت جليلة واقفة واقتربت من حفيدها الصغير تنظر له بحنو وهو بين ذراعين والده، فبسط عمران ذراعه وناولها إياه بكل حذر بعدما قبَّله ثانية، ثم نظر للمرضى وسألها باهتمام:

_المدام امتى هتطلع؟

أجابته بهدوء تام:

_ربع ساعة بالكتير وتكون طلعت أن شاء الله

هز رأسه لها بتفهم وعاد يتأمل في طفله الذي يسكن بين ذراعين جدته وعادت بسمته السعيدة تزين ثغره مجددًا.

                                      ***

بمكان آخر داخل مستشفى أخرى...

كان بشار يقود خطواته الأشبه بالركض باتجاه غرفة مريم، بعدما وصلته البشارة من والدها في الهاتف بأنها استعادت وعيها أخيرًا، كانت الفرحة والراحة تحتل مركزها فوق تعابير وجهه الرجولية، ولا يمكنه إنكار حقيقة مشاعره المتلهفة لرؤيتها وسماع صوتها.

وصل أمام باب الغرفة وطرق عدة طرقات خفيفة فسمع صوت والدها من الداخل يسمح للطارق بالدخول، فتح الباب ودخل وعلى ثغره ابتسامة عريضة تكاد تشق طريقها لأذنه وسقطت عينه أولًا عليها وهي تحدقه بنظرات غامضة لم يفهمها لكنه لم يكترث فقد كانت سعادته بعودتها تنسيه كل شيء، التفت إلى والدها وألقى السلام عليه في عناق حار وهو يردد له بنبرة رجولية:

_حمدلله على سلامتها ياعمي

أجاب والدها بابتسامة واسعة:

_الله يسلمك يابني 

فعل المثل مع شقيقها وكذلك أمها الذي اكتفى بمصافحتها في دفء، وأخيرًا وصل للحظة الحاسمة التفت لمريم وطالعها بنظرة حانية واقترب منها ليجلس على المقعد المجاور لفراشها ويهمس في صوت رجولي ساحر:

_حمدلله على سلامتك، إكده تحرمينا منك طول المدة دي؟! 

ابتسمت له مريم بخجل بسيط ونقلت نظرها بين عائلتها ثم عادت له ونظرت له بامتنان وسألته في عدم ثقة:

_أنت بشار صح؟

تجمدت تعابير وجهه على أثر سؤالها وتلاشت ابتسامته تدريجيًا حتى اختفت تمامًا، وعينيه اتسعت وهو يحدقها بقوة محاولًا استيعاب سؤالها وفهمه، ثم التفت تجاه عائلتها يحدقهم بصدمة واستفهام فرأى تعبيرات الأسف والأسى على وجههم، واستقام والدها واقفًا ليقترب منه ويقول له في ثبات متصنع مربتًا على كتفه:

_تعالي معايا يابني برا نتكلم شوية

نقل بشار نظره بينهم بعدم استيعاب وكأنه ليس بوعيه، ثم نظر لمريم ثانية فرأى نفس النظرة الغريبة في عينيها تمامًا كما تنظر لشخص غريب عنها، وبالأخير استقام واقفًا وهو في حال ذهول لما يحدث حوله وسار مع والدها للخارج.

وقف بالخارج وسمع لوالدها وهو يهتف بحزن شديد:

_للاسف مريم في تفاصيل واحداث كتير من فكراهم والدكتور قال أنه فترة فقدان الذاكرة مؤقتة ومع الوقت هترجع تفتكر كل حاجة بس لازم كل اللي كانوا قريبين منها قبل الحادثة يفضلوا جمبها الفترة دي عشان يساعدوها على التذكر بشكل أسرع

مسح بشار على وجهه في ضيق وأسي شديد ثم نظر لوالدها وسأله بيأس:

_يعني هي نسيتني دلوك؟ 

زم والدها شفتيها وقال في عبوس: 

_اه للأسف بس لما اتكلمنا معاها افتكرت شوية تفاصيل زي الخطوبة وغيره بس مش فكراك لا شكلًا ولا اسمًا احنا اللي فكرناها بيك

طالت نظرة بشار الحزينة والتائهة له فتابع هو بابتسامة دافئة:

_خليك جمبها يابني وان شاء الله هي هتفتكر كل حاجة قريب

ربنا بشار على كتف والدها بلطف وتمتم في حنق ملحوظ:

_ان شاء الله ياعمي، أنا هروح الحمام

التفت وسار باتجاه الحمام مبتعدًا عن غرفته وهو يزفر بأسى وضيق على حالها، شعر بنغزة مؤلمة في قلبه عندما أكتشف أنها تتذكر الجميع معادا هو، ربما يكون هذا هو عقابه.

                                        ***

دخل عمران المستشفى بعدما انتهي من شراء الدواء الذي كتبه الطبيب لزوجته، وصل أمام غرفتها وفتح الباب ببطء ودخل، لحسن الحظ أنها كانت بمفردها في الغرفة بعد رحيل جدها وشقيقها وحتى أمها خرجت لقضاء أمر ما سريعًا داخل المستشفى وستعود لها، سقطت عينه على أفضل مشهد قد يراه في حياته وهي جالسة ومستندة بظهرها على وسائد ناعمة ومريحة خلفها وبين ذراعيها طفله وتقوم بإطعامه من ثديها، ابتسم بحب وعينان لامعة كلها سعادة ثم تقدم نحوهم ووضع كيس الدواء على المنضدة المجاورة لفراشهم ورغم أنها رأته لكن تجاهلته ولم تنظر لوجهه، لم يكترث لها فسعادته بوصول بمولوده الأول كانت أقوى من أي شيء يمكنه أن يعكر مزاجه.

انحنى على رأسها ولثم شعرها بغرام حقيقي وهو يهمس لها:

_حمدلله على السلامة يا أم سليم 

أجابته آسيا بصوت خافت خالي من المشاعر:

_الله يسلمك يامعلم 

طال تمعنه لصغيره وهو بين ذراعيها وتطعمه فمال عليه وقبله من رأسه بحنو، ثم جذب مقعد وجلس بجوار الفراش وهتف لآسيا بابتسامة عريضة وهو لا يحيد بنظره عن ابنه:

_طالع شبهي قوي، للدرچادي كنتي دايبة في حبي ياغزال

رفعت رأسها له ورمقته بنظرة قوية قبل أن تقول في جفاء متصنع:

_كيف ما قولت.. كنت.. يعني كان في وخُلص 

رفع نظره عن صغيره أخيرًا ورمقها مطولًا بنظرة ثاقبة قبل أن يميل عليها للإمام ويقترب بوجهه منه حتى أصبح لا يفصله عنها سوى سنتي مترات قليلة وقال بعين مفعمة بالثقة وبسمة ثغر جانبية متهكمة:

_لسانك بيقول كلام وعينك بتقول العكس

ظهر الاضطراب البسيط عليها من قربه الشديد ونظراته الواثقة، فأجابته بنظرات زائغة وتوتر امتزج بغضبها:

_بعد عني ياعمران! 

استنكر سؤالها الساذج فابتسم مغلوبًا وهتف بنبرة رجولية غليظة وهو ينقل نظره بينها وبين طفله:

_بعد عني دي تقوليها لراچل غريب ملوش حق يقرب منك، لكن أن چوزك وأبو ولدك

تأففت بنفاذ صبر ومالت بوجهها بعيدًا عنه ثم عادت له بنظره مجددًا وقالت في غيظ:

_أنت عاوز مني إيه تاني مش مكفيك اللي قولته ولا اللي عملته! 

أجاب عمران بكل ثبات انفعالي وبرود مستفز وهو يمسح على رأس ابنه ويمسك بكفه الصغير في دفء:

_عاوزك أنتي وولدي

ثم رمقها بحزم وقال في نظرة مخيفة كلها إصرار:

_لو لساتك فاكرة أني ههملك وأهمل ولدي يتربى بعيد عني واطلقك كيف ما أنتي عاوزة تبقي بتحلمي

اشتعلت نظراتها بنيران السخط وصاحت به بعصبية:

_وأنا مش عاوزاك بعد اللي قولته كل حاچة انتهت بينا خلاص

رقمها بنظرة تحذيرية مرعبة وهتف في صوت رجولي أجشَّ:

_وطي حسك الواد نايم في حضنك هيصحى مفزوع 

لوت فمها بتهكم وردت في حزن وغيظ:

_أه أنت أصلًا كل اللي هامك ولدك بس ومش فارق معاك حاچة تاني

ابتسم وقال في جدية وحنق:

_انتي لو ادتيني فرصة وبطلتي نشفان الراس واعترفتي بغلطك هتشوفي وتتأكدي بعينك كيف أنتي فارقة معايا وتهميني كيف ولدي

ضحكت بسخرية وقالت في صوت خافت لكنه سمعه جيدًا:

_أنا بس اللي غلطانة واللي أنت قلته مش غلط!! 

مسح على وجهه متأفف بامتعاض وقال لها في حدة:

_مش وقته الكلام في الحديت ده دلوك انتي تعبانة وأنا كمان مش عاوز حاچة تعكنن عليا فرحتي بولدي

كانتعاى وشك الانفجار به صارخة لكن قطعها دخول جليلة التي عندما رأت عمران لوت فمها بضيق ولم تتحدث بل اقتربت من ابنتها واطمئنت عليها ثم حملت عنها " سليم " ووضعته في فراشه الصغير، وظلت آسيا تتبادل النظرات النارية مع عمران الذي استقام واقفًا وقال برجولية:

_أنا معايا مشوار صغير مسافة ساعتين وراچع، لو احتچتوا أي حاچة اتصلوا بيا

مالت آسيا بوجهها للجهة الأخرى تأبى النظر له من فرط الغضب بينما هو فانحنى عليها وقبَّلها من شعرها بحنو هامسًا في صوت لم يسمعه سواهم:

_خدي بالك من روحك يا أم الغالي وبلاش العصبية اللي ملهاش داعي دي على أمور مش هتتم، هدى نفسك عشان متتعبيش وأنا مش هتأخر عليكم

تأففت بانزعاج وابعدت رأسها عنه بينما هو فانتصب في وقته واقترب من ابنه يودعه قبل أن يغادر وسط نظرات جليلة وآسيا له التي قالت ساخرة فور انصرافه:

_فاكر أني هسامحه ولا انسي اللي قاله أو حتى هرچعله، أنت اللي شكلك لسا متعرفنيش زين يامعلم 

                                      ***

خرج عمران من المستشفى وكان أمام سيارته مباشرة على وشك أن يفتح الباب ويستقبل بمقعده لولا صوت خافته الذي أوقفه فأخرجه وأجاب على الرقم المجهول برجولية:

_الو مين؟ 

وصله صوت أنثوي ناعم يبدو عليه الانهيار من فرط البكاء والقلق:

_أنا حور ياعمران مرات بلال، الحقه بسرعة قبل ما يضيع نفسه هو كان عندي وجاله تلفون تقريبا يخص موضوع الراجل اللي قتل عني ابراهيم وهو عرف مكانه وطلع بسرعة عشان يروحله

اتسعت عين عمران بدهشة ثم سألها بقلق وهو يستقل بسيارته لينطلق بها:

_طيب مسمعتيش أي حاجة من المكالمة أو هو مقالكيش المكان ده فين ياحور؟ 

أجابته بالنفي وهي تبكي بحرقة:

_لا هو مدنيش فرصة احاول امنعه حتى ولا أفهم منه وطلع بسرعة، أنا حتى معرفش هو وصل ولا لا دلوقتي لأنه طلع من بدري وأنا كل ده كنت بحاول اجمع رقمك

عمران بصوت رجولي غليظ يحاول بث الطمأنينة لنفسها المضطربة:

_متقلقيش أن شاء الله هعرف مكانه وهلحقه اهدي

أنهى الاتصال معها وفورًا حاول الاتصال بأخيه ولكن النتيجة كانت عدم الرد، استمر في الرنين المستمر لوقت طويل متأملًا أن يجيب عليه لكن دون جدوى وبالمرة الأخيرة قبل أن ينتهي الرنين بآخر لحظة أجاب بصوت المحتقن:

_أيوة ياعمران 

عمران بصوت مرتفع:

_أنت فين؟ 

وصف له المكان المتواجد به بالضبط فهتف عمران بعصبية موجهًا له أوامره الصارمة:

_أنا چايلك دلوك، خليك مكانك متتحركش خطوة من عندك 

تأفف بلال بضيق واكتفى بالرد الصامت على أخيه ثم أنهى الاتصال وراح يتجول بنظره على وجوه الناس من حوله حيث كان يجلس بمقهى صغير وعقله مشغول بما حدث معه، يحاول إيجاد الحلول والإجابات المنطقية لتهدأ روحه الثائرة، ولم يدم انتظاره لأخيه كثيرًا حيث نصف ساعة تقريبًا ووصل عمران له، فور جلوسه على المقعد المقابل له هتف بانفعال:

_أنت شكلك اتخبلت في نافوخك، عاوز تروح لحالك لمنصور وتضيع روحك

زفر بلال بانزعاج وقال في يأس:

_واديني مروحتش ارتاح عاد

عمران بعنلامتت استقام بادية على ملامحه:

_مروحتش كيف يعني؟!.. هو أنت مش عرفت مكانه!

مسح بلال على وجهه متأففًا بامتعاض وبدأ يسرد له ما حدث:

_عرفت وروحت المكان اللي المفروض مستخبي فيه ملقتش حد، واللي اكتشفته إن دي شقة جلال ومن كام يوم جه بلاغ أن منصور موجود هنا وبلغوا عنه هو وجلال ولما اتمسك جلال وملقوش عليه أي دليل طلعوه واعتبروه بلاغ كاذب 

ضيق عمران عينيه بعدم فهم وهتف بصوت خشن متسائلًا:

_بلاغ!!.. وهو مين ممكن يكون عارف مكان منصور وعاوزه يتمسك ويبلغ عليه هو وجلال؟ 

بلال بنفس تعبيرات الحيرة البادية على وجه أخيه:

_مهو ده نفس اللي بسأله لنفسي ليا ساعتين وبحاول افكر مين ممكن يعمل إكده، لأن مستحيل يكون حد منينا لا أنا ولا أنت ولا عمي ولا حتى بشار نعملها

رجع عمران بظهره على المقعد للخلف وجلس يإريحية أكثر ليجيب وهو مبتسم بثقة وغيظ:

_ده حد مش عاوزنا نوصله

هز بلال رأسه مؤيدًا لكلام أخيه بينما عمران فتابع برزانة تليق به:

_متشغلش بالك مسير المستخبي يبان، ومنصور مسيره يقع تحت يدنا هيفضل هربان إكده لغاية ميتا يعني

دام الصمت بينهم لدقيقتين قبل أن ينظر عمران لبلال بعين لامعة بوميض جديد ويقول بفرحة حقيقية:

_إيه أنت مش هتبارك لأخوك ولا إيه؟!! 

حديقه بلال بنظرة مستفهمة في حيرة واستغرق لحظات طويلة نسبيًا حتى استطاع تخمين مقصده فقال بدهشة وتعبيرات وجه مشرقة:

_آسيا ولدت؟!! 

ضحك عمران واماء له بالإيجاب فهب بلال واقفًا من مقعده واندفع نحو أخيه ليعانقه بحرارة وهو بربت فوق ظهره بسعادة صادقة من القلب ويهنئه هاتفًا:

_مبروك يامعلم يتربى في عزك يارب، أنت مقولتش لحد ليه؟! 

ابتعد عن عمران الذي قال بملامح وجه ظهر عليها الضيق:

_أنا روحت عشان ارچعها البيت وطبعًا هي رفضت وكانت في مشكلة كبيرة وفجأة بدأت تصرخ ولما خدناها على المستشفى الدكتور قال ده طلق الولادة وولدها، مع أن لسا معاد ولادتها كان لسا فاضل عليه شوية

بلال باهتمام وقلق: 

_طيب هي والواد كويسين؟ 

عمران بابتسامة عريضة:

_زي الفل الحمدلله

ردد بلال ( الحمدلله ) براحة ثم سأله وهو يلوي فمه ضاحكًا:

_محدس يعرف في البيت طبعًا، دي مرت أبوي لما تعرف أن مرتك ولدت وأنت مقولتش ليها هتخرب الدنيا

قهقه عمران وقال مغلوبًا بجدية:

_هتصل بيهم دلوك وابلغهم كلهم في البيت

تنهد الصعداء بابتسامة ودية ثم قال بحماس جميل:

_أتا ورايا كام مشوار إكده هخلصهم وآچي على المستشفى طوالي عشان اشوف المعلم سليم الصغير

عمران بنظرة صارمة تحمل الشك:

_مشوار إيه ده؟! 

قهقع بلال بمرح وقال في نبرة جادة:

_متقلقش يامعلم مشوار تبع شغل ملوش علاقة بمنصور

هز رأسه بتفهم وراحة بينما بلال فتابع وهوويربت على كتفه غامزًا بخبث:

_خليك چارها عاد اليومين ده عشان تلين وتهدى عليك والمشاكل اللي بينكم تتحل

ابتسم عمران بقلة حيلة على نصائح أخيه الصغير، ثم أجابه بحزم والإبتسامة مازالت على ثغره:

_طيب كلم مرتك وطمنها يامصلح العلاقات عشان هي اللي كلمتني وكانت خايفة عليك

اسماء له بالموافقة ثم ودعه وغادر ليترك عمران وحيدًا يفكر في حلول للفجوة العميقة التي بينه هو وزوجته.

                                     ***

داخل منزل خليل صفوان.....

خرجت غزل من غرفتها وهي ترتدي بنطال جينز فضفاض قليلًا متماشيًا مع موضة الفتيات هذه الفترة واعلاه بلوزة قطن بيضاء بحمالات رفيعة وتنزل بفتحة دائرية عند الصدر وفوقها قميص خفيف بكم كامل يغطي ذراعها كله وتتركه مفتوحًا ليظهر البلوزة البيضاء وجعلها أكثر أناقة وتترك شعرها الناعم ينسدل بحرية على ظهرها وكتفيها وبعض الخصلات تنزل على جانب وجهها بشكل مثير يجعلها أثني على جمرة من النيران.

كانت في طريقها للأسفل لتطمئن هل عاد الجميع من المستشفى أم لا ولكن أثناء مرورها من جانب غرفة " علي " سمعت صوته يتحدث في الهاتف ويقهقه بصوت مرتفع، جذب انتباهها صوت ضحكاته الرجولية وانجذبت لا إراديًا تجاه غرفته ووقفت تستمع له من الخلف أو بالمعنى الأدق تتصنت عليه، فاتسعت عينيها بدهشة عندما فهمت أنه يتحدث مع فتاة وانصتت أذنيها أكثر لتسمع حديثه وتعرف هوية تلك الفتاة لكنه لم يظهر أي شيء، صابها شعور غريب بالحنق والغيظ أنه يتحدث مع الفتيات وتساءلت بينها وبين نفسها.. أن كان يحب أخرى فلماذا يمنعني من الحديث مع الشباب ويتحكم بملابسي ويريدني أن ارتدي الملابس المحتشمة.

ودت لو اقتحمت عليه الغرفة الآن وصرخت به واجبرته على أن يفسر لها كل شيء ويخبرها مع من يتحدث، لكن تمالكت أعصابها وظلت مكانها وبسبب شرودها لم تنتبه أنه أنهى حديثه في الهاتف ولم تقف سوى على الباب وهو ينفتح فجأة فتميل هي للداخل ولولا يديه التي أحاطت بها قبل أن تسقط، تلاقت أعينهم المندهشة  ببعضهم البعض، هو يرمقها بعدم فهم وهي تمنت بتلك اللحظة أن تنشق الأرض وتبتلعها، لحظات معدودة وانتفضت بسرعة واقفة تبتعد عن ذراعيه وأحضانه لتسمعه يقول بذهول:

_أنتي كنتي بتتصنتي عليا؟!

 أجابت بارتباك شد وهي تنفي ما قاله:

_لا لا طبعًا أنا هتصنت عليك ليه، أنا بس كنت جاية أسألك عن حاجة

ابتسم " علي " بعدم اقتناع ووضع يديه في جيبي بنطاله ليستند على جانبي الباب ويهتف بخبث:

_حاچة إيه دي عاد ياغندورة؟!

تنحنحت بإحراج شديد وسكتت تحاول التفكير في أي شيء تنقذ نفسها به من ذلك الموقف البشع فقالت بسرعة فور تذكرها:

_آااه كنت عايزة أسألك على آسيا أخبارها إيه هي والنونو ولدت كويسة يعني؟

ضحك بخفة وهتف بإيجاب وهو يعبث معها متعمدًا:

_أه كويسة الحمدلله، عقبالك

اضطربت أكثر وصيفا عينيه باستغراب لتهتف بجدية:

_عقبالي إيه I'm not married !!

غمز لها لؤم وقال بنبرة تضمر خلفها معاني وتلمحيات جريئة:

_مهو عقبالك لما تتچوزي وتچيبي النونو زيها

 تنحنحت بخجل شديد واشاحت بوجهها بعيدًا عنه بينما هو فكبح ضحكته بصعوبة ثم خرج من غرفته وتحرك بخطواته بعيدًا عنها لكن أوقفه صوتها الرقيق الذي صابه في مقتل وهي تصيح عليه:

_ علي ! 

التفت له وابتسم باتساع وقال في نظرة هائمة:

_نعمين 

تقدمت إليه بخطوات بطيئة وهي تتمايل برقة ثم قالت له مبتسمة:

_طيب ممكن تاخدني توديني المستشفى عند آسيا 

  رفع حاجبه مندهشًا من طلبها وقال ضاحكًا:

_أنا أخدك.. ده من امتى ده عاد إيه اللي چرالك؟! 

هزت كتفيها ترفض الرد وهي تبتسم برقة تذهب العقل، كان سينصاع خلفها كالمغيب بعد تلك النظرات الساحرة لكنه تمالك انفعالاته بصعوبة وقرر اللعب على أوتارها قليلًا حتى لو كان صعبًا عليه أن يفوت فرصة على طبق من ذهب هكذا لكن أجابها بأسف:

_بس أنا للأسف مش فاضي دلوك ومعايا مشوار

ظنت أنه سيذهب لمقابلة تلك الفتاة فصاحت تسأله بغيظ وفضول:

_مشوار إيه أنت رايح تقابل مين؟! 

علي بتعجب:

_نعم!!! 

هدأت من ثورتها وقالت بخفوت مزيف وحنق واضح:

_قصدي يعني مينفعش تأخر مشوارك ده عشاني شوية وتوديني

هز رأسه لها بالرفض وهو يزم شفتيه بأسف فجزت على أسنانها بعصبية وغيرة تأججت في صدرها، بينما هو فاستدار وتركها وذهب وهو يبتسم باتساع وانتشاء.

                                      ***

داخل المستشفى تحديدًا بغرفة آسيا كانت فريال تجلس بجوارها وتحمل بين ذراعيها ابن أخيها الصغير وهي تبتسم بسعادة وتقول ضاحكة:

_نسخة من عمران يا آسيا

ابتسمت لها آسيا وهي تهز رأسها مغلوبة دليلًا على أنها لا تستطيع الإنكار أنه يشبه والده حقًا، ثم هتفت بود وحب:

_ربنا يقومك بالسلامة

التفتت لها فريال وقالت في قلق:

_ يارب يا آسيا أنا لسا كنت عند الدكتور امبارح قالي هنستنى لآخر الأسبوع ده لو مچاش طلق الولادة هولد قيصري، أنتي عارفة أنا اتأخرت قوي والمفروض كنت أولد من بدري لولا أني مستنية الطلق ومعدش ينفع نصبر اكتر من إكده

مسحت آسيا على كف يدها بحنو وتمتمت:

_متقلقيش سبيها على الله وأن شاء الله خير وهتقومي بالسلامة انتي والحلوة الصغيرة دي

رددت فريال " يارب " من صميم قلبها ثم عادت تتأمل في وجه ابن أخيها السببين ذراعيها وتتبادل أطراف الحديث مع آسيا حتى دخل عمران واقترب من ابنه يحمله عن شقيقته وهو يتمعنه بنظرة دافئة كلها حب، لكن فريال لاحظت العلاقة المضطربة بينه هو وآسيا ونظراتهم الغاضبة فتنهدت الصعداء بحنق وهمست لشقيقها بجدية:

_عمران تعالي معايا برا عاوزة اتكلم معاك شوية

اقترب من زوجته واعطاها صغيرهم بكل حذر ثم استدار وسار خلف شقيقته للخارج وسط نظرات آسيا الفضولية.

فور خروجهم من الغرفة وقفت فريال أمامه وقالت له بانزعاج:

_آسيا حكتلي على اللي أنت قولته ليها ياعمران

ابتسم بتهكم وقال في عصبية:

_قالت أو مقالتش يافريال اللي هي بتطلبه وعاوزاه تنساه عشان مش هيحصل، أنا طلاق مش هطلق

فريال بغضب مماثل له:

_وهو أنا بقولك طلقها، لا طبعًا أنتوا معاكم عيل إيه ذنبه يكبر وأبوه وأمه منفصلين، أنا بتكلم معاك عشان افهمك أن اللي قولتله ليها صعب أوي وأنا ذات نفسي اتصدمت لما قالتلي أنك أنت اللي قولت الكلام ده، يعني أنت غلطان ياعمران مهما كان غضبك مكنش يصح تعايرها بحاچة زي دي وتفكرها بيها وكأنك بتتفضل عليها

مسح على وجهه وهو يزفر بقوة ويستغفر ربه ثم أجاب على شقيقته بحدة:

_أنا مكنش قصدي يافريال اللي فهمته هي عصبتني وخرچتني عن شعوري وخلتني مش داري باللي بقوله

ارتخت عضلات وجهها وابتسمت لأخيها بلطف وقالت بعينان لامعة بوميض الأمل:

_طيب ما تفهمها الكلام ده عشان تهدي والمشاكل دي تتحل بينكم

عمران بعناد وانفعال شديد:

_طول ما هي مش عاوزة تعترف بغلطها متنتظرش مني أني اجري وراها وابررلها أفعالي، وغصب عنها هتفضل مرتي وهترچع بيتها معايا

تأففت فريال بنفاذ صبر من عنادهم المثير للأعصاب وقررت الأكتفاء بهذا القدر من تقديم النصيحة وتركت الأمر للوقت عله يجعلهم يدركوا قيمة بعضهم البعض.

                                         ***

بتمام الساعة العاشرة مساءًا داخل المستشفى حيث غرفة آسيا......

فتح عمران الباب ببطء شديد ودخل فوجد زوجته نائمة في فراشها وجليلة على الأريكة المقابلة للفراش نائمة أيضًا حتى صغيره نائم، ابتسم واغلق الباب بحرص شديد حتى لا يصدر أي صوت ويزعج نومهم ثم تحرك ببطء تجاه فراش ابنه وانحنى عليه يلثم شعره الخفيف بحنو ويهمس له في ضيق:

_يرضيك اللي أمك عملاه فينا ده ياسليم!! 

سكت لثواني ثم تابع همسه له يشكي له همه وكأنه يسمعه ويدرك مايقوله:

_أنا تعبت معاها، لا الحنية ولا الشدة نافعة معاها.. امال اعملها إيه عاد!

التفت برأسه للخلف تجاه فراش آسيا عندما سمعها تهمس باسمه وسط نومها، فابتسم بعاطفة جيَّاشة وانتصب في وقفته ليقترب منها ويجلس بجوارها على طرف الفراش ثم يمد يده ويمسح على شعرها بحب فوجدها مالت بوجهها للجانب على كفه العريض وهي تبتسم وسط نومها ظنًا منها أنه ضمن حلمها لكن عندما فتحت عينها ببطء ورأت وجهه أمام عينيها، انتفضت فزعًا ودفعت يده بعيدًا عنها هاتفة:

_أنت بتعمل إيه چاري، أنا مش قولتلك متقربش مني ولا تلمسني

احتدمت نظرته وتعابير وجهه أصبحت حادة رغم صمته وعدم رده على كلماتها السخيفة وهي تمنعه عن الاقتراب منها، بينما هي فالتفتت برأسها تجاه فراش ابنها تطمئن عليه فوجدته نائم في ثبات عميق، اعتدلت في نومتها تريد الذهاب للحمام ورغم الصعوبة التي واجهتها في محاولاتها للوقوف بمفردها لم تطلب منه المساعدة وهو ظل يراقبه بعيناه المغتاظة حتى وجدها أطلقت آه متألمة رغمًا عنها فهب واقفًا وحاوطها بذراعيه يساعدها لكنها نفرت بعيدًا عنه بغضب وقالت:

_بعد عني، ملكش صالح بيا أنا هقوم لوحدي

رأت ظلام عينيه المرعب الذي لا يبشر بالخير ودون أي مقدمات وجدته ينحني عليها ويحملها بين ذراعيه متجهًا بها إلى الحمام، احتقن وجهها بدماء الغيظ وفتحت فمها على وشك الاعتراض وتوبيخه باستياء اسكتها بعبارته الرجولية ونظرته المرعبة:

_ششششش اقفلي خشمك ومسمعش حسك واصل، أمك والواد نايمين متخلنيش اعلي صوتي

لوت فمها بغيظ وسكتت مجبرة حتى وصل بها لداخل الحمام، انزلها على الارض ووقفت أمام الحوض تغسل وجهها وهو خلفها مباشرة يديه حول خصرها يمسكها بإحكام خوفًا من أن يحتل توازنها وتسقط وهي تلتفت له برأسها كل لحظة والأخرى وتقول بنظرة ملتهبة:

_عمران بعد يدك عني!! 


 رأته يصر على أسنانه بطريقة مرعبة وملامح وجهه تقوست وعنادًا بها تمسك بها بقوة أكثر وضمها إليه حتى التصق ظهرها بصدره، فاصدرت هي تأففًا قوى وصاحت به بعصبية:

_وبعدين معاك، قولتلك مليون مرة أنا معدتش عاوزاك ولا بحبك

احتقن وجهه بدماء الغضب واشتدت قبضته على جسدها أكثر، حتى أنه جذبها إليه واقترب بها إلى الحائط وحاصرها بهيبته ورجوليته ونظر في عينيه بغضب وقال:

_ولما أنتي معدتيش بتحبيني بتهلوسي بيا في نومك ليه

اتسعت عينيها بدهشة وارتبكت قليلًا لكن سرعان ما ردت بقسوة ونظرة ثاقبة:

_ده أكيد كان كابوس

رفع حاجبه مستنكرًا زيف كلماتها وشد على جسدها بيده ثم قال بوعيد حقيقي:

_طالما انا كابوس بنسبالك، بوعدك تفضلي عايشة في الكابوس ده طول حياتك مش في الحلم بس

ابتسمت له بسخرية وعدم مبالاة ثم مالت بوجهها بعيدًا عنه وقالت بمضض:

_بعد عني ياعمران لآخر مرة هقـ......

لم تكمل كلمتها عندما وجدته يمسك بذقنها ويدير وجهها نحوه بغضب حقيقي وغيظ امتزج بنظرة الشوق في عينيه وأبحر معها في لحظاتهم الخاصة التي رغم كل شيء كانت تحفها العاطفة والمشاعر الصادقة، لم ينتشلهم من عمق عشقهم سوى صوت بكاء ابنهم الرضيع فدفعته بعيدًا عنها فورًا وكأنها فاقت من غيبوبة بعدما كانت تحت تأثير سحره ورمقته شزرًا ثم تحاملت على نفسها وسارت ببطء للخارج تذهب لطفلها، لكنه كان بخطواته اسرع منها ووصل لفراشه ثم انحنى عليه وحمله بحرص بين ذراعيه وهو يهزه في برفق ليتوقف عن البكاء وبالفعل هدأت حدة بكائه، نظر لآسيا بحدة التي كانت تريد أخذه منه وقال بلهجة آمرة:

_اقعدي على السرير عشان ترضعيه، هتشليه كيف وأنتي واقفة وتعبانة

فاقت جليلة على صوت بكاء الطفل وقالت بفزع:

_ماله الواد يا آسيا

ردت على أمها باقتضاب بسبب أفعال زوجها:

_ملوش ياما صحي وجعان هأكله دلوك، كملي نومك أنتي أنا كويسة

نظرت جليلة لعمران الذي يحمل ابنه بين ذراعيه وراقبت نظراتهم النارية لبعضهم البعض بتعجب، ثم تابعته وهو يقترب من آسيا بعدما جلست على الفراش ووضع الصغير بين ذراعيها لتبدأ في إطعامه، وهي تنظر له بوعيد غريب لم يفهمه سواهم بعد استغلاله للموقف داخل الحمام وتقبيلها.

                                      ***

داخل منزل فريال وجلال.......

منذ انتهائهم من تناول العشاء ودخول الأولاد لغرفتهم ليخلدوا للنوم وهو يراقبها بعينيه المشتعلة، تتحرك حوله ببطء بسبب بطنها المرتفعة وحملها وترتب المنزل خلف الأولاد ولكن لا تنظر له ولا تخاطبه، يبدو أنها تريد إثارة جنونه أكثر هي حتى لا تجلس في غرفتها بعيدًا عن أنظاره كما قالت، بل تستمر في التجول حوله بكل طبيعية وتتجاهله كأنها لا تراه من الأساس، لا يذكر منذ الصباح أنها وجهت له كلمة واحدة حتى، هي حقًا تعتبره لا وجود له وليس العكس كما قالت أنها ستشعره وكأنها ليست موجودة.

فاض وطفح كيله فقرر هو البدء في أي محادثة بينهم حيث قال بسخط ملحوظ:

_فريال اعمليلي كوباية شاي

تعمد التحدث بلهجة فظة وحازمة معها على غير عادته ليستفزها ويجعلها تتحدث لكنها فاجأته بانصياعها التام دون أي اعتراض أو التفوه بكلمة واحدة، واتجهت إلى المطبخ لتقوم بتحضير كأس الشاي له، استقام هو واقفًا بسرعة وهرول خلفها ووقف بجوارها في المطبخ مستندًا على الرخام وهو يراقبها بعينيه منتظرًا أن تلتقي عينها بعينه لكنها جعلته يشك بنفسه أنه غير مرئي، ظل محافظًا على هدوئه رغم أنه يشتعل من الداخل إلى أن انتهت من تحضير الشاي ووضعت الكأس أمامه على الرخام دون أن تنظر له وهمت بالالتفات والرحيل لكنه امسك بالكأس وسكبه في الحوض بغل وهو يقول متعمدًا إثارة جنونها:

_اعمليلي واحد غيره

التفتت له والتقت أعينهم أخيرًا في نظرة خالية من التعابير وكانت الصدمة أنها كانت على وشك تحضير كأس آخر له دون أي اعتراض أو كلمة واحدة، فثار جنونه هو بدلًا عنها وصاح منفعلًا:

_أنتي إيه اللي بتعمليه ده، هتفضلي إكده لغاية امتى يعني

أطلقت زفيرًا حارًا ونظرت له ببرود وقالت:

_عاوز اعملك الشاي ولا امشي

انفجر كالبركان من فرط الغضب وقبض على ذراعها منفعلًا يصيح:

_أنتي عارفة أني اكتر حاچة اكرهها هي التچاهل، وبتعملي ده كله ليه عشان طلبت منك تروحي تقعدي عند أمك كام يوم لغاية ما أنا وأنتي نهدى، ولا أنتي كنتي عاوزة الأمور تكبر بينا كيف ما حصل زمان، ده چزاتي إني كنت بفكر فينا وفي علاقتنا وچوزانا رغم أنك غلطانة بس أنا تغاضيت ونسيت وعذرتك أنك كنتي خايفة عليا كيف ما بتقولي

اخذت نفسًا عميقًا وبكل ثبات انفعالي قالت:

_أنا مش بتجاهلك، ممكن تسبب يدي عاد 

ارتخت عضلات يدهعلى ذراعها بسبب برود أعصابها المدهش وصدمته أن تلك المرأة هي زوجته، بينما هي فتحركت بخطواتها واتجهت نحو الغرفة الفارغة المجاورة لغرفتهم لتنام بمفردها كليلة أمس، لم يفق من ذهوله سوى على صوت صفع الباب البسيط فالتهبت عينه بنيران حارقة واندفع نحوها ثائرًا ليدفع الباب بكل عزمه ويقول بنبرة رجولية لا تقبل النقاش:

_اطلعي قصادي على اوضتك مفيش نوم إهنه لوحدك

لوت فمها بقلة حيلة وقالت في هدوء غريب:

_أنا مرتاحة إهنه، روح أنت نام ملكش صالح بيا 

صاح بعصبية وصوت جهوري:

_فريال سمعتي أنا قولت إيه!! 

رغم اشتعالها من الداخل لكن لا يمكنها افساد خطتها بسبب انفعالها اللحظي، ستكمل التصرف بالامبالاة ورغم رفضها للنوم معه في نفس الغرفة ستسايره فقط لتثير جنونه أكثر فكلما طاوعته وأظهرت البرود وعدم الاكتراث سيزازد اشتعالًا.

تحركت قبله بخطواتها البطيئة لخارج الغرفة ومنها لغرفتهم معًا، وبعد دخولها وقفت أمام الفراش كالصنم فدخل هو وأغلقت الباب خلفه وهتف بحزم:

_إيه هتفضلي واقفة بتبصي على السرير إكده كتير ولا إيه، كأني مش چوزك وغاصبك تنامي چاري

لم تتفوه بكلمة وتمددت على السرير لكن على الطرف بعيدًا عنه، وهو مد يده لكبس الكهرباء واغلق الضوء ثم اقترب من الفراش وتسطح بجوارها وبدأ يقترب منها أكثر وأكثر حتى التصق بها وضمها إليه من الخلف ودفن أنفه بين خصلات شعرها يستنشق رائحتها التي تذهب بعقله، ابتسمت هي لا إراديًا وقالت بجفاء متصنع وهي تلتفت له برأسها:

_أنت فاكر لما تحضني إكده أنا هلين ومش هتچاهلك وانسى اللي قولته يعني

صرت على أسنانه مغتاظًا وقال وهو يضغط بذراعيه عليها ويحضن بطنها بيديه هامسًا:

_نامي يافريال وأنتي ساكتة

فريال بقلة حيلة:

_ طيب ممكن تبعد عني شوية

هتف بنبرة متهكمة وانزعاج:

_هبعد اكتر من إكده إيه تاني، ده أنا كارمك على كدا 

كتمت بكف يدها ضحكتها العالية التي كانت ستنطلق منها لا إراديًا لكنه شعر بضحكتها المكتومة وابتسم بحب ثم لثم رقبتها وشعرها بقبلات مغرمة، بينما هي فقررت أخذ هدنة صغيرة هذه الليلة وبصباح اليوم التالي تستأنف مخططها الخبيث.

                                       ***

بمكان آخر داخل المستشفى التي بها مريم...

وقف بشار أمام باب غرفتها مترددًا في الدخول، كلما يتذكر نظراتها التائهة له في الصباح وكلمات والدها بأنها لم تعد تتذكره يشعر بنغزة قلبه تزداد ألمًا، لكنه أخذ نفسًا عميقًا وطرق الباب أخيرًا فسمع صوتها من الداخل تهمس برقة:

_ادخل

فتح الباب ببطء ودخل ولحسن الحظ أنها كانت وحيدة بالغرفة في ذلك الوقت، وقف على مسافة بعيدة نسبيًا عنها وراقب تفاعلات وجهها عند رؤيتها له، فصابه الإحباط والأسى الشديد.. تنظر له بأعين فارغة وابتسامة صافية كأنها تنظر لغريب لا تعرفه.. اختفت نظرات عينيها المفعمة بالشغف واللهفة عندما تراه.. حتى صوتها الرقيق وهي تصيح فرحًا باسمه لم يعد يسمعه، ماذا حدث لها وماذا يحدث له لا يفهم شيء، هو منذ أيام فقط كان ينوي الانفصال عنه ولم يكن يكن لها أي مشاعر في قلبه، من أين ولدت فجأة في يوم وليلة هكذا.

فاق من شروده الكئيب على صوتها الناعم وهي تهمس له:

_اقعد يابشار أنت واقف ليه؟! 

تحرك بقدم ثقيلة تجاه المقعد المجاور لفراشها وجلس عليه دون أن يحيد بنظراته البائسة عن وجهها، فاجفلت عينيها أرضًا حزنًا واضطرابًا بسيط ثم نظرت له وقالت بمشاعر صادقة:

_أنا عارفة أنك أكيد زعلان ومضايق أني مش فكراك ونسيت كل حاجة بينا، بس صدقني أنا كمان زعلانة أوي زيك بظبط

امتلأت عينيها بالدموع وانهمرت فوق وجنتيها غزيرة وتابعت له بصوت مبحوح:

_أنت متخيل أنا أفوق من غيبوبة بعد حادث أنا مش فاكرة أصلًا حصل إزاي ولا فين ولا امتى والاقي ماما وبابا واخواتي وأهلي كلهم وصحابي حواليا وابقى فكراهم وأنت الوحيد اللي مش فكراك واهلي يقولولي أني كنت مخطوبة وأنا أصلًا مش فاكرة شكل خطيبي ولا اسمه ولا أي تفاصيل بينا، أنا حاسة نفسي دخلت في فجوة زمنية ومش فاهمة أيه اللي بيجرى اشمعني أنت الوحيد اللي انساك

توقفت عن الحديث للحظة التقطت أنفاسها وتمسح عبراتها ثم أكملت بنظرة تحمل مشاعر صادقة:

_أنا يمكن مش فكراك فعلا بس صدقني حاسة أنك مش غريب عني وفي حاجة جوايا بتخليني اطمنلك وارتاح واتبسط أوي من جوايا لما اشوفك

كان يستمع إليها وعينيه متلألأة بالعبرات العاطفية والمهمومة، عندما وجدها ستكمل حديثها وبكائها سيزداد مد يده وتحتضن كفه بحنو هامسًا لها بنظرة بثت الطمأنينة في روحها ونبرة صوت رجولية اخترقت قلبها:

_مريم أنا كنت زعلان ومقهور بجد وأنتي كنتي مغمضة عينك ومش وسطينا.. وكنت بتمنى تفوقي وترچعيلنا، فلو رچعوك كان في سبيل نسيانك ليا أنا موافق ومعنديش مشكلة

رمقته بنظرة كلها مشاعر وامتنان له بينما هو فتابع بأمل قوي وابتسامة ساحرة وسط عينيه الممتلئة بالدموع:

_مين عالم يمكن ربنا عاوزنا نبدأ من أول وچديد مع بعض ونعمل ذكريات چديدة بس المرة دي تكون بالحب بچد

اختفت بسمة وجهها وظهرت الدهشة والحزن على ملامحها وهي تسأله:

_ليه هو احنا مكنتش بنحب بعض ولا إيه؟ 

تنحنح بشار بارتباك بسيط وبسرعة تدارك الموقف وقال ببساطة:

_لا بس احنا اتخطبنا بشكل تقليدي ومكناش نعرف بعض واصل وكنا لسا بنتعرف على بعض يعني في مرحلة التعارف اللي قبل الچواز في الخطوبة لكن دلوك قصدي أن الوضع أعتقد هيكون مختلف

عادت البسمة تصعد لثغرها مجددًا لكنها كانت خجلة هذه المرة وسمعته وهو يكمل بوعيد رجولي حقيقي:

_اطمني أنا هفضل چارك ومش هسيبك أبدًا لغاية ما تفتكري كل حاچة تاني

هزت رأسها له بالموافقة في استحياء وسحبت يدها من كفه ببطء بسبب خجلها وهميه له بصوت يكاد لا يسمع:

_شكرًا أنك مش هتسيبني في المحنة دي وهتفضل جمبي

ابتسم ورد غامزًا بمداعبة:

_أنا مش هرد عليكي دلوك بس هسيب الأيام هي اللي ترد عليكي

اشاحت بوجهها بعيدًا عنه وهي تضحك بخجل ورقة وهو يتمعنها مبتسمًا كأنه يرى ملامحها لأول مرة.

                                        ***

بصباح اليوم التالي داخل غرفة آسيا بالمستشفى.....

خرجت آسيا من الحمام بعدما انتهت من ارتداء ملابسها للرحيل والعودة للمنزل وكان عمران يجلس بابنه على المقعد يحمله بين ذراعيه وهو ينظر له كل لحظة والأخرى ويبتسم، وعندما رأى آسيا وهي تخرج من الحمام بمساعدة أمها رفع رأسه لهم وراقبهم بنظراته الثاقبة ثم سمع صوت آسيا وهي تقول بتلقائية:

_اتصلي ياما بچلال أو علي عشان يچوا ياخدونا ويوصلونا البيت 

رفع عمران حاجبه وأظلمت عينيه فراح يجيبها بتهكم وصوت رجولي مريب:

_وماله وابقي خليهم كمان يوصلوني في طريقهم للبيت أصل أنا بتوه ومش بعرف اروح لحالي وبخاف

كتمت جليلة ضحكتها بصعوبة وردت علي آسيا بجدية وسط بسمتها الظاهرة:

_واتصل بأخوكي ليه يابتي مهو چوزك قاعد هيوصلنا

رفعت آسيا نظرها لعمران الذي كان يرمقها شزرًا فازاحت عينها عنه بسرعة بالامبالاة متعمدة ثم قالت لأمها بتعب بسيط:

_عاوزة اقعد في أي اوضة في الدور الأول ياما مش هقدر اطلع لغاية الدور التالت أنا في بيت أبوي

صدح صوت عمران الغليظ وهو يقول بنظرة نارية لزوجته:

_أنتي هترچعي بيتك وبيت چوزك معايا


الفصل الواحد والعشرون من هنا

لقراءة باقي الفصول من هنا

لقراءة الجزء الاول من رواية ميثاق الحرب والغفران من هنا

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close