أخر الاخبار

رواية دمعات قلب الفصل الخامس والثلاثون35بقلم رباب فؤاد

رواية دمعات قلب
 الفصل الخامس والثلاثون35
بقلم رباب فؤاد
انطلقت(هالة) تهرول في طرقات المستشفى التي يعمل بها(طارق) بحثاً عن حميها والفزع يرتسم على محياها, وحينما وجدت بغيتها أخيراً, وما أن وقع بصرها عليه حتى انخلع قلبها من موضعه في عنف وهبط إلى قدميها...

فحميها ذو البنيان القوي-رغم سني عمره الستون- كان شاحب الوجه حتى الهزال وعيناه منتفختان بشكل عجيب يوحي بكثرة بكائه, وهو الصلب رابط الجأش.
وابتدرته(هالة) بسؤالها المنفعل المذعور قائلة ـ"ماذا بك يا عمي؟ لقد أتيت فور أن هاتفتني. كيف تشعر؟"

استند الرجل إلى ذراعها وقال في ضعف وهي تساعده في الجلوس على أقرب مقعد ـ"أنا على وشك الإصابة بذبحة صدرية ثانية."

شهقت في عنف قائلة ـ"لا تقل هذا يا عمي؛ ستكون بخير إن شاء الله. أين أطباء هذا المستشفى؟ ألا يعلمون من أنت؟"

تشبث حميها بذراعها وهو يقول بصوت مختنق ـ"(طارق)."

عقدت حاجبيها في ضيق حينما سمعت اسمه, ثم ما لبثت أن ازدردت لعابها وقالت في هدوء ـ"سأستدعيه لك حالاً و..."

قاطعتها ضغطة قوية من يد حميها رغم ضعفه الواضح وهو يهتف بها في ألم ـ"(طارق) في خطر؛ إنه يموت, ولا أستطيع تحمل مثل هذه الصدمة."

اتسعت عيناها في هلع رغماً عنها وهي تهتف بدورها ـ"ماذا به؟ ماذا حدث؟"

طفرت عينا العجوز بالدمع وهو يقول بحنان أبوي ـ"لا أدري, إنه ينزف. لقد اتصل بي زميله وأخبرني بما حدث, وهو الآن في غرفة العمليات. أخشى ألا يستطيعوا إسعافه."

وضعت يدها على فمها في ذعر بالغ قبل أن تسأله والدموع تخنق صوتها ـ"هل فقد الكثير من دمائه؟ وما هو سبب النزيف من الأساس؟"

قلب الرجل كفيه في حيرة قائلاً ـ"لا أدري؛ لم أره منذ أسبوع منذ كان لدي في القرية. وصديقه يقول إنه كان جالساً معه وفجأة وجده ينزف من أنفه في غزارة قبل أن يفقد اتزانه ويقع فاقداً الوعي, ولا أعرف أكثر من ذلك."

ارتفعت دقات قلب(هالة) حتى صارت كدقات الطبول في أذنيها وهو تهمس في ضراعة قائلة ـ"يا إلهي...اللهم الطف بنا في قضائك وقدرك."

لم تكد تتم دعائها حتى لمحت أحد زملاء(طارق) قادماً نحوهما فابتدرته في لهفة قائلة ـ"كيف هو الآن؟"

ارتسمت ابتسامة مرهقة على وجه الطبيب وهو يطمئنها قائلاً ـ"الحمد لله, لقد أعطيناه دماً بدلاً عما فقده وقمنا بكي الشعيرات الدموية التي كانت السبب في النزيف. لا داعي للقلق. إنه الآن في غرفته ويمكنكم الاطمئنان عليه بعد حوالي ساعة من الآن."

شكره والد(طارق) بحرارة وهو يدعو له بالنجاح في حين سألته(هالة) بقلق ـ"ماذا حدث بالضبط؟ أنت صديقه الذي أجرى معه جراحة ابني(هيثم). دكتور (سامي) أليس كذلك؟ أصدقني القول... هل هو في خطر؟"

قال (سامي) بهدوء شديد ـ"لا تخافي؛ سيكون بخير إن شاء الله, وإذا لم يكن لديك ما يمنع أريد التحدث معك بعيداً عن والده."

رمقت حميها بنظرة جانبية مترددة وهي تشعر بتسارع دقات قلبها من التوتر، قبل أن تمط شفتيها قائلة ـ"وهو كذلك. أنا بحاجة لمعرفة ما حدث له."

أشار إليها بأن تتبعه إلى مكتبه حيث جلسا وقال بهدوء يميز شخصيته ـ"أنا(سامي طولان) زميل دراسة وعمل لـ(طارق) وتقريباً صديقه الوحيد. صداقتنا تعود إلى الطفولة لأننا كنا جيران أيضاً, على اعتبار أن منازل الأرياف كلها جيرة واحدة. وأنت بالطبع تعلمين أن(طارق) كتوم للغاية فيما يتعلق بحياته الخاصة, لذا لم يخبرني بأمر زواجكما إلا يوم جراحة(هيثم) ابنك. بالطبع كان الخبر مفاجئاً لي خاصة وأنني أنا من شجعه على العودة إلى(سمر) وقربت وجهات النظر بينهما."

عقدت حاجبيها وحاولت ألا تبدو الغيرة في صوتها وهي تسأله ـ"بالمناسبة, أين هي؟ أليس من المفروض أن تكون مع(طارق) الآن؟"

ازدرد(سامي) لعابه قبل أن يقول ـ"لقد انتقلت(سمر) للعمل في مستشفى آخر منذ حوالي أسبوع."

أومأت برأسها متفهمة في صمت لم يعكس علامات الاستفهام الكثيرة بداخلها، ثم ما لبثت أن سألته في اهتمام ـ"ماذا حدث لـ(طارق)؟"

تنهد(سامي) في عمق وهو يقول بحرج ـ"اسمحي لي يا سيدتي أن أتطرق لموضوع شخصي إلى حد ما. لقد كنت آخر من تحدث إلى(طارق), وما رواه لي يعطيني الشجاعة لأن أحدثك بصراحة."

عدلت(هالة) من وضع حجابها حول رأسها بحركة عفوية وهي تسأله ـ"أي موضوع؟"

تنحنح(سامي) في تردد ثم ما لبث أن سألها ـ"في البداية...احم...إنه سؤال خارج الموضوع الأساسي لكن...هل عرفت يوماً أن ضغط دم(طارق) مرتفع؟"

عقدت(هالة) حاجبيها ثانية وهي تسأله في حيرة ـ"ضغطه؟! لقد كان دوماً يقول لي أن ضغط دمه معتدل على عكسي تماماً؛ هذا عندما كان يفحص ضغطي في بدايات الحمل وكان يقول أن عصبيتي هي سبب ارتفاع ضغطي وبالتالي نوبات الصداع التي كانت تداهمني, ولكن ما السر وراء هذا السؤال؟"

أجابها بهدوء قائلاً ـ"كل ما حدث لـ(طارق) اليوم كان سببه ارتفاع ضغط دمه المفاجيء؛ ارتفاع غير عادي كان من الممكن أن يؤدي إلى انفجار في المخ لا قدر الله, لكن نزيف الأنف أنقذه والحمد لله."

سألته وحيرتها تتزايد ـ"وما سبب ارتفاع ضغطه إلى هذا الحد؟"

تنهد في عمق قبل أن يجيبها قائلاً ـ"مدام(هالة), أنت تعرفين جيداً مدى حساسية(طارق)؛ فهو لا يحب أن يجرح أحداً ولا أن يجرحه أحد. وقبل أن ينزف كان يحكي- أو بالأحرى يشكو- من الضغوط النفسية القوية المحيطة به؛ وصدقيني أكثر شيء كان يؤلمه هو ابتعادك عنه".

ثم تابع في سرعة ـ"كما أخبرتك من قبل ف(طارق) كان يخفي عني زواجكما كعادته الكتومة، ولم يكن ليتحدث معي اليوم إلا لأنه لم يعد يحتمل كبت ضيقه ومشاعره أكثر من ذلك، وهذا يعني أن (طارق) بالفعل وصل حداً لا يتحمله بشر. لا تتخيلي مدى حزنه حين كان يروي لي ما حدث في زياراته الأخيرة لمنزلكم. في المرة الأولى حينما فصلت صورته عن صورتكم في الكعكة، والمرة الثانية أمس عندما أتى كما وعد الأطفال ليراجع معهم دروسهم كعادته كل أسبوع وطلب رؤيتك ولكنك رفضت, بل وأدرت وجهك بعيداً عنه حينما دخل حجرتك, ولم تنطقي بحرف واحد رداً على أي مما قاله. موقفك هذا كان يمزقه من الداخل".

لاحظ بعض الضيق على وجه (هالة) الذي تضرج بحمرة حرج خفيفة زاد من وضوحها حجابها الأسود الأنيق الذي عدلته بارتباك حول وجهها الذي خفضته أرضاً، فتنحنح بحرج هو الأخر قائلاً ـ"لا أدري هل من حقي أن أقول هذا أم لا..لكن(طارق) يشعر بالذنب الذي ارتكبه في حقك وضميره يؤرقه في كل وقت؛ لقد كان منهاراً للغاية وهو يحدثني حتى أنني لاحظت شيئاً غريباً أخافني, لقد كانت يداه ترتجفان بشكل...بشكل مرعب. من الممكن أن يفقد مستقبله كجراح لو استمرت هذه الحالة طويلاً معه."

أعادت كلماته إلى ذهنها مشهد(طارق) حينما كان منهاراً بعد طلاقه(سمر), ووجدت نفسها ترفع وجهها لتسأله بغتة ـ"هل عاد للتدخين؟"

اتسعت عيناه في دهشة وهو يسألها ـ"كيف عرفت؟ لقد كان يدخن بشراهة بالفعل قبل أن ينزف."

مطت شفتيها قائلة ـ"إنه يعود دوماً للتدخين كلما واجه موقفاً صعباً."

هز رأسه في أسف قبل أن يقول ـ"أرأيت كم هو بحاجة إليك إلى جواره؟ بل إلى أبنائه أيضاً؟ إنه بحاجة للشعور بأن لديه أسرة خاصة به تحبه كما يحبها."

كاد لسانها يقول في سخرية ’لديه أسرة أخرى بالفعل', وضغطت فكيها كي لا تنطق. لكنها لم تستطع منع نفسها عن الانفجار وهي تقول بتهكم ـ"ألا ينبغي أن تكون زوجته الأخرى إلى جواره الآن؟ فهما على الأقل متحابان".

تنهد (سامي) في ضيق قائلاً ـ"للأسف لست مخولاً بأن أخبرك الأسباب الحقيقية خلف عودتهما، أو بأن أخبرك بوضعهما الآن. فهذه أسرار (طارق) وله وحده حق الإفصاح عنها. كل ما استطيع قوله هو إنني لم أكن اعلم بزواجه منك حينما سعيت وزوجتي لإعادتهما وظننا أننا نسديهما صنيعاً سيدركانه فيما بعد. حتى حينما كنت أرى ضيق (طارق) من العودة إليها لم أتخيل أن هذا بسبب زواجكما. وصدقيني هو لم يعترف لأي شخص بأسباب العودة الحقيقية حتى لا يجرح (سمر)".

رفعت احد حاجبيها قائلة في كبرياء جريح ـ"واضح أنه لم يرد جرح مشاعرها، أما مشاعري أنا فلا بأس أن يجرحها، بل لا داعي للاهتمام بها من الأساس".

تنهد (سامي) في عمق وهو ينظر إلى كفيه للحظات قبل أن يرفع وجهه إليها قائلاً ـ"هذا ما تظنينه. لو أن مشاعرك لا قيمة لها عند (طارق) لما كان بين الحياة والموت اليوم".

ثم عدل من وضع نظارته الطبية على أنفه بارتباك وهو يحاول السيطرة على مشاعر جاش بها صدره ودفعت بالدموع إلى مقلتيه وهو يقول بصوت مهزوز مختنق ـ"لقد كنت على وشك فقدان صديقي الوحيد اليوم وأنا أقف عاجزاً مشلولاً من الصدمة. لم أتصور أن غياب امرأة من حياته قد يدمره هكذا، حتى حينما ترك (سمر) لم يكن بهذا الضعف. ألا يعني هذا لك شيئاً؟ ألا يعكس أهميتك في حياته؟"

شعرت بقبضة باردة تعتصر قلبها وهي ترى الصدق واضحاً في عينيه وصوته فتنحنحت لتجد صوتها وهي تقول بارتباك ـ"أنا لا انتقم منه، ولكن جراح قلبي منه أعمق من أن أتغاضى عما فعل بي".

ثم تابعت وهي تعتصر كفيها في توتر قائلة ـ"لقد اهتزت صورته في عيني وأخشى ألا تعود لسابق عهدها أو أن يلحظ أبنائي ذلك في عيني. لذا أتجنب لقاؤه".

قال بخفوت حزين ـ"ألا تخشين أن تفقديه إلى الأبد؟ وقتها كيف ستواجهين نفسك وأولادك وطفلكما القادم؟ ربما اخطأ (طارق) في حقك، ولكنه نادم. بل إن ندمه يأكله من الداخل ويقضي عليه. ألا يستحق منك أن تمنحيه فرصة ثانية؟ ألا يستحق أطفالك هذه الفرصة في بيت طبيعي بين أب وأم كسائر الأطفال؟ أنا لا أتدخل في حياتكما، لكنني أقول ما يمليه علي ضميري كانسان وكصديق لا يحتمل رؤية صديقه يتعذب".

ثم رفع عينيه وهو يضيف بحزم ـ"ولست في حاجة لأن أنبهك إلى أن(طارق) كان في حالة موت مؤكد اليوم, ومن الممكن أن يتعرض لنفس الحالة مرة أخرى وتكون نهايته, خاصة مع استمرار الضغوط النفسية المحيطة به."

خفق قلبها في قوة وهي تسمعه باهتمام حتى أنها نهضت تهتف في لهفة دون أن تشعر قائلة ـ"أريد أن أراه الآن."

تأملها قليلاً ثم أشار لها بيده قائلاً ـ" وهو كذلك, لكن أرجو ألا تحدثيه في أي من أمور الخلاف بينكما. من المهم أن يبقى في حالة هدوء أعصاب تام كي لا يرتفع ضغط دمه ثانية. أهذا صعب عليك؟"

هزت رأسها نفياً وتبعته إلى غرفة(طارق) ودقات قلبها تتزايد, وفي داخلها تتصارع قوتان؛ بل في داخل قلبها لو أردنا الدقة.

فقد كان أحد شطري قلبها يهتف باسم(طارق) في لوعة, بينما يرفض الشطر الآخر مجرد دخول الغرفة ومبرره في ذلك أنه لا يستطيع أن يسامح من تسبب في جرحه في عمق.

كانت حالة فريدة من نوعها؛ فالمعتاد أن يتصارع العقل والقلب, لا أن يتصارع القلب مع نفسه. 

لكن(هالة) اعتادت أن تكون مختلفة فلم تعر بالاً لهذه الحالة النادرة, ربما لأنها لم تعتبرها نادرة كما نراها نحن. 

فقلبها هو الذي أحب(طارق) وكان ضحية هذا الحب. 

قلبها هو الذي ذرف دمعاته حين كان(طارق) بعيداً عنه وذرفها أكثر حين اقترب. 

قلبها هو الذي عشق(طارق) حين لم يكن له ويرفض الآن أن يكون له شريك فيه. 

يااه, إنه قلبها ثانية, قلبها ثانية يوقعها في المشاكل, بل هو أصل المشاكل. 

هو أصل الخلاف بينها وبين(حازم) رحمه الله, 

والآن...هل ستتركه يعمق المشاكل بينها وبين(طارق) حتى يصير هو الأخر في رحمة الله؟

وفي حزم شديد فتحت باب الغرفة لتنهي الصراع, صراع قلبها

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close