أخر الاخبار

رواية دمعات قلب الفصل الخامس والعشرون25والسادس والعشرون26 بقلم رباب فؤاد


 
رواية دمعات قلب الفصل الخامس والعشرون25والسادس والعشرون26 بقلم رباب فؤاد



استند(طارق) بكتفه إلى باب غرفة(هند) ليتابع باهتمام حنون(هالة) وهو تهمس لابنتها بكلمات أغنيتها المفضلة ولم يبد عليها أنها تشعر بوجوده. فقد استغرقت في تمسيد شعر صغيرتها والغناء لها حتى استسلمت للنوم. حينها نهضت من جوارها على أطراف أصابعها لتخرج وأشارت لزوجها بالتزام الصمت كي لا يوقظ الطفلة.
وفي غرفتهما جلست(هالة) على الفراش في إرهاق قائلة بابتسامة هادئة ـ"تخيل أن(هند) تفضل غناء جدتها عن غنائي؟ إنها حتى لم تعتد بعد على غياب أمي."

إستلقى(طارق) إلى جوارها قائلاً بهدوء ـ"أنا أيضاً لم أعتد بعد على غيابها. أشعر بأن شيئاً ما ينقص المنزل.أعادها الله سالمة إلينا."

تنهدت في عمق وهي تسند رأسها على ظهر الفراش قائلة ـ"وماذا عني أنا؟ إنها صديقتي الوحيدة, لم أفارقها إلا يوم زواجي ولكنها كانت دوماً في بالي. أتدري أنها كانت تشعر بي عندما أمرض وأنا على بُعد آلاف الأميال؟ طيلة عمري وبيننا توارد خواطر قوي, أشعر بها وتشعر بي دون أن ينبس أحدنا بحرف. لا أدري كيف سأحتمل غيابها فترة الحج؟"

أحاط(طارق) كتفيها بذراعه وقربها منه قائلاً ـ"سيمر الوقت بسرعة, إنها لم تسافر إلا اليوم فقط؛ ومادامت مع صحبة آمنة فلا سبيل للقلق عليها. على العكس, يجب أن تسعدي لها لأن حجها هذا تكريم لها ولوالدك الشهيد."

ابتسمت ابتسامة جانبية دون اقتناع وقالت ـ"تكريم متأخر للغاية, ولكنها كانت واثقة من أنه سيأتي يوماً ما لذلك لم تأت معنا عندما ذهبت أنا و(حازم) رحمه الله للحج."

داعب شعرها المنسدل قائلاً ـ"لم يكن المولى قد أذن لها بعد, وعندما أراد سبحانه وتعالى يسر لها هذا التكريم, وبإذن الله ستستمتع في هذه الرحلة."

تنهدت في ضيق ولسان حالها يعكس إفتقادها لوالدتها فزاد من إحتضانه لها قائلاً بغيرة ـ"ثم ألا يكفيك حناني الدافق؟ يبدو أنني سألجأ إلى أساليبي الخاصة".

رفعت عينيها بتساؤل ليفاجأها بحركته المعتادة وهو يدغدغها ويستمتع بضحكتها الصافية وهي تتلوى بين ذراعيه إلى أن توقف عن دغدغتها وهو يقول مهدداً ـ"ها؟ يكفيك حناني أم لا؟"

دفنت وجهها في كتفه قائلة بدلال طفولي ـ"مازلت مصرّة أنني سأفتقدها بشدة. أدعو الله أن ينتهي الحج سريعاً كي تعود لي أمي بالسلامة."

ابتسم وهو يقبل رأسها ويعيدها إلى أحضانه قائلاً ـ"لقد تغلبت على(هند), لا أدري من منكما أدلل أكثر."

رفعت عينيها إليه قائلة بدلال ـ"من تحب أكثر."

تاه في غموض عينيها الجميلتين للحظات همس خلالها بصدق ـ"أحبك كروحي."

تنهدت في ارتياح عميق وغاصت في أحضانه هامسة ـ"وأنا أحبك أكثر."

خلل خصلات شعرها بأصابعه قبل أن يطبع قبلة حانية عليه قائلاً في ثقة ـ"أعلم, وأكدته لي أمي هذا الصباح قبل أن تسافر."

عقدت حاجبيها وهي تبتعد عنه في حيرة قائلة ـ"أمي أنا؟ ماذا قالت؟"

قال بابتسامة صافية ـ"قالت الكثير."

رجته في دلال قائلة ـ"أخبرني ماذا قالت؛ لو كنت حبيبتك حقاً أخبرني ماذا قالت."

أشار إلى وجنته فرفعت جذعها لتصل إليه وتطبع قبلة دافئة على خده القريب منها، لتجده يدير خده الثاني لها فقبلته ثانية وعادت ترتاح على الفراش إلى جواره لولا نظرته الماكرة التي جعلتها تضربه بقبضتها في كتفه قائلة بحنق ـ"لا تكن طماعاً..هيا قل مالديك، وإلا تركتك ونمت إلى جوار ابنتي".

ضحك منها ومن تهديدها الذي لا يتحمله فقال بسرعة من بين ضحكاته ـ"لا أرجوك..إلا هذا العقاب. سأخبرك".

ثم داعب وجنتها بأنامله وقال بهيام ـ"قالت لي إنك تحبينني منذ تشاجرنا أول مرة، وإن حبك لي هو الذي دفعك لمساعدتي في الزواج من(سمر)؛ وعندما أكدت لها أنني أحبك بكل ذرة في كياني طلبت مني أن أقسم لها على المصحف الشريف أن أصونك وأرعاك وأحميك بحياتي."

داعبت أزرار منامته قائلة بدلال ـ"وهل أقسمت؟"

اتسعت ابتسامته وهو يجيبهاـ"أتسألينني؟ رغم أنني مستعد بالفعل لأن أفديك بحياتي دون قسم, أقسمت كي أرضيها وأطمئنها أن ابنتها وأحفادها في أيد أمينة."

انكمشت في أحضانه ثانية وقالت بثقة ـ"أعلم هذا. ماذا قالت أيضاً؟"

أخذ نفساً عميقاً قبل أن يجيبها بلمحة تردد قائلاًـ"سألتني إن كنت أعرف شعور المرأة حين تحب مرة واحدة في حياتها رجلاً ليس لها ويتحول حلمها فجأة إلى حقيقة ويصبح زوجاً لها وحدها. والحقيقة أنني دُهشت لوصفها لك هكذا, إلا أنها فسرت لي ما عنته."

ابتعدت(هالة) عنه قليلاً وسألته بارتباك ـ"وماذا قالت؟"

نظر إليها بثبات قائلاً ـ"قالت أغرب شيء سمعته في حياتي. قالت إنك لم تحبي(حازم) ولم تكوني سعيدة معه وإنها شعرت بذلك دون أن تصرحي أنت به. ولكن كيف هذا و(حازم) كان يؤكد لي أنه سعيد معك وأنه يحبك. أمن الممكن أن يكون الزوج سعيداً والزوجة تعيسة؟"

نهضت مبتعدة واتجهت إلى الشرفة تنظر من خلف زجاجها إلى لا شيء قبل أن تتمتم بعصبية ـ"ما الذي جعلها تقول هذا؟"

نهض بدوره متجهاً إليها وأدارها إليه ليتأملها قائلاً ـ"أنا رجوتها أن تخبرني بكل ما هو غامض عني. إنك لم تخبريني سوى مقتطفات من حفل زفافك على(حازم) ولم تذكري غيرها؛ لم تعطني فكرة عن حياتكما معاً وأنا لم أطلب ذلك لعلمي المسبق بسعادته معك والتي تعني سعادتكما سوياً. لكن حين تخبرني بأنك لم تحبي سوى مرة واحدة, فماذا إذاً عن زوجك السابق؟ ولا تنسي أنه كان شقيقي الوحيد."

هتفت بصوت خنقته الدموع وهي تشيح بوجهها بعيداً ـ"أعلم هذا ولا أستطيع نسيانه, لكن للأسف شقيقك لم يكن الزوج الذي تمنيته. أسلوبه الصارم جعلني أجفل منه. لا أنكر أنني أحببته في بداية زواجنا _أو بالأحرى حاوت أن أحبه_لأنه كان يحاول امتصاص خوفي من الغربة. إلا أنه مع عودته للعمل ازداد ابتعاداً عني, وشعرت بأنني لا أفهمه ولا أتكيف مع عصبيته ولا أسلوبه الآمر الناهي كأني أحد العاملين معه. لم أتقبل الوضع ومع ذلك لم أشتك, لوصول(هيثم) ولإحساسي ببعض الهدوء في طباعه, إلا أنه كان سرعان ما يعود بسرعة البرق(حازم) بجبروته وسطوته, وأنا بطبعي لا أحب تلقي الأوامر."

ثم تابعت ودموعها تنهمر على وجهها دون توقف ـ"لقد كان (حازم) رحمه الله يعتبر المشاعر نوعاً من الضعف، لذا كان يعوضها بأشياء أخرى. كان كريماً معي ومع الأولاد في كل شيء..ماعدا المشاعر. (حازم) لم يعترف يوماً بأنه يحبني إلا ليلة وفاته، وحتى يومها لم يقلها صريحة. ربما كنت الزوجة المثالية بالنسبة له. الزوجة التي تهتم به وتلبي جميع طلباته وتحافظ له على هدوء وجمال المنزل، وفي الوقت نفسه تحفظه في غيابه. هذه مميزات الزوجة التي كان يتمناها (حازم) ووجدها في شخصيتي. أما مميزات الزوج الذي كنت أتمناه فلم يوجد منها في (حازم) سوى التدين والذكاء والوسامة والأصل الطيب".

حاولت مسح دموعها المنهمرة التي أفسدت كحل عينيها الجميلتين، ولكن مجرد ذكرى زواجها ب(حازم) كانت تدفع الدموع سريعة عبر مقلتيها وهي تضيف ـ"أكثر ما كنت أريده في زوجي هو الحنان. لقد نشأت يتيمة وكنت بحاجة إلى زوج يحتويني ويعوضني حنان الأب، ولهذا وافقت على الزواج بعد تخرجي مباشرة على أمل أن أجد ضالتي عند زوجي. ولكن (حازم) للأسف لم يكن ليعترف بالحنان. كان يعتقد أن حنان الرجل هو أقصر الطرق لسيطرة زوجته عليه. ولا تسألني كيف وافقت على (حازم) من البداية لأنه كان قدري, قسمة ونصيب."

تنهد في عمق قائلاً ـ"نفس الكلمة التي قالتها أمي ’قسمة ونصيب‘."

ثم أدار وجهها إليه برفق وهو يتابع بحنان ـ"حبيبتي أنا لا أعاتبك ولا أريد نبش الماضي, ولكن حديث أمي ترك العديد من علامات الإستفهام في عقلي".

وأضاف مبتسماً وهو يمسح دموعها بأنامله ويزيل آثار الكحل السائل قائلاً ـ"ولكن لا أنكر أن كوني حبيبك الأول أرضى غروري كرجل".

ثم قبل جبهتها في حنان وهو يقول ـ" أعدك ألا أعيد فتح هذا الموضوع ثانية, اتفقنا؟"

قالها بصدق قبل أن يضمها إليه بقوة وحنان ويدفن وجهه في شعرها للحظات قصيرة كان من الممكن أن تطول لو لم تبتعد(هالة) عنه في حركة عنيفة ويدها على فمها وعلى وجهها ارتسم تعبير امتعاض أقلقه, خاصة حينما تركت الغرفة في سرعة متجهة إلى الحمام وتناهى إلى مسامعه صوتها وهي تفرغ معدتها رغماً عنها.
وعندما عادت إلى الغرفة بعد دقائق أدهشها التعبير المرتسم على وجه زوجها.
فقد كان جالساً على طرف الفراش يهز ساقه في عصبية والقلق_ وربما الضيق_ بادي على وجهه, ولم يكد يرها حتى سألها في لهجة بدت حادة إلى حد ما ـ"هل تسمحين بتفسير ما يحدث لك حينما أقترب منك؟ هل أصيبك بالاشمئزاز أم أنك لا تطيقينني؟"

ارتفع حاجباها في دهشة بالغة وهي تقترب منه هاتفة باستنكارـ"أنا؟ أنسيت أننا منذ دقائق كنا نتبارى من منا يحب الآخر أكثر؟"

سألها في حيرة ـ"إذاً ما السبب؟ إنك لم تكوني هكذا من قبل, هذا الأمر جديد عليك."

جلست إلى جواره وربتت على كتفه قائلة بتردد ـ"أنت لست السبب بشكل مباشر ولكنه...إنه عطرك يا حبيبي."

عقد حاجبيه وهو يتشمم ملابسه قائلاً ـ"عطري؟ أي عطر هذا؟ أنا لا أشمه, كما أنني لم أغير نوع العطر الذي أستخدمه."

ابتسمت وخفضت وجهها وصوتها وهي تقول بخجل ـ"أنت لا تشمه لأنك اعتدت عليه, ولا أنكر أن رائحته طيبة لكنها بدأت تثيرني وتجعلني أفرغ معدتي أكثر من مرة في اليوم بمجرد اقترابك مني؛ أنا آسفة."

إلتفت إليها وربت على وجنتها قائلاً بحنان ـ"لابد وأن هناك سبباً ما. يجب أن تستشيري طبيباً متخصصاً في الجهاز الهضمي لأنني قلق عليك للغاية."

استكانت للمسة كفه وأسبلت جفنيها للحظات قبل أن تفتحهما قائلة ـ"لا داعي لقلقك يا حبيبي, موضوع استثارة الروائح النفاذة لمعدتي أمر قديم ويتكرر كل فترة."

عقد حاجبيه وبدا القلق في صوته وهو يسألها في اهتمام قائلاً ـ"يتكرر بأي معدل؟"

ابتسمت في خبث قائلة ـ"ليس معدل متقارب, فقد حدث لي أربع مرات خلال اثني عشر عاماً, وسبب عدم قلقي هو أنه يزول تلقائياً بعد تسعة أشهر."

اتسعت عيناه في دهشة وهو يهتف بانفعال ـ"تسعة أشهر؟تسعة بالضبط؟إذاً فأنت حامل!! يا إلهي..."

قاطعته بلكزة في جانبه قائلة ـ"يا لك من طبيب غير متمرس.ألم تفهم إلا الآن؟ ظننتك أنت ستسألني متى يأتي ولي العهد, مثلما فعل والدك."

أحاط وجهها بكفيه قائلاً ـ"لم أسألك لأنني تزوجتك فعلياً من أجلك أنت وليس من أجل الإنجاب. ولكن ذلك لا يمنعني من سؤالك متى سنحتفل بقدومه؟"

هزت كتفيها قائلة ـ"لا أدري متى بالضبط لأنني لم أستشر طبيباً مختصاً بعد؛ إلا أنه من المحتمل أن ألد بعد سبعة أشهر ونصف من الآن."

هب واقفاً يهتف في جذل وهو يتحرك في الغرفة كالمجنون ـ"يا إلهي...سأصبح أباً حقاً. لا أدري ماذا أفعل؛ أريد أن أرقص, أريد أن أغني, أريد أن أخبر العالم كله أن زوجتي وحبيبتي حامل, أن أخبر أبنائي أن أخاهم قادم في الطريق. يا إلهي...سأجن من السعادة."

انفجرت(هالة) ضاحكة وهي تراه حائراً في التعبير عن سعادته بحملها, ثم ما لبثت أن نهضت متجهة إليه إلا أنه هتف بها ويداه ممدودتان عن آخرهما قائلاً ـ"إلى أين؟ إنك لن تتحركي أو تقومي بأي مجهود طوال فترة الحمل. ستأخذين أجازة من العمل حتى تلدي, ومن الأفضل أن تكون أجازة مفتوحة. ممنوع الإرهاق أو الانفعال. سنذهب سوياً لأفضل الأطباء وستخضعين لنظام غذائي صحي يضمن عدم زيادة وزنك عن الوزن المطلوب و..."

قاطعته قائلة من بين ضحكاتهاـ"على رسلك يا حبيبي.أنا لا أشعر بأي شيء غير طبيعي, ولا تنس أنها رابع مرة أحمل فيها."

تابع وكأنه لم يسمعها قائلاً ـ"وأهم شيء ألا تنظري في وجهي كثيراً وإلا أتى المولود شبيهاً بي."

قبلت وجنته في حب قائلة ـ"وهذا ما أريده, أن يكون نسخة عنك في الشكل والطباع, أن يكون له عيناك ولونهما الدافيء وابتسامتك الهادئة وبساطتك التي أعشقك من أجلها."

تأمل ملامحها في دهشة_وكأنه يراها لأول مرة_ ورأى الصدق في عينيها يثبت مدى حبها له ووجد نفسه يهمس تلقائياً قائلاً ـ"يا إلهي...إنك تحبينني بحق."

لاحت نظرة عتاب سريعة في عينيها السوداوين وهمست ـ"وهل شككت في هذا؟"

هز رأسه نفياً ومال يطبع قبلة حانية على جبينها هامساً بصدق ـ"ولا َتشُكي ولو للحظة واحدة في حبي لك."

رفعت عينيها إلى عينيه في لحظة هادئة قطعها(طارق) حين هتف فجأة ـ"لقد نسيت, يجب أن أغتسل فوراً."

عقدت(هالة) حاجبيها وهي تتابعه بعينيها يلتقط منشفته فهتفت به ـ"ماذا بك؟ ولماذا الآن بالذات؟"

تناول زجاجة عطره قائلاً بابتسامة جذابة ـ"ما دام عطري يثير معدتك فلا بد أن أزيل آثاره من جسمي وملابسي."

وفي حركة سريعة قَبَّل الزجاجة قبل أن يقذفها في سلة المهملات ويتجه للحمام تاركاً(هالة) مستغرقة في الضحك.

الفصل السادس والعشرون 

بخطوات سريعة واثقة يميزها صوت كعب حذائها المرتفع دلفت (سمر) إلى غرفة الطبيبات بالمستشفى وهي ترفع نظارتها الشمسية الراقية فوق شعرها بحركة أنيقة وتبتسم لصديقتها التي جلست تحتسي شراباً دافئاً في هدوء.
وبرقتها المعتادة ألقت (سمر) التحية على صديقتها قائلة ـ"صباح الخير يا دكتورة (ضحى)".

بادلتها (ضحى) الإبتسامة وهي تجيبها بود ـ"صباح الخير يا دكتورة (سمر). ما الذي أخرك هذا الصباح"؟

اتجهت (سمر) إلى طاولة بجانب الغرفة اصطفت عليها أكواباً ورقية نظيفة وعلباً للشاي والقهوة الفرنسية وهي تجيبها قائلة بابتسامة منهكة ـ"كنت أنهي بعض الأوراق الهامة. لقد خرجت مبكراً من منزلنا حتى أنني لم أتناول قهوتي الصباحية المعتادة".

قالتها وهي تلتقط كوباً ورقياً وتفرغ مظروفاً للقهوة فيه قبل أن تضيف عليه الماء المغلي وتقلبه متجهة إلى مقعد مجاور لصديقتها وتجلس برقة قائلة ـ"كنت أقاوم النوم في سيارة الأجرة وأنا قادمة الآن".

تأملتها (ضحى) قليلاً قبل أن تهمس بتعاطف ـ"الإرهاق يبدو جلياً على وجهك، لكنك تجيدين إخفاء مشاعرك دوماً".

التفتت إليها (سمر) بحركة حاولت ألا تجعلها حادة وهي تسألها بضيق ـ"ماذا تقصدين؟"

ربتت (ضحى) بتعاطف على كف صديقتها قائلة ـ"كلنا يعلم كيف كنت تحبينه، وأن...".

قاطعتها (سمر) قائلة بجمود ـ"أنت قلتها..كنت أحبه. لقد انتهى ما بيننا وطويت هذه الصفحة من حياتي".

حاولت (ضحى) أن تلين صلابتها قائلة ـ"أنت ما زلت في العدة، وإذا أردت يمكن ل(سامي) زوجي أن يتدخل ليعيدكما و...".

قاطعتها (سمر) ثانية وهي تقول بصوت حاولت أن تجعله طبيعياً ـ"لم أعتد التراجع في قراراتي..ثم إنني أعددت العدة للسفر قريباً".

عقدت صديقتها حاجبيها قائلة بدهشة ـ"السفر؟ إلى أين؟"

ارتشفت (سمر) بعضاً من قهوتها الساخنة متجاهلة حرارتها قبل أن تجيبها قائلة ـ"لقد وجدت فرصة عمل في دولة خليجية وسأسافر بمجرد انتهاء العدة".

إستفسرت (ضحى) بلهجة أقرب إلى الإستنكارـ"بدون محرم؟"

واصلت (سمر) ارتشاف قهوتها واعتدلت في مقعدها وهي تجيب ببساطة ـ"لم يشترطوا محرماً، كما أن هناك سكناً داخلياً للطبيبات..أشبه بالمدينة الجامعية للطالبات".

سألتها (ضحى) ـ"أهي هذه الأوراق التي كنت تنهينها في الصباح؟"

سحبت (سمر) نظارتها الشمسية من بين خصلات شعرها المصبوغ ووضعتها في جراب أنيق وهي تجيب صديقتها بهدوء ـ"نعم هي. لقد أشارت علي صديقة بالسفر وساعدني (حسام) ابن زوج أمي كثيراً حتى وجدنا هذا العقد".

تنهدت (ضحى) بعمق وهي تتمتم بصوت خافت ـ"وكأنك تقولين له مصر كلها لا تكفيني للهروب منك".

سمعتها (سمر) وهي تدرك مغزى صديقتها، فقالت بنفس البرود ـ"نعم مصر كلها لا تكفيني للهروب منه. لا أنكر أنني أتحاشى التحرك في المستشفى بعيداً عن عيادة العيون وغرفة الطبيبات كيلا ألقاه قدراً، ولا أنكر أنني غيرت مواعيد عملي كذلك. ولكن إلى متى؟ المستشفى ليس بهذه الضخامة بحيث نتوه بداخله، ومن المؤكد أننا سنلتقي يوماً ما، وأنا لا أريد ذلك".

قالتها وشعرت بالضعف يعتريها ويتغلب على قوة صوتها الذي تهدج رغماً عنها وهي تقول ـ"لقد عشت معه أياماً جميلة لا أنكرها، وهو تحمل عصبيتي ودلالي وأحياناً إهاناتي بصبر وحكمة لم أرها في رجل من قبل. لكن كرامتي لا تتحمل المزيد. لقد كان يتحملني من قبل بدافع الحب، ولكن دافعه الآن سيكون الشفقة، وأنا لا أقبلها. بل ربما لا يتحملني أكثر من ذلك ويأتي اليوم الذي يطلقني فيه لأنني لم أنجب طفله".

وبسرعة غريبة عادت القوة تغلف صوتها وهي تضيف ـ"لذا كان قراري بطلب الطلاق هو الحل الأمثل للحفاظ على ما تبقى من كرامتي أمام أسرته وأسرتي".

ربتت (ضحى) على كف صديقتها في تعاطف قائلة ـ"ولكنك لست أول من تعجز عن الإنجاب يا (سمر)، والعلم في تقدم مستمر. وحتى إذا لم يأذن الله لك بالإنجاب، فحب (طارق) لك كان كفيلاً بتعويضك. أنت لا تعلمين كيف كان حاله منذ بدأت المشاكل بينكما. لقد كان (سامي) زوجي يتمزق ألماً حزناً على صديقه الوحيد ويشعر أنه لا يستطيع مساعدته في أصعب مواقف حياته. هل تعلمين أن (طارق) كاد أن يفقد مستقبله المهني كطبيب بسبب خلافاتكما التي أثرت على أعصابه وجعلت أصابعه تهتز أثناء إحدى العمليات؟"

تظاهرت (سمر) بتأمل كوبها الورقي وهي تتمتم_ "ربما".

ثم رفعت عينيها إلى (ضحى) لتضيف ببرود ـ" لكنه عاد وتفوق وكرمه مدير المستشفى منذ نحو شهرين. ألا يعني ذلك أنه تجاوز أزمتنا؟ ألا يعني ذلك أنني لم أعد أمثل أية أهمية بالنسبة له؟"

مطت (ضحى) شفتيها قليلاً وهي لا تدري بما تجيب صديقتها. 
لقد أسر إليها زوجها من قبل بأن (طارق) يبدو مختلفاً وأكثر تفاؤلاً، بل ويبدو أنه تجاوز أزمة (سمر) وطلاقهما وكأنها لم تكن يوماً زوجته التي قاتل من أجلها.
كانت تجهل هي وزوجها سبب هذا التغيير. 

أما (سمر) فكانت على شبه يقين من سبب التغيير.
كانت تشعر بأنها قدمت زوجها على طبق من ذهب ل(هالة) وأبنائها، وأن (طارق) ربما أجاد استغلال الفرصة.
ولم لا؟
لقد كانت (هالة) بالنسبة له الزوجة المثالية في كل شيء، على النقيض منها تماماً
وبعد إختفائها من حياته بناء على طلبها...ما الذي يمنعه عن تحويل زواجه منها إلى زواج حقيقي؟

شعرت بغصة تخنقها عند تلك النقطة فسعلت بقوة جعلت الكوب الورقي يهتز في كفها ليسكب قليلاً من محتواه الساخن على ساقها فهبت واقفة لتبعد سروالها الضيق قليلاً عن فخذها كيلا تحرقه القهوة الساخنة واتجهت في سرعة إلى حوض جانبي والتقطت منشفة صغيرة نظيفة بللتها قليلاً بالماء قبل أن تمسح بها آثار القهوة عن السروال الأسود.
وبعد أن انتهت من تنظيف ملابسها عادت تجلس في هدوء إلى جوار صديقتها وهي تعيد ترتيب شعرها بأصابعها بحركة مدروسة اعتادت عليها منذ قصرت شعرها قبل فترة.

حينها شعرت (ضحى) بما تحاول صديقتها إخفاؤه دون جدوى فقالت بحرج ـ"آسفة يا (سمر)..أنت تدركين كيف أحبك، وكيف تعود صداقتنا إلى ما قبل ارتباطك بصديق زوجي. كل ما أريده لك هو السعادة والراحة".

ربتت (سمر) على كفها بود ومنحتها ابتسامة صادقة وهي تقول ـ"أدرك ذلك يا أختي التي لم تلدها أمي...أنت وزوجك فقط دوناً عن أي من معارفنا تعلمان السبب الحقيقي لإنفصالنا، وهذا لأنكما أقرب إلينا من أهلنا بالفعل".

قالتها دون أن تشعر بأنها جمعت نفسها و(طارق) في ضمير واحد كما كانت تفعل دوماً.
ولكن هذا لم يخف على (ضحى) التي بادلتها الإبتسامة في ألم قبل أن تسألها بإهتمام لتغيير الموضوع ـ"هل حددت موعد السفر؟" 

أجابتها (سمر) في هدوء وهي تضع جراب النظارة الشمسية في حقيبة يدها قائلة ـ"غالباً سيكون بعد عيد الأضحى...أنا في انتظار التحقق من موعد انتهاء العدة لحجز تذكرة السفر".

عقدت (ضحى) حاجبيها وهي تسألها في حيرة ـ"ماذا تقصدين؟"

هزت (سمر) كتفيها وهي تجيبها قائلة ـ"لا أعرف كيف تُحتسب الحيضات الثلاث...هل بداية من الحيض الذي يتبع الطلاق أم من الحيض الذي حدث أثناؤه الطلاق".

وضعت (ضحى) كوبها الورقي على المنضدة أمامها في سرعة واستدارت إلى صديقتها تسألها بانفعال ـ"هل كنت حائضاً حينما طلقك (طارق)"؟

تراجعت (سمر) في جلستها لتسند ظهرها إلى ظهر المقعد وهي تجيب صديقتها بهدوء ـ"نعم...وهذا سبب انفعالي الزائد عليه منذ معرفتي بنتائج التحاليل والأشعة".

ثم ما لبثت أن سألتها باهتمام وهي تقترب بوجهها من صديقتها ـ"لماذا أرى في عينيك انفعالاً مكتوماً؟ ماذا تخفين عني؟"

وضعت (ضحى) كفيها على حجابها الأنيق وهي تعدله فوق رأسها بارتباك قائلة ـ"لا....لا شيء..لقد تذكرت شيئاً".

قفز الاهتمام إلى عيني (سمر) وهي تمسك كف صديقتها في قوة قائلة ـ"ما الذي تذكرته؟ ولماذا أشعر أن له علاقة بي؟ أجيبيني يا (ضحى) بالله عليك".

تلعثمت (ضحى) قليلاً وهي تفرك كفيها بارتباك قائلة ـ" أنا لست واثقة تماماً من المعلومة، ولابد من استشارة رجل دين أولاً".

عقدت (سمر) حاجبيها وهي تسألها بنفاذ صبر ـ"ما هي المعلومة التي قلبت حالك رأساً على عقب؟ أخبريني ربما كنت أعرفها".

هزت (ضحى) رأسها نفياً وهي تقول بضيق ـ"لا أظنك تعرفينها، ولازلنا بحاجة إلى التحقق من مدى صحتها".

ضغطت (سمر) فكيها في غيظ وهي تقول بعصبية ـ"(ضحى)..كفى تلاعباً بأعصابي..هات ما عندك".

تنهدت صديقتها في عمق قبل أن تستغفر ربها بهدوء وتقول ـ"لقد سمعت إحدى معارفي تقول منذ فترة إن طلاقها من زوجها لم يقع لأنها كانت حائضاً".

شحب وجه (سمر) وهي تتراجع مصدومة وتحاول عبثاً العثور على صوتها الضائع لتقول بكلمات متقطعة ـ"م..ماذا تقصدين؟"

ازدردت (ضحى) لعاباً وهمياً وهي تجيب بتردد ـ"أخشى أن طلاقك أنت و(طارق) لم يقع، وأنه لا داعي لهذه العدة".

وكان الذهول المرتسم على ملامح (سمر) في تلك اللحظة أبلغ رد على هذه الصدمة.

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close