
رواية حبيبت عبد الرحمن الفصل الثالث3 والرابع4 بقلم سلوي فاضل
مرت عدة أيام ولم تنسى حبيبة ما حدث، تلاحقها ملامح عبد الرحمن وابتسامته، تشعر بلمسته وتبتسم كلما تذكرتها، لم تفهم إحساسها الذي داهمها حينها، فكرت كثيرًا في معناه ومما شعرت به، دارت بمخيلتها أسئلة كثيرة لم تجد لها إجابة، تمنت لو كانت والدتها معها، همت أن تتحدث مع محمود عما شعرت كثيرًا وتتراجع بكل مرة؛ فقررت جعله سرًا داخلها لا تقصه لأحد، تحلم بتفاصيل ما حدث تتكرر على مسامعها جملته "ما شاء الله تبارك الله خلق فابدع". سألت نفسها مراراً، هل شعر مثلها؟ وهل يتذكرها؟
وكطبيعة الأيام تمر سريعا وضعت بسمة توأمًا، ذكرين واكتملت أخيرًا سعادتها، كانت محمود جوارها
-حمد الله على سلامتك يا بسمة الولاد ما شاء الله زي القمر.
أجابته بوهن:
-الله يسلمك يا حبيبي شوفتهم حلوين إزاي، شبهك.
ابتسمت والدتها بحب:
-يتربوا في عزك يا ابني، هتسموهم أيه؟
-"محمد و أحمد" اسماء الرسول (صلي) واسم بابا الله يرحمه، يارب يكون لهم نصيب من اسمهم يكونوا في اخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام وصفاته، ويكونوا زي بابا في حكمته وتفكيره، أيه رأيك يا بسمة؟
-أكيد موافقة يا حبيبي، ربنا يخليك لهم وأشوفهم زيك في عقلك وحكمتك.
رغم مرور فترة ليست بقصيرة على لقاء عبد الرحمن بها وإنقاذها، إلا أنه لم ينسى تعابير وجهها وحمرة الخجل التي غزته وزادته جمالا، وتمنى أن يعاونه القدر من جديد ليتحدث معها ويراها عن قرب، لم يفكر بسبب شغفه بها أو لم يرد، وكأنه يستبعد أن يحب ويهوى، لم يمل مراقبتها يوميًا، أثناء عودتها ومحمود، مكتفي بتلك الحظات البسيطة لتكون أيكونة يومه، يحلم بها مستيقظًا.
لم يختلف حالها عنه كثيرًا، ولم تستطع كتم ما حل بها، شعرت بحاجة ملحة لأن تتشارك سرها؛ فحكت لصديقتها سما وأخبرتها بما حل بها.
-هو ده اللي حصل .
-بس كده، ومن يومها فاكرة اللي حصل.
-أيوة كأنه حصل من شوية، نفسي أفهم اللي بحسه ده إيه؟ اسمه أيه؟، أكيد لو ماما كانت عايشة كانت فهمتني.
-يكونش ده الحب من أول نظرة، بصراحة مش عارفة، طيب أسأل ماما .
-لأ أوعي يا سما، أنا حكيت لك لأني مش قادرة أسكت هَموت واطلع اللي جوايا، ومش قادرة أتكلم مع محمود .
-خلاص والله مش هقول لها حاجة .
-بس عارفة أنت تقريبا بتتكلمي عن أستاذ عبد الرحمن مدرس اللغة العربية، اللي أعرفه أنه أكبر من محمود أخوكِ شوية، بس ده كبير يا حبيبة، يعني الفرق بينكم كبير قوي .
ابتسمت بوهن:
-مش فارق، أكيد هو مش فاكر حاجة ومش في باله، أنا كمان مش عارفة اللي بحسه ده أيه؟ مشاعر ملغبطة زي البنات اللي بيحبوا ممثل يعني صورة شخص وركبت عيها أي إحساس نفسي أعيشه.
-تفتكرى!! طيب أنت شوفتيه بعدها؟
أومأت نافية؛ فربتت سما على ظهرها ولم تجد قولًا مناسبًا.
أنتهى العام الدراسي قدمت حبيبة أوراقها بكلية التربية وقُبلت بها أرادت بداخلها أن يجمعها به ولو نفس الدراسة، فلم تستطع حجب صورته عن ذاكرتها، ولم تقوى على عدم التفكير به، تحلم بما حدث، يتردد على مسامعها جملتيه، "ما تخافيش أنا معاكي" و "ما شاء الله تبارك الله خلق ففابد"، تسال نفسها دوماً
-يا تري هو حاسس باللي أنا حاسه به؟ ممكن يكون فاكرني لحد دلوقتي! ولا نسيني أول ما التفت عني، يا رب اللي حصل كان من شهور وأنا مش عارفة أنسى وخايفة ومش فاهمة يا رب.
لم ينعم عبد الرحمن برؤيتها كثيرًا، وانقطع الاتصال البصري بها، بعد ان اشترى محمود سيارة تقيهم زحام المواصلات العامة وتعبها، فحرم رؤياها من شرفته، جُن عقله وكاد أن يذهب، فكر بطريقة لرؤياها، خطر بباله زميل قديم يسكن بالقرب منها، وكانت حجة مقبولة ليذهب هناك ربما ناصره القدر ويمكنه من رؤياها.
اعتادت حبيبة القراءة بالشرفة، رقص قلبه فرحًا وخفق بقوة حين رأها وارتاح من عذاب اليومين السابقين وقد عاونه القدر، كرر فعلته كلما أشتاق إليها، ولكنه عدل عنها بعد حين، خوفًا عليها وعلى سمعتها إن لاحظ أحد.
حاول دائما معرفة أخبارها، وعلم التحاقها بكلية التربية، وسعد كثيرًا ومنى نفسه أن تتملكها رغبة مثل التي تملكته وحبسها عن الجميع خصوصا والدته، ولكن عاد وتملكه اليأس، مواجهًا نفسه بما توقعه.
-أكيد يتهيأ لي، دخولها نفس الكلية ما لوش أي معنى وأكيد مش فاكراني؛ فوق يا عبد الرحمن فوق كده وأصحى، حاجات كتير تمنع اللي بتفكر فيه، محمود استحالة يقبل بك، أنت وهو مش بطيقوا بعض من زمان، ولا حتى باللعب، غير فرق السن دول ١٢أو ١٣ سنة، يعني سنين طويلة، وماما آااااه، حافظة وأمنيتها هتعمل فيها كتير وأنا مش هَتحمل يتعمل فيها كده؛ فوق يا عبد الرحمن كل حاجة بتقول ما ينفعش اقرب منها لازم أبعد، أبعد كتير على قد ما أقدر.
مرت أربعة أعوام لم يستطع عبد الرحمن نسيانها، سأل نفسه خلالها هل تبادله إحساسه؟ وإن تقدم لها هل سيقبل محمود؟ أستتركه حافظة يحيا كما يريد؟ يضيق صدره بكل مرة؛ فبحديث العقل النتيجة تقتله، يجيبه عقله بالنفي على جميع ما طرحه من أسئلة.
واجه نفسه وسألها بهذه اللحظة، ماذا يريد هو بحياته؟ أيكمل فعل والده؟ أيمكنه تأديب حبيبة إن جمعه بها القدر؟ أيستطيع ضربها؟ فحقا غريب ما يشعر به، فهو لا يريد وبنفس الوقت، بداخله رغبة تحثه على التجربة، وتذوق تلك الهيمنة، أن يملك حق الحساب والعقاب، رغبة توجهه وتحثه للتجربة، تخبره كحافظة أن تلك هي السعادة، صدم من نفسه وشعر وكأنه شخصين متنافرين.
طوال تلك السنوات تلح حافظة عليه ليتزوج، وما أن أقبل على عامه الثاني والثلاثون باتت تلح بإصرار، لا تقبل التأجيل والتسويف، ضيقت عليه الخناق لا يجد مفر، وكلما فكر بحبيبة تراجع خوفًا عليها من نفسه ومن والدته.
بهذا التوقيت انتقلت إلى مدرسته معلمة جديدة "حسناء" تصغره بعامين، تشبه بملامحها حبيبة وكأنها توأمها، تزيد عنها طولًا محجبة، كلما رآها عبد الرحمن أمعن النظر بها دون شعور منه، يحصي جوانب اختلافها عن حبيبة، ينتبه لفعله حين يرى احمرار وجهها خجلًا؛ فاعتقدت هي إنه أعجب بها، اما هو فنما داخله سؤالًا أيعوضه الشبه عن وجود حبيبة بحياته؟! ومع ضغط والدته قرر الارتباط بها، وحين أخبر والدته عنها رحبت بحفاوة بعد أن علمت ظروفها وانها يتيمة الأب.
-وبعدين يا عبد الرحمن، أنت لازم تتجوز، العمر بيجري أنت مش صغير عندك ٣٢ سنة هتتجوز امتي؟ وتخلف امتى؟
تحدث وهو شبه شارد لا يعلم ما سيفعله خطأ أم لا:
-في عروسة بفكر اتقدم لها، ومتردد.
-بردوا مش أي عروسة تنفع، قولي متردد ليه؟ وهي مين؟
-زميلتي في المدرسة، اتنقلت قريب أصغر مني بسنتين.
-يعني ٣٠ سنة وما اتجوزتش لحد دلوقتي، ليه كده؟ دي فاتها قطر الجواز تقريبًا.
-سألت وعرفت أنها يتيمة الأب، وأمها ربة منزل ومعاش والدها بسيط، ملاليم، وده اللي أخر جوازها لأنها مش هتقدر تجهز نفسها.
ابتسمت باتساع فها هي وجدت ضالتها:
-عادي يا عبد الرحمن الفقر وضيق الحال مش عيب، خد عنوانها وحدد معاد مع أمها نروح نخطبها، والجواز على طول كفاية تضييع وقت.
لم يكن ترحيب حافظة ودفاعها من جانب إنساني؛ ولكن ما علمت عنها سيكسرها، ويجعلها تقبل ما تريد مرغمة، أما عبد الرحمن فظن ان ما يجذبه لحبيبة هو هيئتها وها هو وجد شبيهتها، وتقبل بكل ما يريد، ورغم ذلك حدثه قلبه بخطأ ما يقدم عليه؛ ولكن في ظل ترحيب حافظة لم يستطع التراجع، أصرت والدته الإسراع بإتمام الزواج، وكل ما سيطر عليها دورها المرتقب الذي حلمت به كثيرًا، أن تلبس ثوب حماتها وأن تكن المحفزة لتأديب زوجة ابنها، ولن تجد أفضل من حسناء بظروفها لتتقبل ما تنوي دون أن تجد من يؤازرها.
كانت حبيبة حينها بعامها الأخير بكليتها وتزامن زواج عبد الرحمن بأزمة والد سما الصحية، وتأخرت حالته وتدهورها؛ فأعادت لها ذكريات فقد والديها وأصبحت في قلق مستمر ان تفقد صديقتها والدها؛ فدخلت بحالة اكتئاب، ووصلت لأقصى حدتها حين علمت بخطبة عبد الرحمن، وقرب إتمام زواجه، لم تعد تقوى على المذاكرة، وثقلت حركتها، لا تقوى على مواصلة واستئناف حياتها، تذهب للكلية مضطرة، كي لا تزعج محمود، وتتغيب عنها كلما وجدت سبب مقنع.
تحيا بلا روح أو حياة، حتى حدث ما ألم قلبها وأحيا ذكريات الفقد ووجعه، ففي أحد الأيام تأخرت سما عن محاضراتها وانقبض قلب حبيبة؛ فاتصلت بها لتطمئن على والدها، واخبرها صوت بكاء سما واصوات العويل، بأن الفراق حان وأصبح واقعا، مات والد صديقتها والذي كانت تراه كوالدها، تجددت ألآم الفراق وحدته.
عادت من الجامعة مسرعة، لتكون بعون صديقتها، والأصعب من تجدد ذكريات الألم هو معايشة ألم جديد قاتل؛ فاليوم موعد حفل زفاف عبد الرحمن، وتم تعليق الزينة والأنوار، شعرت بوخز بقلبها وألم كاد ان يمزقها بمرورها أمام بيته.
وقف عبد الرحمن من يشرف على التجهيزات غافلًا عن تواجدها بالقرب، تعاظم توترها وألمها فتعثرت بمشيتها كادت أن تقع مرات عدة، تصارعت دقات قلبها حزنًا لحظ مرورها بمركز الحفل المنتظر، التفت ساقيها ولم تتمكن من حفط توازنها، أوشكت السقوط لولا أن استند جسدها على من جاورها يواليها ظهره، اصطدمت به فالتف كلاهما للآخر، هو متعجبًا، وهي لتعتذر، صدم كليهما، التقت الأعين وتحدثت، ساد الصمت داخليهما رغم الضوضاء المحيطة بهما، تبادلا النظرات هي بعتاب وهو بأسف، لحظة وقف بها الزمن ناعيًا قلبيهما، تدارك هو الموقف سريعًا، سألها بصوت ضعيف واهن
-أنت كويسة؟
تحدثت دموعها عنها، لم تتمكن من حبسها؛ ففاضت وسالت على وجهها، أومأت له مطئنة إياه بعكس ما بداخلها،
شعر بألم ينحر قلبه واسترسل متسائلًا:
-ليه الدموع دي بس؟
أدارت وجهها بعيداً عنه، وحاولت التحكم بدموعها وحبسهم، أسرعت تجمع ما سقط منها لتهرب من قربه.
فتحدث متألمًا يدور بعقله سؤال عذبه، أتعجل بفعله؟
-طاب خليني أساعدك؟
لم تجيبه نفذت طاقتها كاملة، اكتفت بالصمت، أما هو فجمع كتبها وعينه معلقه عليها يتألم من أجلها.
احترق قلب حبيبة حزنًا، لم تتوقع رؤياه ولم تكن مستعدة للقاء، كانت بأضعف أحوالها، يومها عصيبًا صفعتها الحياه مرتين بقسوة شديدة، أما عبد الرحمن فلم يكن أحسن حال منها، فرؤيته لها و لدموعها أكدت له أنه أخطأ في حقيهما، فكر بألا يتمم زواجه وتراجع؛ فزفافه اليوم وما ذنب حسناء، هو لم يُريد أذيتها ولا حيلة له سوى إتمام الزواج، وكأن القدر يعانده؛ فتأكد اليوم فقط أنها تتذكره، لم تنساه نظراتها اخبرته بما تكنه له بصمت، إحساس لم يعلم له مُسمى ولم يتوقعه يوما.
تناسي كل المعوقات التي تمنعه عن أمنيته الوحيدة وحلمه الذى اقتحمه بدون مقدمات، واختذلها فقط بحسناء، ترجم عقله أنها العائق الوحيد فان كان سابقًا يوجد احتمال أن يرفضه محمود فالآن مؤكدًا سيرفضه، فسواء استمر معها أو طلقها، لن يقبل به، هي سبب أساسي لرفضه؛ فبدأ حياته معها وهو يراها خطاءه الوحيد أو جريمته التي لا تغتفر، تملكه شعور قوي بالغضب منها، كان قاسيًا معها من اليوم الأول يطاوع والدته فيما تريد، أما حسناء فارتضت بما قُسم لها.
طوال الزفافها وهو شارد، أحيانًا ينظر لحسناء بغضب اخفق في اخفائه، وأحيانًا ينظر لها بعشق وبسمته تنير وجهه، لم تفهم انفعلاته، ولم تحاول التفكير بالأمر أو حتى السؤال.
انتهى الحفل وانفض المدعوين، صعدا للمنزل، اغلق الباب خلفه طالعها بتيه، واتجه لغرفته تاركها خلفه؛ فتبعته بصمت وتوتر احتال وجهها للون الأحمر، لا تعلم ما عليها فعله، والها ظهره وعقله وقلبه لا يرحماه أبدًا، اخذ نفسٍ عميقٍ ثم حسم أمره، وشق بكلمات الصمت.
-خدي راحتك وغيري هدومك، هَاتنظر بره لحد ما تخلصي.
خرج عقب انهاء كلماته، بالأصح لاذ بالفرار مؤقتًا، وبالنهاية عاد إليها مضطرًا غير راغب، فقط ليمر اليوم كالمعتاد فقد حُسم الأمر وأنتهى، وعليه تقبل الواقع وتحمل نتيجة تسرعه.
ارتدت الملابس ما اعدتها والدتها لها، بيجامة حريرية ذات روب قصير وبنطال، تجوب الغرفة ذهاباً وإيابا بتوتر، توقفت محلها بدخوله تطالعه بصمت وترقب، حاول عدم النظر إليها، بدل ملابسه ثم اقترب منها امعن النظر بعينيها يبحث عن ضالته، ثم اخذ بعض خصلات شعرها القصيرة بين أنامله آمرًا.
-ما تقصيش شعرك تاني، عايزه طويل طويل قوى.
أومأت بصمت، مر اليوم وأنتهي وبالصباح التالي بدأت حافظة خطتها متعجلة؛ فبدلًا من ان تذهب إليهم مباركة اتصلت به بادعاء.
-السلام عليكم، صباحية مباركة يا عبد الرحمن.
رد برتابة، شاعرًا بالندم:
-الله يبارك فيكي يا امي.
-معلش، أنا مش هاقدر أجي، رجلي وجعاني قوي تقريبا من مجهود إمبارح، لو ما كنتش عريس كنت قولت لك تعالي أنت.
-لا امي هاجي طبعًا، تحبي أجيب لك دكتور؟ أنت تعبانة قوي نروح المستشفى؟
ابتسمت بانتصار، تعلمه جيدًا ووصلت لغايتها:
-لأ مش للدرجة دي، أنا مش بحب المستشفيات أنت عارف، هرتاح شوية وأبقى كويسة.
-خلاص أنا هاجي على نص اليوم كده، أكيد والدتها جاية النهاردة.
تقمصت بشخصيتها الأخرى، أو بالأحرى شخصية زوجها عبد الرحيم، وتحدثت بتنبيه وأمر:
-ما تخليش أمها تاخد على البيت، الزيارات بحدود ما تخليش البيت مفتوح في أي وقت، النهاردة عشان الصباحية وعروسة، غير كده تفهم المحروسة أنها لازم تستاذن قبل ما تيجي، وكل أسبوعين تلاتة قول شهر مرة.
-ربنا يسهل، سلام.
استطاعت حافظة فرض سيطرتها من اليوم الأول -ورحب بها عبد الرحمن دون اعتراض- بدايةً من اختيار أثاث منزل ابنها بالكامل وترتيبه على هوها، وحتى استقبالها لحسناء بفتور مبالغ به، بالوقت نفسه استقبلت بعبد الرحمن بحفاوةٍ مبالغ بها، لاحظت حسناء ولم تعقب ومر اليوم برتابة كحياته.
وباليوم التالي اتصلت حافظة ودعت ابنها لقضاء اليوم معها، لاقى عرضها قبول عبد الرحمن، ذهبا إليها بجلسة مملة، وبدأت حافظة تخط بكلماتها سطورها الأولى لقلب حياة حسناء، وتحويلها لكابوس تعايشه بأرض الواقع، وبطلب تقليدي بدأت خطتها، فطلبت منها اعداد بعض الشاي الساخن؛ ففعلت حسناء وبدأت توزيعه، وكانت جريمتها مناولة عبد الرحمن كوبه أولًا، فعنفتها حافظة بالقول دون مراعاة.
-ما حدش علمك تقدمي للكبير الأول، في حاجة اسمها أصول.
ارتبكت حسناء لم تتوقع رد فعل حافظة؛ فنظرت لعبد الرحمن طالبة العون بمقلتيها:
-معلش يا أمي حصل خير، أبقي خدي بالك المرة الجاية يا حسناء.
بفظاظة وعجرفته استرسلت:
-هاتي، هاتي.
ارتشفت القليل وامتعضت تعابيرها، ثم تحدثت باشمئزاز :
-أيه القرف ده!
- وحش!
-مش عارفة تعملي شوية شاي، مر قوي روحي حطي سكر.
نهضت محاولة اخفاء حبات دموعها الممزوجة بانكسارها من صمت زوجها، وبعد اختفائها بالداخل تحدث عبد الرحمن بخفوت، كي لا تصلها كلماته:
-بالراحة يا أمي، مش كده دي عروسة بقالها يومين.
-لا سيبني بقى؛ عشان أدبح لها القطة من أولها، الستات يحبوا الشدة مش الراحة.
أتت حسناء وقد زادت السكر وناولت الكوب لحافظة دون حديث محاولة رسم ابتسامة زائفة على وجهها، فارتشفت حافظة القليل ثم ألقت ما في الكوب بوجه حسناء.
-بارد وسكر زيادة وخفيف قرف.
انفعلت حسناء مشفقة على نفسها:
-حرام عليكِ، ليه كده؟! منك لله.
وصلت حافظة لمرادها، أخطأت حسناء فنظرت لعبد الرحمن:
-مراتك غلطت في أمك، وفي حضورك، بتدعي عليا لو سكت يحق لها تعمل أكتر من كده.
غضب عبد الرحمن، لا يعلم أغضب مما حدث الآن أم من زواجه منها، فصرخ بها بهنف مبالغ به:
-أدخلي الأوضة.
ارتجفت من صراخه ونبرته الحادة، هيئته التي تراها للمرة الأولى، أسرعت للغرفة تحتمي بها، لا تدري بما هي مقبله عليه، نظرت له حافظة وحدثته بصوت تأكدت من وصوله لحسناء
-غلطها كبير لازم عقابها يكون زيه، افتكر أبوك كان بيعمل أيه واعمله.
تحركت للمقعد القريب وأخرجت من أسفل قاعدته حزام يعلمه هو جيدًا، طالما ذاق مرارته ولسعاته، أعطته له بصمت ونظرت له محفزة، دخل إليها و بأذنه كلمات والدته، لا يحب أن يفعل، لا يدرى لما تذكر أنها سبباً لبعده عمن تمنى وحلم، ربما هي تلك الشخصية الكامنة داخله التي يحاول تجاهلها، وكفت رغبته لتذوق هيمنة والده، وما زاد الوضع سوء قول حسناء وكلماتها
-هي مش طايقاني وبتتلكك، شتمتني و دلقت عليا الشاي، مستفزة ومتسلطة هي السبب.
كانت تتراجع للخلف، توزع نظراتها بينه وبين الاداة بيده، حتى التصقت بالحائط.
-أبعد عني اللي فأيدك ده.
بكلماتها تلك اختفت شخصيته الباسمة، وطفت الأخرى تذكر فعل زميله الذي ورطه بالسابق، واستقر بداخله يفعل بها ما عوقب عليه سابقًا دون فعله، وهلى طريقة والده.
-يعني بدل ما تعتذري بتكملي.
نظر إليها بحدة وزادت نبرت صوته غلظة:
-أقلعي.
-لأ.
ازاد غضبه وتضاعف، تحكمت شخصيته الأخرى بزمام الأمر، أقترب منها ونزع ملابسها بقوة ثم ألقاها على وجهها تتوسط الفراش، بدأ بتسديد ضرباته قاصدا جزئها السفلي، تصلب جسدها تنتفض مع كل ضربه، ضرباته تؤلم جسدها، وتقتل كبرائها وتشوه روحها، جاهدت لإخفاء ألمها والتحمل؛ لتحفظ ماء وجهها ولا تعلم متي سيتوقف.
استمر بتسديد ضرباته، مرة تلو الأخرى تتوالى لسعات حزامه، تألمت روحها كجسدها فلم تُضْرب منذ الطفولة، ولم تعاقب بمثل هذه الطريقة أبدًا، اقتربت من الانهيار ولا زال مستمرًا، فلجأت للصراخ تسيل الدموع على وجهها تحاول كتم شهقاتها، غير قادرة على وقف تأوهاتها.
-كفاية كفاية.
حاولت الصمود ولكن نفذت قوتها، فلجأت للإعتذار:
-خلاص، أنا أسفة .. أسفة مش حعمل كده تاني،
أخيرًا توقف، ألقى الحزام أرضا سكنت شخصية والده أعماقه من جديد، وزع نظراته بين يده وبينها، وجدها تدفن وجهها بالفراش تكتم صوت بكائها، صُدم مِن نفسه ومِن فعله، لم يرؤف بها أو ببكائها أو حتى كونها عروس باليوم الثاني من الزفاف، استاء من كل ما حدث، خاب ظنه بنفسه فطالما أقنع نفسه أنه يختلف عن والده.
بما حدث كُسِرت حسناء، ودخل عبد الرحمن بدوامة لا يعرف متى وكيف تنتهي، أما حافظة فهي فقط من شعرت بالسعادة تغمرها، ونشوة شديدة لم تجربها من قبل، فهي الرابحة الوحيدة.
قضيا معظم اوقاتهما ببيت حافظة، يقيمان معها يزعم كبر سنها وحاجتها لكن يعاونها، وان عبد الرحمن ابنها الوحيد.
اعتادت حافظة اختلاق المشاكل وتفننت بها؛ ليكون مصير حسناء هو التعنيف الذي يتحدد مقداره حسب قوة المشكلة المفتعلة وقدرة تحملها، توبخ بسبب وبدون، أما عبد الرحمن فاعتاد الجلوس بشرفته كلما ذهب يدق قلبه ويسعد إن حالفه الحظ ومرت اثناء جلوسه.
وقفت حسناء أمام منضدة جانبية صغيرة ببيت حافظة، وكان عليها زهرية صغيرة خالية، جافة كحياتهم شردت حافظة وعادت إلى الماضي ببيت حماتها والدت عبد الرحيم، متذكرة إجبار عبد الرحيم لها للذهاب وتنظيف منزل والدته، ففعلت مرغمة تشتعل داخلها نار الحقد، واثناء قيامها بذلك وقفت أمام منضدة مماثلة يعلوها زهرية موضوع بها بعض الزهور، فحدثتها حماتها آمرة.
-شيلي الزهرية لمعيها كويس وبالراحة لتقع تتكسر.
لم تكد تكمل فأخذت حافظة الزهرية، وألقتها بطول ذراعها أرضا متعمدة فكسرت.
-عملتي أيه؟! والله لأقول لجوزك زمانه جاي.
تزامن قولها مع دخول عبد الرحيم، أقبل على والدته مقبلًا ظهر كفها:
-أزيك يا امي، صوتك عالي ليه؟ حافظة مزعلاكي ولا أيه؟
-الحمد لله، عادي ولا يهمك .
انتبه لما كُسر:
-أيه ده يا أمي الزهرية انكسرت؟ كنت بتحبيها قوي.
تحدثت ناظرة تجاه حافظة:
-عمرها بقى.
-أعملي نفسك طيبة، لا أنا كسرتها وقصد.
-تأدبي يا حافظة، أنت بتكلمي أمي.
-من الصبح واقفة انضف وألمع وهي قاعدة مكانها، لا بتساعدني ولا حتى ساكته وكل شوية أعملي شاي، أعملي فطار، أعملي غدا.
-لا بقى تعالي، واضح أنك محتاجة تتأدبي فعلًا.
نهض جاذبًا إياها من ذراعها تحرك بها لغرفته ثم أخذ حزامه وبدأ بعقابها وتعالي صراخها.
عادت حافظة لحاضرها، نظرت لحسناء الممسكة بالزهرية تتفحصها بشرود، أملًا بمرور الوقت الرتيب، ثم عزمت وصرخت باسم حسناء افزعتها؛ فانتفضت حسناء ودفعت بالزهرية فاسقطتها.
جالس هو بالشرفة كعادته ، يشاهد الطريق أملًا بمرورها، أفاق من حالته على صوتيهما، والدته معترضة معنفة، وحسناء مدافعة.
-ليه كده؟!
-مش قصدي، غصب عني والله.
دخل عليهما مستاءً متسائلًا:
-في أيه تاني؟
-مراتك وقعت الزهرية قصد، مش عارفة ليه؟ اخدتها حدفتها على الأرض.
ردت بوجه شاحب وصوت مهزوز-بتكذب والله.
-بتكذب!
جذبها من ذراعها بقوة:
-إياكِ تقولي كدة تاني!
تألمت من قبضته وتحدثت بطاعة:
-حاضر، والله غصب عني، سيب ايدي وجعتني، والله غصب عني.
تركها والقى على مسامعها الجملة التي تسبق عقابها دومًا:
-أدخلي الأوضة.
تحركت وبعينيها الدموع تعلم ما سيحدث لها بالداخل، وتحدث بضجر من السيناريو المعتاد والذي يقتله بالبطيء.
-كفاية يا أمي، مش كل مرة أجي لازم تروح مضروبة، كفاية.
-يعني تتهمني بالكذب وتسكت.
-مش حاسكت ومش هَاضربها.
دخل إليها غاضب ناقم على حياته معها، لا يريدها ولا يريد تلك الحياة؛ بتلك المرة لم تعاند أو تتحدث بما يستفزه، فقط نظرت إليه ودموعها تتساقط على وجنتها بصمت، حالتها تلك جسدتها أمامه بصورة حبيبته، كيوم زفافه ففعل معها ما تمنى أن يفعل يومها، ضمها لصدره بحب واحتواء، ولأول مرة تشعر حسناء بحنانه فشددت من ضمه، وتشبثت به مطلقه العنان لآنينها وآهاتها، لكن قتلها قوله الذي لم يقل قسوة عن ضرباته وجلداته.
-أنا اسف حقك عليَّا، وحشتيني قوي يا حبيبة.
تعالت شهقاتها ولم تبتعد فهي بأكثر الأوقات هشاشة وضعفًا، بأشد الأوقات احتياجًا للحنان وإن قصد به أخرى.
الفصل الرابع
الاهانة هي كل ما تلقته حسناء وبشتى الصور، حتى المرات القليلة التي عاملها بها عبد الرحمن بحب وحنان متخيلها حبيبته، سدد إهاناته لها كامرأة، لم تشتكِ لوالدتها قط، رغم سؤالها الدائم لها، ففي أحد المرات اتصلت بعد عودتهم من بيت حافظة مباشرة، ولتوها متذوقة مرارة الاهانة ولسعات حارقة لن تمكنها من الجلوس لفترة، أجابها عبد الرحمن.
-السلام عليكم.
-وعليكم السلام يا ابني إزيك؟ معلش قلقتكوا بس عايزة أطمن عليكم، أنتم كويسين؟
أجاب باقتضاب، وأسرع بترك حرية الحديث لحسناء:
-كويسين الحمد لله، حسناء معاكي.
أعطاها سماعة الهاتف الأرضي وتركها ودخل الغرفة، تمنى ان تشتكي لولدتها ضربه لها منذ قليل، تمنى أن تعترض لتترك حياته وتمضي؛ لكنها لم تفعل ولا يدرى لما؟! لم يهتم بالسبب ولكن ازداد غضبه منها.
بالخارج أجابت حسناء على والدتها
-إزيك يا ماما، وحشتيني قوي .
-أنت كمان يا بنتي، طمنيني عليكِ أنا قلبي واكلني وقلقانة قوي، مش عارفة ليه وكل ما أغمض عيني أشوفك بتعيطي.
اجابتها بصوت مختنق ودموع حبيسة:
-أنا كويسة يا ماما، عادي يعني.
-متأكدة، طيب صوتك ماله أنت تعبانة؟ حاجة مضايقاكي؟ طاب عبد الرحمن بيعاملك كويس، من وقت ما اتجوزتي عمرك ما قولتي لي مبسوطة ولا لأ، ولا اتكلمتي عن جوزك بحلو أو وحش.
-الحمد لله يا ماما، ما تشغليش بالك أنا كويسة، لسه راجعة من عند حماتي وكنت واقفة معاها، أنت عارفة أنها ست كبيرة.
-ربنا يقدرك على فعل الخير يا بنتي، كله قاعد لك يا حبيبتي بكرة تكبري وأولادك يساعدوكِ، ربنا يكتب لك كل خير يا حبيبتي.
انتهت حسناء وعلي وجهها بسمة تهكم ساخرة، دخلت الغرفة فرأت الغضب يتراقص بأعين عبد الرحمن، لم تدرك أن غضبه من حديثها مع والدتها، ظنت أن عقابها لم ينتهِ، ارتجفت لدرجة أنها خشت خلع ملابسها أمامه؛ فيجذبها عارية ويكمل فعله كما يفعل دائما؛ فأخذت ملابسها واسرعت الي الحمام لتبدلها.
دخلت للفراش ووالته ظهرها، وضمت نفسها انسابت دموعها ترثي حالها بصمت، أما عبد الرحمن فلم يستطع النوم يشغل باله لما تكذب على والدتها وتخفي الأمر عنها، هو متأكد أنها لا تحبه وبعد ما يحدث معها بالتأكيد تكرهه وتبغضه، هل هي كوالدته تحب تعنيفه لها؟ تلك الفكرة أثارت جنونه، هل ما يفعله يروقها؟ هل فعلًا صح قول والدته؟ ألا يكفي أنها أرته بنفسه أسوأ ما فيه؟! ما لم يتوقعه يوماً، هل سيعيش كوالده لنهاية عمره، تلك الفكرة اسكنت الحزن والجنون بأعماقه فتوعد لها بالكثير.
أصبح الضرب سمة شبه يومية، يعاملها كما كان يفعل والده معه، ولكنها لم تستطع التحمل بصمت مثله، بعد بضعة لسعات تبدأ بالصراخ ثم الإعتذار الذي لم يعد مُجديًا؛ فتبدأ بالتوسل والرجاء، ولكنه لم يتوقف إلا حين يخرج شحنة غضبه منها كاملة، اعتاد الجيران سماع صوت صراخها وتوسلها له المشابة لإعتذار الأطفال، ولم تعد تقوي على النظر لهم من شدة إحراجها، بات انكسارها على مسمع الجميع.
والدتها مُقِلة بزيارتها لتمنحهم بعض الخصوصية، وحسب تعليمات حافظة لتتجمب الخلافات ولاتفسد حياة ابنتها الوحيدة، وبكل مرة تذهب إليهما تتصل حافظة بعد فترة بسيطة وتتدعي التعب فترحل ويسرعان إليها.
بعد مرور حوالي شهران على زواجهما، عادا من عملهما وهو بقمة غضبه، وهي بجانبه ترتجف تعسرت مرات عدة، اثناء صعودها الدرج ولم يبالي، وما ان خطا داخل البيت صرخ بصوته كاملًا:
-ممكن أفهم أيه اللي حصل ده؟
بصوت مرتعش متحشرج أجابت:
-هو أيه؟ مش عارفة!
نظر لها بحدة مضيقًا عينيه:
-مش عارفة!!!
بنبرة مرتعبة أشبه للرجاء أجابت:
-والله مش عارفة.
بحسم ونبرة حادة غليظة استرسل:
-أدخلي طلعي الحزام واجهزي، هعرفك بطريقتي .
امتزج البكاء مع كلماتها، فجسدها لم يطب بعد، تلقت من يومين ضرب مؤلم لمدة طويلة وكانت النتيجة تغيبها من العمل ووضع أدوية كثيرة لتتمكن فقط من الجلوس وهي تخفي ألمها.
-والله مش هعمل اللي زعلك تاني، قولي بس وأنا والله مش قصدي، بالله بلاش الحزام.
رجائها بتلك الطريقه يستدعي شخصيته الأخرى ويزيد الصراع داخله؛ فيزيد من غضبه، صرخ بوجهها:
-مش عايز حرف زيادة، كل حاجة هتنطقي بها هتزود اللي هيحصل فاسكتي افضل.
حسم الأمر وأنتهى وعليها الصمت، تعلم جديته بهذا الوقت، دخلت الغرفة ممتثله لأمره لم تتوقف دموعها، أما هو كان بقمة غضبه خشى مما قد يحدث، هي توقظ كل ما هو سيئ داخله، لم يعد شبهها بحبيبه يجدي نفعا سوي بلحظات قليلة، وهي صامته ومستسلمة والأغلب بالمساء بجوف الليل بالاوقات الحميمية وفيها يناديها "حبيبة".
غسل وجهه حاول تمالك نفسه قليلًا أنتفضت مع ظهوره، وازداد ارتجافها ثبت نظره عليها فاخفضت ناظريها تحاول تهدأت ذاتها.
-هاتي الحزام.
نفذت فأشاربعينهيه لتستلقي على الفراش، فعلت برعب بدء يسدد لها الضربات وهو يقص عليها خطأها
-لما تقفي تضحكي مع زمايلنا، وصوتك جايب المدرسة كلها اسميها أيه، أنت فاكرة أيه يا هانم، من هنا ورايح مدرسة مفيش، أخر يوم ليكِ بكرة، وبعد كدة تقعدي في البيت مكانك بيتك فاهمة.
مع كل كلمة يهوى بحزامه على جسدها وكل ضربه أشد مما قبلها، تأوهت بشدة، وتألمت بصوت مسموع.
-آه والله مش قصدي، طب مش هعمل كده تاني، أسفة خلاص مش قادرة، حرمت حرمت، بلاش أقعد في البيت والله مش هقف معاهم ولا هتكلم غير في الشغل.
إجابها بضربات شديدة عنيفة ومكثفة حاولت حماية جسدها بيدها فنالت عدة ضربات متفرقة على يديها وجسدها فبعدتهم، تحرك جسدها بعنف من قسوة ما تتلقي ولأول مرة تنطق اسمه برجاء.
-بالله يا عبد الرحمن جسمي التهب، وربنا هسمع الكلام حرمت، مش هخرج من البيت، هعمل اللي عايزه، خلاص بالله عليك.
ألقى حزامه عليها وتركها غادر المنزل بالكامل، يشعر بالضيق والسخط من نفسه، ليست تلك الشخصية التي يريدها ليست تلك الحياة التي يتمناها، جانب منه يلوم والدته التي تعزز هذا السواد داخله، وأخر يعذرها فتلك الحياة التي عاشتها واعتقدت انها مثاليه.
وبالنهاية صارح نفسه ناقمًا عليها وساخطًا:
-أنا اللي اخترت أبقى كده، أمي وحسناء أسباب، لو أمي معذورة وفاهمة أن ده العادي، أنا أيه؟ أنا متعلم وفاهم؛ بس حسناء وطريقتها حسستني أن ده العادي، كنت عايز أوريها أن ده غلط بدوس عليها كل يوم أكتر من اللي قبله، وايه النتيجة؟! بقيت أسوأ من عبد الرحيم، كل اللي كان بيعمله معايا ومع أمي ولا حاجة جنب اللي أنا بعمله، عمره ما ضربني بالكمية دي، عمره ما ضربني إلا أما أغلط فعلًا، على قد الغلط؛ لكن أنا.. أنا حيوان وهمجي.
أغمض عينيه بألم:
-لأ مش هافضل كده، لازم أرجع بني آدم تاني، لازم أحاول أكيد مش هافضل حيوان للنهاية، يارب أنت القادر عارف إني غلطان وكرهت نفسي، سامحني قويني وقدرني أرجع تاني انسان، يا رب مش عايز أفضل كده، يا رب ساعدني أو خدني على الأقل ما أظلمش تاني واستقوي عليها، يارب الرحمة من عندك.
اتخذ قرارًا سوف يحارب لتنفيذه لن يظل حيوانًا للنهاية، سيعيد الشخصية العنيفة للأعماق، سيحاول اخمادها وإبعادها عن حياته، منحه قراره بعض الراحة، عاد للبيت على عكس ما تركه، يبدو عليه الهم والحزن.
أما حسناء فكانت بالغرفة دموعها لم تجف بعد، لا تستطع الجلوس تستلقي على وجهها مرة -أصبحت تكره تلك الوضعية- وعلى جانبها مرة ما أن شعرت به عاد انتفضت واقفة، لم تعد تطيق النظر بوجهه، أرادت إبعاد مقلتيها عنه، خشت أن تنظر لجهه أخرى أثناء محادثته؛ فيعاود ضَربها لذا اخفضت وجهها ودموعها تفيض بسخاء:
-هاخذ إجازة سنة، بدل ما أقدم استقالة.
نظر لهيئتها المرتعبة ولم يعقب، اكتفى بإماءة، لم تسمع ردًا فتوقعت غضبه مرة أخرى، رفعت وجهها بذعر هدأ حين طالعته، رأت انكساره واضحًا، لم تهتم، وأدرك هو عدم معرفتها لموافقته ولم يرد النقاش فأجاب باختصار شديد.
-قدمي الطلب وأنا هكمل لك الإجراءات.
أبدل ملابسه وجلس بالشرفة ظل بها حتى اقتحمه النوم، أما هي فشعرت بسعادة جراء حالته، تدعو الله داخلها أن ينتقم منه وأن يزيد ألمه ومعَاناته، تملكها إحساسها بالقهر لما يفعله بها، والذي ختمه بإرغامها على ترك العمل، ورغم رفضها للفكرة إلا أنها رحبت بجانبها الآخر وهو الابتعاد عنه وعدم رؤيته والتعامل معه لفترة، تستطيع أن تستنشق هواء نقي بعيدًا عنه وعن قهره وجبروته.
لاذ بالصمت وتجنب الحوار، اتخذ كل منهم مجلس بعيدًا عن الأخر، زادها بعده جرأة ترغب في إيلامه بأى طريقة وإن كانت بضع كلمات، تحتد بالحوار تقذفه بالكلمات تدعو عليه جهرًا، بالبداية لم يستطع منع نفسه عن تعنيفها.
باليوم الرابع لقراره، وقبل ذهابه للعمل، وضعت حسناء طعام الإفطار على المنضدة وجلست بصمت ولم تتناول معه الطعام، تجاهلها تمامًا كي لا يحدث صدام، يمنع نفسه عنها بكل طاقته، ولكن لمذاق الطعام رأي أخر؛ فالبعض مالح والبعض فاسد، تنفس بعمق وتحدث:
-الأكل في حاجة، زي ما يكون بايظ.
وبقوة مزيفة اكتسبتها خلال أيام لا تتجاوز أسبوع أجابت:
-أيه المشكلة، بالسم الهارى.
ضرب المنضدة بعنف وكأنها اشتاقت للألم والإهانة، حاول تهدئة نفسه لا يريد ايقاظ الوحش الثائر الكامن داخله، رغم ارتجافها لغضبه إلا أنها لم تتراجع حين لاحظت صراعه، تريد الضغط عليه ورؤية معَاناته، نهض وتحرك ليغادر، يعلم ان زاد دقيقة أخرى نفذت قوة تحمله وعاد لفعله، لكنها لم تصمت والق على مسامعه ما حسم صراعه وأخرج وحشه الذي اصبح ثائر.
-يا رب تغور ما ترجع تاني، حسبي الله ونعم الوكيل.
فتح باب المنزل وكاد أن يخطو خارجه؛ فاعاده دعائها، أغلق الباب بقوة رجت أرجاء المنزل، ارتجفت وشحب وجهها، تيقنت من تذوقها الألم، أرادت إيلامه وهي من سيتألم الآن، بدأت تتراجع للخلف مع تقدمه البطيء وكلماته التي تلت حركته.
-أنا ماسك نفسي عنك بالعافية بس واضح إنك حابة اللي بيحصل واشتقتي له صح تعالي أفكرك عملي.
اقترب منها وامسك ذراعها بعنف وسحبها للغرفة، لم تصمت أو تتراجع، وسارت على دربها لاستفزازه.
-أبعد عني أنا مش طايقاك حسبي الله ونعم الوكيل فيك.
لطمها بقوة عدة لطمات أذابت وجهها؛ فوضعت يديها أمام وجهها تحميه؛ فدفعها على الفراش خلع حزامه وانهال به على جسدها، لم يهتم بنزع ملابسها هذه المرة، كانت جلدات حزامه قوية متناثرة على كافة جسدها ولم يفق من حالته إلا حين أخرج ما حبسه داخله طوال الأيام السابقة، وحينها نهشه الندم من جديد ليس من أجلها ولكن لما آل إليه و وحشيته التي طفت وتصدمه يوما بعد يوم.
عدة ايام مضت وهم على منوال حياتهم، هو يتجنبها قدر المستطاع وهي تستجمع شجاعتها كل حين وترميه بكلمات مسمومة تجاهر بدعائها عليه، وهو يكبح زمام غضبه وإن تفاقم للذروة نالت من لسعات حزامه الكثير.
كره العودة للبيت، فيرجع بأوقات متأخرة، لا يرافق زوجته حين يذهب لوالدته، رغم تذمر حافظة واشتياقها لسماع صراخ حسناء وتألمها كما تألمت هي بالسابق.
حين أيقنت عدم رضوخ عبد الرحمن لها ذهبت إليهما، وضعت الكثير من الخطط حتى نالت مرادها مستمعة لصراخ الأخرى ولم تهتز لسماع دعاء حسناء على ابنها، بل غمرتها الراحة والسكينة مع كل صرخة.
هي أرادت حياتها عادية لم تطمع بالحب؛ ولكن طمعت في المودة والرحمة، فلم يدور بذهنها أو تتخيل أن الشخص الذي طالما رأته مبتسمًا بشوشًا متدين يتمنع بكل تلك القسوة وهذا التناقض؛ فهو لا يتعامل معها بلطف إلا حين يراها حبيبته السابقة، ويناديها باسمها مما يزيدها بغضا له، وإن حالفها الحظ ونظر لعينيها أثناء تعنيفها ورأى حبيبته داخلهما؛ فيتوقف على الفور يضمها بين ذراعيه بحنان وحماية معتذرًا منها.
سئم عبد الرحمن من حياته؛ فكلما عاد للمنزل رأي نظرات الكره بعينيها جلية، يشعر ببغض شديد من نفسه، أما حسناء فضاقت بها الدنيا وتحملت الكثير كي لا تلقب بمطلقة؛ فالناس لا ترحم المطلقات خشت إن تطلقت عانت من الناس وحديثهم فهم يتركون المجال لخيالاتهم وظنونهم ويرون المرأة دائما مذنبة وإن كانت الحقيقة خلاف ذلك، فاق الامر طاقتها استنفذت كامل طاقتها، ضغطت على أعصابها لدرجة أرهقتها، ذاب جسدها من وقع ما تتلقى من جلدات، وجهها مما بات يتلقى من صفعات؛ فمؤخرًا أختزِل عـقابها لعدة صفعات ثم يتركها مغادرًا البيت باكمله، ترتعش بوجوده وإن ابتعد، تصرخ كلما مر جانبها، أحيانًا يشفق عليها.
لم ترضى حافظة لمحاولات عبد الرحمن في السيطرة على غضبه؛ ففكرت بشئ جديد، سألته عن علاقتهم الحميمية وتمكنت من اقناعه بعد طول حديث، باستخدام العنف أثنائها، وان فعلته تلك ستمكنه من إحكام سيطرته على غضبه، كما أن حسناء ستهوى تلك الطريقة، وتحت ترغيب واقناع استخدم العنف والقوة خلالها، أصبح الألم والتعنيف بجميع الأوقات.
لم يهدأ بل زاد بغضه لذاته، متذكرًا توسلات حسناء ورجائها ليتوقف، يشعر بالغثيان والاشمئزاز من نفسه بعد كل مرة، بعد بضع مرات شحيحة زهدها نهائيًا لا يقربها، تعجب من نفسه لما وافق والدته؟ ولما فعل؟ فرحت حسناء بابتعاده عنها وقررت الإنفصال ولكنها تأخرت كثيرًا وتدهورت حالتها وازداد هلعها لدرجة مرضية لم تعد تخفى عن الجميع.
منذ فترة صدرها يضيق عليها وعقلها يخبرها بوقوع مكروه لابنتها، كلما حادثتها بالهاتف انقبض قلبها رغم طمأنت ابنتها لها، زادت أحلامها التي تخبرها بعاناتها، قررت الذهاب إليها لتقطع الشك بالقين، لكنها صدمت من حالتها تبدلت ابنتها، علمت سبب تهرب عبد الرحمن منها، نزف قلبها من هيئة ابنتها وطريقة حديثها بوجود عبد الرحمن الذي تركهما وغادر المنزل، ضمت ابنتها بحنان وخوف واعتصر قلبها ألما، ربتت على ظهرها حتى هدأت قليلا، حاولت فهم ما حدث دون فائدة، ايقنت ضرورة ذهابها من هذا البيت؛ فاخذتها دون سؤال زوجها.
عاد عبد الرحمن ولم يجدهما فشعر بالراحة لأول مرة منذ زواجه، تمنى ألا تعود مجددًا، وأن تثور عليه وعلى حياتهما.
لم تعلم والدتها ما عليها فعله فلجأت لسؤال جار لهما، توطدت علاقته بهما منذ انتقاله للسكن جوارهما بسبب ظروف زوجته المرضية، فدلها على طبيب نفسي؛ فذهبت لاستشارته، حطت عليها الطامة الكبرى، صدمة أخرى طالتها، أصيبت ابنتها بحالة نفسية جراء معاملة زوجها، وستحتاج لفترة علاج طويلة تعتمد على مدى قوتها واستجابتها للعلاج.
وبعد جلسة مبدئية مع الطبيب، وحديث مختصر متقطع من حسناء قصت مقتطفات مما عانت؛ فتجلى سبب حالتها واضحًا، واخبرها الطبيب بوجوب ابتعاد حسناء عن زوجها وإلا تدمرت نهائيًا، شعرت والدتها بان العالم يدور بها، اشتغلت غضبا من عبد الرحمن وابنتها ايضًا، لما صمتت؟! لما تحملت واخفت الامر عنها؟!
عادت لبيتها مع ابنتها ظلت جوارها حتى ذهبت في نوم عميق بسبب العلاج الذي كتبه الطبيب لها، ثم توجهت الي عبد الرحمن وهي بقمة ثورتها وغضبها منه، ما أن وقع بصره عليها، شعر بالخزي من نفسه لم يجد ما يدافع به عن نفسه.
تحدثت ساخطة عليه:
-هي دى الأمانة اللي آمنتك عليها، تعمل في بنتي كده! عملت أيه عشان تضربها وتعذبها بالشكل ده؟! مهما كان غلطها ما يديكش الحق تعذبها بالصورة دي، فرضًا غلطت، تعالي كلمني قولي بنتك غلطت في كذا، وأنا أتصرف هافهمها غلطها وأخليها تعتذر لك كمان، لكن بأي حق تمد إيدك عليها، جسمها كله أزرق ومتقطع، يرضي مين ده؟! ده الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام قال رفقًا بالقوارير، ولو غلطت قال اهجروهن في المضاجع، حتى لما شرع ضرب المرأة كان أخر حاجة وبحدود.
لم يجد ما يجيب به فهي محقه بكل ما قالت، أخفض رأسه خزيًا، بحث عن كلمات يدافع بها عن نفسه ولم يجد:
-يا طنط أنا.. أنا..
قاطعته بحده:
-أنت غلطان من ساسك لراسك، أنت فاكر عشان يتيمة ومالهاش أب يجيب حقها هتبيع وتشتري فيها، لا تبقي غلطان بنتي مش داخله هنا تاني، طلقها وزي ما دخلنا بالمعروف نخرج بس ياريت يبقي بالمعروف مش زي عشرتها معَك، هي غلطانة عشان سكتت ورضيت، وللأسف بقت مشتركة معَك في الغلط اللي هي بس هتتحمل نتيجته، وعايزة أقول لك اني مش مسامحاك وهدعي ربنا كل يوم ياخد حق بنتي منك، حسناء بقت مريضة بسببك منك لله يا أخي.
تركته غارقًا في خزيه رغم راحته النفسية التي غزته، كأنه تخلص توًا من حمل شديد الثقل، أخيرًا سترحل حسناء دون عودة.
أربعة أشهر فقط هي فترة زواجهما، فترة كفيله بإعيائها وإصابتها بحالة نفسية، فترة دمرت روحها وحطمت معنوياتها وكبريائها، فترة قتلتها؛ فالقتل ليس فقط ازهاق الروح القتل ازهاق الأمل والرغبة في الحياة.
أربعة أشهر أرته جانبًا سيئا به لم يعرفه قبلًا، ولم يتوقعه يومًا، جانب وحشي غير إنساني، لم تكن تلك الصدمة الوحيدة، فصدمته بوالدته كان هائلة، لم يتوقع تعطشها للعنف وميلها للقسوة لتلك الدرجة.
بدأ الناس بتناقل ما حدث، أصبح حديث العامة، يضعون تحليلهم ولمساتهم، يؤولون الأحداث يضيفون ما رغبوا، ولا رقيب أو حسيب على حديثهم، والحقيقة الثابتة التي لم يختلفوا عليها هي الصدمة، صدمتهم جميعًا بشخصية عبد الرحمن، قد تبيَّن للجميع مدى سوءها ومدى عنفها.
لم تلتفت والدت حسناء لما يقصه الناس، عزلت ابنتها عنهم وابعدتها عن اي ضغط أو توتر، لم تعاتبها حتى فقط تحتويها، وضعت حسناء قدمها على أول درجات الشفاء ببعدخا عن معذبها "عبد الرحمن".
الناقمة الوحيدة لما حدث هي حافظة، لم يعشبها ما حدث ما زالت متعطشة للمزيد، رفضت بشدة توثيق الطلاق، ورغم أن عبد الرحمن قد عزم على إتمامه ولن يحيد عنه إلا إنه لم يعارضها وترك الأمور معلقه لبعض الوقت، مخططًا إنهائها بالوقت المناسب.
رفضت حبيبة تصديق ما سمعت، وكأنهم يتحدثون عن شخصٍ أخر، قلبها يخبرها أن هناك خطأ ما، حزنت من أجله رغم تألمها لزواجه وتأكدها أنها لم تخطر بباله يومًا إلا أنها لم تتمنى فشل زواجه وتمنت له السعادة والنجاح بها، تابعت أخباره التي زادتها اكتئابًا.
جلست مع سما بالمكتبة التي اعتادت الوقوف بها بعد وفاة والدها
-احمدي ربنا أنك عرفتِ حقيقته وأنت بعيد، بدل ما كُنت أنتِ مكانها.
اجابتها بحزن عميق:
-استحالة يكون زي ما بنسمع، استحالة متأكدة إن في حاجة غلط أكيد الناس بتهول.
-ليه متأكده كده؟! محمود كان قال أن ده طبعه.
-قال مش بيسيب حقه، يعني لو حد أذاه.
-بصي اسمعي مني، سيبك من اللي بيحصل وركزي في المذاكرة، الترم اللي فات مركزتيش بسبب جوازه والنتيجة انك شيلتي مادتين على غير العادة، وأنت دايمًا متفوقه، ومحمود فضل أسبوع كامل مش بيكلمك وفيه أنت ما بطلتيش عياط، ربنا يكرمك بقي ركزي في المذاكرة عشان أنا شايفاكي مُكتأبة أكتر من الترم اللي فات بتروحي الكلية بالعافية، وتقريبا مش بتفتحي كتاب.
أجابتها بوهن:
-مش قادرة، تعبانة قوي حاسة إن مكان قلبي حجر تقيل مش قادرة أشيله، مش قادرة أتحرك من تقله.
حزنت سما من أجلها وأشفقت عليها مرددة:
-ربنا يستر.
وعلي النقيض كان عبد الرحمن، سعيدًا بانتهاء زواجه بعد فترة مماطلة لإراحة والدته، ثم أتم الطلاق تلبيه لرغبت حسناء ورغبته منذ علمه بأن حبيبة تكن مشاعر له، غضبت حافظة كثيرًا؛ فغرضها من المماطلة هو عودت حسناء، ولما أيست أصرت حرمانها حقوقها المادية وترك ما لها فكل شيء ملك لابنها، كانت تلك ورقة الضغط الأخيرة مستغلة حاجتهم المادية، ولكن كان لوالدت حسناء رأي أخر ولم تهتم سوى بحرية ابنتها وعلاجها.
في مكتبة سما جلست حبيبة معاها تحدثها عن عبد الرحمن فهي الوحيدة التي تعلم بحبها له وتعجبت سما من حالها.
-أنت غريبة يا حبيبة، لما اتجوز زعلتي، ولما طلق بردو زعلتي، المفروض تتبسطي عشان بقى في فرصة يتقدم لك، صحيح مش عارفة أنت مش خايفة منه ازاي! أو قلقانة حتى، وواثقة فيه كأنكم عِشرة! مش موقف واحد بس حصل بينكم!
إمتلأ صوتها بالحزن:
-أكيد عمري ما تمنيت فشل زواجه، وما اعتقدش أنه حاسس بيا، وهو صحيح موقف واحد؛ لكن مش عارفة ليه مطمنة من ناحيته قوي، قلبي بيقولي استحالة يكون جواه الشر ده، أكيد في حاجة مش مفهومة، استحالة اللي يحمي واحدة غريبة عنه يعمل كده في زوجته.
اخذت نفسٍ عميق واسترسلت:
-ارتباطنا مستحيل أصلًا، ما شوفتيش محمود بيتكلم عنه إزاي، استحالة يوافق، خصوصا بعد مشاكله مع مراته والطلاق، أول مرة أشوفه بيتكلم عن حد بالطريقة دي.
-أنا رأيي كفاية كده، بطلي تفكير في اللي بيحصل أو حصل له، أنت شيلتي مادتين الترم الأول وما كنتيش مركزة الترم التاني لا في المذاكرة ولا في الامتحانات، ربنا يستر أصلًا محمود الترم الأول أكتفى بخصامك أسبوع، وخلال الأسبوع ده ما وقفتيش عياط، والترم ده ربنا يستر وتعدى صافي هتبقي كارثة لو شيلتي مواد تاني وعيدتي السنة، الله أعلم وقتها اخوكي هيعمل ايه؟
-فعلًا أنا خايفة من النتيجة، المشكلة أنها حتظهر الأيام الجاية، خايفة من رد فعل محمود أكيد حيزعل مني وممكن مايتكلمش معايا فترة أطول، ممكن يحصل لي حاجة فعلًا، محمود هو كل أهلي يا سما، أخويا وأبويا وعيلتي كلها.
-أهدي يا حبيبة، خير إن شاء الله ، تفائلي خير.
عاد عبد الرحمن يبحث عن أخبار حبيبة وعلم بموعد نتيجتها ومداومتها الجلوس بمكتبة سما صديقتها الوحيدة، أنتظر ليوم ظهور نتيجتها موقن من خروجها فأنتظرها كعادته السابقة بشرفته، وما أن عادت ذهب خلفها إلى المكتبة؛ فوجدها بحالة يرثي لها تبكي وتنتحب، شهقاتها مسموعة خارج المكتبة، لم يكن رسوبها الشيء الذي تبكيه، بل خوفها من رد فعل محمود وعقابه الذي توقعت أن يكُن الهجر والتجاهل، وهذا قاتل لها لن تستطيع تحلمه، أسيهجرها كل من تحب؟ هي تتخشي الهجر وترتعب منه، تهاب الفراق لن تستطيع الصمود ان فعل، تفضل الموت على أن يهجرها ويتجاهلها.
طالعتها سما فعلمت بوقوع ما خَشَته، ضمتها تواسيها فارتفعت شهقات حبيبة باتت مسموعة للمارة، بعد فترة ابتعدت حبيبة قليلا عنها وجلست جانبها مخفضة الراس، وام تتوقف دموعها الصامتة، بتلك اللحظة دخل عبد الرحمن المكتبة يبحث عنها بعينيه وعلي وجهه ابتسامته البشوشة تغمره السعادة لأول مرة منذ فترة طويــــلة، ما أن وقعت عينيه عليها ووجدها تبكي ثبت عينه عليها لثواني فلاحظته سما فتحدثت لتلفت أنتباه حبيبه لوجوده.
- استاذ عبد الرحمن اتفضل.
ظل مسلط نظره على حبيبة موجه كامل جسده إليها مرددًا نفس الجمله التي القاها على مسامعها من قبل
-ما شاء الله تبارك الله خلق فأبدع، ليه الدموع بس؟
ونظر حوله واختار أحدى المعروضات ونظر اليها مهديها إياها:
-خدي دي وامسحي دموعك، كل مشكلة ولها حل إن شاء الله.
نظرت إليه وأعينها تفيض بالدموع ونظراتها تحمل الكثير، تتساءل لما دائماً تراه بلحظات ضعفها؟! كان هناك حديث تقصه الأعين بصمت، قطعه دخول محمود متحدثًا:
-كنت متأكد أنك هنا.
عادت حبيبة للانتحاب وتهدجت أنفاسها وتعالت دقات قلبها، أيقن محمود ذعرها من هجره مرة أخرى، لن يكرر معَاناتها فحين هجرها بالسابق ساءت حالتها، رفضت الطعام زهدت الدنيا، فراوده الشعور بالندم فاسترسل يطمئنها.
-أنا عرفت اللي حصل تعالي نتكلم فوق، وما تزعليش حجيب لك هدية من عند صاحبتك زي كل مرة، تحبي تأخذي ايه؟
نظر عبد الرحمن لسما لافتًا إيها لهديته فتحدثت:
-دي كويسة.
-لو حبيبة عايزاها ماشي.
أعطاها لحبيبة ثم أنتبه لوجود عبد الرحمن بالمكان، فدثه مرتابًا ومتعجبًا:
-أزيك يا عبد الرحمن أول مرة أشوفك هنا؟!
-الحمد لله أنت عامل أيه؟ كنت بدور على حاجة فالمكتبة هنا.
ازداد تعجبه متسائلًا:
-غريبة هي المكتبة اللي في الشارع عندكوا قفلت؟!
-لأ، بس اللي عاوزه مش هناك.
لم يقتنع محمود بحديثه ولم يهتم بالتوضيح، حاوط كتفي حبيبة بذراعه ربتًا أعلى ظهرها وضمها إليه بحنان، خطا خارج المكتبة، قبل خطوتها للخارج القت نظرة متسائلة على عبد الرحمن، وتابعها هو بعينيه حتى اختفت، ثم التفت التفت لسما متسائلًا.
-هي بتعيط ليه؟ حد ضايقها تاني؟
ادعت عدم الفهم محاولة لاستخراج الكلمات منه:
-ليه؟ هو كان في حد ضايقها قبل كده!
سأل متحفزًا:
-يعني حد ضايقها؟!
-لا نتيجتها ظهرت وهتعيد السنة ومش عارفة تقول لمحمود إزاي.
تساءل بتلقائية بما تربي عليه وعقابه حالة تقصيرة بدروسه:
-خايفة يضربها؟
استنكرت بشدة اغتاظت من تفكيره:
-لأ طبعًا، عمره ما ضربها، هي خايفة على زعله مش منه، اتفضل قولي كنت بتدور على ايه؟
أجاب ببشاشة:
-خلاص لقيت اللي بدور عليه، شكرًا.
بالرغم من ضيقها مما دار بينهما إلا انها هاتفت حبيبة فور مغادرته تخبرها بما دار حدثتها بسعادة من أجلها.
-هو كمان فاكر يا حبيبة مش لوحدك.
انتفضت قلبها مع كلماتها يخبرها انها تتحظث عن عبد الرحمن ولا تعلم السبب:
-عرفتي إزاي بمكن يتهيأ لك؟
-لما مشيتي مع محمود سألني هو حد ضايقها تاني يعني فاكر أولاني، هو كمان فاكر أكيد حاسس بحاجة، فهمت من كده بكلامه، بس أنت مش خايفة منه لو فعلا حاسس بحاجة ناحيتك؟!
-لا والله يا سما مجرد اسمه بيطمني، أنا متأكدة إن في حاجة غلط.
أمل تعلقت به وتدرك وهنه،دارت برأسها أفكار كثيرة وتساؤلات استبعدتها جميعًا، أرادت ان تشعر بالسعادة ولو بأملٍ كاذب، أما هو فكاد يطير فرحًا ازداد تاكده من شعورها به؛ فرد فعلها لرؤيته وصمتها حتى إنها قطعت بكائها لرؤيته كل ذلك جعل الأمل يدب بوجدانه؛ فتشجع لبأخذ خطوة للأمام وان يتقدم لخطبتها، وكان العائق الأكبر هو محمود، كيف سيفاتحه؛ فلن يتقبل الأمر بسهولة أو بالأحرى لن يتقبله.
بالأعلى لدى مرورهما للداخل، وفقت حبيبه مخفضت الرأس خجلة، تتسابق دموعها اقترب محمود منها وقبل رأسها ومسدًا عليها، ثم رفع وجهها بيده مبتسمًا.
-أهدي يا حبيبتي ما تعيطيش.
ازدادت شهقاتها وعلت فضمها اليه وربت على ظهرهابحنان:
-أهدي يا حبيبة، أهدي هنتكلم بس مش دلوقت، أغسلي وشك وبطلي عياط عينك ورمت كفاية كده.
أومأت ممتثلة لقوله، بعد قليل هاتفتها سما فتناست ما حدث غمرتها السعادة لفترة ثم عادت لأرض الواقع، فكلما فكرت بالأمر تكررت كلمة مستحيل لكل ما ترغب، وتملكها الحزن واحتل قلبها، أما محمود فتركها حتى هدأت ثم أراد التحدث معها، متأكد ان هناك سببا قويا لرسوبها، طرق باب غرفتها ثم دخل
-حبيبة ممكن نتكلم شوية؟
دارت عينها بالمكان بتوتر وحزن، طمأنها متحدثًا:
-أنا مش جاي ألومك، بس عايز أفهم إزاي ده حصل؟! أنت لحد السنة اللي فاتت تقديراتك بين جيد جدًا وامتياز، إزاي مرة واحدة كدة تشيلي 6 مواد وتعيدي السنة؟! وما تقوليش عشان وفاة والد سما لأن ده كان الترم اللي فات و سما نفسها نجحت تقديرها أقل شوية بس نجحت، قولي لي لو في حاجة مزعلاكي أو تعباكي اتكلمي يا حبيبة أنا موجود وسامعك في أي وقت، جنبك و معاكي دايما، حبيبة تأكدي اني عمري ما حزعل منك أبدًا.
اخفضت رأسها تفرك كفيها بتوتر:
-مفيش حاجة يا محمود أكيد لو حبيت أحكي حاجة حتكلم معاك ماليش غيرك.
رد بعد اقتناع موقن من وجود سبب قوي:
-متأكد يا حبيبة؟! على العموم أنا مش هضغط عليكِ هأنتظرك تيجي تحكي لأني متأكد إن في كلام جواكي.
صمتت وبداخلها تبحث عمن يمكنه مساعدتها في الإجابة على ما بداخلها، من يملك خبرة حياتيه ولن يبخل عليها بإجابات صادقه، وبالطبع لن تملك الشجاعة للتحدث مع محمود، تمنت لو كانت والدتها على قيد الحياة لتبكي بصدرها وتخبرها بمكنون قلبها، لم تجد سوي بسمة، علاقتهما حيادية رغم محاولات بسمة العديدة، توقن صدق مشاعر بسمة تجاهها وإنها لن تبخل عليها بالنصيحة.
استجمعت شجاعتها وذهبت لبسمة اثناء انهماك الأخرى باعداد الطعام:
-صباح الخير.
اهدتها ابتيامة صافية:
-صباح النور يا حبيبة، مش بتقرى في البلكونة زي عادتك يعني.
-شوية كده وهادخل، ممكن اتكلم معاكي شوية؟
-أكيد طبعًا، تعالي ندخل جوه؟
-هنا كويس، مش هعطلك.
-لو مرتاحة تمام.
توترت بالبداية فشجعتها ابتسامة بسمة لتبدأ:
-هو أنتِ عرفتِ أنك بتحبي محمود إزاي؟
ابتسمت بسعادة وحنين:
-الحب بيجي من غير إنذار أو مقدمات بيقحم نفسه، يبدأ بفرحة وسعادة إحساس يخربش القلب، ماتعرفيش جه أمتي؟ إزاي؟ على ما تميزيه وتعرفي أنه الحب بتكوني غرقتي فيه.
-ممكن أول مرة تقابلي حد تحسي به؟
-ممكن، هو مش حاجة ثابتة، جماله أن له مليون شكل وطريقة.
-يعني ممكن اللي بيحب يشوف بعين مختلفة عن كل الناس؟!
-أكيد، لأن عين المحب مختلفة بتشوف الحبيب من جواه مش من بره، بس أحيانًا الحب بيعمي بيخلينا نتغاضي عن عيوب موجودة فعلًا، وقتها القلب هو المعيار يعني القلب بيكون رادار، يحدد الغلطان يعني من جوانا بنكون عارفين اننا غلط وبنكابر.
-طيب إزاي عرفتي انك بتحبي محمود فعلًا
-هو ده الصعب يا حبيبة اننا نقدر نفهم إحساسنا، لأنه ما لوش طريقة وقاعدة معينة عشان تتأكدي، الحب إحساس تعرفيه بإحساس وتتأكدي منه بإحساس مش حاجة ملموسة، فرحة وسعادة مجرد ما تشوفي الحبيب، احساس يخليكي احسن في كل حاجة، عارفة أنا تأكدت إني بحب محمود وقت وفاة بابا، كنت تعبانة جدًا مش مستوعبة اللي حصل، مش قادرة أرجع لحياتي لحد ما محمود قابل ماما وقال لها انه بيحبني وانه عايز يخطبني وحابب انها تعرف وتطمن عليا، ساعدني في كل حاجة، حسيت أن ربنا عوضني بمحمود وبقي هو سندي وأماني في الدنيا.
صمتت قليلا ثم استرسلت:
-أحيانًا لما نستعجل حاجة ونشتاق بزيادة احساسنا يخدعنا، عشان كده لازم نتأكد أن كل حاجة لها وقتها، لا قبله ولا بعده ونسيبها على ربنا.
-لما حبيتي محمود عديتي أزمتك، هو الحب ممكن يغيرنا للأحسن؟ يعني يغيرنا أو يقوينا .
-أكيد يا حبيبة بيقوي خصوصا الست، عارفة يا حبيبة ساعات ربنا يجعلنا نقابل الشخص اللي نحبه حتى لو كان بعيد عن حياتنا العادية بتدابير القدر، اللي احنا بنقول عليها صدفة بس هي بتكون قدر عشان نقابل الشخص اللي يغير في حياتنا أو نغير في حياته، في النهاية الاتنين حياتهم بتكون أحسن وسعيدة.
-الحب بيتاثر بفرق السن بين الاتنين؟
-العادي يكون الفرق بالسن بسيط، لكن في ناس بتحب بعض ويتجوزا وهما قد بعض في السن أو كبير شويتين، المهم يا حبيبة يكون في احترام لعقل بعض، ما يتعاملش معاها على أنها صغيرة ويسخر من رأيها أو من حاجة تقولها، وما يقللش منها ولا يأذيها بأي طريقة، لأن وقتها حيكون في إهانة والإهانة تموت الحب وممكن تحوله لكره. عارفة الحب عامل زي الزرعة لو إهتميتي بها و رعيتيها تكبر وتثمر ولو أهملتيها تدبل وتموت.
ابتسمت حبيبة ونظرت لبسمة شاكرة
-أنا دوشتك وعطلتك.
-أبدًا والله ومبسوطة اننا تكلمنا ياريت تكرريها كتير، عارفة كلامنا خلاني أحس بكل حاجة من تاني كأنها أول مرة، حسيت برعشه في قلبي نفس اللي حستها أول مرة حسيت فيها بحب محمود.
عانقت حبيبة بحنان:
- ياريت تعتبريني أختك يا حبيبة، عارفة أن عمري ما أكون زي طنط الله يرحمها، بس ممكن أكون اخت وأي كلام بينا حيكون سر.
ابتسمت حبيبة براحة من طريقة بسمة الودودة ولراحتها بعد حديثها.
مرت عدة أيام فكر بها عبد الرحمن مليًا وبجدية أراد التأكد لأخر مرة قبل محادثة محمود وخوض المعركة معه، فذهب أمام بيتها وجدها جالسة بالشرفة تضع وشاحًا كبيرًا على رأسها، بيدها كتاب تقرأه، وتصادف دخول ابنا محمود يضحكان معها وتداعبهما، وحين وقفت داعب الهواء وشاحها فطار بعيدًا وتهواى على الطريق على بعد خطوات بسيطة من مكان عبد الرحمن، الذي شده بطلتها وشعرها منسابًا يغطى كامل ظهرها بسخاء كسواد الليل طويل لكل مشتاقٍ ملتاع.
جالت عينيها باحثه عن مكان ايتقرار الوشاح، فتلاقت النظرات، ابتسم بسعادة ملتقطًا وشاحها مثبتًا مقلتيه عليها ببسمته البشوشة، فأحمر وجهها خجلًا ظلا على حالتهما حتى قطع تأمله طرقات أنامل صغيرة على كف يده ملتقطًا الوشاح، هاتفًا بكلمات طفولية ملقبًا حبيبة "بيبة"