رواية سجينة جبل العامري الفصل الحادي عشر11والثاني عشر12 بقلم ندا حسن


 رواية سجينة جبل العامري الفصل الحادي عشر11والثاني عشر12 بقلم ندا حسن


تقدمت "تمارا" بخطوات مُترددة غير ثابتة على الأرضية عينيها مُثبتة على أعين "جبل" الخضراء المهزوزة، ملامحها تقول أشياء كثيرة أثناء سيرها تجاهه..

وقفت أمامه مباشرة وبينهم "زينة" وابنتها، تابعته بعينيها ثم أردفت بنبرة مليئة بالحنين:

-جـبـل..

نظرات عينيه تتابع تفاصيل ملامحها التي تغيرت كثيرًا، قُتلت البراءة بهما، قُتل الحب، ومعهم قُتلت لهفته إليها وعليها.. المتواجد الآن مشاعر مختلطة لا يستطيع تفسيرها ولكنه يعلم أنها بسبب قدومها المفاجئ أعادت إليه ذكريات راحلة منذ سنوات كتيرة..

وقامت بفتح جروح غائرة كانت قد التئمت وشعر بالإهانة والشفقة تجاه نفسه وهو يحاول أن يداوي هذه الجروح..

الآن بكل بساطة فقط لأجل رؤيتها من جديد تفتح جروحه هذه!..

اخفضت نظرها إلى الطفلة "وعد" دارت عيناها عليها بقوة وعلى ملامح وجهها ترددت الكلمة مرة أخرى في أذنها فرفعت بصرها إليه متسائلة بنبرة مرتعشة:

-أنت اتجوزت 

ضغط على فكه بشدة، أغمض عينه بعمق وبقوة ثم فتحهما مرة أخرى وحاول استعادة نفسه وهو يقول مؤكدًا:

-أيوه.. اتجوزت 

أكمل ناظرًا إليها بقوة، عيناه تنظر إلى عيناها مباشرة وكأنه يقول لها لا مكان للحب أو الضعف، لا لمكان لوجودكِ في قلبي ولا مكان لجروح غائرة منكِ:

-حمدالله على سلامتك.. دخلتي الجزيرة إزاي

أقتربت منه وهي تنظر إليه نظرة ذات مغزى تحاول أن تجعله يتذكر ما مضى بينهم بعد أن ابتلعت غصة كانت بحلقها بسبب اعترافه بأنه تزوج:

-نسيت طرقي؟ ولا نسيت إني بنت العامري وأدخل في أي وقت 

تحرك عيناها على وجهه وملامحه الجامدة والتغير الغير معقول بها، نظرة الحدة والقوة وثباته الذي أوضحه أمامها وكأن عودتها لا تُعنيه

تابعها هو الآخر بجدية شديدة وسخر منها وهو يرسل إليها معانى أخرى غير التي خرجت من بين شفتيه:

-منستش طرقك ولا أقدر أنساها وإلا مكنتيش خرجتي من الجزيرة.. أما بنت العامري فبنات العامري مكانهم هنا.. هنا وبس

نظرت إليه مطولًا ولم تستطع الرد فهي تدرك جيدًا أنه يحاول اهانتها، يحاول أن يزعجها ويسخر منها بحديثه ولكنها تعرفه جيدًا تحفظه عن ظهر قلب

هبطت "فرح" من أعلى الدرج تنظر إليها غير مصدقة أنها تراها أمامها وصاحت باستنكار وذهول وهي تقترب منها:

-ايه ده.. تمارا 

أقتربت منها تقف أمامها تضمها إليها تعانقها بقوة قائلة بحب وشغف:

-تمارا ازيك عامله ايه جيتي امتى وإزاي 

عانقتها الأخرى وبادلتها الحب والاشتياق فهما الاثنين كانوا أصدقاء طفولة إلى أن رحلت عنهم:

-ازيك يا فرح وحشتيني 

عادت للخلف تنظر إليها قائلة بحنين وأسى تحثها على أن فراقها كان ثقيل للغاية على حياتها:

-وأنتي كمان يا تمارا متعرفيش سيبتي فراغ عامل إزاي في حياتي والله 

ابتسمت إليها باتساع وهي تقول بقوة تبتعد بعيناها إليه:

-اديني رجعت 

استمعت إلى نبرة "فرح" التي تخرج بسعادة خالصة فأبتعدت عيناها تنظر إليها:

-على طول 

أومأت إليها برأسها وهي تجيبها بثقة وتأكيد:

-أيوه هقعد على طول.. مش هسيب الجزيرة أبدًا ولا قصر العامري 

مرة أخرى تنظر إليه وتسائلت بفضول شديد وقلبها يدق بعنف:

-اومال مراتك فين

أشارت إلى "إسراء" التي كانت تهبط الدرج، فهي الغريبة هنا، هل هي زوجته؟ أيعقل هذه الفتاة الصغيرة:

-دي مراتك؟ معقول

نظر إليها وابتسم بزاوية فمه، أقترب من "زينة" يضع يده عليها يحاوطها مقربًا إياها منه بقوة ثم نظر إلى الأخرى موكدًا بثقة وتأكيد وهو ينظر إليها بفخر يمحي ألمه ونظرة ضعفه التي سبق ورأتها:

-دي مراتي.. واللي نازلة دي تبقى أختها

شبهت عليها وتابعت تنظر إليها بتمعن فتذكرت أين رأتها ثم قالت باستغراب:

-دي مرات يونس.. أنا شوفت صورة ليها 

ضغط على ذراع الأخرى الذي يحاوطه بيده بعنف عندما ذكرت أنها زوجة شقيقه فعارضها قائلًا:

-الله يرحمه.. زينة جبل العامري مراتي

ترك "زينة" وهبط إلى "وعد" بجسده يحملها على ذراعه رافعًا إياها إليها قائلًا بفخر وحب:

-ووعد بنتي.. حبيبة بابا 

كانت الأخرى تقف تتابع ما يقوله باستغراب تام.. هل توفى "يونس" إلى هذه الدرجة كانت بعيدة عنهم..

نظر إلى "زينة" زوجته وتغيرت ملامح وجهه وهو ينظر إليها ثم هتف بهدوء ورفق حانٍ يمثله ببراعة وكأنهم معشوقين:

-دي تبقى تمارا بنت عمي يا حبيبتي.. كانت خرجت بره الجزيرة من سنين كتير بس شكلها ملقتش مأوى غير هنا فرجعت تاني 

تنظر إليه باستغراب تام، تغيرت نبرته مئة وثمانون درجة ونعتها بحبيبتي وهي تقف مذهولة لا تدرك ما الذي أصابه.. هل فقد الذاكرة.. أم أن هناك شيء بينهم يمحيه بوجودها..

وجدته يُشير إليها بعينيه فخرجت من تفكيرها تنظر إليها قائلة بابتسامة مصطنعة:

-تشرفنا 

استمعوا إلى صوت والدته "وجيدة" المُستنكر وهي تأتي عليهم من الداخل:

-تمارا!..

أقتربت منها تعانقها قائلة بود:

-ازيك يا مرات عمي 

ابتعدت إلى الخلف زوجة عمها وهي مازالت مستنكرة تنظر إليها باستغراب وخرج صوتها بتوتر:

-الحمدلله ازيك أنتي 

تنظر إلى جبل باستغراب تتسائل عن سبب قدومها، ترسل إليه بعينيها خوف مكبوت ورهبة عجيبة من مكوثها معهم بين "زينة" و "وعد" وابنها..

أجابتها بحرارة وهي تنظر إلى "جبل" تبعث إليه آخر كلمات جملتها:

-أنا الحمدلله كويسه.. انتوا وحشتوني أوي

أومأت إليها زوجة عمها ومازلت مترددة تشعر بالتوتر فقالت:

-وأنتي كمان بس.. 

بقيت تتابعها تحاول أن تفهم ما الذي تريد قوله فوجدتها صمتت تمامًا فحثتها هي على الحديث:

-بس ايه 

شدت نفسها، واستجمعت قوتها وعهدها المعروف فنظرت إليها بقوة وحزم وقالت تذكرها بما قالته سابقًا:

-ايه سبب الزيارة الغريبة دي.. خرجتي من زمان قولتي أن الجزيرة مش مكانك 

ابتسمت وهي تتودد إلى "جبل" إليه من الحين إلى الآخر:

-اكتشفت إني ماليش مكان غيرها يا مرات عمي 

استنكرت الأخرى بشدة وخرج صوتها باستغراب:

-فجأة كده 

قالت بهدوء تشرح لها ما شعرت به:

-لأ مش فجأة أنا اللي كنت بكدب نفسي.. بس خلاص أنا رجعت ومش خارجه منها تاني 

استدارت تنظر إليه قائلة:

-ولا ايه يا جبل 

تابع نظرتها نحوه، يفهمها جيدًا هل تعتقد أنها بمجرد عودتها سيعود هو الآخر إليها يرتمي باحضانها يطالبها بالمكوث معه وأن تظل في حياته.. يالا سخرية القدر يا "تمارا" فقد تبادلت الأدوار وأصبحت اللعبة أفضل بكثير 

قال بجدية شديدة ونبرة غليظة وهو يصر على الحديث بالألغاز ولكنها تفهمه جيدًا:

-الجزيرة مكان لكل العوامرية.. ومكان لكل واحد مالوش مكان..... زيك يا تمارا 

أقتربت مرة أخرى تقف أمامه بتحدي، لأنها تعتقد أنه لن يمسها بسوء كما في السابق يخاف عليها من الهواء المار جوارها فقالت بثقة:

-بس ده مكاني وليا فيه كتير أوي يا جبل 

أومأ إليها بابتسامة ساخرة يؤكد حديثها ويكمل عليه بتهديد واضح:

-محدش قال غير كده.. بس المرة دي حافظي عليه علشان المرة الجاية ملكيش رجعة 

وقفت أمامه بثقة أكبر وتحدي أكبر ونظرت إلى داخل عيناه المخيفة التي لطالما كانت ملجأ لها:

-هحافظ عليه وهرجع كل حاجه كانت ملكي فيه قبل ما أمشي

نظر إلى "وعد" مبتسمًا باتساع دون أن يعطيها أي اهتمام يجيبها:

-بيتهيألك إنك هتعملي كده 

ردت تنظر إليه بعمق تحاول التسلل إلى داخله لتفهم ما الذي يفكر به:

-بكرة تشوف.. لسه قلوبنا بتنبض يا جبل 

استدار ينظر إليها بقسوة خالصة، عنف ضاري ظهر داخل عينيه وعلى ملامح وجهه الذي تغيرت بعد كلماتها فقال بغلظة وخشونة:

-بالقسوة يا تمارا.. بتنبض بالقسوة 

نظرت إليه للحظات فلم تستطع التكملة داخل عينيه التي أصبحت غريبة للغاية، ليست عيناه التي تعرفها.. ليست هي

أقتربت تنظر إلى "وعد" قائلة بابتسامة خبيثة:

-ازيك يا حلوة.. 

أجابتها الصغيرة برقة وهدوء:

-الحمدلله يا طنط 

تعالت ضحكات "تمارا" تنظر إليها وإلى والدتها وقالت ساخرة:

-طنط.. لأ أنا مش طنط 

تحدثت والدته عندما وجدتها لا تريد النزوح عن هنا تقترب منها تحدثها على الذهاب إلى الأعلى:

-اطلعي يا تمارا.. وريها اوضة يا فرح تنام فيها 

تحدثت وهي تنظر إليه مرة أخرى تؤكد على أنها تعلم أين مقرها كما تعلم أين هو:

-أنا عارفه اوضتي كويس يا مرات عمي 

صدمها عندما ابتسمت باتساع وهو يرى ثقتها الزائدة وقال بخشونة:

-مبقتش موجودة

سألته باستغراب وقد خالف توقعها:

-يعني ايه 

قال بجدية وهو يبتعد إلى الداخل ومعه وعد ببرود تام:

-يعني اوضتك مبقتش موجودة استخدمتها في حاجه تانية مفيدة أكتر من أنها تكون اوضتك 

نظرت إليه وهو يبتعد تراه يحاول أن يثبت لها أن مكانها لم يعد موجود، اسمها وحبها وكل ما كان لها هنا رحل معها عندما تركته..

أقتربت من "زينة" تنظر إليها بعمق ونظرتها نحوها ماكرة:

-لسه محتاجة أتعرف عليكي يا.. زينة!

الأخرى تقريبًا فهمت كل ما حدث منذ قليل من كلمات جميعها ألغاز ونظرات متحدية وماكرة وأخرى واثقة فقالت لها بهدوء:

-آه زينة 

أومأت إليها برأسها وهي تتابع النظر إليها قائلة بخبث:

-هيبقى بينا حكايات كتير أوي الفترة الجاية.. دا أنتي مرات الغالي يا.. زينة 

لم تجيب عليها ولم تعيرها أي اهتمام ولكنها فهمت ما الذي يريده هو منها في هذه الفترة التي ستكون هي متواجدة بها هنا فنظرت إليها بثقة وأحبت هذه اللعبة قائلة بابتسامة:

-أكيد.. عن اذنك أشوف جبل 

نظرت إليها بقوة وكأنها تحدي، أشارت إلى شقيقتها أن تذهب معها تدلف إلى الداخل وتركتها تنظر في أثرها تتسائل هل كل هذا حقيقي!..

❈-❈-❈

جلس الجميع على سفرة الطعام لتناول العشاء ومن بينهم الزائرة الجديدة لقصر العامري "تمارا"، التي تركت القصر بكامل إرادتها وتخلت عن كل ما كان ملكها به وخارجه وتركت جزيرة العامري بأكملها محتجة على وجودها بها.. الآن تعود ورأسها به الكثير والكثير عن عودة كل ما كان لها.. 

نظرت إلى "إسراء" بعينين مُستغربة فضولية وسألتها وهي توزع بصرها على ملامحها الجميلة:

-بس أنتي شكلك مش مصرية 

رفعت "زينة" رأسها وتركت الطعام نظرت إليها وخرج صوتها المُسائل:

-اشمعنى يعني 

أبعدت عيناها من على "إسراء" ونظرت إلى "زينة" بهدوء تستوعب سؤالها ثم أجابت عليها بسخرية تحاول التقليل من جمالها:

-شكلها يدي على أجانب مش حساها أختك خالص

ابتسمت إليها بسماجة وهي تعلم أنها تريد فعل ذلك ولم تعطي لاجابتها اهتمام فأجابت "إسراء":

-أنا مامتي تركية 

أومأت إليها برأسها وهي تضع معلقة الطعام في فمها وتحدثت بعدما ابتلعت قائلة:

-مش قولتلك.. شكلك مش مصري شعر أصفر وعيون زرقا 

أكملت الأخرى بهدوء وجدية تصحح لها معلوماتها:

-في مصرين بشعر أصفر وعيون زرقا بردو عادي على فكرة 

ابتسمت إليها قائلة بمجاملة:

-مش حلوين زيك 

ردت إليها "إسراء" الابتسامة الخجلة للغاية قائلة برقة ورفق:

-شكرًا 

اغتاظت "فرح" من مدح "تمارا" الزائد في الماثلة أمامها وشعرت بالغيرة الشديدة البعيدة كل البعد عن "عاصم" الآن ولكنها تشعر أن هذه الفتاة تأخذ مكانها بالبطيء وتحظى باهتمام الجميع فقالت بغيظ:

-مش أوي كده يا تمارا أحسن تتغر جمالها عادي يعني زينا 

نظرت إليها "إسراء" باستغراب شديد فـ إلى الآن لا تدري ما سبب كرهها الشديد لها أو دعنا لا نقول كره يمكن أن يكون مجرد بغض لطريقتها التي تتعامل بها والتي تعتبرها مُزيفة! أبعدت نظرها عنها غير مهتمة بحديثها الذي حظى باهتمام "زينة"..

خرج صوت "وجيدة" تنظر إلى "تمارا" بجدية تسائلها:

-قوليلي يا تمارا.. أمك عامله ايه ومجتش معاكي ليه

تركت ملعقة الطعام على الطاولة وتعمقت بالنظر إلى عينيها، أنها تعلم تصرفات زوجة عمها جيدًا وتتوقع ما القادم منها:

-أمي قاعدة عند خالي رفضت ترجع معايا الجزيرة 

كل هذا كان تحت أنظار ومسامع "جبل" الذي جلس بهدوء شديد يتابع حديثهم وينظر إلى كل تعبير صغير يخرج من أي منهن..

سألها بسخرية بعدما أجابت على والدته:

-ولما هي رفضت.. رجعتي أنتي ليه 

ابتسمت وبمنتهى الثقة نظرت إليه قائلة:

-قولتلك يا جبل.. جاية على طول وهرجع كل حقوقي 

أنهت جملتها وهي تنظر إلى "زينة" نظرة ذات مغزى فلم تستطع الأخرى الصمود أمام نظرتها فتركت ملعقتها ونظرت إلى "جبل" وتفوهت تسائلة مستفهمة:

-حقوق! حقوق ايه اللي بتتكلم عليها 

نظر إليها مُبتسمًا بزاوية فمه يسخر منها وهو ينظر إليها بطرف عينه يحاول في كلماته أن يظهر للأخرى أنه يحب زوجته:

-متشغليش بالك بكلام تمارا يا حبيبتي.. أصلها كانت ساعات كتير بتهلوس 

اغتاظت منه بشدة ونظرت إليه بعمق، تحاول أن تدرك هل هذا هو نفسه؟ هل ستكون المهمة صعبة إلى هذه الدرجة؟ فهو لم يتغير به أي شيء حتى ملامح وجهه لم تزداد شيء إلا قسوة وعنف.. لم تختلف إلا في تهجمها وتغير روحها..

لم يتغير به شيء إلا جسده أصبح أقوى وأضخم من السابق، لا ترى أي تغيير سوى هذا وذاك فهل حقًا يوجد غيرهم داخله تغيير؟

ابتسم أكثر اتساعًا وهو يتابع قائلًا بقسوة وغلظة عكس ما يظهر على ملامح وجهه وهو يتذكر كل ما مضى:

-عارفه العيل الصغير لما يستغني عن حاجه والحاجه دي تروح لحد غيره فيحس بالغيرة ويبقى عايز يرجعها.. أهي تمارا كده فاكرة نفسها جاية تاخد كل اللي سابته ومشيت

تنظر إليه زينة بعدم فهم وكل ما يأتي بخاطرها يعبر عن أشياء تراه هو بهذه الصفات يرفضها.. ولكن من الواضح أنها تفهم ما يحدث جيدًا

أخرجتهم من الصمت الذي حل عليهم وهي تقول بغيظ تنظر إليه:

-سبق وقولتلك هرجع كل حاجه.. وأنت أكتر حد عارفني 

وضع ذراعه على ذراع المقعد الجالس عليه ورفع كف يده ويستند باصبعة الإبهام والسبابة على وجنته ناظرًا إليها بسخرية يقول بلا مبالاة:

-لأ مبقتش أعرفك السنين بتغير، ومتحاوليش تتعاملي معايا على إنك تعرفيني ولا مع أي حد هنا 

تحدثت وجيدة" لتخفف حدة ما يحدث وتخفي ذلك الحديث الذي يُمر من أسفل الطاولة:

-شبعتي يا وعد 

أومأت إليها الصغيرة برأسها قائلة بصوت خافت:

-آه يا تيته

وقفت على قدميها تبتعد عن الطاولة وأقتربت من الفتاة تأخذها للخارج:

-تعالي نغسل أيدينا سوا 

أومأت إليها وذهبت معها:

-ماشي 

أمسك جبل بيد زينة الموضوعة على الطاولة ونظر إليها بنظرة محبة مُشتاقة لا يدري إن كانت خرجت منه بعفوية أو كانت مصطنعة لأجل إحراق الأخرى:

-تعالي عايزك 

أومأت إليه على الرغم من استغرابها التام لما يحدث وما حل عليه ولكنها عاونته قائلة:

-ماشي 

نظرت إليه ابنة عمه، احترق قلبها وهي تتسائل هل ستدفع الثمن لأجل ذهابها من الجزيرة؟.. 

دفعت "تمارا" بيدها أحد أطباق الحساء الموضوعة على الطاولة جوار زينة لتقع على قدمها اليسرى بكل عنف تفرغ ما تحويه عليها وهو ساخن للغاية  

صرخت زينة بقوة ووقفت سريعًا تبعد المقعد للخلف تحترق قدمها والنيران تلتهب بها وتغيرت ملامح وجهها كثيرًا وهي تتألم

وقفت "تمارا" هي الأخرى معها تمثل الاهتمام والآسف لما فعلته عن عمد:

-أنا آسفة آسفة مأخدتش بالي والله 

لكنها كانت تشعر بالغيرة تنهش قلبها، تتألم لرؤيتهم هكذا وهذا الشيء من حقها وهي من تستطيع الحفاظ عليه والشعور به

تألمت زينة بقوة وقدمها تخرج منها النيران تحترق تشعر بفوران الدماء داخلها تتألم بصمت والدموع متحجرة بعينيها.. أقتربت منها "إسراء" سريعًا ولكن جبل قد جذبها إليه ينظر إليها بقلق بالغ يرده إليها عندما قلقت عليه ولكنه كان نابع من قلبه ونظر إليها بخوف شديد وهو يرى الدموع تقف على أعتاب عينيها بسبب الألم القابع داخل قدمها..

انخفض بجسده يحملها على ذراعيه ناظرًا إليها يأخذها إلى الأعلى في غرفتهم ليعتني بها..

قابلته والدته في طريقها إلى الداخل مرة أخرى تنظر إليه باستغراب تسائلة:

-أنت بتعمل ايه يا جبل 

خرجت خلفه شقيقتها فأجابت هي عليها لأنه لم يعطيها اهتمام:

-زينة وقعت على رجلها الشربة

هرولت خلفه والدته وهي تصرخ عليه:

-طب استنى يابني ادهنلها حاجه عليها 

أومأ برأسه وهو يصعد الدرج قائلًا بجدية:

-ماشي 

ثم تركهم وأبتعد بها إلى الأعلى يختفي عنهم في داخل غرفة نومهم ليرى ما الذي أصاب قدمها بسبب تلك الغبية الحقيرة التي عادت بعد أن خمدت نيرانه وانطوت صفحة الهوى الخاصة بها معلنة عن وجود وحش كاسر كان قابع داخل قلبه وكشف عن أنيابه وظهوره في غيابها وتخليها عنه..

أجلسها على الفراش ووقف مستقيمًا يتقدم إلى المرحاض وهو يقول بحزم:

-اقلعي البنطلون 

نظرت إليه ببلاهة وهو يبتعد عنها تتابع حركاته بعينين مُتسعة عليه وقدمها تحترق داخلها ألم مميت لا تحتمله..

عاد إليها وبيده كريم الذي سيضع لها منه ليخفف حدة ألمها ويعالج ما حدث.. نظر إليها وقال بقوة:

-مش قولت اقلعي 

وجدها ما زالت تنظر إليه بجدية واستغراب فتفوه ساخرًا وهو يجذبها من يدها لتقف:

-أكيد مش أول مرة تقلعي فيها قدامي

غمزها بعينه الخبيثة الخضراء صاحبة اللمعة المخيفة وهو يكمل بتهكم:

-كده ولا ايه 

تنظر إليه فقط ولم تتحدث يا له من حقير حيوان يعبث بها كلما سمحت له الفرصة ليفعل ذلك، شعرت بيده تفتح سحاب بنطالها الجينز فنظرت إلى الأسفل لتراه يبعده عن قدميها كادت أن تتحدث وتبتعد عنه ولكنها تألمت عندما سحبه على قدمها في موضع الالتهاب الذي سببه الحساء الساخن..

دفعها للخلف لتجلس مرة أخرى على الفراش وأزاح البنطال كليًا عنها لينظر إلى قدميها البيضاء الظاهرة أمامه، لمعت عيناه وابتلع لعابة بعدما شعر بغصة توقفت بحلقة.. رفع بصرة إليها ثم مرة أخرى إلى قدميها فدفعته في صدره عندما انخفض لمستواها صارخة به:

-ايه.. هات الكريم 

غمزها مرة أخرى بعينه وهو يقول بمكر:

-دي تفوتني بردو 

فتح العبوة وأخذ على إصبعيه منها ثم توجه بها إلى قدميها يضعه عليها برفق ولكنها شعرت بأن قدميها تحترق أكثر وأكثر فور أن وضعه عليها..

نظر إليها فوجدها تغلق عينيها بقوة تتمسك بشرشف الفراش من الناحيتين تشعر بالألم الذي ظهر على كافة ملامحها فخرج صوته وهو يعود إلى قدمها مرة أخرى:

-هيحرقك شوية.. بس هيعمل مفعول بسرعة 

فتحت عينيها السوداء ونظرت إليه فوجدته يرفع وجهه مرة أخرى إليها أومأت إليه بهدوء ورفق وتابعته وهو يحرك أصابعه على يدها بذلك الكريم برفق وحنان..

انتهى مما يفعله فذهب إلى المرحاض دون حديث ليغسل يده عاد مرة أخرى وجلس جوارها ثم قال بجدية:

-سيبيها شوية كده والكريم أهو ابقي حطي منه تاني 

أومأت إليه مردفة بصوت خافت:

-طيب

جلس جوارها صامتًا وبقيت هي كذلك تنظر أمامها إلى أن عبثت أفكار رأسها بها وودت أن تسأله أسئلة كثيرة وتحصل منه على إجابة ولكنها تعلم أنه دومًا لا يود إظهار الحقيقة إليها ولا يحب أن يجعلها ترتاح وتهدأ..

استدارت تنظر إليه للحظات وهي صامتة فشعر بأنها تود أن تقول شيئًا بقيٰ كما هو ينظر إلى الأمام وقال بثقة:

-عايزة تقولي ايه 

ابتلعت غصة مريرة وقفت بحلقها وتابعت النظر إليه وهو يبعد وجهه عنها:

-بنت عمك 

استدار ينظر إليها عندما تحدثت عنها، كان متوقع ذلك ولكنه لم يكن متأكد منه، سألها بهدوء:

-مالها 

سألته بغباء وهي لا تدري كيف تسأله بطريقة أفضل من ذلك ليجيب عليها بصدق ولا تكن أمامه فضولية تتدخل في حياته التي أعلنت رفضها لها:

-كنت بتبص ليها كده ليه

تابع النظر إلى سوداوية عينيها وسألها مضيقًا ما بين حاجبيه:

-كده إزاي مش فاهم قصدك

حركت كتفيها وهي تلوي شفتيها قائلة مرة أخرى محاولة الشرح له أكثر:

-كده.. شوية بحنين واشتياق وشوية تانين بقسوة وكره 

أبعد نظرة إلى أمامه مرة ثانية، فكر في حديثها الصحيح أنه عندما أبصرها شعر أنه مُشتاق يسعى لأي طريق يدله إليها ثم لحظات وأدرك أنه ذلك المطعون في قلبه منها فلا اشتياق ولا حنين ينبغي أن يخرج لها:

-أول ما شوفتها حسيت فعلًا إني مشتاق لها بقالها كتير أوي بعيدة.. كانت متربية معانا هنا بعد كده افتكرت كل حاجه وأدركت أن مش دي اللي الواحد يشتاقلها 

حركت رأسها وهي تسأله مرة أخرى بعمق أكثر عندما وجدته يتحدث:

-مثلت قدامها أننا كويسين ليه.. حبيبتي وبتاع 

ابتسم بزاوية فمه ساخرًا منها:

-فيها ايه لما أقول أنك حبيبتي.. مش مراتي!..

خرج صوتها المحتج تنظر إليه بقوة:

-جبل بلاش لف ودوران 

أومأ برأسه للأمام وهو يضع يده الاثنين ببعضهم البعض يتكأ للأمام بجسده وهو جوارها وقال بجدية وقد كانت هذه رغبته حقًا:

-ماشي.. أنا عايز كده، عايزها تعرف أن وأنتي كويسين أوي

صمتت لبرهة وهي تنظر إليه باستغراب، ثم أردفت بجدية تماثل جديته تدلي إليه بشيء غريب تغير به:

-أول مرة تبقى عايز تثبت لحد حاجه.. أو بمعنى أصح تبقى عامل لحد حساب ولتفكيره

استدار برأسه ينظر إليها وابتسم بتهكم يقول:

-بدأتي تعرفيني أهو

استمع إلى سؤالها الذي خرج من شفتيها باهتمام كبير وتابع نظرات عينيها المستفهمة التي تود الإجابة سريعًا وكأنها يهمها أمره:

-كان فيه بينكم حاجه؟ قلبك كان بيحب؟

أومأ إليها ولم يخفي عليها سرًا قائلًا:

-آه.. كان فيه بس حاليًا قلبي مابيعرفش يحب

تابع وهو يرى نظراتها الغريبة الذي لم يستطع أن يحدد منها أي الشعور ينتابها الآن وقال بغلظة وقسوة لا توحي بأنه يتحدث عن الحب أبدًا:

-لكن تأكدي لو جت الفرصة اللي يحب فيها مش همنعه سواء عافية أو لأ

وجدته يسترسل معها في الحديث فتجرأت أكثر:

-عايز تثبتلها ايه 

قال بمنتهى البساطة وكأنه يتحدث مع نفسه لا يدري ما العواقب لكل ما يفعله الآن:

-إني مش جبل اللي تعرفه نهائي ودي حقيقة أنا بقيت واحد تاني تمامًا وإني حياتي مستقرة معاكي 

هتفت بقوة وحزم وهي تسأله بسرعة:

-يعني أنت مكنتش كده! صح

نظر إليها وقد ندم لأنه غاص معها بالحديث وأدلى بأشياء ليس عليه التحدث عنها، كيف له أن يقول كل هذا الحديث دون حساب كيف له أن يتفوه بالكثير عنه وعن حياته معها بكل هذه السهولة 

وقف على قدميه بعد أن أبعد نظرة عنها وقال:

-أنا عندي شغل لازم أمشي.. ارتاحي

أردفت سريعًا وهي تراه يتوجه للخارج:

-أنت بتهرب 

كانت تود أن تعلم أكثر عنه.. تحدد إن أرادت تبقى لتعلم ما الذي يحدث أو تبقى لأجل ابنتها أو.. لأجله.. وهذه الفرصة الوحيدة التي يمكنها تجميع الخيوط منها..

استدار إليها ورد بغلظة وخشونة:

-أنا عمري ما هربت

تفوهت بما يشعر به قلبها وعقلها واتحاد كل ما بها، قالت له ما تراه منه وما تفهمه ومع ذلك وإلى الآن لم تفهمه هو.. خرجت كلماتها بشاجعة وهي تعبر عنه:

-خليك شجاع للآخر.. قولي أن ده مش أنت مستحيل يكون في شخص بالقسوة دي.. لأ لأ مش قسوة أنت متناقض.. أنت رحيم أوي وفي نفس الوقت بتقول أن قلبك مفيهوش رحمة.. قاسي أوي وفي نفس الوقت حنين 

وقف معتدلًا ينظر إليها باستغراب، لا يفهم جرعة الشجاعة التي تحلت بها لتتحدث معه بهذه الطريقة، ولكن من الواضح ستكون العلاقة أفضل في المرات القادمة.. سألها مستفهمًا:

-عايزة ايه 

وقفت على قدميها تدلي بأكثر مما قالته تعبر عن أنها وافقت على حكم السجن المؤبد معه أما الموت أو الموت:

-مش زي ما بتقول بقيت مراتك وأتحكم عليا بالسجن معاك خلاص.. أنا اتأقلمت وعايزة أقعد هنا فهمني بقى اللي بيحصل

أجابها ببساطة وهو يضع يده بجيب بنطاله يقف أمامها شامخًا واثقًا من نفسه:

-مش مسموح أفهمك حاجه ثم أنك عرفتي حاجات كتير أوي مش المفروض أصلًا تعرفيها 

رفعت أحد حاجبيها ووضعت يدها الاثنين أمام صدرها تقف متحدية له قائلة بسخرية:

-زي أنك كنت بتحب.. 

أكمل على حديثها قائلًا بقوة وقسوة وهو يخرج يده من جيبه يُشير بها إلى صدره في نهاية حديثه بقوة:

-كنت مراهق واللي قدامك دلوقتي راجل أمر من العمر 

أومأت إليه قائلة بصوت متهكم ساخر:

-أنت فعلا مُر.. بس التشبيه الأفضل غامض أكتر من مثلث برمودا ومتناقض أكتر من واحد مجنون 

نظر إليها بعمق يرى انزعاجها من هروبه بعد أن كان يتحدث بكل شيء عنه، لكنه ضحك لأول مرة من كل قلبه دون سخرية أو حزن، ضحك بصوتٍ مرتفع وهو ينظر إلى ملامحها وهي تشبهه بأشياء غريبة تراه يماثلها.. ولكنها محقة.. وذكية

توقف عن الضحك قائلّا بثقة:

-قولتلك لسه مشوفتيش جنان

تنهد بصوت مرتفع واعتدل في وقفته ينظر إليها بجدية وهدوء، تتحرك مشاعره تجاهها وهو لن يوقفها أبدًا سيعود شاب مرة أخرى وسيشعر بالحب وهذه المرة لن يتخلى عنه..

قال برفق وهدوء بعدما ترك تفكيره بالحب جانبًا:

-غزال.. لو في حاجه المفروض تعرفيها هتعرفيها في الوقت المناسب ومني أنا شخصيًا بلاش الفضول اللي وداكي في داهية ده 

تهكمت ساخرة تؤكد:

-مظنش في داهية أكتر من دي 

نفى حديثها بثقة وتأكيد لأنه يعلم أن هناك أكثر من حبسها على الجزيرة وهناك ما لا تستطيع تحمله دقيقة واحدة:

-لأ فيه يا زينة 

اخفضت يدها من على صدرها واستمرت في النظر إليه تشعر بغرابة حديثهم لأول مرة هكذا ولكن يبدو أنها حقًا تأقلمت!:

-أول مرة تقولي زينة 

ابتسم بسخرية:

-للضرورة أحكام

أشارت بيدها تسأله باستغراب ومرة أخرى تشعر بمراوغة حديثه:

-وهي فين الأحكام دي وفين الضرورة أصلًا

تركها وهو يخرج من الغرفة قائلًا:

-مش بقولك فضولية 

ولج إلى خارج الغرفة وتركها وحدها، عادت مرة أخرى تجلس على الفراش كما كانت تفكر بكل ما حدث منذ لحظات تحاول أن تفهم أي شيء من حديثه الذي قاله فلا يجب أن يكون تحدث معها هكذا لأول مرة ولا تتوصل لأي شيء..

كان يحب ابنة عمه ومن الواضح أنها كانت تحبه فلما تركته ورحلت! ولما يشعر بالكره والبغض تجاهها!..

قال إنه تغير! لم يكن ذلك الشخص القاسي العنيف لم يكن "جبل العامري" القاضي والسجان المجرم والبريء لم يكن أي منهما!..

تحدث عن الحب، ونظر إليها نظرة ذات مغزى فهمتها جيدًا قال إن شعر قلبه بالحب فلن يحرمه إياه.. هل كان يتحدث عنها!..

ما القادم عليهم معًا؟!

توقف عقلها عن التفكير في بقية الحديث الذي دار بينهما وهي تحسب كم من سؤال برأسها لا يوجد له إجابة!.. 

يا لك من محتال أيها الجبل العامري، يا لك من مراوغ مختل...

❈-❈-❈

بقيت "تمارا" تحت أعين "وجيدة" المتفحصة لها بتمعن ودقة ثم قالت بجدية دون خجل أو مراوغة:

-جاية ليه يا تمارا 

رفعت كتفيها للأعلى واخفضتهم مرة أخرى قائلة لها بجدية:

-جايه بيتي يا مرات عمي هيبقى ليه 

سخرت منها وهي تحرك شفتيها بطريقة متهكمة:

-بيتك اللي سبتيه بمزاجك ومشيتي وبعدها معرفناش أي حاجه عنك 

قالت الأخرى بجدية:

-واديني رجعت 

أكملت زوجة عمها بنظرات حادة جامدة وملامح وجهها تتحول إلى ملامح أخرى مخيفة:

-واديني لسه بسأل عن السبب 

لوت شفتيها ببرود ونظرت إليها غير مبالية بحديثها لأنها تدرك ما الذي تريد أن تقوله زوجة عمها فقالت:

-مافيش أسباب غير إني راجعة لبيتي ومكاني 

أومأت إليها برأسها وقالت بهدوء:

-أنا كمان عايزة يبقى ده بس السبب ولو راجعة لجبل تنسيه زي ما نستيه قبل كده 

أكملت بجدية شديدة ونبرة حادة تحاول أن توصل إليها أنها حتى إن كانت عائدة له فهو لن ينظر إليها مرة أخرى:

-تبصي ليه على أنه أخوكي وبس علشان حتى لو غير كده جبل مش هيبصلك تاني أنتي عرفاه اللي بيسيبه مرة بيرميه على آخر دراعه مليون مرة

تابعت تنظر إليها نظرة ذات مغزى وقالت بنبرة مليئة بالخبث والمكر:

-وهو دلوقتي خلاص عنده مراته وبنته وحياته اللي شغلاه

ابتسمت الأخرى ببرود وعدلت حديثها قائلة:

-مرات أخوه وبنت أخوه

وقفت "وجيدة" على قدميها أمامها وحقّا تغيرت ملامح وجهها عندما استمعت إلى تلك الكلمات منها وأدركت أنها آتيه ولا تنوي خير فقالت بغضب:

-أخوه الله يرحمه.. زينة مراته ووعد بنته وبكرة هو يخلف ويجيب بنات وولاد من صلبه.. متحاوليش يا بت العامري تخربي على ولدي

أشارت إليها بيدها بعد أن وقفت هي الأخرى أمامها وقالت بمنتهى الحدة والجدية وحديثها لا يحتمل أي نقاش منها:

-أنا لو بحبك قيراط قصاده هحب ولدي وبت ولدي تلاته وعشرين قيراط ومش هبقيكي عليهم.. مرات عمك بتنصحك خليكي في حالك بعيد عن جبل ومراته وبته 

حذرتها أكثر وحاولت اخافتها من مجرد الإقتراب منه أو محاولة التودد إليه كالسابق:

-جبل مش هو الراجل اللي سبتيه ومشيتي بعد لما أبوه مات.. مش هو المحامي اللي وعدك بكل حاجه هتتغير وأنتي بردو مشيتي وسبتيه ولا هو جبل اللي كان رافض شغل أبوه.. جبل دلوقتي شيطان جزيرة العامري بياكل اللي قدامه أكل لو بس عمل حركة معجبتهوش بملامحه 

أقتربت الأخرى منها تنفي حديثها بنفس الحدة التي قابلتها بها تتحدث عنه في عهده السابق كما رأته واعتادت عليه:

-جبل هو جبل يا مرات عمي.. هو اللي رافض شغل السلاح وهو اللي دافع عن أبوه هو جبل اللي حبني وهو جبل اللي اترجاني أقعد وهو نفسه اللي اشتاق ليا بدل المرة ألف.. جبل متغيرش 

تهكمت عليها الأخرى وهي تُشير إليها بيدها تثبت أنه أصبح شخصًا آخر ولكنها تتوهم أنه كما كان وسيظل:

-جبل بقى واحد تاني.. اللي كان رافض شغل أبوه دلوقتي هو اللي ماسكه ولا مشوفتيش الحرس اللي بره والسلاح اللي معاهم.. جبل اللي اتغير بسبب أنه حبك وأهو دلوقتي ما شاء الله عليه ربنا يهدي سره مع مراته

ابتسمت ساخرة ثم تفوهت قائلة:

-لو كان زي ما بتقولي كان حتى استقبلك استقبال عدل.. ده مش طايق يبص في وشك 

اغتاظت الأخرى وهي تنظر إليها وكأن حديثها صحيح فهو حقًا لا يطيق النظر إليها ولا يجيب على حديثها بأي رفق مما كان بينهم لن تقول حب أو غيره بل حتى رفق!

توجهت والدته إلى باب الغرفة وتحدثت وهي تُسير بحدة وتهديد واضح:

-أنا عملت اللي عليا وقولت الكلمتين ولو عملتي غير اللي قولته أنا بنفسي هرميكي في النيل ومش هيهمني إذا نجيتي ولا لأ.. انتي مش أغلى منهم 

استدارت تنظر إليها وهي تفتح باب الغرفة:

-فاهمه يا تمارا 

أومأت إليها على مضض قائلة:

-ماشي يا مرات عمي..

خرجت زوجة عمها من الغرفة وتركتها وحدها تفكر فيما حدث منذ أن أتت! لقد كانت آتية معتقدة أنه إلى الآن لم يتزوج لم يحب لم تدلف حياته امرأة من بعدها! كانت آتية معتقدة أنها بمجرد ظهورها مرة أخرى سيقول هي بنا للزواج وستنفرج أساريره ولن يكون هناك أسعد منه ولكن من الواضح أنها أخطأت..

أخطأت عندما عادت إليه! أو أخطأت عندما رحلت وتركت كل هذا! وتركت جبل! 

من الواضح أنه حقّا تغير كثيرًا، شكله قد تغير أصبح أكثر وسامة ونضج، جسده حتى وكأنه اندمج مع جسد شخص آخر بتلك العضلات والهيبة التي حلت عليه أكثر من كونه كان مراهق..

تغير قلبه وبغضها؟ أحب غيرها؟ عليها أن تفهم ما الذي حدث ليجعله يتزوج من زوجة شقيقه الراحل! ومن هنا تستطع أن تفكر وتستطيع أن تتحرك وتبدأ رحلتها وبحثها عن عودة "جبل العامري" إليها..

❈-❈-❈

تحركت في الحديقة تسير برفق والهاتف بيدها، تحاول الاتصال به ولكنه لا يُجيب عليها، ودت رؤيته والتحدث معه.. النظر إلى عيناه والتمتع برهبة جسده الطاغي على جسدها الصغير عندما يقف أمامها..

أخذتها قدميها إلى خلف القصر وهي شاردة به وبكل ما بينهم لا تنظر حولها ولا أمامها.. لا تفكر إلا به وبأنها تريده الآن لتمتع أعينها الزرقاء برؤية هيبتة وخفة ظله وحسنه..

وقفت خلف القصر تنظر حولها ثم نظرت إلى الهاتف محاولة مرة أخرى أن تحدثه ولكنه لا يُجيب زفرت الهواء من رئتيها بضيق وأخفضت الهاتف ثم سارت خطوات تبتعد عن هنا لتعود إلى القصر مرة أخرى ولكنها فجأة وجدت من يسحبها من يدها ليدفعها إلى الخلف تتوارى عن الأنظار يلامس ظهرها السور وتنحصر بينه وبين الجسد الذي أمامها..

وضع يده على فمها وحاصر جسدها بعنف وقوة، عيناه الجائعة والمخادعة نظرت إليها برغبة وشر في ذات الوقت فوقع قلب "إسراء" على الأرض جوارها مع الهاتف الذي وقع بمحاذاة قدميها..

ارتعش جسدها وهي تنظر إليه باستغراب شديد حاولت رفع يدها الاثنين تبعده عنها ولكنه صدمها أكثر ووخز قلبها وروحها وهو يرفع عليها مدية يضعها في جانبها قائلًا بغلظة وعنف:

-حركة واحدة هعملك عاهة مستديمة.. اثبتي مش هناخد وقت كتير 

حاولت ابتلاع غصة مريرة وقفت بحلقها وعيناها تزرف الدموع بقوة دون توقف نهر جاري على وجنتيها وهي تنظر إليه لا تصدق ما يفعله معها ذلك الحيوان.. ولا تستوعب أنها الآن محاصرة أسفل يده ونظراته الجرئية التي تكاد تجردها من ملابسها..

أقترب منها بوجهه إلى عنقها يحاول تقبيلها بطريقة قذرة بشعة أشعرتها أنها تود التقيؤ ولم تستطع التحرك بسبب تلك المدية التي هددها بها.. فبقيت يدها جوارها وقلبها يعتصر ألمًا وتنطبق أضلعه عليه أكثر وأكثر لتختنق وروحها تبكي قهرًا على ذلك الوضع الذي أصبحت به.. 

كل هذا فقط حدث لها عندما أتت إلى هذه الجزيرة الملعونة.. وعندما قابلته وكَنت له الحب بقلبها!..

تضاربت حواسها ولم تعد تشعر بأي شيء يحدث من حولها لا تشعر إلا بالقهر والضعف.. والخوف الشديد الذي سيطر على سائر جسدها وهي وحدها هنا بين أنياب ذئب قذر.. دون شقيقتها الحامي الوحيد لها..

كل هذا وأكثر أيها العاصم! أليس اسم "عاصم" يعني الحصن والملجأ الذي يحتمي به الإنسان من أي ضرر!.

الفصل الثاني عشر
الشعور بالانكسار قد يكون أبشع شعور على الإطلاق، أن تكون شخص يشعر بأن هناك من يقف خلفك يشجعك على الاستمرار ويكن العون إليك.. والسند الذي تبغاه ثم فجأة تقف أمام ذئاب متوحشة في صحراء جرداء وحدك دون الحامي لك فتشعر أنك مجرد حتى من ملابسك.. فهذا انكسار!.. وهناك غيره أنواع متعددة..

حاولت رفع يدها الاثنين لتدفعه للخلف على الرغم من أنها تعلم أن المدية في جانبها ولكنها لا تطيق تلك الرائحة القريبة للغاية منها في أثناء محاولته لتقبيلها ولكنه شعر بها فوغزها بطرف المدية مهددًا إياها بقسوة وغلظة:

-اثبتي.. قولتلك الموضوع كله مش واخد وقت 

كانت دمعاتها تتهاوى على وجنتيها بغزارة تقف مربطة بجسد مُتشنج تستند إلى ظهر السور تحاول دفعه للخلف لتبتعد عنه وهي تقول بتعلثم:

-أنت عايز مني ايه 

عاد للخلف برأسه ومازال يقف أمامها مباشرة يحاوطها بيد والأخرى في جانبها بالمدية ينظر إليها قائلًا بخبث ومكر:

-واحدة قمر زيك كده هيتعاز منها ايه... غير كل خير 

انسابت دمعاتها أكثر وهي تنظر إليه بقهر تشعر بمدى قذارته ودنائه نظراته نحوها فقالت برجاء وهي تبكي:

-أبعد عني أنا معملتش فيك حاجه 

حرك رأسه يمينًا ويسارًا يرفض حديثها وهو يقترب من وجهها للغاية يتحدث أمام شفتيها قائلًا:

-لأ عملتي.. بس يمكن وأنتي مش واخده بالك 

سألته وهي تبتلع غصة حادة وقفت في جوفها وارتجاف جسدها مازال مُستمر ولكن تحاول أن تلهيه عن تقبيلها والإقتراب منها بهذه الطريقة:

-عملت ايه طيب 

غمزها بعينه الوقحة التي جردتها من ملابسها وهو ينظر إليها من الأعلى إلى الأسفل ووقف على شفتيها بعيناه:

-قربتي.. وحبيتي.. وعاندتي 

حركت رأسها هي الأخرى يمينًا ويسارًا بعدم فهم تخرج منها شهقات متتالية برعب وذعر شديد تشعر به كلما شاهدت نظرته نحوها:

-أنا.. أنا مش فاهمه 

ابتسم وهو يرفع يده التي على الحائط إليها يضعها فوق ذراعها يسير عليه برفق ورقة وهو يتحسسه قائلًا ببرود ومكر:

-لأ أنتي فاهمه كويس وأنتي اللي عملتي في نفسك كده.. مش أنتي اللي قربتي بردو ولا أنا جيت من نفسي 

شعرت أنه يتمادى وهو يُسير بيده عليها فدفعت يده وحاولت أن تستجمع نفسها وقالت من بين بكائها وشهقاتها المُستمرة بتعلثم وضعف شديد:

-أبعد عني والله ممكن اصرخ وألم القصر عليك 

ابتسم بسخرية وهو يعود بيده مرة أخرى إلى الحائط كي يحاصرها وأقترب برأسه منها أكثر وكأنه بوضع حميمي معها لكنه قال بثقة دون رحمة:

-اصرخي وأنا هدب المطوة دي هنا ونخلص بعدها ونقول واحد نط من على السور زي اللي حاول يقتل جبل كده 

اعتصرت عيناها وهي تبكي نادمة على كل شيء مر عليها هنا سواء كان فرح أو حزن جيد أو سيء وقالت وهي ترتعش:

-أبعد عني يا..

قاطعها سريعًا وابتسامته تتسع أكثر قائلًا اسمه:

-عاصم.. ولا نسيتي الاسم 

صرخت به بانفعال وهي على وشك الانهيار والوقوع إلى الهاوية:

-أنت مجنون.. حرام عليك أبعد أنا معملتش حاجه 

عاد للخلف وأخفى المدية بيده وهو يأخذها إلى جيبه سريعًا وقال بسخرية ضاحكًا:

-هبعد.. أنا بس كنت بهزر معاكي بس عارفه لما أبعد لو فتحتي بوقك لحد مش هسمي عليكي

أومأت إليه برأسها سريعًا عدة مرات بقوة وقالت من بين بكائها الذي حاولت السيطرة عليه:

-مش هتكلم أبعد بقى

عاد للخلف أكثر وأفسح لها المجال للعبور وقال مرة أخرى محذرًا إياها:

-أنا حذرتك.. أي حد 

تعود ثانية تومأ له برأسها بهستيرية وهي تنظر إلى ابتعاده عنها وأبصرته ينخفض إلى الأسفل يأتي إليها بهاتفها ثم أعطاه لها وهو ينظر إليها مُبتسمًا بسخرية وتهكم لم تعطي إليه الفرصة لفعل شيء أخر، أخذته منه ثم سريعًا دفعته بيدها وذهبت راكضة إلى الأمام تاركة تلك المنطقة المشؤومة وهي تبكي بقوة وصوت بكائها يرتفع كلما ابتعدت عنه فصاح بصوت عالٍ يحذرها:

-هــا

انخفض صوتها وهي تركض ورأها تضع يدها على فمها كي تكتم شهقاتها وصوت بكائها الذي خرج منها بفعل تلك الخضة والشعور بالخوف والذعر الذي مرت به معه..

أبتعد هو يعود إلى مكانه مرة أخرى وعلى وجهه ابتسامة خبيثة تظهر للأعمى وتوضح أنه شخص قذر..

بعدما أبتعد عن خلف القصر وذهب إلى الأمام تعالت ضحكات آخرى تأتي من الأعلى.. لم تكن سوى "فرح" التي كانت تقف في الشرفة أعلاهم تتمسك بالهاتف وتقوم بتسجيل كل ما حدث لحظة بلحظة.. كل فعل ومعه رد الفعل الخاص به ولكن من أي زاوية وكيف كان المشهد بالهاتف!.. فهذا هي فقط ما تعرفه..

ابتسمت بانتصار وتحركت تدلف للداخل وقلبها خالي من الغيرة تجاهها في فترة لحظية فقط لأن قلبها ينشغل الآن بالسعادة لأجل ما حدث منذ لحظات، ينشغل بفرحة الإنتصار لأنها ظهرت بالوقت المناسب لتسجل ما حدث بينهم ويكن ذلك السيف بين يدها لتتخلص منها وتبعدها عنه إلى الأبد..

كان مخطئ للغاية عندما وقف أمامها وتحداها.. إنها "فرح العامري" من فرع العامري وامتداد العائلة الكريمة والتي لم ترى كرم يومًا.. إنها من امتداد عائلةت تجارة السـ ـلاح وغيره..

ذهبت الأخرى باكية بقهر وحرقة ولكنها محت دمعاتها عندما دلفت القصر وصعدت إلى الأعلى دون أن يراها أحد، ولجت إلى الغرفة وأغلقت بابها خلفها عليها من الداخل ثم ألقت نفسها على الفراش وأخذت تبكي بقوة وصوت بكائها يعلو للغاية.. استمعت جدران الغرفة والأبواب إلى بكائها وشاهد الطلاء حزنها وكسرتها.. وكل ركن شهد على كل شهقة خوف ورهبة خرجت منها ومن أعماقها..

لقد شعرت بالذل والمهانة وهو يقترب منها بهذه الطريقة القذرة يقبل عنقها ويضع يده عليها يتحسسها كما يريد، شعرت بالانكسار والضعف وهي تقف مكتفة الأيدي خائفة من تطاولة عليها بتلك المدية التي كانت معه..

يا لها من لحظات بشعة قهرية مرت عليها وحطمت ما بها، لقد وقع قلبها على الأرض ولم تعد تدري أين هو فقد أشعرها بالخوف المميت وهو يقترب منها إلى هذا الحد ويقول كلمات لم تفهم منها شيء ولم تعرف السبب الذي جعله يفعل بها هكذا!..

شهقت بعنف وهي تبتلع غصة مريرة شعرت بها تعبر جوفها وارتجف جسدها أكثر وهي تفكر في أن هذه كانت البداية منه فقط فما الذي سيفعله أن رآها مرة أخرى وما الذي يريده منها ولما فعل ذلك ولما تركها..

أسئلة كثيرة تدور داخل رأسها تحاول أن ترى لها أي إجابة من أي إتجاه ولكن لا يوجد.. لا يوجد سوى الشعور بالخوف وعدم الأمان والرهبة..

إنها كانت هناك فقط لرؤيته ذلك الذي أرهب قلبها وجعلها تشعر بالحب تجاهه، كانت تتقدم للبحث عنه والنظر إلى وجهه والاستمتاع بقربه هو الوحيد فقط هنا الذي اكتسبته واكتسبت معرفته وقربه.. وحبه لها.. ولكنها لم تكن تتوقع أبدًا أن تقابل لحظة مصيرية فارقة في حياتها أما كانت تكتمل أو تنتهي كما بدأت مثلما حدث منذ لحظات..

توقفت عن البكاء واعتدلت على الفراش تنظر أمامها بعمق تضيق عينيها بتفكير.. لما فعل هذا في لحظات وتركها! كان يريد أن يرهبها فقط؟ أم هناك سبب آخر لا تستطيع الوصول إليه!..

❈-❈-❈

جلست ابنة عمها وصديقتها التي كانت مقربة إليها للغاية قبل أن ترحل وتترك الجزيرة.. بقيت أمامها على الفراش تجلس مُعتدلة تنظر إليها بعمق ثم سألتها بجدية مُستفسرة:

-قوليلي يا فرح.. جبل وزينة اتجوزوا إزاي

تركت "فرح" الهاتف من يدها واعتدلت هي الأخرى تنظر إليها بجدية وقالت بعدما زفرت الهواء من رئتيها:

-دي حكاية 

تعمقت الأخرى في النظر إليها والاستماع إلى حديثها بجدية تامة وقالت بحماس:

-احكيهالي بقى

غمزتها "فرح" بعيناها السوداء وهي تتابعها تحاول أن تفهم ما الذي تريد الوصول إليه بعد أن أتت إلى هنا مرة أخرى:

-جاية ترجعيه؟ قوليلي ولا هتخبي عني 

استنكرت جملتها ثم أبعدت وجهها وهي تتحدث بضيق:

-أنا اخبي عنك؟ بس خايفة تكوني زي أخوكي ومرات عمي اللي اتشقلب حالهم 

رفعت الأخرى أحد حاجبيها تأنبها على تركها لكل شيء خلف ظهرها فقط لأنها فكرت بنفسها بأنانية:

-ما أنتي اللي خايبة مشيتي وسيبتي كل ده يروح من ايدك ولما رجعتي لقتيه فعلًا راح

أومأت برأسها وهي توضح لها أنها أخطأت وتريد الصلاح ولكن ذهولها منه تحكم في نبرتها:

-واديني عايزة ارجعه واتعلمت من غلطي بس ازاي ده جبل كأنه واحد تاني.. ده كأنه محبنيش يوم 

فهمت شقيقته أنها تود أن تلقي باللوم عليه بعد أن تأكد خطأها قائلة بأنه لم يحبها من الأساس ولكنها عارضت حديثها وواجهتها بحقارتها:

-لأ حبك يا تمارا متضحكيش على نفسك علشان تبرري عملتك جبل حبك واتهز لما مشيتي وسيبتيه في الوقت اللي كان محتاجك فيه.. وبقى دلوقتي زي ما أنتي شايفه 

سألتها بقلة حيلة مستنكرة حديثه مع زوجته:

-طب أعمل ايه علشان يرجع وأبعد زينة دي عنه.. أنا مش فاهمه هو بيحبها ولا ايه بس بيعاملها كويس أوي ده بيقولها حبيبتي اللي عمره ما قلهالي طول عمره ناشف مالوش في الكلام ده

ضحكت على حديثها ثم نظرت إليها بقوة قائلة بسخرية:

-لأ يا حلوة ده بيغيظك ولا بيقول حبيبتي ولا غير حبيبتي أنتي أصلًا مش فاهمه اتجوزوا إزاي ولا حتى زينة جت هنا ليه 

زفرت الأخرى بضيق قائلة:

-ما تقولي الله 

بدأت تسرد لها ما حدث بهدوء:

-زينة جت هنا علشان عايزة ورثها من يونس أخويا.. لكن لما جت وقعت في المصيدة أمي عايزة وعد بنت يونس تفضل هنا ومتطلعش من الجزيرة فقالت لجبل يتجوزها..

أكملت تحت نظرات "تمارا" التي تبتسم وتزداد ابتسامتها اتساعًا وهي تستمع إليها:

-جبل رفض وقالها أنه هيحاول بأي طريقة تانية وأنتي عارفه طرقه كتير بس زينة حليت في عينه فجأة ووقفت قصاده في كل كلامه لحد ما طلبها للجواز.. رفضت بردو وحاولت تهرب واتنازلت عن كل حاجه في سبيل أنها تمشي لكن جبل مسمحلهاش

استردت وهي تعود بظهرها للخلف:

-عجبته أوي وقال مش هيحلها لحد ما اتجوزها زي ما أنتي شايفه بعد كده اللي بيحصل بينهم محدش يعرفه إن كان حقيقي ولا كدب 

سألتها باستغراب فكل ما قالته يبدو جيد للغاية بالنسبة إليها وما أوضحه إليها فهمت مقصده منه:

-اشمعنى 

تهكمت عليها "فرح" وهي تنظر إليها بسخافة:

-علشان مش قدامنا يا ناصحة بيحصل في اوضة النوم 

ابتسمت "تمارا" باتساع وهي تضرب بيدها على ركبتيها بفرحة كبيرة تسألها:

-بس المهم أنه ولا كان عايزها ولا هي طيقاه.. صح

أومأت إليها الأخرى مستغربة سعادتها:

-صح 

أكملت تسألها مرة أخرى بابتسامة أكثر اتساعًا من السابقة:

-وكانت عايزة تهرب وتسيبه 

مرة أخرى تأكد لها:

-آه 

أبعدت وجهها للناحية الأخرى وهي تحدث نفسها بصوت مرتفع يبدو عليه السعادة:

-كده اتحلت خالص وسهلة خالص

استغربتها ابنة عمها فعادت للأمام ثانيةً تنظر إليها مستفسرة عن حديثها الذي لم تفهمه:

-هي ايه دي اللي سهلة 

حركت وجهها إليها ونظرت داخل عينيها وهي تقول بسعادة خالصة وكأنها حصلت على حبل لغزه لتستطيع العودة إليه:

-إني أرجع جبل 

حركت "فرح" رأسها تسألها باستفهام مضيقة عينيها عليها بجدية شديدة:

-إزاي؟

رفعت حاجبيها وحركت إصبعها أمامها وهي تقول بقوة متأكدة من حديثها وبدأت الفكرة أن تلعب داخل رأسها:

-لأ دي بتاعتي خليها ليا أنا واقولهالك بعدين بس بقولك ايه أنتي في ضهري لو عوزت أي حاجه معايا ماشي 

أومأت إليها بثقة فهي حتى لو لم تساعدها لأجلها ستساعد نفسها فـ أيًا كان ما الذي ستفعله "تمارا" مع "زينة" فهو سيعود عليها بالنفع عندما ترحل من هنا وتأخذ شقيقتها معها..

-طبعًا معاكي هو أنا هحبها أكتر من بنت عمي 

ابتسمت لها بسعادة:

-فرح بصحيح 

ومن هنا بدأت اللعبة معها على حق، علمت كيف ولما تزوج من زوجة شقيقه.. لقد كانت تائهة بينهم ولكن الآن أصبحت تعلم أين المرسى وما الذي ستفعله معهم لتسترد ما كان لها.. ولتعد البلاد إلى حاكمها..

❈-❈-❈

كان عاصم يقف داخل غرفة الحراسة ما كاد إلا أن يخرج هاتفه لمحادثها إلا أنه وجده يصدر رنينا عاليًا.. أخرجه من جيبه ونظر إليه ليجد "طاهر" يحادثه..

أجاب عليه قائلًا باستغراب مضيقًا عينيه:

-بتكلمني ليه 

أجابه الآخر باستهزاء وتهكم وصل إليه من خلال نبرة صوته:

-هو عيب لما أكلمك ولا ايه

زفر الهواء من رئتيه بنفاذ صبر قبل أن تبدأ المحادثة بينهم حتى وصاح قائلًا:

-عايز ايه يا طاهر انجز 

تخللت نبرته السخرية وهو يقول مُجيبًا إياه:

-واحشني يا جدع قولت أمسي عليك 

سأله يبادله سخريته وهو يضغط على الهاتف بيده بقوة:

-ومسيت؟

بمنتهى البرود أجابه "طاهر":

-لأ لسه

صاح به بنفاذ صبر وهو يتحرك بالغرفة بعصبية:

-انجز 

تنهد بصوت مرتفع وقال له بجدية بعد أن اعتدلت نبرة صوته:

-مش ناوي تكمل المسيرة بتاعتك وتبقى أوفى راجل عرفه جبل 

سأله "عاصم" مضيقًا ما بين حاجبيه:

-اومال أنا ايه يا طاهر 

ضحك بصوتٍ مرتفع ضحكات متفرقة بسخرية مُستهزأ به ومتهكمًا عليه وأكمل حديثه بجدية ذات مغزى:

-اوفى راجل بس من ناحية تانية.. جالي أخبار كده إنك وقعت ومحدش سما عليك.. سما زرقا وشعر أصفر 

اعتدل "عاصم" وثبت في وقفته ولم يتحرك فمرت هي كالهفوة على عقله عندما استمع إلى حديثه ولكنه أردف:

-أنت قصدك ايه

لم يكذب عليه بل أفصح عن قصده بلا مبالاة:

-هيكون قصدي ايه غير الجمال التركي النادر

على صوت "عاصم" بغضب صارخًا باسمه:

-طاهر...

أخذ الآخر ما يريد فابتسم وهو يعود لتهدئته:

-اهدى بس على نفسك بالراحة دا أنا حتى كنت هباركلك.. متبقاش حمقي كده 

لم يعطي إليه الفرصة للتحدث أكثر من ذلك وصرخ مرة أخرى وصبره ينفذ حقًا:

-بقولك عايز ايه 

سأله بخبث ومكر:

-مش ناوي ترجع الملاعب.. علشان نوقف كل اللي بيتدربوا 

وقف شامخًا وأجابه بتأكيد وثقة:

-أنا موقفهم كده كده يا طاهر وأنت عارفني كويس 

ضغط "طاهر" على أسنانه بقوة وأردف بتهديد واضح بعد أن أدلى برفضه لحديثه:

-مش لوي دراع يا عاصم.. فاضلك عندي تكه واحدة

لم يعير حديثه أي اهتمام بل أكمل عليه ساخرًا:

-اعتبرها مش موجودة ووريني أخرك..

سأله بقوة وهو يتوعد له:

-أنت شايف كده؟ بايع يعني 

أومأ برأسه وأدلت بالكلمات شفتيه وارتفع صوته وهو يقول بغضب:

-آه بايع يا معلم ويلا في داهية 

استمع إلى صوته الذي يهدد إياه:

-طب متبقاش تزعل 

ضحك بسخرية يردها إليه ثم صاح بقوة يذكره بتاريخه معهم:

-أنت هتعملهم عليا إحنا عارفين من فينا اللي كل يوم والتاني زعلان.. غور بقى 

أغلق الهاتف بعصبية بعد أن عكر ذلك الحيوان صفوه وهو الذي كان في مزاج جيد للغاية، وعلى بُعد لحظة واحدة من الوصول إلى تلك الغريبة الغبية.. الطفلة المزاجية والتي تتحول كل ثانية.. الذي اخترق معها كل القواعد وتعدى الخطوط الحمراء وابتعد عن مساره الصحيح وأبحر داخل محيط ليس به مرسى وليس به مكان للنجاة.. لقد أغرق نفسه بنفسه وهو يركض من هنا إلى هناك خلف هواجس غريبة تخللت وسارت داخل عقله وأثبتت إليه أشياء لم يكن يعرف لها معنى ولم يكن يدري بوجودها.. 

نظر إلى الهاتف وأعاده مكانه مرة أخرى وهو يزفر بضيق فقد كان يود أن يتسلى قليلاً بذلك العبث الذي يفعله بها..

عاد إليه عقله مبتعدًا عن التفكير بها وللحظة تذكر حديث "طاهر" كيف علم عن أصولها التركية؟ كيف علم بمظهرها! خصلاتها الصفراء وعينيها الزرقاء ومن أخبره أنه وقع بحبها أو حتى الإعجاب بها!!.. الخائن بيس على الجزيرة بل هو من داخل القصر.. من حراس القصر!

اخرج الهاتف مرة أخرى وهو يقرر أن يفعل ما أراد بعد أن اخترق عقله كثير من الأفكار ولكن استوقفه ما أرسلته إليه "فرح" عبر تطبيق الواتساب.. فولج إليه ليرى ما الذي ارستله وليته لم يدلف..

نظرات عينيه الحمراء يخرج منها غضب بركان وحممه تتساقط وهي تنظر إلى الشاشة وترى ما كان يحدث خلف السور.. 

صقر طائر وقع جريح وهو الجارح.. كيف لها أن تفعل ذلك؟ كيف لها أن تسمح لنفسها..

وكيف يحدث هذا! غضبه لا يدري أهو منه نفسه أو منها أو من "فرح" تلك الغبية الحقيرة التي سيكون لها عقاب لم تشهده سابقًا ولكن صبرًا

لقد أوقعته وفعلت ما أرادت ولكنه لن يجعلها تفرح كثيرًا ولن يترك أي شخص اشترك بهذه الفعلة الدنيئة.. 

نظر أمامه بنظرات حادة غاضبة.. غضبها جامح ورفقها غير موجود.. والتفكير يعبث برأسه والحرب دائرة داخله..

❈-❈-❈

جلس "جبل" على الفراش ومعه بيده بعض الأوراق والملفات المهمة الذي أخرجها للتو من خزنته الخاصة بدأ في النظر إليها واحدة تلو الأخرى وهو يعمل ويعيد ترتيبهم مرة أخرى

تركت المقعد الذي كانت تجلس عليه وذهبت لتجلس جواره على الفراش ثم خرجت الكلمات من بين شفتيها دون حساب:

-مش ناوي تفتحلي قلبك؟

رفع بصره إليها باستغراب شديد وعيناه تتابعها ثم ابتسم فجأة وهو يقول ساخرًا:

-الكلمتين اللي اتكلمتهم معاكي ادوكي دفعة شجاعة علشان تقولي تفتحلي قلبك مرة واحدة

أومأت إليه برأسها وهي تعتدل لتكن مقابلة له وقالت الحقيقة بجدية:

-آه.. خلوني أفكر أكتر 

أعاد نظره إلى الأوراق بيده وسألها:

-في ايه بقى 

ببساطة شديدة تحدثت عنه:

-فيك

سألها مرة أخرى بجدية وهو يود حقًا أن يعلم ما الذي تفكر به:

-إزاي

أردفت بجدية وصدق فحقًا الحديث معه في المرة السابقة كان كالسهل الممتنع وتفكيرها المستمر دائمًا ابحر أكثر من السابق وأرهقها:

-يعني.. خلوني أشوفك بطريقة تانية وأحس أنك إنسان عادي زينا وممكن التعامل معاك يبقى أسهل لو فهمتك وفهمت حياتك كانت إزاي وليه بقت كده 

عاود يسألها ببرود ولا مبالاة:

-وأنتي كنتي شيفاني إزاي

عبثت ملامحها وضغطت على أسنانها وحروف كلماتها وهي تتحدث بغل:

-كنت شيفاك ديب من ديابة الغابة بتاعتكم

ضحك بقوة وعبث بالأوراق وهو يستشعر طريقتها وتخيل ملامحها بعد الاستماع لصوتها لأنه لم يحظى برؤيتها وهي تقول ذلك:

-للدرجة دي 

أومأت إليه وهي توضح له برفق:

-وأكتر كمان ولحد دلوقتي أنت لسه زي ما أنت أنا بس بحاول اتأقلم أكتر 

رفع بصره إليها ينظر إلى ملامحها ثم هتف مستغربًا:

-مش قولتي خلاص اتعودتي على سجنك معايا 

تابعته وهي تنظر إليه أيضًا ولكنها الآن في مرحلة لم تمر عليها من قبل معه إلا مرة واحدة، تتحدث معه برفق ولين وهو سهل بسيط للغاية فحاولت استدراجه وهي تقول:

-سجن.. ليه ميتحولش لتأقلم عادي وبالرضا 

سألها مضيقًا عينه عليها:

-وده ينفع؟

حركت كتفيها بهدوء تعاود هي نفس السؤال:

-ماينفعش ليه؟

ابتسم باتساع لأنه يدرك جيدًا أن هذه ليست المرأة التي تتحول هكذا بين ليلة وضحاها فقال يوضح لها مدى ذكائه الذي رأته سابقًا ولكن يبدو لا تعترف به:

-علشان اللي أعرفه إنك مش بالساهل تتغيري كده.. يمكن بتحاولي تستهبليني علشان احكيلك اللي أنتي عايزاه 

سبته داخلها لأنه يدرك جيدًا ما الذي تريد الوصول إليه ولكنها تصنعت ذلك بحرافية وهي تقول بمكر:

-بالعكس أنا بفكر بجد أنه ليه مقعدش هنا بالرضا بدل الغصب خصوصًا إنك محتاج كده الفترة دي

استغرب قائلًا: 

-وده ليه بقى 

أجابته بعقلانية لأنه أراد أن يظهر لابنة عمه أنه الأفضل على الإطلاق ومعه زوجته وابنته، لعبت على ذلك تعبث به:

-علشان تمارا مثلًا.. مش ممكن نحسن علاقتنا وتبان أنها حقيقية أكتر قدامها 

ابتسم أكثر وعاد بعينه بعيدًا عنها قائلًا بعدم اقتناع:

-مش داخل عليا كلامك ولا هيدخل يا غزال 

سألته بضيق:

-للدرجة دي؟

أجاب سؤالها بهدوء وجدية موضحًا لها أنه يفهمها جيدًا ويعلم أنها تريد العبث به ليس إلا:

-مش أنتي اللي تستسلمي بسهولة وحتى لو استسلمتي مش هيبقى بالطريقة الراغبة فيا دي

تحدثت وهي تتحرك على الفراش تبتعد للخلف تظهر ثقتها بنفسها أكثر وتظهر له أن حديثها حقيقي بعدما تراجعت وتحدثت بعدم اهتمام:

-مين قال إني رغباك.. أنا عايزة نعيش مع بعض وإحنا راضيين طالما خلاص اتحكم علينا بده وده في مصلحتك ومصلحتي

تفوه مستغربًا من حديثها:

-مصلحتي وعرفناها.. مصلحتك ليه بقى

عادت المسافة التي ابتعدتها مرة أخرى وقالت بجدية وصدق نابع من قلبها وعقلها الذي قتله التفكير:

-أولًا علشان بنتي.. ثانيًا علشان أنا تعبت منك وتعبت من تفكيري فيك أنت شخص كويس ولا لا ومحتاجه أفهم بجد وارتاح 

ترك ما بيده تمامًا واعتدل في جلسته عندما طرح عقله عليه هذا السؤال بعد حديثها الذي استشعر به الصدق فقال دون مقدمات:

-لو طلعت شخص كويس مش زي ما أنتي شايفه هتعملي ايه.. هتفضلي معايا ولا هاتمشي

نظرت إليه للحظة ثم عدلت عليه:

-أنت سألت السؤال غلط 

حرك رأسه يسألها وعيناه تتابع كل حركة تصدر عنها:

-وايه الصح 

نظرت إليه بعمق وبقوة ثم خرجت الكلمات من بين شفتيها تعدل سؤاله ليكون عقلاني أكثر:

-لو طلعت شخص كويس مش زي ما أنتي شايفه هتغيري نظرتك السابقة فيا وتنسي اللي عملته فيكي ولا لأ

ظل ينظر إليها دون حديث فأكملت هي قائلة:

-من هنا نقدر نسأل ولو هغير نظرتي وانسى تسأل بعدها هتتقبليني ولا لأ وبعدها هتقعدي ولا لأ

لا يدري لما أصبح ينظر إليها كل هذه المدة دون حديث وهي تتابع عيناه دون كلل أو ملل بل وقف الحديث على طرفي لسان كل منهما ولكنه في لحظة ما خرجت منه الكلمات بعفوية تامة:

-لو نسيتي وغيرتي رأيك فيا.. هتحبيني؟

كررت نفس الكلمة باستغراب تام وذهول أحاط عقلها بعد أن ارتجف جسدها من أثرها عليها:

-أحبك!

بقيت تنظر إليه دون إجابة وهي ترى عيناه وملامحه تترقبها وتنتظر منها إجابة.. أهو حقًا ينتظر منها أن تحبه؟ أهو يتخيل أن الأمر بهذه السهولة؟ أو هو تغيرت مشاعره تجاهها ليقول هذا الحديث مرة واحدة.. أهو مختل؟ لقد قفز مرة واحدة في العلاقة بينهم وهي لا تستطيع تحديد أي مرسى تقف عليه الآن معه؟ أنها فقط أرادت التحدث ليس أكثر

شاهد تعابير ملامحها التي تتغير كل لحظة والأخرى وكأنها تحدث نفسها قال:

-ايه صعب؟

حاولت الهرب من حديثه لتعود إلى ما أرادت وقالت بضيق وانزعاج:

-أنت بتغير الموضوع وبتهرب بردو 

نفى ما قالته وهو يوجه لها نفس الإتهام بالهرب:

-أنتي دلوقتي اللي بتهربي 

تابعته قائلة بامتعاض:

-بس أنا اللي سألت الأول

استاء من حديثها لأنه على علم تام بما تريد وفجأة أراد أن يبدل الأدوار وراقت له اللعبة:

-معلش مش في حضانة إحنا

وجدها تسأله بضيق شديد يظهر على ملامحها:

-أنت إزاي كده

لوى شفتيه قائلًا:

-كده ايه

خرجت الكلمات منها بنفعال بعد أن احتارت في وصفة.. بكل أريحية يجلس الآن ينظر إليها بعينيه الخضراء الصافية يخفي نظرته المخيفة عنها وكأن لم يكن هناك أي شيء سيء فعله معها:

-مبقتش فاهمه أي حاجه منك بجد.. عصبي ودبش، قاسي وعنيف، ولا حنين وطيب، عادل وحكيم لأ وبتتكلم معايا دلوقتي عادي كده من غير ما عينك تبصلي البصة اللي بتخوف دي 

ارتفعت ضحكاته التي لم تخرج مؤخرًا إلا معها هي بسبب تلك العفوية الغريبة التي تستدرجه إليها بكامل إرادته:

-أنا عيني بتخوف؟

أومأت إليه دون خوف مؤكدة:

-آه

صمت وهو ينظر إليها ومازال يضحك فابعدت الضحكات عنه وهي تقول بضعف وحزن ظهر عليها:

-جبل.. احكيلي 

تنهد بعمق وهو ينظر إلى ضعفها ويشعر بمدى المعاناة التي تمر بها خصوصًا أنها امراة حرة فضولية تريد أن تكون على علم بكل شيء، أردف بجدية شديدة:

-ماينفعش.. جبل اللي أنتي عرفتيه ماينفعش يتهز ولازم يفضل زي ما هو.. وكلمة مني يا غزال طالما أنتي عايزة نبقى كويسين هبقى كويس معاكي بس طول ما أنتي مش بتغلطي 

احتارت وهي تقترب منه تشير إليه بيدها على مدى الإرهاق التي تشعر به كلما فكرت به أو بشيء يخصه، تدلي إليه بعذابها في الأيام السابقة وسعادتها بأن الطريق فتح بينهم:

-لو اتكلمت معايا هتريحني.. أنت مش فاهم دماغي فيها ايه.. أنا ما صدقت بقى في كلام بينا لأن أنت الوحيد اللي ممكن يريحني.. طول الوقت دماغي كانت مش بتفصل تفكير وتسأل أسئلة مش لاقيه ليها إجابة

لمعت عينيها بغرابة وهي تحاول بكل الطرق أن تجعله يدلي إليها بكل شيء بحياته ويعترف بأسراره:

-طول الوقت مش فاهمه أنت ايه ولا عارفه أهرب منك إزاي لكن مرة في مرة حسيتك حد تاني ودي الفرصة اللي سرقتها علشان تتكلم.. أنا مستعدة انسى اللي حصل دلوقتي بس تريحني 

تفوه مستغربًا من طريقتها التي تحولت وكأنها مدمنة تريد الخلاص وهو بيده فقط:

-اريحك إزاي

وضعت يدها على يده تتمسك به قائلة وعينيها متعلقة به:

-قولي أنت فعلًا تاجر سـ ـلاح؟ 

وجدت الصمت عنوانه لم يدلي إليها بأي حديث فأكملت مرة أخرى تسأل:

-طب أنت قتـ ـلت فعلًا؟

الإجابة الصمت كالسابق فتابعت تضغط على يده تتأمل أن يجيبها:

-طب أنت راجل ظالم ومجرم؟ 

أبعدت يدها عنه وأصبحت تُشير بها وهي تتحدث بصدق موضحة له أنها لا تستطع العيش مع رجل مجرم مثله أما أن يتركها تذهب أو يعترف بالحقيقة:

-جاوبني.. أنا مقدرش أعيش معاك وأنا عارفه أنك كده مقدرش أعيش في نفس المكان حتى لو أنت بعيد عني.. جبل لو أنت فعلًا كده أرجوك خليني أمشي أنا مش هعوز منك أي حاجه وأقسملك إني مش هبلغ 

ابتسم بسخرية شديدة قائلًا:

-هو أنتي فاهمه إني خايف تبلغي؟ يبقى لسه معرفتنيش فعلًا 

أومأت إليه تؤكد ما قال ورأسها تكاد تنفجر من كثرة التفكير والحديث الذي لم يأتي بنتيجة معه:

-دي حقيقة أنا مش عرفاك.. دي تاني مرة نتكلم مع بعض بجد كل اللي شوفته منك أفعال كلها بتناقض بعضها بسببها دماغي بقت متلغبطة 

تنهد وهو ينظر إليها بعمق وقال بثقة وتأكيد:

-كل اللي أقدر اقولهولك ارتاحي يا زينة 

استغربت نطقة لاسمها بهذه الطريقة فرددته باستنكار:

-زينة!

ضرب على يده وهو يضحك ساخرًا قائلًا بتهكم:

-أنتي محسساني إني لما بقول زينة كده بقول اسم واحدة تانية.. هو مش ده اسمك بردو 

ابتسمت على حديثه وعيناها تلمع بطريقة غريبة، كنجم لامع بقوة بين ظلام السماء، قالت برفق وهدوء تنظر إليه:

-تصدق غزال أحلى

ظل ينظر إليها للحظات والأخرى يتابع نظراتها نحوه وحديثها معه كل هذا الوقت وليست المرة الأولى، لهذه الدرجة هي امرأة فريدة من نوعها كي تجعله يجلس هكذا ويتحدث معها ويضحك أيضًا..

-شايف لمعة غريبة في عينك.. يمكن هتحبيني!

كانت تنظر إلى عيناه مباشرة واخترقت الكلمة قلبها مرة أخرى غير الأولى، لكنها تحدثت تجيبه بقوة تنظر إلى داخل عيناه دون خوف تقول ما لم يستمع إليه سابقًا.. تذكره أنه من كسرها بكامل إرادته الحرة، وتعلمه بأن ما صدر منها ما كان إلا ضعف:

-بتتكلم عن الحب كأنه حاجه سهلة أوي بأيدينا.. حتى لو سهلة وتنفع معاك متنفعش أنا مستحيل انسى اللي عملته فيا.. كله كوم وكسرتك ليا كوم لأنك عملت كده وأنت عارف إنك بتكسرني وبتذلني ولو فاكر إني لما سبتلك نفسي كده خلاص فلا.. دي كانت لحظة ضعف مني وندمت عليها لأنها مكانتش المفروض تحصل 

تابع نظراته نحوها، يشعر بكل كلمة خرجت من داخل قلبها ليس فمها أو شفتيها تدلف إلى قلبه مع تلك الأسهم الذي تخرج من عينيها تلقي إياه بها بعنف..

-مبتردش ليه

قال وهو يبعد وجهه عنها:

-كفاية كلام 

سألته تحاول أن تنظر إليه وترى ملامحه بعد حديثها:

-ليه؟ علشان قولت الحقيقة ولا يمكن تكون وجعتك

وقف على قدميه بعد أن ارهقه الحديث معها فهو جميعه يحتاج إلى تحليلات يرفعها إلى نفسه ثم إن كانت تجوز أن يدلى بها تعبر من بين شفتيه وتخرج وهو لم يعتد على ذلك أبدًا.. أبتعد وهو يقول بنفاذ صبر:

-علشان كلامك كله بيحتاج تبريرات أنا مقدرش أقولها.. وكله استدراج ليا علشان أتكلم معاكي وافتحلك قلبي زي ما قولتي.. زينة أنا وأنتي اخرنا قعدة صافية زي دي أكلمك فيها كلمتين زي دول أكتر من كده لأ.. لأن دي أسرار وآه أنا تاجر سـ ـلاح وقـ ـاتل ومجرم 

كذبته وهي تقف تتقدم منه تقول بمنتهى الثقة ما الذي تشعر به تجاة رجل حكيم عادل لا يصلح أن يكون غير ذلك:

-مش حاسه بده.. تصرفاتك الأخيرة وكل الكلام اللي حوليا خلاني أعيد حساباتي وأفكاري فيك.. مافيش مجرم بيعمل كده.. أنت نفس الشخص اللي قالي أن قلبه مافيهوش رحمة...

أشارت إلى نفسها وهي تعترف بأنه رجل لا يوجد به إلا كل الخير:

-أنا زينة مختار بقولك أن قلبك مافيهوش غير رحمة وبس.. والقسوة دي معرفش سببها ولا جات منين بس أنا عندي فضول هيموتني علشان أعرف أصل الحكاية 

أشار إليها بيده مستنكرًا وعيناه تجوب وجهها بذهول:

-بردو الفضول ده.. أنتي مش بتحرمي أبدًا 

أكمل بقسوة تعود إلى موضعها الأصلي تخرج منه بصرامة وعنف وعيناه بدأت في التحول:

-حاولي متمشيش ورا فضولك علشان ممكن يوقعك في غلط أكبر مني ومنك.. وقتها هتنوري في الجبل ومش هسمي عليكي 

استدارت تعطيه ظهرها تزفر بضيق لأنه يعود معها إلى نقطة الصفر بعد أن أيقنت أنها إن استمرت معه هكذا سيكون كتاب مفتوح لها إن لم تخطئ:

-رجعنا للغرور والتكبر والكلام الزفت اللي زيك 

شعر بها وبما جال بخاطرها فعاد يقص عليها ما قاله يطمئنها بأنه لن يعود ذلك الشخص القاسي مرة أخرى:

-بعرفك بس.. متزعليش أوي كده أنا مش برجع في كلمتي قولتلك خلاص هنتعامل كويس 

عادت تنظر إليه وقالت بفضول قاتل:

-ماشي بس ايه الغلط اللي ممكن يكون أكبر منك 

ضغط على شفتيه بقوة بعدما انفعل بسبب فضولها الزائد عن حده فهي لا تترك الكلمة تمر مرور الكرام، قال بضيق:

-أنتي مش بتهمدي..

رن هاتفه على الفراش فتقدم يأخذه نظر إلى شاشته وعاد إليها قائلًا:

-معايا تلفون مهم 

ذهب إلى الشرفة بعد أن فتح الهاتف ودلف ليتحدث به وترك الأوراق على الفراش كما هي.. 

جلست هي مرة أخرى تنتظره تفكر في حديثهم المتناقض ونظراتهم الغريبة.. حديثه عن الحب بطريقة غريبة مبالغ فيها، هروبه منها وعدم إجابته على أي من أسئلتها بإجابة واضحة مريحة.. 

طريقة تواصلهم الذي اختلفت كثيرًا وهي التي لم تعد تفهم شيء أكثر من السابق حتى لم تفهم نفسها!.. ما الذي يحدث معهم!..

حركت رأسها بقوة وهي تشعر بالصداع يداهمها من كثرة الأفكار وحاولت طردهم إلى أن تنهي النقاش معه لتبدأ بالصداع وهي تفكر بعد انتهاء الحديث ليكن مرة واحدة..

نظرت إلى أوراقه الذي كان مهتم بها للغاية ثم عادت بنظرها إليه لتراه يقف في الشرفة يتحدث في الهاتف يعطي إليها ظهره..

انتهزت الفرصة عندما أدركت أنه مشغول عنها وهذه الأوراق شغلته أكثر أثناء الحديث فازاد فضولها نحوها وتقدمت منها وهي جالسة على الفراش تضغط على شفتيها بحدة وهي تتمسك ببعض منهم..

رفعت الأوراق أمام وجهها وأخذت تقرأ محتواها وهي تبدل من ورقة إلى الاخرى ثم وقفت بعينيها على حين غرة ودققت النظر وعينيها تتسع بصدمة وذهول..

ألقت ما بيدها وأخذت من بقية الأوراق على الفراش وعينيها تتسع أكثر وأكثر، لم تستطع أن تبتلع تلك الغصة التي وقفت بحلقها وهي تقرأ ما كتب على الأوراق وتلك التواقيع أسفله!!..

كل الأوراق تنص على الإجرام الكامل! كل الأوراق تقتل البشر، كل ما كتب ينص على قتل النفس والتحريض على ذلك.. حقائق وأسرار بشعة تنظر إليها بعنيها ولا تصدق ما تراه.. وكأن الآية انقلبت!.

رفعت وجهها عنهم مُحركة شفتيها ناطقة بارتجاف:

-إزاي.. معقول!؟

حقيقة أخرى تحل عليها من المساء بطريقة غير معقولة وكأن الله يبعث إليها الحقائق واحدة تلو الأخرى لتستطيع التفريق ومعرفة البشر وما يفعلون من حولها..

احتلت الصدمة كيانها وارتجف جسدها والشريط المار على عقلها لا يتوقف بكل ذكرى راحلة منذ البداية إلى الآن!..

رأته يدلف من الشرفة ينظر إليها والأوراق بيدها، تابع نظراته ببرود تام ووقف شامخًا أمامها يعود لعصره بعدما علم أن فضولها ساقها إلى تلك الأوراق وعلمت محتواها!..

لكنها كانت في حالة أخرى بعيدة كل البعد عن التفكير به.. بل كانت تفكر بحياتها الضائعة سابقًا والآن!..

تعليقات