رواية حبيبت عبد الرحمن الفصل التاسع9والعاشر10 بقلم سلوي فاضل


 رواية حبيبت عبد الرحمن الفصل التاسع9والعاشر10 بقلم سلوي فاضل

صدمة

بالغت حافظة في ضغطها على الرحمن تهدده تارة بالغضب عليه، وتارة بافتعال المشاكل مع محمود، وأخرى أن نذهب لحبيبة في غير وجوده، لم يتخيل مدى إصرارها وحرصها علي إيلام زوجته، شعر بالندم والتخبط، يتساءل.. هل أخطأ بحق حبيبة عندما تزوجها؟ هل أجرم حين بحث عن سعادته حتى حققها؟ لم يُحب الحياة الأخرى التي عاشها سابقا، كره نفسه وزوجته السابقة حينها.

لم يستطع إلا أن يلوم والدته، سأل نفسه مرارًا.. لما تريد له العذاب لما لا تريد راحته؟! هو ابنها الوحيد، سندها بالدنيا، لم يخذلها يومًا، إذن لما لا تهتم به؟!

  تأثرت صحة عبد الرحمن بشكل واضح، دائما يطرق رأسه صداع  مستمر، يزداد كلما قابل والدته، لاحظت حبيبة تكرار شكواه وتعبه، فزادت من اهتمامها به ووفرت له جميع سبل الراحة.

في المساء جلست حبيبة تذاكر وهو إلى جوارها كما اعتادوا، تتابعه بعينها، يرتجف قلبها قلقًا عليه، لاحظت محاولته لإخفاء ألمه، يدلك راسه بخفة محاولة لتجمل وجعه، شغرت بغصة بقلبها لحالته.
-مالك؟ أنت  تعبان قوي كدة؟ أجيب لك مسكن؟

تحدث بألم وببطء شديد، فكلماته تزيد طرقات رأسه:
-أنا كويس، ذاكري أنت  بس وركزي.
-لأ، أنت  مش كويس أبدًا، لازم نكشف، أنت تعبان بقالك فترة، الصداع بقي كتير زيادة عن اللزوم عشان خاطري تعالي نكشف.

أسكن يده جانبه، رسم ابتسامة بالإكراه على وجهه يخفي خلفها ألمه وآنينه: 
-أنا بخير ما تقلقيش.

أدمعت عينها تشعر بوجعه، وتحدثت برجاء: 
-لو ليا غلاوة عندك، عشان خاطري تعالي نكشف، عشان أطمن بس.
-كل ده عشان شوية صداع،  خلاص نروح نكشف بس مش دلوقتي.
-أوعدني نروح بأقرب فرصة وما نتاخرش، أوعدني يا عبد الرحمن.
-أوعدك يا حبيبتي نروح أخر الاسبوع، ذاكري بقى وشوفي اللي وراكي أنا هدخل أرتاح شوية.
بالفعل ذهبا الي الطبيب فقد أرهقه الألم، كما أشفق عليها وشعر بتوترها الدائم وقلقها؛ فرأف بها وبنفسه.
-الكشف والتحاليل يا استاذ عبد الرحمن بيوضحوا انك بتعاني من الضغط، الضغط مُرتفع جدًا، لازم تهتم أكتر من كدة، هل كنت بتاخد علاج ووقفته؟
-لا دي أول مرة أتعب كده، ويستمر التعب، من شهرين فاتو ما كنتش تعبان من حاجة.
-غريبة! نادرا لما يحصل ده، واضح إن عليك ضغط كتير الفترة دي، خلي بالك إنذار خطر إن حالتك توصل للمرحلة دي مرة واحدة، علي العموم، هكتب لك أدوية هتريحك، ويا ريت نبعد عن أي ضعط عصبي خصوصًا الفترة دي، بالراحة والأنتظام علي الادوية ان شاء الله الضغط ينزل وتبقي طبيعي جدًا.


انهارت حبيبة باكية، سيطر عليها الخوف، فالمرض من أكبر مخاوفها؛ وسببا لبُعد والديها، تحدث الطبيب معترضًا:
-لا يا مدام، حالتك دي ممكن تأثر بالسلب، الاهتمام والراحة هما اللي هيساعدوه يخف.

زاد اشفاق عبد الرحمن عليها، فحدثها مطمئنًا:
-حبيبة، أنا كويس، ده شوية ضغط و هنتظم علي العلاج كفاية عياط، شكرًا يا دكتور.

خرجا من غرفة الطبيب وحبيبة تنظر إليه ولا تقوى على إيقاف سيل دموعها الصامت، وبالسيارة نظر عبد الرحمن إليها مبتسماً.
-أنا كويس أهو، وهاخد الأدوية في معادها بطلي عياط بقى، لأني بتعب من دموعك دي بجد.

انتفضت وجففت دموعها سريعًا: 
-خلاص اهو، بس بالله يا عبد الرحمن، عشان خاطر ربنا، خلي بالك من نفسك، عشان خاطري .
-حاضر، بطلي عياط، كفاية كده.
اماءت له وحاولت الابتسام.

زادت حبيبة من اهتمامهما به و سئلت علي المشروبات الطبيعية التي تفيده بجانب الأدوية واعدتها له تستقبله بها عند عودته من العمل. 
-أنا كل يوم أول ما أرجع تستقبليني بالكوباية دي، طيب اشربي معايا.
-لو شربت معاك هتشرب علي طول.

أماء لها:
-بالظبط كدة، عشان يزيد حلاوة، ما اشربش من غير حبيبتي.

احضرت أخر لها سريعًا
-يلا اشرب بقى.
بعد قليل شعرت هي بهبوط شديد وبردت أطرافها، كادت أن تسقط، فأسرع اليها وحملها، ومع تكرار تعبها؛ انتبه لسبب تعبها، وبعدها عند عودة عبد الرحمن للبيت، احتضنها مبتسمًا ويداعبها: 
-ايه ده! هَاشرب كوبيتين كمان، كتير كدة. 

ضمته إليها مبتسمة وأراحت رأسها علي صدره:
- هانشرب مع بعض.

اخذ منها المشروب وضعه على المنضدة بجانب اقرب مقعد، جلس وجذبها لتجلس علي قدميه
-عايزة تتعبي زي كل مرة، بُصي، إحنا نشرب بردو مع بعض، بس من غير ما تتعبي .
ردت بدلال خفيف، وذراعيها تحاوط عنقه: 
-وهنعملها إزاي دي بقى؟ 
-طاب ما تيجي نشوف.
فأخذ الكوب ووضعه علي فمها ارشفت القليل ثم شرب من موضع فمها، طالعته بحب وسعادة حتي أنتهي ثم ضمها اليه بقوة.

    حياة مثالية يعيشاها ويسعدا بها كثيرا، راحة وتفاهم متبادل مكَّن عبد الرحمن من السيطرة علي شخصيته الأخرى، التي اظهرتها زوجته السابقة وبجدًارة، تحققت أمنيته بشكل أجمل وأفضل ممَّا تمنى، لكن والدته حافظة لم تقبل بتلك الحياة، لم تحقق لها مُبتغاها وراحتها، لم تسعد بتبدل عبد الرحمن بل على النقيض تماما، شعرت بالغضب منه، والحقد على حبيبة التي أفسدت لها مخططها الذي أعدته له ابنها طوال السنوات الماضية، وبعكسه تمامًا سعدت بزيجته الأولى، فرضت سيطرتها، لبت رغبتها، اطربت سمعها بصرخات وأنين صنعته، ولكنها أنتهت سريعًا، ظنت بزواجه من حبيبة بسنها الصغير، يتيمة الأبوين، أنها أكثر تناسبًا، ولكن خاب ظنها يتهشم كلما مر الوقت ويتحطم، ولكنها قررت إعادة احياء حُلمها، ستضغط على ابنها بكل طاقتها؛ لتصل لمرادها، لن تمل أو تيأس.


بعد تفكير استغرق عدة أيام وأنتظار قررت البدء بخطوة قد تكون فاصلة، فاتصلت به بوقت عمله.
-صباح الخير يا أمي، خير يا رب، مش متعودة تتصلي بدري كدة؟
-عايزاك ضروري، لازم تعدي عليا لما تخلص شغلك.

اصرارها واسلوبها بالحديث اشعراه بحدوث خطب جلل، فاصابه القلق:
-حاضر، طمنيني طيب، أنت كويسة في حاجة حصلت.
التزمت الجدية كما لازمنت الصمت:
-لما تيجي هتعرف، المهم ما تتاخرش ضروري تيجي.
-في أيه يا أمي قلقتيني؟
-هاستناك تيجي عشان تعرف، ما تتاخرش.
أنهى مكالمته ونظر لساعته وجدها  العاشرة صباحاً
-يا تري في أيه! أكيد مصيبة أو مشكلة كبيرة، دي أول مرة تعمل كدة، لا أنا مش قادر استني طيب ايه؟ حبيبة بتقفل الموبيل وهي في المحاضرة يعني لسه ساعتين علي ما تفتح التليفون واكلمها، يا رب الوقت يعدي بسرعة أنا فعلا مش قادر على الأنتظار خايف على ماما.

أكله القلق حتى مرت الساعتين واتصل علي حبيبة، اخبرها بما حدث وضرورة ذهابة لوالدته
-خلصي وروحي على البيت، ولو تأخر اتغدي أنت ماشي.
-خير إن شاء الله ما تقلقش كدة، اهدي عشان ما تتعبش، وإن شاء الله خير.
أنهى المكالمة ثم استأذن من العمل وذهب لولدته مباشرةً.

دخل إليها قلقًا، تخدث قبل جلوسه، أملًا أمرًا هينًا.
-طمنيني يا امي خير، أنا من وقت ما كلمتيني وأنا ما بطلنش تفكير، أيه اللي حصل شكلك بيقول مشكلة كبيرة.
-اقعد، تشرب شاي.
-مالك بس، أنت غريبة النهاردة يا أمي، أيه اللي حصل.
نظرت له بجمود وتفرس: 
-يا تري أخبارك أيه مع مراتك؟

رد باستفهام: 
-مش فاهم! أخبار أيه يا امي!
ضيقت عينها بتدقيق: 
-بتتعامل معاها ازاي؟ ويا تري هتفضل مخبيها مني كتير، قولت لك كام مرة هاتها معاك، هو أنا هتحايل عليك د، أيه! خايف عليها مني، هاكلها مثلًا.

تتَنَهَد بيأس واحباط، فقد أردك الآن ما يؤرقْها: 
-لا يا أمي مجرد عايزاها تتهان، ومن غير سبب حتى.

ردت بغيظ مكبوت وواستنكار: 
-غريبة ما هي نفس الطريقة اللي تعاملت بها مع مراتك الأولى، أيه اللي اتغير!
-أنا اللي اتغيرت، تأكدت أن اللي حصل مش صح، وحتي لو صح، أنا مش عايز ده.
-أنت بردو! ولا هي اللي مش عايزة،  وهو ده بالطلب أو المزاج، هي الدنيا ماشية كدة، هتغيرها أنت عشان الهانم، للدرجة دي أثرت عليك.

حاول تهدأت نفسه وتحدث معها بلين: 
-يا امي هي ما غلطتش في حاجة، بالعكس، مهتمة بيا وبتعبي، بتعمل كل اللي تقدر عليهوأكتر، مقسمة نفسها بين البيت والجامعة والمذاكرة، فاكرة مواعيد أدويتي أكتر مني.

زاد غضبها، أصبحت على مشارف تفجر بركان ثورتها، تحدثت بشر وفحيح:
-مش ملاحظ إنك بتقول فيها شعر،  كلامي معاك كله نسيته عشان خاطرها، وأنا! أنا، فين دوري؟ خلاص كده، ماليش لازمة في حياتك بعد ما ربيتك وكبرتك، جاي دلوقتي تنساني.

أجابها بلين ورجاء ونبرة يملأها الحنان والود: 
-يا امي أنتِ علي راسي، استحالة انساكِ، بس ليه ءأذيها وأوجعها وهي مش بتدور غير علي راحتي.

استخفت بحدثه، وحدجته بتوعد:
-وأيه كمان بتعمله الملاك اللي نازل من السما!
-كل خير يا أمي والله، من يوم ما اتجوزتها مش بشوف منها غير كل خير، وهي مش عايزة غير راحتي، قولي لي هاتحبي لابنك أيه غير كده؟
-أحب يأدِّب مراته، أحب يسمع كلامي، لازم تفهم أنها تحت أمرك، وإن طوعها لك مش بمزاجها، وأنه واجب وفرض عليها، أحب أنها تترعش من دخلتك عليها، أحب أنها تخاف تغلط، أحب لابني الهيبة.
-كل ده مش لازم، المهم التفاهم والتراحم، ودول ما بينا والحمد لله، ليه أوجعها واهينها! ليه ما احفظش لها كرامتها! ليه أقابل اهتمامها بيا بألم و وجع!
أجابته بنرة صارخة مستنكرة:
-أيه بقيت شاعر، نسيت أنت ابن مين! نسيت أبوك مشى البيت ده ازاي! نسيت حزامه اللي علم عليا وعليك! نسيت ولا تحب أفكرك نسيت إن أي غلطة أو كلمه ما تعجبوش بيكون نتيجتها ايه! حيطان البيت ده تشهد، صوت العياط والصريخ تشهد علي كل ضربة علي جسمي أو جسمك، أبوك كان راجل حاكم بيته، وأنت أيه! حَبِّيِب! أصحى وفوق أنا مش بخيرك أنا بأمرك، مراتك لازم تفهم إن دي حياتنا ودي طريقتنا، وزي ما شافت الدلع تشوف الشدة، تيجي هنا وتتربي، واسمع عياطها بودني، تيجي تنضف البيت وهي حاطة جزمة في بؤها، تيجي تتمني رضايا، تضربها بحزام أبوك في الأوضة دي، زي اللي قبلها.

-ليه كل ده؟ ليه اهبهدلها ليه؟ لو عايزاها تساعدك، هتعمل كدة بطيب خاطر، من غير قهر، حبيبة قلبها ابيض لو قربتي هتحبيها، يا أمي مش كل البيوت ماشية زي بيتنا، في بيوت تانية الحياة بينهم مختلفة، زي ما حيطان البيت ده تشهد علي الصريخ والعياط، في حيطان تانية تشهد علي الحب الرحمة والضحك، ليه نحبس نفسنا في الماضي؟! واحنا ممكن نعيش الحاضر والمستقبل بسعادة.

استمر النقاش بينهما لوقتٍ طويل، لم يتغير رأيها، بل لم تسمعه من الأساس، وهو لم يرضخ أو يتراجع، ساعات عدة انقضت وهما علي وضعهما، لا نقطة تلاقي، كل منهما يري جانبًا مختلفًا وطريق مغاير، كلاهما لديه غاية متناقضة.

ولمَّا يأست هداها تفكيرها إلى ما لم يخطر بباله، فتحدثت بملامح تشُع قسوة، نبرة لم تزُر حنجرتها من قبل، أعين غامت بالسواد، لا ترى سوى غايتها ومرادها.
-تعالي نكمل كلامنا جوة.

تحرك خلفها، ولا زال يبرر ويوضح، يحاول استمالة قلبها
-صدقيني هي ما تستاهلش أوجعها، تعالي اقضي معَنا يومين، شوفي اهتمامها بيّا وبالبيت، اللي ما تاثروش بمذاكرتها أو نزولها الجامعة
-اقعد هنا يا عبد الرحمن، فاكر الكرسي ده، ياما أبوك اعدك عليه وادبك، فاكر أبوك.

جلس مغلقًا عينيه بإرهاقٍ شديدٍ، استنزفت طاقته بجدالٍ عقيم، اعتقد انها  تذكِّره بماضية، تثير شخصيته المتوحشة العاشقة للألم، لتُعيد لها حريتها من جديد.

التفتت تبحث عن شئ ما، لم يهتم واسترسل بحديثه.
-يا أمي، أنا مش بخالفك وأنتِ عارفة قد ايه بحبك لكن... 

قطع حديثه صدمته الشديدة؛ لتلقيه جلدة من والدته، تبعها الكثير، توقف به الزمن، تاه بمتاهات عقله، دوت صافرات الإنذار بكيانه، تساؤلات متعجبة مصدومة نمت بوجدانه: أتضربه حقًا؟! أم يتوهم؟! أفعلت الآن!!!

تحدثت بغضب شديد، نبره يسمعها لأول مرة.
-يظهر إني لازم أفكرك بأبوك، واعمل اللي رفضته من وقت موته.

لم يعي قولها فرط صدمته المتصاعدة، واسترسلت بنرة متصاعدة وهي تسدد الضربات بقوةٍ حقد: 
-لازم تعرف ان كلامي وده بالذات مش قابل للنقاش، أوامر ذي ما أبوك كان يأمرك، وإن أمك كلامها أمر مش اختيار.

اعقبت حديثها بازدياد وتيرة جلداتها سرعة وقسوة، شعر بها زلزالًا قويًا، ضرب حصون عقله، رافضًا تصديق واقعه، فطالما حدثته أن أكبر إهانه أن تعاقبه أو تضربه سيدة، وإن كانت هي، طالما وعدته ألا تفعل مهما حدث.


ظل حبيس دوامة أفكاره لفترة، اخرجت خلالها حافظة غضبها الذي اختزنته لسنوات وسنوات، ظلت تقسو وتقسو، لم تكن تراه ابنها، بل جسَّدت بشخصه كل من كال لها يومًا وأذاها، تراهُ زوجها  ووالدته، وكأنها تبصر حبيبة تعيش معه الحياة التي افتقدتها وطالما حلمت بها،  كل ضربة سقطت على ظهره، هي ضربة لكل من أساءوا إليها أوقسوا وتمنعوا عنها، ثورة فجرت كل ما بداخلها من غضب وألم لم تداويه الأيام.

الألم انتشله من دوامته، وألقاه بأرض الواقع الوعِرة، مشاعر متضاربة أكثر قسوة من حاضره، نزف قلبه وجعًا، اذلال وتحقير أوديا كرامته صريعة، فصرخ بها، يوقفها، لكنها لم تسمعه سابحة بسواد ذكرياتها وأمانيها، ولم تكن اكتفت؛ فصرخ بها بكامل صوته.
-كفاية.

انتفضت بهلع، نبرته الصارخة مطابقة لوالده، وللحظة ظنته هو، فتجمدت محلها، تدور عينيها تمسح المكان بنهيج وانفاسٍ متقطعة، يتساءل عقلها، أجنت! أم عاد بها الزمان! ثم تداركت الموقف؛ فتحدثت بأمرٍ وانفاسٍ متصارعة.
-النهاردة بالليل تضربها، ولو ما حصلش هاعيد بكرة اللي عملته دلوقت.
             
أجابها الصمت؛ فخرجت من الغرفة بجسدٍ مرتجفٍ من فرطِ التوتر، تركته يحاول تدارك واستيعاب ما حدث، يرفض عقله تصديق فعلها، حدث نفسه.
-أللآن تضربه؟! وقد امتنعت طوال ثمانية عشر عام! أبعد أن أصبح معلمًا وزوجًا! هي لم تطمئن على صحته، لم تسأل عن مرضه، لم تهتم سوي بـ "تأديب حبيبة".

هندم ملبسه، خرج من الغرفة والبيت كله، هائمًا على وجهه، لا زال عقله يحاول ترجمة ما حدث، وكأنه يرى زوجته السابقة وهو يفعل بها المِثل، أدرك سوء ما مرت، وفداحة ما شعرت، فهم قصد حبيبة عن التأديب وسوئه، تتردد على مسامعه كلمات حبيبة.
"اللي بتقوله مش صح، فيه أدوار ملغبطة وأدوار تايهة، ما يطمنش، أنت غلطان، كان المفروض تسندها تقويها وتساعدها، مش تتقمص دور باباك شوية، ودور المنكسر شوية، حتي دورك مَثّلت فيه، مش أنت، لأنك دايما قوي حتي في ضعفك

وقت طويل مر، ولا زال على وضعه، يمشي منكبًا على وجهه دون هدف، لم يتوقف عقله للحظة واحدة، دوامة تبتلعه داخلها، وهو يصارع حاملًا على كاهله ثقلًا كبيرًا ضخمًا يجذبه للقاعِ، يناضل للفوز بحياته دون إسقاط حمله.
جلس على أقرب مقهى مفكرً ومخططًا لخُطاه القادمة؛ فلن يسمح بتكرار إهانته، لن يقبل بانتقاصه وتصغيره، قرر مواجهتها ووضع حدا لتلك المهزلة، سيوضح لها بكل الطريق أنّه لن يحقق مرادها، لن يسمح أن تعيد فعلها معه، سيؤكد لها حبه لها، سيعتذر منها لأنه لم يؤدي ما وجب عليه منذ وفاة والده.

عاد قرب انتهاء اليوم مُرهقًا منهك القوى، استقبلته حبيبة بحفاوة كعادتها وفزعت  بشده؛ لسوء حالته وتساءلت بفزع عما ألمَّ به.
-مالك يا حبيبي؟ أجيب لك دكتور؟ أنت  عامل كده ليه؟ هي طنط عندها مشكلة كبيرة، رد عليا، مالك؟

أجابها بإرهاقٍ شديد: 
-أنا كويس عايز ارتاح بس، عايز أنام يا حبيبة.

بقلبٍ مرتجف وقلق اجابت:
-حاضر، حاضر بس عشان خاطري كُل أي حاجة وخد العلاج، وبعدين نام، ثواني بس والأكل يكون جاهز.

لم يجادلها؛ فيكفيه اليوم جدالًا، وضعت الطعام سريعًا، جلست معه تحدثه راجية:
-تعالى أقعد كُل الأول ورحمة باباك تعالى.
-مش قادر يا حبيبة، سبيني أنام بس.

انسابت دموعها بقلق شديد: 
- طيب عشان خاطر ربنا، بالله عليك يا عبد الرحمن كُل الأول وخد العلاج.
أجابها بألم نفسي شديد وتمزق: 
-حاضر يا حبيبة، بلاش تعيطي، بلاش تتعبيني زيادة.

كفكفت دموعها: 
-خلاص والله، تعالى كُل وخد العلاج. 

اطعمته برجاء فأخذ منها قدرًا يسيرًا لأجلها، ناول العلاج بعد إلحاح منها وحاولت معه ليبدل ثيابه.
-أنا طاوعتك أكلت وأخدت الدوا، سبيني أنام بقى.
-طيب غير هدومك عشان تنام مرتاح.
-أنا كدة مرتاح سبيني أنام، تعبان يا حبيبة، مش قادر.

حبست دموعها بعناء شديد، حالته شديدة السوء، تشعر بحدوث أمرًا جلل، تجهل ماهيته، لكنها تشعر تجاهه بالوجلِ والجزع، بقيت جانبه بالفراش حتي تأكدت من تعمقه بالنوم، ثم خرجت من الغرفة.

لم تستطع تناول الطعام بالرغم انها لم تتناول الطعام منذ الصباح؛ فهي اعتادت مشاركته كل تفاصيل يومها، وحين عاد اهتمت باطعامه، وحاليًا لا تشعر بأي شهية لتناول الطعام، لا تشعر سوى بالقلق، كادت أن تتصل بوالدته مستفهمة عما حدث وأرهقه، لكنها تراجعت بأخر لحظة، هي تخشى مجرد الحديث معها، تتجنبها دومًا. 

أوقات عصيبة مرت بها، قلق، توتر وذعر أفكار تفتك بها تقتلها، ولا تعلم ما حل به مرتعدة، حظرهم الطبيب من التوتر والضّغوط، وتشعر أنه تعرض لهما بأبشع الطرق، دلفت إليه لتتأكد من غفوته، حاولت تبديل ملابسه دون إيقاظه؛ فرأت ما حفر به من علامات، أدركت ما حدث، وضعت يديها علي فمها تكتم صرخات شهقاتها، أسرعت لأبعد مكان عنه، محررة دموع القهر والألم، تألمت لأجله وزاد خوفها تأكدها لكونها سبب ما حدث؛ فوالدته تبغضها، دق ناقوص الخطر بعقلها، قد يكرهها عبد الرحمن وينفرها؛ فهي نقطة خلافه مع والدته، والأدهى سببًا لإهانته، فهو لن يكره والدته حتمًا، ولكن يمكنه كرهِهَا والابتعاد عنها.

دب الرعب بأوصالها، ارتجف قلبها لتلك الفكرة، هي تكره البُعد، وهو لها الأمان، الأب والزوج ، هو الحبيب إن هجرها تحطمت وتفتت قلبها، وإنْ بقت سيزِد عليه المرض، أو يفترقا الفِراق الأبدي، دون رجعه، اتسعت عينيها بذعر، ورجفة خوف وسقيع داهمتها واحتلت كيانها؛ فهجرت الطعام بل الحياة باسرها.
فارقها النوم ورافقها السُهد والأرق، تتأمله تتعمق بقسماته، تطالعه بترقب ووجل، تعطيه الماء كلما قلق، حتى غلبها النعاس.

وبالفجر استيقظا كلاهما وعلى مائدة الطعام جلسا شاردين، يتبادلان النظرات مبتسمان، يُخفيان ألمهما، يشغل تفكيرهما ما ينويان فعله، أطعمته بيدها، يأخذ منها القليل ثم أمسك كفها مقبله. 
-حبيبتي أنا بخير، ما تخافيش كدة.

أجابته بابتسامة متألمة، تُخفي خلفها ذعرها وتألمها، لم يدرك معرفتها بالأمر، فلم يشعر بها من شدة مرضه. 
حزنت حبيبة من أجله، لاحقها تأنيب الضمير، سؤال فرض نفسه: أيمكن أن يفترقا؟! أستتذوق مرارة الفراق من حديد؟! ألا يكفيها فراقًا؟!

اتصلت والدته بعد صلاة الفجر، على غير عادتها، سألته عما فعل، تؤكد عليه، فهمت حبيبة من ردوده رفضه لغايتها، ووعده لها بالمرور عليها مساءً، خشت أن تُعيد والدته فعلها؛ فقررت افتعال ما يخرجه عن سيطرته، ليحقق مراد والدته، حدثت نفسها مرار الإهانة أقل وجعًا من مرار الفراق.

ذهب كل منهما الي جهته، مر الطريق بصمتٍ باكٍ، تنظر إليه كل حين ببسمةٍ قلقة، تُمسد على كتفه بحنان ودعم،  عقلها يعمل لتتوصل لما يمكنها فعله لتحقق مراد والدته، لتنجيه من غضبها وألا يحل به أذى منها، هداها تفكيرها لاشغال غيرته وحميَته، توصلت لما نوت فعله.

مر اليوم بطيئًا مملًا، حتى أنتهى الدوام أخيرًا، ذهب إليها ليعودا سويًا، التزمت حبيبة طوال الطريق التحدث عن أحد المعيدين، وعن صفاته وسامته، خفة ظله وتفوقه، أنه أوشك أن يناقش رسالته رغم صغر سنه، اختلقت حديثًا مع  زميلاتها عنه.


اشتطاط عبد الرحمن غضبًا، تعاظمت غيرته، لا يحب سماع هذا الحديث منها، وصلا فتركها صاعدًا للمنزل مسرعًا، يتمنى أن تصمت؛ فيكفي ما به، لحقت به مسترسلة بحديثها عنه، تعمدت البطء بتبديل ملابسها، متذكرة كل ما اخبرتها به زوجته الأولى، نظرت إليه واخبرته بما أنهى صبره.

التفتت إليه بعد أن خلعت زيها، رسمت إبتسامة تخفي خلفها ارتعادها وترددها:
-عارف، المعيد ده أتقدم لي قبل كده، وزميلاتي زعلوا لما رفضته، قالوا إننا لايقين علي بعض، تصدق! اللي كانوا عارفيني السنة اللي فاتت ،وعرفوا اني اتجوزت افتكروا أنه هو العريس، كُنا فعلًا لايقين علي بعض.

فزعت حين قبضت يديه على معصمها، عنف تجربه للمرة الأولى، أنتفضت وتصارعت دقات قلبها، حاولت إخفاء خوفها، التزمت الصمت، وقعت بين شعورين متنافضين، تريده الإعتذار منه والتوقف، لا تريد إغضابه أو الإهانة، وبنفس الوقت تريد تجنيبه مرارة وألم الاهانة، وأن تتلقاهما بدلًا منه.

أمَّا هو، فقد اشتد غضبه للمرة الأولى منها، قبض على أعلى ذراعها بعنف وحدة جاذبها إليه. 
-أنتِ عارفة بتقولي ايه! أنتِ فعلًا محتاجة تتأدبي. 

جذبها إليه دفعها لتستلقي علي قدميه، خلع ما تبقى من ملابسها، وثنى ذراعها خلف ظهرها، إزدادت دقات قلبها وتصارعت، أرتجف بدنها، اغلقت عينها بتأكيد، ولم تبدِ مقاومة، وهو رغم شدة غضبه منها إلا إنه تراجع بعد ان رفع كفه بالهواء وهمَّ بصفعها، اغلق عينيه وكفه بعنف، ومر نصب عينيه شريط من الأحداث، بدءً من حافظة وما فعلته به، واحساسه بالإهانة، كلمات حبيبة عن التأديب وكيف تجده، ومحاولته ببداية زواجهما ورد فعلها، رن بأذنه صراخ زوجته السابقة ودعائها عليه، لحظة صمت مرت عليهما كدهر، ثم نفضها عنه، تركها وترك المنزل كاملًا.
جلست أرضًا تسند ظهرها على الحائط، تحتضن قدميها إليها، بكت بمرار وقهر، لحظةُ مؤلمةُ، سوء إحساسها وأنتظارها لتلقي الضربة الأولى بعمرها مؤلم ومهين مرارٍ كالحنظل.

لم حاله أقل منها سوءً، ألم وارهاق نفسي وبدني، يسأل نفسه لما فعلت؟ كادت أن توقظ شخصيته البغيضة، التي تجعله كحيوان مفترس.

ظل يجوب الطرقات والشوارع، لا يريد العودة للمنزل، أو الدخول بنقاش عقيم مع والدته، بالنهاية قرر العودة لبيت والدته، مغلقًا اي فرصة للنقاش، وهناك توجه الي غرفته مباشرةً، ولم يجب ندائها فظنت إتمامه لما أرادت لينجوا بنفسه، شعرت بسعادة ونشوة عارمة، لم تهتم لحاله ودخلت غرفتها.

أما حبيبة فجلست تنتظره، لم تذُق طعامًا أو شرابًا دونه، لليوم الثاني، وهِن جسدها وثقلت حركتها، طال انتظارها دون فائدة غفت موضعها، استيقظت بفجر اليوم التالي، ادت فرضها بثقل شديد، عاودت الانتظار دون فائدة.

بالجانب الاخر استيقظ عبد الرحمن وصلي وظل بغرفته حتي اقتراب موعد عمله، وغادر دون حديث مع والدته، وبعد أنتهاء عمله ظل يجوب الطرقاب بلا هدف ثم جلس بإحدى المقاهي حتي تأخر الوقت، عائدًا لبيتِه، وجدها مستلقية علي الفراش مستيقظة، لم تتحرك او تتحدث، فزاد غضبه؛ لظنه سوء تقدريها لما فعلت، إدعائها الغضب منه، ولأول مرة يدير لها ظهره.


وبالحقيقة قد ساءت حالتها لاستمرار هجرها للطعام لليوم الثالث على التوالي، فهزل جسدها وبدأ الجفاف ينهش جسدها، لا تقوى على اخراج حروفها، تشعر وكأن قلبها سيتوقف عن العمل

لم يستطع كليهما النوم، وبالفجر ولأول مرة لم تنهض معه، لم يستطع عقله ترجمة أسبابها، نهض توضأ وصلى وظل جالسًا علي سجادة الصلاة شاردًا، لا يعلم معنى تجاهلها لوجوده، لم يعهد منها الإصرار على الخطأ، ورغم كل شيء لن يستطيع تجنبها طويلًا، ههي ترياق حياته.

حاربت وهنها وضعفها، بعد فترة طويلة تمكنت من التحرك، تستند على كل جدار ليمنعها من السقوط، وصلت لباب الغرفة بعد عناء ايتهلك ما بقى من قواها، فهزمها الضعف كادت السقوط، لولا ذراع عبد الرحمن، فمنذ نهوضها وهو يتابعها بغير فهم لحالتها، وحين شعر بسقوطها أسرع إليها وحملها، وضعها علي الفراش صدم من مظهرها، وجدها شاحبة اللون، شفتيها مبيضتان، جسدها باردًا تتصبب عرقا فنظرت إليه بأسف، جاهدت لاستجماع قواها، ثم تحدثت بصوت خافت بالكاد يسمع.
-حقك عليا، ماتزعلش مني. 
صعوبة حديثها مع حالتها أثارا فزعه، ارتجف قلبه وكاد يخلع من موضعه:
-مالك يا حبيبة؟ حاسة بايه؟ أنا حكلم الدكتور حالًا، ما تخافيش.

جذبت يده بوهن وتحدثت بما لم يستطع سماعه؛ فدنا إليها محاولًا سماعها:
-أنا كويسة، أنا منتظراك على الأكل من كتير، مش بعرف أكل من غيرك.

صدم منها، ألم تتناول الطعام منذ يومين؟! جسدها ينازع للبقاء، أسرع محضرًا لها بعض اللبن والعسل الأبيض، وساعدها لتجلس وسند ظهرها عليه، حدثها بتأنيب خفيف:
-يه كدة يا حبيبة؟ اسندي عليا، واشربي بالراحة.

فسقاها بعض منه، طالعها برعب لسوء حالها، ومما كان سيصيبها إن لم ينتبه، فضمها إليه باحتواء ماسدًا على رأسها بحنان، بكت بصمت، فمسح دموعها واستمر بسُقياها حتي أنتهت، ثم وضع راسها علي الوسادة مقبلها مبتسمًا.

شعرت ببرد شديد بالرغم من تصببها العرق، ينتفض جسدها مرتجفًا، ظل يربت ويمسد على جسدها حتى هدأت،  طلب منها الراحة وملازمة الفراش، وعدم المهوض إلا للضرورة.
ذهب الي عمله، يلازمه القلق، يعلم إنها ستغط بالنوم لشدة إنهاك جسدها، لكنه متألم منها وعليها، وبمنتصف اليوم ذهب إليها أطمأن أنها لا زالت نائمة، تنهد بألم عقله لا يتسطع ترجمة فعلها وسببه، عاد لعمله، واستمر حتى انتهى دوامه، وعاد إليها سريعًا.

احضر طعامًا مناسبًا وعاد إليها، وجدها  بالمطبخ تقوم بمحاولة فاشلة لاعداد الطعام، فما زالت حركتها ضعيفة وهنة،  ضمها إليه باحتواءِ، حملها متجه لغرفتهما، وضعها علي الفراش، حدثها مبتسمًا يداعبها بالحديث.
-مش قولت ترتاحي، قومتي ليه؟ أزعل دلوقت؟

بكت مقبلة يده:
-ما تزعلش مني يا عبد الرحمن، ما تزعلش مني أبدًا.
-مش زعلان يا حبيبة إهدي، خليكِ هنا أغير وأحط الأكل وجاي على طول، أوعي تقومي، تحبي تاكلي هنا؟

  تعبث برأسها الأفكار، تتساقط عبراتها بألم نفسي، لا تستطع إيقافها:
-هتاكل معايا؟

شعر بما تعانيه؛ فأراد منحها القليل من الهدوء النفسي فحدثها بمداعبة:
-أكيد، أنا جعان والأكل ريحته حلوة قوي.

وضع الطعام وساعدها لتنهض دعمها حتي جلست، أطعمها بيده، تتساقط دموعها كلما نظرت اليه تعتذر منه، تناولت حبيبة القليل 
-مش قادرة والله معدتي وجعتني.
-خليكي ثواني وراجع.

عاونها لتنهض وتغسل يديها ثم حملها وأدخلها للفراش ووضع رأسها علي الوسادة وجلس بجانبها، يمسد علي رأسها حاولت التحدث؛ فمنعها برفق.
- حنتكلم يا حبيبة بس مش دلوقتي.
ظل يمسد على رأسها حتي تعمقت بالنوم.

وفي المساء، استيقظت بحال أفضل أعد لهما بعض من العصير ثم جلسا بركنهما المحبب، نظر إليها مبتسما وأمسك يدها بحب.
-متهيأ لي ممكن نتكلم.

بكت وتعالت أنفاسها وأصوات بكائها، فضمها لصدره ومسد رأسها بحنان ولطف:
-حبيبتي أنا مش بحاسبك، ومش عايز دموعك دي، في حاجة غلط حصلت، لازم نتكلم ونحلها، لو سيبناها حتكبر وتبقي مشاكل كتير.

كفكف دموعها مقبلًا رأسها: 
-اتفقنا؟
أماءت له وحاولت الابتسام، فاسترسل.
-أيه سبب كلامك، ليه يا حبيبتي؟
صمتت واخفضت بصرها، فرفع وجهها بأنامله برفق محافظًا على بسمته:
-قولي يا حبيبة.
-كنت خايفة عليك، أنت دخلت مع طنط في مشاكل كتير بسببي، أنا عارفة هي عايزة أيه حاولت أديك سبب، وحمدت ربنا إنك ما...
فقاطعها موضحًا: 
-وعمري ما حاعمل كده، ولا حاسمح لك تعيدي اللي حصل ده تاني، خصوصًا دلوقت.

عادت للبكاء الحار؛ فظنها تبكي ما حدث ولكنها كانت  تبكي وجعاً والماً عليه. 
-هو مين المعيد ده؟
-والله، هو مش في الجامعة دلوقت، سافر بعثه واتجوز كمان قبل سفره، والله العظيم...

وضع أنامله علي شفتيها ولم تفارقته بسمته:
-مصدقك يا حبيبتي ما تحلفيش، عارفة المشكلة أيه!
  تطلعت إليه متابعة بترقب، فاسترسل:
-أنك مش واثقة فيّا، عندك إحساس إني ضعيف قدام والدتي، فاهمة العلاقة بيني وبينها غلط.

فقاطعته مندفعة:
-لا يا عبد الرحمن، أنا...

لم يمهلها وقتًا للدفاع مُسترسلًا:
-لا يا حبيبة، اللي حصل ده معناه أنك شايفاني أضعف من إني أحميكي أو أحمي بيتي، لازم تعرفي إني كلمت أمي كتير ولسه في كلام بينا، بس صعب أقولها أنها ضيعت عمرها مستحملة حاجات وحياة غلط، لازم أكون رؤوف بها ورحيم معاها، حتى لو هي ما استوعبتش ده، ولازم تكوني واثقة إن مهما حصل بيني وبينها  فأنتِ وحياتنا منفصلين عن ده، وكل صغيرة أو كبيرة أنا وأنتِ بس اللي نحددها، فاكرة أما قولتي إني قوي حتى في أضعف مواقفي، ليه غيرتي رأيك؟ حبيبة ثقي فيا، ويوم ما تخافي من حاجة تعالي اقعدي معايا نتكلم ونفكر، سبيني اقويكي وأكون أمانك وسندك.

زاد حبه بقلبها وتعاظم احترامها له، حدجته بحب ورجاء، مقبله يده: 
-عُمري ما أغير رأيي فيك يا حبيبي. حقك عليا ما تزعلش مني.

ضمها إليه بقوة، فاسترسلت:
- وحشتني قوي، البيت كان وحش قوي من غيرك، حسيت بوحدة وخوف من أي صوت حواليا، حتى صوت الهوا.
-مش حبعد عنك أبدًا مهما حصل.

دخلا للفراش تعلقت به، احتواها بين ذراعيه كطفلة صغيرة تحتمي بحضن والدها، تلتمس منه الأمان.  

عدة أيام مرت رتب بها عبد الرحمن أفكاره ثم ذهب إلى والدته، تحدث معها بصراحة شديدة، لم يتقمص شخصية والده أو شخصية الابن المنكسر، بل كان عبد الرحمن بشخصيته وطريقته العادية دون اصطناع 
-يا امي، أنا جيت النهاردة عشان أكمل الكلام اللي دار بينا أخر مرة.
-ما أنت كملته لما نفذت اللي قولت لك عليه يومها، أبقى هاتها وتعالي، نكمل عليها ونكسر عينها.
-بس أنا ما نفذتش اللي قولتيه يومها، وجاي عشان كدة، أنا لا نفذت ولا هنفذ.

ثارت وغضبت وتحدثت بصوت صاخب حاد:
-بتضحك عليَّا، بتريحني وخلاص أمال جيت يومها هنا ليه؟! بتوهمني إنك سمعت كلامي وجاي عادي كدة تقولي أنا ضحكت عليكِ، يا خسارة تربيتي فيك وتعبي وسهري عليك.
-ما كنتش بوهمك بحاجة ولا بضحك عليكِ، أنتِ عارفة دي مش أخلاقي، كنت محتاج أفكر لوحدي، فرجعت أوضتي هنا، لا اتكلمت معاكي ولا معاها، وما قولتش اني عملت حاجة أو إني وافقت علي اللي قولتيه.

اشتعل الغضب بصدرها وتلظى:
-وسيادتك جاي النهاردة تعمل أيه؟ وتقول ايه؟
-جاي أقولك أنّي مرتاح في العيشة بالطريقة دي، ومش ناوي اتنازل عنها لاي سبب، مرتاح يا أمي عيشتي هادية برجع البيت ألاقيها بتضحك في وشي، مبسوطة برجوعي، بشيل في بيتي تعب يومي، مش بتدعي عليّا يا أمي، بالعكس دايمًا تدعي لي، هي دي الحياة اللي كنت بدور عليها، أنا تعبت في جوازتي الأولى، كُنت واحد غيري، كرهت دعاها عليّا، كرهت أعيش مع واحدة مغصوبة علي عيشتها، وكل يوم والتاني اضربها واهينها.
بنيران محتدمة، وأعين تتلظى تحدثت:
-دي محفظاك تمام أوي، واضح أنها أثرت عليك جامد، قدرت في كام أسبوع تهد كل اللي بنيته سنين، قدرت تخليك طوعها وعلي قد أيديها، شوية شوية تقولك تبعد عني، وتيجي تقولي أنا مرتاح في بُعدك، ولا ليه بعدين! ما أنت بقالك كتير يا تيجي معاها تشرب الشاي وتمشي، يا إما تيجي من غيرها تقعد شوية وتمشي، بتحاوطها وخايف عليها مني.
أجابخا بحب صافي وحنان:
-استحالة أبعد عنك مهما حصل، صدقيني، لا عمرها طلبت ولا هتطلب ده، أنتِ عارفاني استحالة أقدر أبعد، يا أمي أنا عايز أحفظ كرامتها، عايز نعيش بمودة ورحمة، عايز الراحة لينا إحنا الثلاثة مش أكتر.

بتحد وعطش للانتقام:
-راحتي إنك تطاوعني مش تعصاني، وأفتكر إن ده أمر ربنا.
-ربنا بردو قال بيوتنا سكينة لنا ما قالش سكينة للزوج وأذى وعذاب للزوجة، أنا مش زي بابا الله يرحمه، كل واحد فينا بيحل مشاكله بطريقته، يا امي كل بيت بيمشي باللي يريح أهله، وأنا وهي مرتاحين كده، ليه ما ترتاحيش أنت  كمان ونعيش إحنا التلاتة في هدوء، أنا مش عايز أكرر حياتنا مع بابا في حياة أحسن ممكن نعيشها.

بحروفٍ من الجحيم أجابت:
-العيشة اللي مش عايزها دي هي الصح، اللي لازم تكون، وأبوك اللي مش عاجبك طريقته هو اللي كبرك وخلاك راجل، جاي دلوقت تقول أنا مش زيه.

أخذ نفس عميق يستمد منه الطاقة والتّروي: 
-أنا بحب بابا الله يرحمه جدًا، وأنت  متأكده من ده، اختلافي معاه في حاجة زي دي ما يقللش من حبي له، ما انكرش أن طريقته هي اللي كونت شخصيتي لكن أنا مش عايز اكمل حياتي بأسلوبه، هكمل بأسلوبي أنا، الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام أتاح تأديب المرأة بس بحدود وأخر وسيلة نلجأ لها، يبقي ليه أنا استحلها، ما هو ربنا قال إن بيوتنا مودة ورحمة، وإن الزوجين كل منهم سكن للتاني، ليه هي تبقي سكن ليا وأكون ألم وإهانة لها! أنتِ عارفة إني مش بحب أزعلك، عشان خاطري ، عشان خاطر إبنك الوحيد كملي راحتي، سبيني أعيش حياتي وأدير بيتي باللي يناسبني، لأني في كل الأحوال استحالة أرجع تاني زي ما كنت في جوازي الأول، مهما حصل.

ضيقت عينها بشر، تتطاير من نظراتها شرارت الحقد، تنوي أمرًا:
-أنا دلوقتي اللي بتعبك، أنا سبب تخريب حياتك، أنت ما سبتش قدامي خيار، يظهر إني لازم أفكرك برد فعل أبوك لما كنت تعصاه، كنت فاكرة إن اللي حصل المرة اللي فاتت فهمك اني استحالة أرجع في اللي عايزاه ومش هأقبل بديل، وتتأكد إنك مُجبر تسمع كلامي. 

-اللي حصل المرة اللي فاتت ما كانش المفروض يحصل، الصدمة خرستني، ما تخيلتش أبدًا أنك ممكن تعملي كدة، ما تخليش غضبك من اللي حصلك زمان ومن بابا -الله يرحمه- هو اللي يحركك، أنسِ الماضي وعيشِ الحاضر، أرمي ألمك وهمومك وراكي، وأنا تحت رجلك أطلبي اللي عايزاه بعيد عن أذية الناس اللي بحبها.

ايقنت مدى تمسكه بموقفه، وأنها الآن بالموقف الأضعف، لن تستطيع إجباره، إزداد حنقها ولم تهدأ ثورتها، آثرت الصمت، تمهل نفسها فرصة للوصول لكيفية تمكنها من تحقيق هدفها بعيدًا عنه، فقد خذلها كما فعل من سبقوه، يُريد حرمانها هيمنتها علي زوجته، أخطأت بموافقتها علي تلك الزيجة، توقعت حرية أكبر مما مارست على حسناء، لم تتوقع المنع، أخبرها بإختلاف هذه الزيجة عن سابقتها، ولم تتوقع أن يحاوطها بحمايته لتلك الدرجة، وحدت انه لا بُدّ أن تبحث عن طريق أخرى للوصول لهدفها بعيدًا عنه. 

بعد فترة من تبادل النظرات هي غاضبة ثائرة وهو راجية ثابتة، تركته ودلفت لغرفتها، فتَنَهَد بيأس وغادر.

بعد يومان وجدها تهاتفه، وكأن شيئًا لم يحدث:
-من وقت ما كنت عندي ما كلمتنيش، آخد جنب من أمك، ينفع كدة.
-العفو يا أمي، أنا كنت سايبك تفكري  براحتك وتهدي شوية.
-طيب علي العموم، حبيتا أقولك، أنت حر في حياتك مشيها علي كيفك المهم ما تجيش تندم بعدين.

تعجب منها، واراد التحقق مما سمع:
-اقتنعتي بالسرعة دي!
-وافقتك عشان دي حياتك، بس مش مقتنعة ولا شايفة أنه صح؛ فاعمل اللي يريحك وخلاص، المهم لا تنساني ولا تبعد عني.
-إستحالة أبعد أو انساكِ يا أمي.
-ابقى عدي عليا اقعد معايا شوية ولو مش عايز تجيب مراتك براحتك أنت  غايب عني بقالك يومين.
-حاضر يا أمي بكرة إن شاء الله أكون عندك، سلام.

أنهى المكالمة غير مصدق لتغيرها السريع، يعلمها جيدًا لن تقبل الأمر أو تستسلم بتلك السهولة على الاطلاق، فهي متحجرة الرأي ماصلبة، تتحمل أي شئ لتفعل ما ترِد، مما أودى بها للتأديب مرارًا.

تغيير عبد الرحمن وتغيرت أفكاره، أصبح يرى أمورًا لم يراها أو يدركها من قبل، وبَعُد عن تصرفات كانت معتقدات له قبلًا، سيطر على الجزء القبيح منه ووئده للأبد. 
كذلك تغيرت حبيبة إزداد عشقها لعبد الرحمن تذوب بين أحضانه، زداد خوفها من الفراق كاد يصل لحد المرض، وما ساهم بذلك هو ملاحقة محمود لها بالاسئلة والظنون، يضعها تحت ضغط كبير كلما ذهبت إليه أو ذهب لها، لا يثق بعبد الرحمن ويعتقد أنه لن يفعل. لم يكن محمود الوحيد، فحافظة أيضًا تضغط عليها بشكلٍ أخر، تستغل كل لحظة يغيب أو يغفل فيها عبد الرحمن عنها لتلاحقها بنظرات حادة تهديد ووعيد صامت، لم تصارح زوجها فقط تختزن داخلها، ومع مرور الوقت فاق الأمر احتمالها، فظهر التوتر جليا بتصرفاتها وكلماتها كلما ذهبت لأي منهما أو تحدثت عنهما أو اليهما.

لاحظ  محمود وعبد الرحمن حالتها وتوترها؛ فحاول عبد الرحمن بكل طاقته أن يشعرها بالأمان ويتقرب منها، أما محمود فزداد حنقًا وسخطًا على عبد الرحمن، يجده السبب الوحيد لما ألمَ بها، وزاد من محاصرتها بأسئلته وظنونه. 

   مر بعض الوقت وأنتصف الترم الأول، والأحوال كما هي، لندم تختلف للجميع، اتصلت حافظة بابنها مساءً، تحدثت بصوت متعب تكاد تبكي.
-مال صوتك يا أمي.
-تعبانة شوية يا عبد الرحمن، مش عارفة ايه اللي حصل لي مرة واحدة.
-أنا هكلم الدكتور وهجي لك، أقولك اجهزي نروح المستشفي أحسن.
-لا يا ابني مش عايزة مستشفيات تعالي بس، وأنا هَابقى أحسن مش مستاهلة دكتور.
-حالا يا أمي هكون عندك.

دالتفت لحبيبة.
-أنا هروح لماما وممكن أتأخر، تحبي تفضلي هنا ولا تروحي لمحمود؟
-لا، خدني معاك، سامعاك بتقول أنها تعبانة، خليني معاك أحسن عشان نطمن عليها.
-حبيبة خليكي بعيد أحسن، مش هكون مركز معاكي.
-ماهو عشان مش هتكون مركز وممكن تحتاجني معاك، عشان خاطري أنا فعلًا قلقانة تكون تعبانة قوي وتحتاج مساعدة.

فكر قليلاً: 
-ماشي يا حبيبة غيري بسرعة علي ما اجهز.

وصلا لها بوقت قياسي وعندما استقبلتهم حافظة شعر عبد الرحمن أنها بحال جيد، وما ادعته ليأتيا إليها، وبالفعل حدث ما أرادت أدركت ما جال بتفكيره، فبدأت بالحديث.
-كده يا عبد الرحمن، لازم اتعب عشان أشوفك، وجايب مراتك كمان، يا ريتني اتعب كل يوم! تعالي أقعد مش قادرة أقف رجلي مش شايلاني يا ابني شكلي عجزت خلاص.

إدعت عدم الإتزان لحقها عبد الرحمن: علي مهلك يا امي، أجيب لك دكتور.
-هتلاقي حد في الجو ده، مافيش دكتور هيرضى يجي، كمان الدنيا بدأت تمطر وشكلها هاتشد جامد.
-طيب تعالي ارتاحي في سريرك، أخدني العلاج.

اجابت بوهن تدعيه: 
-اه، بس ما ارتاحتش.
ازداد شعوره بإدعائها المرض، يحاول تخمين ما تنوي.

الفصل العاشر 

 "خطة محكمة "

 شردت حبيبة متذكرة مرض والدتها ودخولها المشفى، وما مرت به من ألم حتى وافتها المَنيِّة، انتبهت من ذكرياتها على صوت حافظة.
-معلش تعبتكوا، كنت عايزة أشوفك عشان لو جرى لى حاجة ابقي مُت وأنا مرتاحة.
شعرت حبيبة بألم بقلبها؛ فضمتها إليها بتأثر:
-بعد الشر عنك ربنا يخليكي لينا.
 
 لم تهتم حافظة، ظنت إدعائها، فادعت الشكر.
-تسلمي يا مرات ابني، ما تباتوا معايا النهاردة، بقالك كتير بتيجي وتمشي زي الغُرب، أنا خايفة أبات لوحدي أتعب، وما حدش يحس بيا، خليكم معايا النهاردة.
-بعد الشر عنك يا امي أنا مش همشي غير لمّا تنامي، وهاجي لك الصبح بدري بعد الفجر على طول ما تقلقيش، بس أنا لازم امشي.
-مش خايف أموت وأنا لوحدي، كدة بردوا يا ابني.

تحدثت حبيبة برجاء صادق:
-خلينا نبات النهاردة طنط شكلها تعبان، بلاش نسيبها لوحدها.

نظر لها عبد الرحمن بشرود، لا يعلم بما يجيب، تنتابه الرييبه، يخبره قلبه بوجود امرً بين الكلمات، فتحدث متححجًا:
-وجامعتك يا حبيبة.
-انزل بدري أجهز حاجتي، أو مش ضروري بكرة. 

 طالعته راجية، كما تسرب إليه خوفها، ماذا إن كانت والدته متعبة بالفعل، شعرت حافظة بتخبطه وبداية تصديقه فأكملت خطتها، تأنِّبه وتستعطفه:
-خلاص، لو مش عايز تبات مع أمك يوم وهي تعبانة، دي حبيبة بتتحايل عليك، على العموم روّح ومعايا ربنا بقي.

نجحت بمسعاها تمكن القلق منهفاجابها مسرعًا:
-خلاص يا امي، هارجع أجيب هدوم لحبيبة، ما لهاش هدوم هنا.
-ما تنام بهدوم دورتها، يوه قصدي طليقتك، سايبة جلابية جوة، وأنا هاجيب لها روب من عندي، الجو برد وأنت قولت لي إنها مش بتتحمل البرد.

يعلم انها تغار من زواجه قبلها، فكيف ترتدي ملابسها! لن يطعن قلبها.
-لا يا أمي هاجيب لها هدوم من البيت.
-يا ابني المطر شديد بره، ما تقولي حاجة يا حبيبة، مش خايفة على جوزك!

ارتبكت وتوترت، لن تستطيع ارتداء ملابس حسناء وبنفس الوقت تخشى ان يتأذى.
-خليك، الجو برد قوي، أخاف تتعب، وأنا حلبس هدومها زي طنط ما قالت.
-مش هتلبسي هدومها، هاتي لها أي حاجة من الحاجات اللي صغرت عليكِ.
-ليه؟ ما في عندك هدوم...
فقاطعها منهيً النقاش:
-عندك يا امي، ولا اروح أجيب لها من البيت.
-خلاص هشوف لها من عندي.

احضرت لهما الملابس ثم دخلا غرفته، أغلق الباب فألقت نفسها بين ذراعيه وشكرته؛ فضمها بقوة حانية، مقبلًا جبهتها:
-بحبك. 
جلسوا يتجاذبون أطراف الحديث، ولأول مرة لا تحاول حافظة إقصائها عن الحوار، سألتها عن أحوالها لعلها تسمع ما يطربها.
-قولي لي صحيح، قادرة تذاكري وتشوفي البيت وجوزك، متهيأ لي صعب، مش عارفة عايزة التعليم في أيه! لا تكوني ناوية تشتغلي.
أجابتها ببشاشة:
- الحمد لله، قدرت أنظم نفسي، أجهز الأكل وحاجتي من بالليل كمان عبد الرحمن متفاهم جدًا، فالحمد لله الامور ماشية بخير، أنا صحيح مش بفكر اشتغل بس عايزة أكمل تعليمي، وهي سنة اللي فاضلة.

 شعرت حافظة بالضيق وأخفته تحت بسمتها، وتحدثت بأمر أخر، طال الحديث وفات موعد سمر حبيبة وعبد الرحمن الذي طالما أحباه والتزما به، لكنهما لم يشعرا بالضيق؛ فلأول مرة يمر حديث لهما مع حافظة دون توتر.

وفي الصباح استيقظ عبد الرحمن وحبيبة كعادتهما وصليا الفجر حاولت حافظة الاستيقاظ معهما ولم تستطع، أعدت حبيبة الإفطار، جلسوا معًا، شعر عبد الرحمن بالسعادة لأول مرة يجتمع ثلاثتهم دون توتر ومشاكل، انتهوا وأثناء نهوض حافظة افتعلت المرض، نهضت ثم اغلقت عينها بألم ادَّعته وألقت جسدها باندفاع على المقعد جالسة، هرعا إليها وتحدثا معًا.
 -ماما مالك.
-طنط.
عاوناها لتدخل غرفتها وتستلقي على فراشها، وتحدث عبد الرحمن بقلق: 
 -ماما شكلها تعبان بجد، أنا كنت فاكر إنه التعب العادي، بس كدة لأ أنا قلقان اسيبها تتعب اكتر وأنا في المدرسة.
 -عندك حق أنا كمان قلقانة قوي، أنا بقول روح أنت المدرسة وأفضل أنا، مش لازم جامعة النهاردة، ولو فضلت تعبانة لازم نجيب لها دكتور وناخدها تقعد معَنا لحد ما تبقي كويسة.  
-فعلًا مش لازم نسيها لوحدها، أنا خايف عليها ولازم حد يكون معاها. 
-خلاص يا حبيبي روح أنت شغلك وأنا أفضل معها، ولو في حاجة لا قدر الله أكلمك.
-خلاص، روحي أنتِ جامعتك وأفضل أنا.
-لا طبعًا، ما ينفعش، روح بقي ما تقلقش.
ابتسم لها بامتنان:
-ربنا ما يحرمنيش منك.

 ذهب الي عمله ودخلت حبيبة القت نظرة صامتة على حافظة، واعتقدت انها غافية؛ فعادت لغرفة عبد الرحمن، وجدت بعض الملابس منشورة بالشرفة؛ فجمعتها وبدأت في تطبيقها.

 أيقنت حافظة أن هذه فرصة مثالية لن تتكرر، ساعدتها حبيبة بطيبة قلبها وحسن ظنها، وقد خططت لها من البداية، انتظرت لتتأكد من ابتعاد ابنها عن البيت ثم نهضت لتبدأ ما نوت عليه.

 انهمكت حبيب فيما تفعل، وانتفضت صارخة حين باغتتها حافظة بالدخول بهمجية أفزعتها، سحبت شهيق عميق تتمالك اعصابها ثم تحدثت:
-طنط حضرتك صحيتي.

حدجتها حافظة بنظرات غائمة، وتحدثت بنبرة حادة شرسة مغايرة لما كانت عليه منذ قليل؛ فدب بقلب حبية الذعر وتملك منها، شعرت انها وقعت بفخ واعر.
-أيه اللي أنتِ لابساه ده؟ 
 ارتجف جسدها كقلبها، تمنت وجود عبد الرحمن.
-الهدوم اللي حضرتك اديتيها لي امبارح، المهم عاملة أيه دلوقت؟

صرخت تنهيها عن الحديث:
-اسكتي.
شحب وجهها ايقنت أن المقبل أسوأ مما قد تتخيله. 

واصلت صراخها الغاضب:
-ادخلي لمي الغسيل الدنيا بتمطر. 
-اهو يا طنط أنا شيلته.

زادت نبرتها حدة وعلوًا:
-ادخلي شيليه.
وقفت وكادت ان تتحرك فأتاها صوتها يوقفها
-استني اقلعي الروب.
-الجو برد يا طنط. 

جحظت عينها وبصوت جهوري صرخت بها: 
-بقول لك اخلعي الروب.
 خلعته خوفًا، ودخلت الشرفة بجسدٍ مرتعش من قسوة البرد، التفتت لحافظة تأكد لها صدقها. 
-اهو يا طنط شيلته.
نظرت إليها بسخرية منتصرة وحقد شديد 
-خليكِ بقى.
 اغلقت الشرفة خلفها، وما زالت الصدمة مسيطرة على حبيبة، لم يأت ما حدث بأسوأ كوابيسها، التفت حولها فلم تجد أي مقعد للجلوس، والأرض غارقة بمياه الأمطار التي لم تتوقف منذ المساء، كما أن الجو شديد البرودة؛ فالوقت لا زال مبكرًا، قاربت الساعة السابعة صباحًا.

انتظرت قليلًا ظنًا منها أن فعلها مجرد تهديد، وأن تعود بعد فترة صغيرة تدخلها، ولمّا خاب ظنها بدأت تدق على خشب الشرفة، تناديها باستجداء. 
لم تغلق حافظة زجاج الشرفة؛ لتستمع لكلمات حبيبة الراجية وتتلذذ بها وبدموعها إن بكت، تستمتع برجائها يطربها.
-طنط افتحي، الجو برد قوى، طاب اديني الروب، أنا زعلتك في حاجة؟ المطرة شديدة وأنا هدومي كلها غرقت من المطر.
بعد فترة وقفت تطالع حبيبة من خلف الفوارق الخشبية للشرفة، يسعدها ارتجاف حبيبة، ولم يرق قلبها، بل انتشت وتهللت اساريرها، فأخيرًا حبيبة تتذوق الألم بدلاً من الراحة والسعادة. 
تملكها اليأس بعد طول انتظار؛ فجلست أرضًا بأحد الأركان، بعيدًا عن مياه الأمطار، تضم جسدها إليها قدر استطاعتها، تشعر ببرودة تسري بجسدها، طالت مياه الامطار كامل ملابسها وشعرها أيضًا، ترتجف وتنادى عبد الرحمن كما لو كان يسمعها، تناشده الحضور.
 تعالت رنات هاتف حبيبة، وقفت واقتربت من فتحات الشرفة الصغيرة، تنظر ماذا ستفعل حافظة؛ التي دخلت الغرفة باحثة عن الهاتف، طالعت حبيبة بتحد وشماتة ثم أغلقت زجاج الشرفة، أخذت الهاتف حاولت الرد عليه؛ ففشلت، ولمَّا يأست وضعته تحت الوسادة وتركته.

لم تجيبه فشعر عبد الرحمن بالقلق عليها، عاود الاتصال مرة أخرى فلم يلق إجابة للمرة الثانية؛ فاتصل على هاتف المنزل، اجابته والدته بنبرة تدّعي المرض.  
-عاملة ايه يا أمي دلوقت؟
-الحمد لله أحسن.
- لو سمحتي نادي على حبيبة أكلمها.
-هي نايمة، أصحيها استني، حبيـ ...
قاطعها:
-سبيها خلاص، هي تعبانة! مش عادتها تنام دلوقت.
-قالت إنها عايزة تنام شوية وبردانة، وأنا عارفة إنكم بتصحو بدري ومش محتاجة حاجة فسيبتها، بس لو عايزها أصحيها؟
-خليها، هاتصل تاني بعد شوية.

لم يشعر بالراحة، تملكه إحساس يخبره بوجود خطْب مُريب، فليس من طبيعة والدته التسامح لتلك الدرجة، لم تكن تدع حسناء تغفل أو ترتاح إلا بعد فترات طويلة من العمل، أو وصلة من التأديب، انتظر قرابة الساعة ثم عاود الاتصال ولم تجب، تضاعف قلقه؛ فاستأذن للانصراف فقد انتهت الجدول الموكل إليه، غادر متجه للبيت يدعوا الله أن يخلف ظنه، وتكون الأوضاع جيدة.

مرت ساعات عدة وملابسها مبتلة تحولت رعشتها لانتفاضات صارخة تعج ألما، وتمكنت منها البرودة، شحب لونها وازرقت اطرافها وشفتيها، شارفت على فقد وعيها.

وجد والدته فقط بانتظاره على عكس عادة حبيبة؛ فسأل عنها.
-فين حبيبة؟

كأنها لم تسمعه، سألته باعتيادية
-احضر لك الغدا؟
جال المكان بعينه ولم يجدها، فدخل الغرفة أضاءها فوجدها منظمة وفراشها مرتب، والأهم خالية، اتصل بها فاستمع لصوت الهاتف من أسفل الوسادة،  ازداد قلقه وتوتر، اندفع يسال عنها والدته، فأجابته بهدوء شديد وبراءة، تكمل إعداد طعام الغداء:
-خرجت.
-أيوه راحت فين؟ وليه سابت تليفونها؟

بخبث خفي واصطناع للبراءة أجابت:
-ما سألتهاش لتزعل، أنت قايل ما اتدخلش بينكم.
صمت ناظرًا لها بتفحص وتملكه القلق والخوف عليها، اعاد سؤاله لعلها تريحه.
-بجد ما تعرفيش؟!
-لو قالت هاخبي ليه ؟

عاد للغرفة يفكر، أين ذهبت؟ ولما والدته بهذا الهدوء؟ إن فعلت حبيبة وخرجت دون إعلامه؛ فلن تهدأ حافظة، ستثور عليهما، ستصبح فرصة ذهبية لها، لكن صمتها وهدوئها هذا يثير ريبته، بحث عن اي دليل عنها، ورقه أو حتى رسالة على هاتفها دون جدوى، فاتصل غير راغب على محمود، أخر أمل له رغم استبعاده للأمر.
-ازيك يا محمود، أسف لإزعاجك، حبيبة عندكم؟!
-أنا لسه خارج من الجامعة، هي ما قالتش إنها جاية، أنتم متخانقين؟ 
-لا طبعًا، أنا لسه واصل وهي مش في البيت، سألت ماما ما قالتش لها حاجة.

سأله بترقب ماحفز:
-هي طنط عندكم؟!
-لا، إحنا بيتين معاها عشان تعبانة، أنا حاقفل أشوفها في البيت يمكن رجعت لوحدها، ولو سمحت كلم البيت عندك لو هناك طمني.

ضاع أخر أمل لديه، لا يعلم أين يبحث عنها؟! اقتربت الساعة من الرابعة عصرًا، بدأ الجو يشتد برودة، ذهب الي مكتبة صديقتها ولم يجدها، ازداد توتره وتخبطه، شعر بالضعف والفشل، وبدأ الصداع يداهم رأسه، وبتلك اللحظة اتصل محمود؛ فسارع بالإجابة لعله وجدها! وسرعان ما احبطته نبرة محمود الغاضبة والتي تقذفه بالاتهامات.
-حبيبة مش مع بسمة ولا كلمتها طول اليوم، يا ريت تقولي اللي حصل، وإياك يا عبد الرحمن تكون أذيتها أو لمست شعرة منها، والله العظيم مش هاسكت.

يكفيه فقد حبيبة الآن، لا يرد الدخول معه بنقاشٍ أو جدالٍ عقيم، حاول التحكم بثورته؛ فلن يصب عليه حنقه من قلة حيلته في العثور عليها: 
-يعني لو عملت كده هاتصل بِك! ولا أهتم أدور ليه؟! كنت في الشغل رجعت ما لقيتهاش، وكنا كويسين جدًا قبل ما أنزل.

ثار بركان غضبه بصياح وسخط تحدث: 
-كويسين لدرجة أنها سابت البيت ومش عارف مكانها، أنا اللي غلطان، إزاي أوافق على واحد زيك، وأسلمه أختي، والله العظيم ما هاسكت.

-يا بني أدم ما عملتش حاجة ولا زعلتها، ومش وقت خناق، نلاقيها الأول.

انهى الاتصال قبل أن يتم عبد الرحمن حديثه، أما عبد الرحمن فكاد يجن، فقد أخر أمل، هداه عقله لحل أخير قد تكون والدته احدت عليها بالحديث فعادت لبيتهما، فذهب على أمل إيجادها، وضاع عبثًا ولم يجدها هناك، بحث بالطرقات عله يجدها، فلا ملجأ أخر لها، وكذلك فعل محمود لبعض الوقت.

عاد عبد الرحمن لبيت والدته يجر أذيال خيبة رجائه، أملًا عودتها، اقتربت الساعة من السابعة مساءً ولم تعد، متأكد ان لوالدته دورًا كبيرًا في اختفائها، ولكن يجهل الطريقة.
تراقبه بصمت شامتة، جالسة أمام التلفاز الظاهر تتابع باستمتاع، ولكن متعتها الحقيقية حيرة ابنها وتعذيب حبيبة، جلس عبد الرحمن بجانبها، حدثها برجاء يحاول استمالة قلبها، هي طوق نجاته الأخير.
-يا أمي لو عارفة حاجة قوليها، الوقت أتأخر الساعة بقت سابعة، حبيبة عمرها ما عملت كده، مش بتطلع من البيت غير وأنا عارف هي فين، ومش بتسيب تليفونها أبدًا طول ماهي بره، يا ماما أبوس ايدك صارحيني.

رفعت حاجبييها وتحدثت بسخرية متعجبة: 
-أبوس ايدك! للدرجة دي يا عبد الرحمن تغيرت.
كشفت وجهها الخفي منذ الليلة السابقة، واسترسلت متهكمة:
-خليك دور، يمكن تلاقيها!
ثم تركته وتحركت من أمامه، أيقن إلمامها بالأمر، وتأكد إنها لن تفصح عن مكانها، عاد للغرفة يلكم جدرانها بسخط مما حدث له، كاد أن يذهب عقله، يقتله الخوف على حبيبته، وما ألمَّ بها، وحدث نفسه بصوتٍ عالٍ: 
-غبي أنا غبي، ليه سيبتك يا حبيبة؟ ليه؟ كنت حاسس من البداية إن في حاجة غلط.

رجت لكمته الجدران، فأعادت حبيبة من غيبوبتها التي استسلمت لها من قسوة زمهرير صقيعها، الذي تمكن منها وانهكها، نما لسمعها صوت عبد الرحمن، وشعرت بقربه فجاهدت لتُحرك جسدها المتيبس، تقاوم فقدان وعيها، وبالكاد وصلت الي مدخل الشرفة، حاولت طرقه فأصدرت صوت خافت بالكاد يسمع.

 شعر بحركة ضعيفة بالشرفة؛ فاسرع بفتحها، مستبعد وجودها، صدمة تملكته اسقطت قلبه وطعنته، فوجدها بحالة يرثى لها وإعياء شديد، ارتعد خوفا عليها، نظرت هي إليه واطمأنت لوجوده معها؛ فأغلقت عينها ومستسلمة لفقدان وعيها.

 أفاق سريعًا مما أصابه، حملها  ووضعها على الفراش وبحث عن أغطية ثقيلة ودثرها بها، يحاول بث الدفء لجسدها، يربت على وجهها بلطف يحاول إفاقتها، يحدثها بذعر جلي، اتصل بالطبيب وطلب منه أن يسرع إليه بمنزله.

 وصل محمود بعد أن حاب الطرقات التى خطتها قدمهما يومًا، يتوعد عبد الرحمن بالكثير، وقف أمام باب المنزل كاد أن يطرق؛ فاستوقفه صوت عبد الرحمن الثائر والغاضب، بم يكد يتنفس حتى سمع ما جعله مشدوهًا متعجبًا يكاد يكذب ما سمع، فثورة عبد الرحمن موجهة لوالدته، ولأول مرة ينفعل ويحتد عليها، يحدثها وهو يهتم بحبيبة لسوء حالتها، يحكم من تدثيرها بالأغطية، وحملها مغادرًا المنزل.

-ليه؟ ليه؟ أذيتك في أيه؟ عايزة تأذيها ولا تموتيها؟! حرام عليكِ، لو حصل لها حاجة، هاتقفي بين ايدين ربنا تصلي ازاي؟! عمري ما اسامحك لو جري لها حاجة، افتحي الباب وتأكدي إن عمرها ما هاتدخل هنا تاني.

وقفت أمامه بتكبر وتحدثت بثورة مماثلة:
 -هي عملت فيك أيه؟ لو أعرف إن الجوازة دي هتعمل فيك كده ما كنتش وافقت أبدًا، عُمرك ما قولت لي لأ ولا خالفتني، دايمًا تسمع كلامي وتعمل اللي أطلبه، لحد ما تجوزتها؛ بقيت واحد تاني، على العموم ما تخافش عليها قوي كده، مش حيحصل لها حاجة شوية برد وخلاص، على صوتك عليَّا أكتر، علِّيه كمان و كمان.

 فتحت الباب فوجدا محمود أمامهما، فتحدث عبد الرحمن بجدية:
-كويس إنك جيت، تعالي معايا.

لأول مرة لا يستطيع تأنيبه، لم يتوقع أن يحتد على والدته من أجل حبيبة، كما كانت حالته غاية في السوء، يبدو عليه الإجهاد والتوتر الشديدين، انفصل عن العالم بأثره، لا يري سواها.

قاد محمود السيارة وجلس عبد الرحمن بحبيبة بالخلف يحاول تدليك جسدها لتدفئتها، يحدثها:
-حبيبة، حبيبة افتحي عينك، سامعاني أنا معاكي خلاص، حقك عليا، حبيبة،  هتبقي كويسة ما تخافيش.

 -نروح المستشفى احسن؟
-أنا اتصلت بالدكتور وجاي على البيت.

وصلوا للبيت فأعطى كاد محمود ان يحمل حبيبة لكن أصر عبد الرحمن على حملها، وعدم تركها وبالأعلى، طلب العون من محمود:
-الأوضة جوه فيها دفاية شغلها تدفي المكان، واقفل الباب.

دخل بها المرحاض نزع عنها ملابسها المبللة، غمرها بالماء الساخن؛ ليزيل عنها البرد المتملك من جسدها، لم يهتم بملابسه التي طالتها المياه، ثم حملها للغرفة وقد دفأت قليلًا، جمع شعرها بمنشفة جافة، والبسها ملابس ثقيلة ثم نادى على محمود الذي كان منتظر خارج الغرفة بقلق وتوتر.
-محمود تعالى لو سمحت.

دخل محمود بهدوء وصمت
-ساعدني ندفيها ادعك لها ايدها على ما انشف  شعرها وارفعه حاول تخلي ايدها تحت الغطا.

تضاربت مشاعر محمود، فحينما ذهب إليه كان بقمة غضبه، على استعداد حتى للاشتباك إن تطلب الأمر، لكن ما سمعه ويراه الآن جعله بحالة تخبط قصوى، جزء منه مشفق على عبد الرحمن، فحالته سيئة والتعب ظاهرًا جليًا بملامحه وقسماته، خوفه على حبيبة بيِّن، وبنفس الوقت حانقًا على حال حبيبة وما آلت إليه يجهل تفاصيل ما حدث ولكنه موقن من تعرضها للتعذيب على يد حافظة، وبالنهاية تلك مسئولية عبد الرحمن؛ فهو عجز عن حمايتها، مشاعره المتناقضة تلك  جعلته هذا ينفذ ما يُطلبه بصمت.
 
أخيرًا خرج محمود من صمته: 
-غير هدومك يا عبد الرحمن كُلها ميه.
-بعدين، بعدين 
-على الأقل عشان هدوم حبيبة ما تغرقش ميه.

أجابه بتوتر وبدأ الصداع يطرق رأسه بقوة يدلكها لعله يهدأ قليلًا:
- عندك حق، حاضر.

وظلا بجانب حبيبة، حتى وصل الطبيب، أنتهى ثم تحدث لهما، شرح حالتها وكتب لها الادوية المناسبة، ثم نظر الى عبد الرحمن والتعب البادي عليه.
-شكلك ما اخدش العلاج النهاردة أنا معايا جهاز الضغط اتفضل أقيسه، ضغطك عالي جدًا، افتكر اني حظرتك المرة اللي فاتت من استمرار إرتفاعه، يا ريت تهتم أكتر، لو استمريت كده لازم نغير العلاج، أشوفك بعد أسبوع مع المدام نطمن عليكم أنتم الاتنين.

غادر الطبيب ولم يستطع محمود لوم عبد الرحمن فما سمعه منه ومن الطبيب أغلق أي مجال للحديث.
-أنا رايح أجيب بسمة، تعمل أكل مناسب لحبيبة، استني بس لما ارجع وبعدين ادخل ارتاح معَها.

جلس عبد الرحمن بجانب حبيبة يربت عليها من وقت لأخر، يلوم نفسه ويؤنبها لتركها مع والدته لا يتخيل أنه كاد يفقدها، ظل يعتذر منها، كادت تغلبه دموعه وبالكاد منعها.

 بعد فترة عاد محمود مصطحب بسمة واشترى كل ما قد  تحتاجه لإعداد الطعام وترك طفليه مع والدتها، اخذ عبد الرحمن نفسًا عميقًا ثم خرج إلى محمود.

-مش عارف اقول لك أيه! بس عايزك تتأكد إن حبيبة أغلى حد عندي واللي حصل لها ده غصب عني.
-مش وقته يا عبد الرحمن خلينا نطمن عليها الأول.
خرجت بسمة اليهم بعد فترة وقد انتهت من إعداد الطعام له ولحبيبة، فسكرخا عبد الرحمن بامتنان، وبكلمات اعتيادية ثم غادر محمود وبسمة وعاد عبد الرحمن لحبيبة، وضع مقعد جانب الفراش ليجلس عليه، ظل يمسد رأسها بحنان، يُقبّل يدها من حين لأخر، حتى غفا على حالته.

 استيقظ فجرًا توضأ وصلى، ثم جلس جانبها، بدأت تفتح عينيها بإجهاد، ابتسم بفرح ومسد رأسها، يحدثها:
-حمد الله على السلامة، أنا أسف حقك عليا، كنت هاتجنن عليكِ، حقك عليا تعذبتِ بسببي.

حاولت التحدث ولم تستطع فهمست له: 
-أنا كويسة، ما تقلقش.
 ومن شدة تعبها غفت مرة اخرى.

يعلم أنها لن تلومه أو تأنبه، لن تغضب حتى من والدته، لكن ماذا عنه هو! لن يستطيع أن يغفر لنفسه أو يعذر والدته، يتألم كلما تصور هيئتها تحت المطر ترتجف، لا يعلم كم مرة نادت عليه!  فبالتأكيد تمنت كثيرًا عودته، يشعر بغبائه ليس فقط لتركها، ولعدم شعوره بقربها، فلم يتخيل فعل والدته، خذلته؛ لم يري بعينيها أي بادرة ندم، لم شعر بترددها حتى، ألهذه الدرجة تكره زوجته! ماذا فعلت؟! أذنبها انها تحيا معه بسعادة؟! أتعتقد عدم ضربها أو إهدار كرامتها ذنب تستحق عليه العقاب؟!  

اهتم عبد الرحمن بها وتفرغ لها حتى تشفى سريعًا، يعطيها الدواء وتأكل بعد إلحاح منه، بعد يومان بدأت تنتبه، بالكاد يسمع صوتها:
-ما روحتش المدرسة.
عبد الرحمن: اخدت إجازة عشانك، جهزت لك الفطار بس اشربي اليانسون الأول وهو سخن كده.
أشارت له بعدم رغبتها أو قدرتها فاسترسل: 
-لازم عشان العلاج يا حبيبة لما صدقت انك فوقتي، بقالك يومين مش حاسة بحاجة، تاخدي العلاج بالعافية والمضاد تقيل لازم الأكل.

مع جملة العلاج تذكرت علاجه بالتأكيد لم يهتم كعادته
-العلاج، أخدت العلاج؟!

لم ينتبه لما أرادت سمع فقط كلمة العلاج.
-أهو يا حبيبتي، كلي عشان تاخديه.

أومأت نافية وحاولت رفع نبرتها؛ فشعرت بألم واضعه يدها على عنقها:
- علاجك أنت، الضغط.

اقترب منها وربت على ظهرها ويده الأخرى على يدها فوق عنقها.
-ما تجهديش نفسك يا حبيبة مش لازم تتكلمي، قصدك علاجي.

  أومأت مؤيدة، فأجابها:
- ايوه باخده، ما تخافيش.
 ابتسم بحب:
-حتى وأنتِ تعبانة تفكري فيّا، سامحيني يا حبيبة، عارف إنك مسامحاني من البداية لكن الحقيقية أنا اللي مش مسامح نفسي، وعمري ما أغفر لها ذنب اللي حصل لك، ما كانش لازم أسيبك أبدًا.

قربته منها وتحدثت جانب أذنه:  المفروض أشكر طنط، بسببها شوفت كل الاهتمام والحب ده، وفضلت جنبي اليومين دول.

ضمها إليه بحب وشدد في ضمها، ثم ابعدها قليلًا، فوجدها تغمض عينها بقوة
-حاسه بايه؟ مالك؟
أشارت بيدها فتحدث: 
-دايخة.

أومأت مؤيدة بدأ إطعامها: 
-يبقي لازم تأكلي وتشربي اليانسون، عشان تاخدي العلاج ضروري وننام ونرتاح.
حاولت التحدث فوضع الطعام بفمها:
- بطلي كلام بدل ما تتعبي زيادة.
استجابت له انهت ما طلب واستلقت قليلا غفا بجانبها من شدة ارهاقه ، انتبه بعد فترة على ارتدادّها على الفراش عندما حاولت النهوض فأسرع اليها.
-ما صحتنيش ليه! عايزة أيه همست بأذنه.
-اسندي عليا طيب.

 حاوطها بيديه عاونها لتتحرك، ثم أرادت الجلوس معه قليلًا وقد اشتاق لجلوسهما معًا؛ فجلسا يركنهما أراح ظهرها على صدره، يمسد رأسها بحنان يحدثها حتى غفت، فأعادها للفراش واستلقى جانبها.

ظلت على حالها لفترة تشعر بدوار شديد اذا جلست أو حاولت النهوض، وهو ايضا ظل يهتم بها ويعطيها ادويتها تحسنت  كثيرا خلال اربعة ايام استطاعت التحرك وحدها ذهب عنها الدوار اشرق وجهها قليلا رفض عبد الرحمن ان تجهد نفسها بأعمال المنزل واستمر هو في انهائها واعداد الطعام.

طوال تلك الفترة يذهب إليهما محمود وبسمة؛ ليطمئنا عليها، لم يتحدث محمود فيما حدث، وقد قرر عدم الخوض فيه، واكتفى بما يفعله عبد الرحمن واهتمامه بحبيبة.

 لم تهتم حافظة ولم تحاول الاتصال مما أحزن عبد الرحمن، وشعر بعدم أهميته لها، وقد توقع حضورها أو اتصالها على أقل تقدير، أن يستشعر ندمها لاندفاعها فيما فعلت،  وألمه تجاهلها.

وباليوم التالي صباحًا اتصل عبد الرحمن بمحمود طالبًا ذهاب بسمة لمرفقة حبيبة لاضطراره للخروج لإتمام أمرًا هامًا، فوافق متضررًا، يشعر بالسخط تجاهه، متوقعًا ضجره من الاهتمام بحبيبة، واستشعر عبد الرحمن ما نما بصدر الآخر وفضل الصمت.

احتدم غضب محمود ولم يلتمس له أي عذر، فلا يجد شيئًا أكثر أهمية من اخته وما حدث لها.






تعليقات



<>