
رواية حبيبت عبد الرحمن الفصل السابع7والثامن8 بقلم سلوي فاضل
الفرحة هي الإحساس الوحيد الذي عاشته حبيبة بهذه الليلة، تدعوا الله أن يُتِمها ويصبح حلمها حقيقة، لم تهتم بحديث حسناء رغم شعورها بصدق ما قصت، لكنها تصدق عبد الرحمن، وتصدق إحساسها يتردد في عقلها صوت بسمة "ساعات ربنا يجعلنا نقابل الشخص اللي نحبه حتى لو كان بعيد عن حياتنا العادية بتدابير القدر، عشان نقابل الشخص اللي يغير في حياتنا أو نغير في حياته، في النهاية حياتهم بتكون أحسن وسعيدة"
ناجت الله بهمس:
-يارب أجعل حياتي معَه خير، وأبعد عننا السوء، يا رب أكيد مقابلتي معَه قدر عشان نغير في حياة بعض، يارب أجعله تغير للأحسن وللسعادة يا رب.
مر الوقت وتم الزفاف واجتمعا أخيرًا بعد أن كل الظن ألا تلاقيا، رفرف قلبهما فرحًا، وصلا لعشهما الدافئ هنئهم الجميع أسفل البناية، ولم يصعد معهما أحد؛ فكان طلب عبد الرحمن واقنعت بسمة محمود بشق الأنفس منعًا لحدوث أزمة جديدة، وكعادة محمود لم يرد إفساد سعادة أخته؛ فوافق على غير رغبة.
صعد عبد الرحمن وحبيبة لعشهما، وقف أمام بيتهما المغلق ناظرًا لها بحب.
-أخيرًا يا حبيبة لوحدنا وثواني ويتقفل علينا باب واحد.
خجلت مبتسمة واخفضت بصرها، ففتح الباب، وتحدث ببشاشة عهدها:
-أدخلي برجلك اليمين.
خطت للداخل وتلاها هو؛ فانبهر بالمكان وحاز إعجابه؛ فقد تبدل حاله رغم أنه ذات الأثاث، لكن لمستها للمكان وأضافاتها له بدلت مظهره،فقد علقت بعض التابلوهات على الحائط، ووضعت بعض نباتات الظل بالأركان، والكثير من الوسادات الصغيرة متعددة الألوان على المقاعد والأريكة، كما بدلت أماكن بعض القطع.
-ما شاء الله، ذوقك حلو قوي، معقول المكان شكله اتغير خالص!
كلماته أسعدتها، وهدأت من توتر اللحظة:
-بجد! أتغير للأحسن! عجبك؟!
سعادتها بكلماته البسيطة زادته سعادة: -جدًا، عشان كده ما حبتيش اجي وقت التجهيزات، عشان يبقى مفاجأة، عارفة يا حبيبة، المكان كده بقي يشبهك، روحه جميلة ويهدي الأعصاب.
اقترب منها ووضع كفيه على كتفها، وسبح داخل مقلتيها:
-مش مصدق إننا مع بعض ولوحدنا في بيتنا.
اخجلتها نظراته،؛ فاحمر وجهها واخفضته:
-أنا كمان مش مصدقه.
-لااا النهاردة أخر يوم تتكسفي وأنتِ معايا، خلاص ما بقاش في بينا كسوف، أنتِ مرااتي ودنيتي.
-حاضر
أمسك يدها بحب، نظر إليها يبثها اشتياقه ببسمة شغوفة، وخطا بها نحو غرفتيهما.
لم يقل انبهاره بجمال الغرفة عن الخارج؛ فقد بدلت حالها أيضًا، أبدلت أماكن بعض القطع، ولم تنسى تأسيس ركن للسمر، فوضعت أريكة صغيرة ومنضدة مماثلة لها بالحجم، واختارت وهما بجانب الفراش.
وكذلك أسست ركنًا يحوي مكتبًا بحجم مناسب للغرفة، ووحدة إضاءة صغيرة، كما اهتمت بشرفة الغرفة، وأعدت بخا مجلسً صغيرًا لهما، يحوي منضدة صغيرة وكرسيان، وزينتها بالكثير من الورود والزهور، سعد بتغيراتها جميعًا خصوصًا بالغرفة والشرف، فقد محت أي ذكري سابقة بفعلها.
-أيه الجمال ده يا حبيبة؟! مش معقول، الأوضة تغيرت خالص.
-لسه البلكونة.
فتح الشرفة ألقى نظرة ثم أغلقها من جديد:
-المكتب عشان تذاكري عليه، صح؟
أجابته بابتسامة:
-لأ، مش صح، ده عشانك، تشتغل عليه لو معاك شغل في البيت، وتكون قريب مني.
وضع يديه على كتفيها تمعن النظر بعينيها ثم ضمها إليه معتصرها بقوة
-دايمًا هَأكون قريب منك، عمري ما أبعد أبدًا، يلا نغير هدومنا.
خجلت وارتبكت تحركت لتبتعد قليلًا؛ فتعثرت بفستانها وسقطت أرضًا؛ فارتطم كتفها بالفراش بقوة، عاونها لتنهض.
-بالراحة خلي بالك، أنت كويسة؟ أجيب لك تلج.
-لا، لا، مش جامدة.
-طيب بالراحة، أنا حطلع بره، غيري براحتك، بس ما تتأخريش عليا.
أنتظرها بشوق وحماس، حتى خرجت ترتدي اسدال الصلاة، تكاد تذوب خجلًا، وتخفض وجهها شديد الاحمرار، ووقفت أمامه صامته.
اتسعت بسمته بسعادة مفرطة؛ فهي مختلفة بكل شيء، حتى بإحساسه بها، احترم خجلها وحاول اخراجها من حالتها.
-كويس إنك بالاسدال، اتوضي على ما أغير عشان نصلي الأول.
انتهيا ثم جلسا يتناولان الطعام، يطعمها بيده، يسقيها الماء، ولم ترضى بالاسدال بديلا، أحبت فعله معها، تختلس النظرات له؛ فتجده مثبت ناظريه عليها مبتسما.
وبعد فترة تحدثت حامدة
-الحمد لله
-خلاص كدة شبعتي.
أومأت بخجل لم يفارقها، فاسترسل:
-تعالي نغسل ايدنا.
وقفا جانب الفراش نظر لها بسعادة شديدة، مسد على وجهها بحب، وبهدوء خلع عنها الإسدال، ولم تفارقها عيناه، فازداد وجهها حُمرة عشقها، وقع بصره على ذراعها المتأذي، وقد تغير لونه؛ فقبله وصاعد بقبلاته حتى وجهها مقبله،وهمس في أذنها بأنفاس ملتاعة.
-سلامتك يا حبيبة.
مر يوم الزفاف سعيدًا هادئًا، تعامل معها برفق ولطف.
وبفجر اليوم التالي، استيقظت حبيبة قبل الأذان كما اعتادت، توضأت واستعدت للصلاة ثم جلست على طرف الفراش بجانب عبد الرحمن، قبلت رأسه وايقظته برفق.
-عبد الرحمن صباح الخير.
فتح عينه بثقل، طالعها مبتسمًا، ضمها إليه مقبلها:
-أجمل عروسة في الدنيا، صباحية مباركة، بس دي بدري قوي، ليه صاحية بدري كده؟!
-عشان نصلي الفجر جماعة، يلا أنا جاهزة منتظراك.
-ممكن نصحي متأخر شوية، دا النهاردة الصباحية.
-أنا متعودة من زمان أصحى على الأذان ونصلي جماعة، وإن شاء الله تكون عادتنا بردو ونعلمها لأولادنا، يلا بقى بلاش كسل، الوقت حيروح وممكن ننام بعد ما نصلي.
ابتسم ناهضًا، استعد ثم صلى بها إمامًا، غمرته السعادة؛ فكل ما يمر به معها مختلف، جلسا معًا يتناولان إفطارهما
-تسلم إيدك يا حبيبة الأكل حلو قوي.
-شكرًا بالهنا.
-عندنا مشوار مهم بالليل.
-بجد! فين؟
-عند دكتورة نسا، أنا حجزت لك معاد.
تجعدت ملامحها بتعجب:
-ليه؟
-عشان اتفاقي مع محمود، شرطه تأجيل الحمل، الدكتورة تحدد الوسيلة؟
شحب لونها وتخوفت من التجربة، شعر بها فتحدث يهدأها، أخذ راحتيها بين كفيه طالعها ببشاشة:
-ماتخافيش كدة أنا معاكي، عارف إن مش طبيعي تتجوزي إمبارح وتروحي لدكتورة تاني يوم، لكن أنا وعدت محمود، ده كان شرط لجوازنا، يعني لو كنت رفضت هو كمان كان هيرفض الجواز، فاهماني يا حبيبة ده غير إن ما ينفعش ما التزمش بوعدي، الوعد سيف على رقبتي عمري ما أخلفه أبدًا، أنا فاهم سبب شرطه، مش عشان مذاكرة هو جمل الصورة بس.
حاولت الابتسام وإخفاء رهبتها لكنها لم تستطع، أكملا تناول طعامهما ثم جلسا بغرفتهما، بركنهما الذي أعدته حبيبة، وجدها تنظر أمامها شاردة؛ فحدثها يطمئنها.
-أنت عارفة إن محمود بيخاف عليكِ، وأكيد مش هيشرط حاجة تضرك، صح؟
نظرت إليه بصمت؛ فأكمل:
-عايزك تتأكدي إني والله مش هأذيكِ أبدًا ولا أضرك.
-أنا متأكدة إنك عمرك ما تاذيني.
ابتسم بسعادة لثقتها به:
-يبقي ما تخافيش و أنا معاكِ.
أومأت له، فضمها بحنان وحب.
مر الوقت، آتي الجميع يهنئون العروسين، وسبق حضور والدته الجميع، ولم يُتح لها عبد الرحمن الفرصة للإنفراد بحبيبة، وعاونه على ذلك حضور محمود المتعجل، وقد شعر بثقل مرور الوقت، وما أن وجد التوقيت مناسبًا أسرع يطمئن على أخته.
تقدمت حافظة المهنئين، جلست تتأمل حبيبة تتفحصها، سعدت حين لمحت تغير لون ذراعها، ظنت أن إبنها بدأ مبكرًا، وأنه سيظل على نفس المنوال.
قدمت حبيبة الضيافة لحافظة، وبعد دقائق بسيطة حضر محمود وبسمة، جلسوا جميعًا يدور بينهم أحاديث تقليدية، سعد محمود ببسمتها وفرحتها الظاهرة، وأطمأن قلبه بعض الشيء.
بعد فترة انسحبت النساء لغرفة حبيبة، ضمتها بسمة بسعادة:
-مبروك يا حبيبة ألف مبروك.
-الله يبارك فيكي يا بسمة عقبال ولادك.
تصنعت حافظة الفرحة، ربتت على كتفها المتأذي:
-مبروك عقبال البكاري.
تألمت حبيبة فتحدثت حافظة بخبث مبطن بطيية زائفة:
-دراعك وجعك ولا أيه؟
جذبت الروب متعمدة، تجاهر بما فعله ابنها حسب اعتقادها، مسترسلة:
-أيه ده؟! سلامتك، ما كنش ليه لزوم المصاريف اللي اتصرفت على الشقة، الأول كان أحلى، بقى فيها زحمة كتير.
نظرت إليها حبيبة بإحراج غلفته ببسمة صامتة، وشحب وجه بسمة عقب رؤية ذراعها:
-أيه ده يا حبيبة دراعك ماله؟
-اتكعبلت واتخبط في السرير.
ابتسمت حافظة بنشوةٍ:
-سلامتك.
ثم تركتهم وانضمت لابنها بالمجلس، فتحدثت بسمة بوجل عقب خروجها بقلب منتفض:
-اتخبطتي ولا حاجة تانية يا حبيبة أوعي تخبي.
-والله اتخبط، حتى عبد الرحمن كان عايز يحط تلج بس أنا ما تخيلتش أنها حتعمل كده.
-معلش يا حبيبة افتكرت حاجة تانية، خلي بالك حماتك مش سهلة، تعمدت تشد الروب عشان يحصل قلق، خليكِ حكيمة في تعاملك معَها، إحنا نمشي بقى ونسيبكم على راحتكم.
قبلتها ثم اتجهت للمجلس، ودعت محمود للمغادرة، اقترب محمود من حبيبة ضمها إليها بحنان، قبَّل رأسها مباركًا:
-مبروك يا حبيبتي، أنا جبت لك كل اللي بتحبيه، خدي بالك على نفسك.
ثم نظر لعبد الرحمن مهنئًا:
-مبروك، مش حوصيك عليها.
-ما تقلقش عليها في عنيا.
غادر محمود وبسمة، وتحدثت حافظة ببسمة زائفة:
-ما تعملي لنا شاي يا عروسة على ما أقول لعبد الرحمن كلمتين.
أومأت حبيبة مبتسمة، واتجهت تعد ما طُلِب واتجهت حافظة بكامل جسدها وانتباهها لابنها:
-جدع يا حبيبي، دبحت لها القطة من أول يوم.
-لو قصدك على ايدها هي وقعت واتخبطت، أنا قولت لك الجوازه دي مش زي اللي قبلها، ياريت تفهمي قصدي يا أمي.
-مش مهم، المهم النتيجة وقعَت أو قصدت توقعها مش فارق.
كاد أن يتحدث لولا رؤيته لقدوم حبيبة تحمل أكواب الشاي وبعض الحلوى، وقدمت لحماتها بلطفٍ وخجل:
-تفضلي يا طنط.
-لا اسيبكم على راحتكم بقي وأرجع
بيتي.
ضمت عبد الرحمن إليها بحرارة مفتعلة، ثم فعلت المثل لحبيبة لكن بفطورٍ شديد وبلا حياة، غادرت فتساءلت حبيبة
-هي طنط زعلانة من حاجة؟!
-لا هي أمي طبعها كده.
سألته باحراج وتوتر تحاول إخفائه:
-هي الشقة فعلًا بقت وحشة وزحمة؟!
أجابها ببشاشة وبسمة سعادة:
-أكيد لأ، بقت حلوة قوي، ماما اللي قالت لك كده، صح؟ بصي مش عايزك تزعلي هي في الآخر ست كبيرة مش المفروض نزعل منها أو نزعلها، اتفقنا.
أومأت له بخجل ولازالت تحافظ على بسمتها مرسومة على وجهها، نظر إليها مبتسما بسعادةٍ ونشوة:
-رجعنا لوحدنا تاني، تعالي جوه أقول لك سر خطييير.
حملها فأحمر وجهِهَا الذي خبأته في صَدرِه ودلف بها للغرفة.
بالمساء ذهبا للطبيبة، شحب وجهها وسَرَت رجفة بأوصالها شعر بها فحاول طمأنتها.
-ما تخافيش كدة، أنا معاكي أهو مش هسيبك.
دخلا للطبيبة تحدثت معهم قليلا ثم اخذت حبيبة لغرفة أخرى دونه، كل ما حدث ويحدث حياة جديدة مختلفة، تمنتها لكن ما تمر به الآن مخيف لها ترهبه؛ فظلت شاحبة متوترة، وبعد أن أنتهت الطبية عادا إلى المنزل، ضمها عبد الرحمن برفق تحرك معها إلى الغرفة وبدلا ثيابهما، ثم أحضر اها مشروباً يهدئها، تحدث باسمًا:
-أحلى عصير لأحلى حبيبة، تعالي نقعد نشرب العصير ونتكلم شوية.
أومأت بابتسامة مهزوزة، جلسا وضمها بين ذراعيه، ساندًا ظهرها على صدره مداعبًا خُصلات شعرِها
-ساعات بحس إنك بنتي كمان، مش عارف ليه؟! يمكن عشان سنك صغير أو عشان قصيرة شوية، أنت عارفة وأنت واقفة جنبي يادوب راسك بتوصل لكتفي بالعافية.
ابتسمت واغمضت عينها، تستمع به بصمت، ظل يُحدثها بموضوعاتٍ عدة؛ ليخرجها من حالتها، وتجاذبا أطراف الحديث حتى غفت؛ فحملها ووضعها على الفراش برفق، استلقي جانبها، ناظرًا اليها بتأمل، غير مُصدق إنّها بين ذراعيه، حتى غشيهُ النوم، وبالصباح تجاوزت حبيبة شعورها فغمرتهما السعادة من جديد.
مر يومان اخران، وهما ينعمان بسعادةٍ وحب لا يُعكر صفوهما شئ، وبداخله رغبةٍ تحاول فرض نفسها، تجعله يتخبط داخليًا رغم ثباته الظاهر، رغبةٌ مصدرها وحشه الكامن، يحاول الطفو للسطح من جديد، وهو يقاوم بكل طاقته، تساعده حبيبة ببساطة أفعالها التلقائية، تقوي عزيمته ببسمتها الصافية ولمساتها الحنونة
وفي اليوم التالي بالمساء اقترح عليها اللعب بالورق، وبنفسه أمرًا أعتقد أنه قد يعاونه لحفظ وعوده، والوفاء بها:
-ما تيجي نلعب كوتشينة من باب التغيير.
-مش بحبها قوي بس ماشي، طيب نلعب أيه؟
-الشايب وأحكام بقى.
-متحمس قوي!
مع القليل من التفكير، ابتسمت بحماس، وكأن عقلها أُضيء بفكرةٍ ما، فأومأت موافقة، بدءا اللعب دورٍ يلي الآخر، مر بعض الوقت ولا زالا يلعبان باستمتاع، وباقتراب نهاية اللعب.
-اممم، المفروض أحكم أنا، صح ؟
أومأ لها فنهضت تبحث عن شيء.
-ناوية وبتدوري على أيه؟
عادت بيدها غطاء رأس صغير:
-لقيتها، أنا هاغمي عينيك.
غمز بأحد عينيه مردفًا:
-ليه طيب؟ وما اشوفش القمر ده.
ابتسمت بخجل واقتربت منه ووضعته على عينيه
-أنا مستسلم أهو ومستنيكي.
انتهت ثم قامت بتحريك بعض قطع الأثاث من موضعها، فتحدث بمرح وفكاهة:
-أيه الأصوات دي، أنتِ بتهربي العفش ولا أيه؟!
-لا ما تخافش، أنا غيرت أماكن بعض الحاجات، هاتقوم وتمسك ايدي وحتمشي معايا.
-هو ده الحكم، بس كده.
-بس كده.
-ولو وقعت.
-استحالة أوقعك.
تحرك معها ببطئ وأمسك بكف يدها، وبعد قليل افتعل سقوطه؛ فسندته بكامل جسدها؛ فرفع الغمامة عنه وضمها إليه مُقَبِّلها، ثم عادا للعب من جديد بهذه المرة كان له الحُكم.
-دوري، أنا سمعت كلامك للآخر الدور عليكِ تسمعي أنتِ كمان الكلام.
حوى حديثه معنٍ خفي لم تنتبه له، وتحدثت ببسمة خجلة:
-ماشي بس براحة عليَّا بقى.
-والله بالراحة قوي ما تخافيش.
تعجبت من إجابته، نظرت له باستفهام قابلها هو بابتسامة
-قربي يا حبيبة تعالي عندي، فاقتربت حبيبة ووقفت أمامه، وكان جالسًا على الأريكة، فوضع يده على خصرها شعرت به يخلع ملابسها، توقعت ما أراد فشحِب وجهها، وضعت يدها على كفيه ونظرت داخل مقلتيه
-حتعمل أيه؟ بلاش.
جذبها إليه هامسًا بأذنها:
-ما تخافيش.
اطبقت جفنيها تبعد ما راود تفكيرها عن عقلها، وحاوطته بذراعيها تضمه، فاسترسل حديثه بما جعل قلبها وعقلها يتوقفان عن العمل:
-مش هوجعك دي لعبة.
عدل وضعها لتصبح مستلقية فوق قدميه، منكبة على وجهيها، وخلع عنها بعض ملابسها، علا صوت تنفسها وشق صوت الصمت الذّي ساد دون مقدمات، شعر بدقات قلبها المتلاحقة ولم يتراجع، يعيد على عقله مرارًا ما أخبرها به.
دمِعَت عينيها، تخيلها لهيئتها وما ينوي فعله يقتلها، ومن شدة صدمتها لم تستطع التحدث، رفع يده لأعلى، كاد أن يفعل لولا سقوطها أرضًا مغشي عليها، سقط جسدها مرتطمًا بالأرض، تملكه الخوف وتردد بأذنه صدى كلماتها
"لو حصل كده حموت"
قتله الندم، ارتجف قلبه هلعًا، إن تبدل حُبها أو انتهى، حملها ووضعها على الفراش، ألبسها ما خلعه وظل يردد اسمها
-حبيبة، حبيبة فوقي أنا اسف دي لعبة والله، حبيبة.
ارتعش جفنيها، بدأت تستعيد وعيها، تذكر عقلها ما كان، فانتفضت جالسة مُنكمشة، تضم جسدها إليها تخفي وجهها بين ساقيها وذراعيها، وأدارت له ظهرها وفاضت عينيها بالدموع.
-ما كنتش هَوجَعك والله، دي لعبة ما كنتش عارف أن ده هَيحصل أنتِ لمّا حكمتي أنا ...
قاطعته باكية توضح مقصدها مما فعلت:
-أنا ما ضرتكش، كنت بقولك بطريقة مختلفة اني عينك اللي بتشوف بها، وممكن تعتمد عليا وعمري ما حأذيك أو أخذلك، لكن أنت شايفني لعبة، خدتني في حُضنك؛ فاطمنت وأنت نيتك مش صافية، بتتسلي بيَّا ما فكرتش إحساسي أيه؟! عايز تضربني عشان تتسلي! عمري ما تخيلت كده، ليه يا عبد الرحمن؟!
-عمرك ما تكوني لعبة، أنا مش عارف فعلًا أقول أيه! بس، والله عمري ما فكرت كده، أنا أخدتك في حضني أطمنك فعلًا، مش عشان أضحك عليكِ، قبل ما أعرفك حياتي كانت خشنة وناشفة، القسوة والشدة في كل حياتي جدها وهزارها، أنتِ النسمة الرقيقة اللي بقت فيها، دبت فيّا الروح من تاني، خلتني أحس أني إنسان، أنتِ الوحيدة اللي حسيتي بيّا بدون ما أتكلم، أول يد تمسح وجع وهموم السنين اللي فاتت، استحمليني وساعديني وأوعدك أحاول قد ما أقدر أكون زي ما في خيالك، حبيبة أنا بحبك بجد.
التفت إليه فور سماع جملته الأخيرة، رقص قلبها طربًا، تمنت سماعِها منه ولم تتوقع أن يفعلها أبدا، واسترسل هو كلماته يطربها، جعل قلبها يوشك على لمس السحاب:
-أنتِ حبيبتي وعمري وحياتي.
تعلقت بعنقه مع انتهاء كلماته، رقص قلبها بين ضلوعها، فوجئ بفعلها ولم يتوقعه، ولم يختلف حاله عنها، وضربته مشاعر عدة، غمره إحساس قوي ونشوةً لم يستطع حتّى وضع مسمى لهما، عاطفةٍ جياشةٍ حركته، فضمها بقوة ورقة معًا واغمض عينه يستمتع بمشاعره، واكتملت حالته وهو يستمع لكلماتها التي كانت بلسمًا شافٍ لندوب روحه، وما زالت متعلقة بعنقه:
-أنا كمان بحبك قوي يا عبد الرحمن، قوي، كان نفسي أسمع منك الكلام ده من يوم ما تجوزنا، كنت خايفة ما اسمعوش وتبقي صدمة، عمري ما اتحملها، أنتَ أول أمنية اتمناها وتتحقق، أنت حبيبي وحياتي، أبويا وأخويا وجوزي وكل حاجة حلوة.
شدد من ضمه لها، ماسدًا بكفيه على ظهرها، بعد عناقٍ طال لفترةٍ طويلة، نظرا كلاهما للآخر، مسح فيض عَبَراتها
-بردو يا حبيبة!
قبلت باطن كفه:
-دي دموع الفرحة مش عارفة امسكها، أنا فرحانة قوي، قوي.
-بجد يا حبيبة! فرحانة وأنت معايا!
سألها يؤكد لنفسه أنه مرغوبًا، يتأكد مما سمع، فلم يعتقد يومًا أن يعيش هذه السعادة أبدًا.
-أكيد يا حبيبي أي كلام مش قد اللي حاسة به، أنت دعوتي اللي ياما دعيت أنها تستجاب، وكرم ربنا أعطاني معاها سعادة كبيرة قوي ما تتوصفش.
ردد مبتسمًا بسعادة غامرة:
-حبيبي!
-أيوة حبيبي، من أول نظرة دخلت قلبي وسكنته، بقيت أنت قلبي اللي بيدق عشان أعيش.
-أنتِ كمان حبيبتي أفضل على طول شايلك في قلبي وعيوني، عارفة يا حبيبة، عمري ما تخيلت إني أقول الكلام ده، ولا تخيلت إني أحس بالمشاعر دي، أنتِ غيرتِ حياتي عرفتيني يعني أيه سعادة.
شعرت بفرحةٍ جامة اعجزتها عن الكَلِمْ؛ فأدمعت عينيها وقبَّلت يديه، ضمها إليه بنشوة، وقبَّلَ رأسها، اهجزتهما السعادة عن النطق بالكلمات فأطلقا العنان لمشاعرهما لتتحدث بلغتها الخاصة، وعاشا ليلة رائعةً أجمل من الأحلام.
في اليوم التالي استيقظا بنشاطٍ وحبور، بدءا يومهما كالمعتاد وبعدما تناول وجبة الإفطار جلسا على الأريكة بغرفتهما بركنهما الخاص.
-أنتِ عارفة إننا كل مرة نتكلم بنقرب من بعض أكتر.
-فعلًا يا حبيبي أنت عارف إننا ما نعرفش عن بعض كتير كأننا اكتفينا بوجودنا مع بعض.
-برتاح جدًا وأنا بتكلم معاكي واحكي لك عن حياتي قبل لك.
-بجد!
-بجد، أنا عمري ما فكرت أحكي لحسناء أو أتكلم معاها ولو حاولت كنت بقفل أي حوار.
تجهم وجهها وصمتت وظهر عليها الضيق.
-مالك؟!
-عارفة أنك مش حاسس ناحيتها بحاجة وأنها كانت مراتك بس بتضايق لما بتتكلم عنها، كل ما أفتكر أنها كانت معاك قبلي.
مشاهر جديدة يختبرها معها لأول مرة:
-بتغيري عليّا؟
-قوي فوق ما تتخيل.
ابتسم عبد الرحمن بسعادة فامسك يدها وقبلها
-أيه رأيك نعرف بعض أكتر؟
حبيبة: قصدك...
بدأ كل منهما يكمل للأخر الحديث
-بالظبط نفس اللي فكرتي فيه.
-نعقد كل يوم مع بعض.
-في نفس المعاد نتكلم ونحكي
-نعمل قعدة شاي في البلكونة.
-كل يوم الساعة ١١.
-خليها ١٠ عشان لمّا ترجع الشغل لازم تكون فايق ونايم كويس.
-اتفقنا، نبدأ من النهاردة.
الفصل الثامن
سافرا للإسكندرية مفضلان استخدام عوضًا عن سيارته، وتركها قريبًا من محطة القطار، استمتعا جدًا بسَفْرَتِهما، قضيا وقت ممتع في سعادةِ وجذل، لم يؤرقهما سوى غيرة عبد الرحمن المفرطة، يتأجج غضبًا إذا ألقى أحد المارة جوارهما أيًا من كلمات المدح والغزل، أو إن سمع صافرة إطراء.
مر الوقت سريعًا، لم يشعرا به، وحل وقت عودتهما، اختارا العودة بالقطار كما ذهبا، وبهذه المرة كان مزدحمًا قليلًا، أعاق التكدس حركتهما قليلًا، تأخرت حبيبة عنه خطوتين، فكادت أن تعلق بالقطار لولا يد عبد الرحمن التّي جذبتها خارجه؛ فتأذي ذراعها قليلًا،انتبه عبد الرحمن وتحدث معتذرًا.
-دراعك وجعك جامد كدة؟! كنت خايف القطر يمشي قبل ما تنزلي.
-عارفة والله، وشوية هبقى كويسة.
-لا تعالي نتأكد المرة اللي فاتت قولتي كده والوقعة كانت شديدة سابت أثر لحد النهاردة.
اخبرهم الطبيب بانه أمرًا بسيطًا، قام بما يجب وشرح لهما ما عليهما فعله، ثم عادا للبيت، علم محمود ما حدث حينما اتصل ليطمئن على عودتها، وقلق لتأخرها بإجابة اتصاله.
-ازيك يا بيبه؟ عاملة أيه؟ حمد الله على سلامتك، اتصلت بيكِ كتير ما ردتيش ليه؟
-الحمد الله كويسة، كنت عند الدكتور ومعرفتش أرد، المهم بسمة والأولاد عاملين أيه؟
-كنت عند الدكتور ليه؟ أنت تعبانة!
-التواء بسيط وعبد الرحمن أصر أكشف.
-طيب، أنا جاي لك أول ما أخلص شغل.
لازال القلق متملك منه، لم يطمئن قلبه من جهة عبد الرحمن، يراه ذئبًا ماكرًا يصنع شركًا ليوقع ضحاياه؛ فظن تعمده لإيذائها، وأنها تخفى الأمر حُبًا فيه أو خوفًا منه، فأنهى عمله سريعا وذهب إليها، وهناك استقبله عبد الرحمن مرحبًا به.
-أزيك يا محمود، تفضل.
-الحمد لله، حمد الله على السلامة، حبيبة فين؟
-جاية، أصلها مرهقة من السفر وكمان ايدها تعباها شوية.
-هو أيه اللي حصل؟
قص له عبد الرحمن ما حدث؛ فلم يقتنع محمود وتحدث مشككًا بحديثه.
-مش غريبة حكاية القطر دي، يعني أنت نزلت من القطر وهي فضلت مستنية لحد ما يبدأ يتحرك عشان تنزل!
-أنا فاهم قصدك، وعارف أنت شايفني إزاي، واللي نفسي تصدقه إني استحالة أأذي حبيبة، القطر كان زحمة ونزلت وأنا ماسك ايدها، وفي ايدي التانية الشنطة، قبل ما تنزل القطر بدأ يتحرك والناس بتزاحم؛ فشدتها، لو أنا قاصد حطلع بها على الدكتور ليه! وأرجع أأكد عليك أنا استحالة أأذي حبيبة.
خرجت حبيبة إلهما مبتسمة، مشتاقة لرؤية أخيها:
-محمود حبيبي وحشتني قوي.
نهض من مجلسه طوقها بحنان، وهي قبَّلت كتفه كما اعتادت، لاحظت تجهم ملامحهما، فطالعتهما بتدقيق وتعجب، خيم التوتر على المكان، فتحدثت متسائلة
-في أيه مالكم؟!
-محمود عايز يتكلم معَكي شوية، أدخلوا جوه عشان تاخدوا راحتكم، وأنا حعمل شاي.
تحركت مع أخيها تشعر بالقلق، وما ان دلفت بدأت تتساءل:
-في أيه يا محمود؟ هي بسمة تعبانة! حد من الولاد تعبان! حصل حاجة!
نظر إليها بتفرس، يحاول استكشاف الحقيقة:
-أيوة حد من الولاد تعبان، أنت يا حبيبة.
-أنا! عشان ايدي، الدكتور قال إلتواء بسيط حيروح خلال فترة صغيرة، مش حاجة يعني.
-حبيبة متأكدة إن إيدك بسبب القطر مش حاجة تانية، بصي في عيني وردي.
تعجبت مِن سؤاله، ثم تنامى إليها مقصده:
-حاجة تانية أيه! من القطر والله، قصدك عبد الرحمن! والله لأ يا محمود. هو حنين معايا جدًا، بيخاف عليّا زيك بالظبط، وبيحبني والله، ما تخافش عليا وأنا معاه.
قبلت يده ونظرت إليه وعلت وجهها ابتسامة صادقة:
-بابا والله، والله، ورحمت بابا وماما عبد الرحمن بيحبني وبيخاف عليا وممدش أيده عليا بآذى، أطمن، هو مش وحش أبدًا.
صمت قليلا متنهِّدًا:
-لما بسمعك بحس أنك بتتكلمي عن شخص تاني غير اللي اعرفه، مش بكذبك لكن عقلي رافض يصدق، على العموم حمد الله على السلامة يا حبيبة.
خرجا إلى عبد الرحمن وكان جالسا بالصالة منتظرهما، فتحدث محمود معتذرًا غير نادم، يرى أن شكِّه حقٍ واجبٍ له.
-ما تزعلش، ويا ريت تكون مقدر قلقي عليها، حمد الله على السلامة مرة تانية.
-ولا يهمك، خليك اشرب الشاي الأول.
-لا، أسيبكم ترتاحوا وأروَّح، أكيد بسمة قلقانة، تصبحوا على خير.
غادر فنظرت حبيبة إلى عبد الرحمن الجالس بشرود، مرتسم على وجهه علامات الضيق؛ فجثت بين يديه، أخذتهما بين كفيها بحب وقبلتهما؛ فجذبت انتباهه ناظرًا إليها، ورسم على وجهه بسمةً باهتةً، محاولًا إخفاء ضيقه، فتحدثت ببسمةٍ آسفةٍ معتذرةٍ.
-ما تزعلش يا حبيبي، أنا عارفة ومتأكدة إنك مقدر خوفه. مفيش حد شايفك بعيني، عارف لو عمل كده مش هَيطمن عليَّا غير معَك، ماتزعلش يا عمري الجاي وأملي في الدنيا، بحبك.
ثم عادت وقبلت يده، تحولت ابتسامته لأخرى صافية نابعة من القلب، سندها برفق شديد لتقف قبالته، ضمها إليه بجذل وامتنان:
-اللي عنده زوجة زيك عمره ما يزعل، مش متضايق طبعًا بعد كلامك الحلو ده، أنا كمان بحبك ودلوقتي بحبك أكتر وأكتر، تعالي نرتاح بقى اليوم النهاردة كان طويل جدًا.
دخلا لفراشهما، متكئيني ينظر كلاهما للأخر بحب، يتسامران
-أنتِ عارفة إن بكرة أخر يوم في الإجازة.
-اه للأسف، أنا حاسة فرحنا كان إمبارح.
ابتسم ساخرًا:
-من شهرين بس كان جوازنا مستحيل.
ضحكت بشجن:
-الفترة اللي فاتت كان كلها أحداث، بس خلصت على بداية سعيدة والحمد لله.
-وبيقولوا عليا أنا بعرف أتكلم حلو أمال أنت بقي أيه! هي بداية سعيدة أصح تعبير.
-أقول لك على سر؟
-اممم، عندك أسرار قولي طبعًا، بس يا تري بقي ده سر عليَّا لوحدي ولا على محمود كمان!
ضحكت من تراقص غيرته نصب عينيها:
-محمود ما يعرفش، أصلًا ما اقدرش أقوله، الوحيدة اللي تعرف هي سما.
-وياتري أيه السر القوي اللي مش هتقدري تقوليه لمحمود؟! أكيد سر ضخم جدًا.
-هو كبير فعلًا، أنتَ جزء منه.
-شوقتيني سر وأنا جزء منه، كدة لازم أعرف.
-عارف أيه السبب اللي خلاني أسقط أخر سنة؟!
-أكيد لأ، أعرف إزاي!
-أنت.
-أنا!!! ليه؟! عملت أيه؟! احنا حتى وقتها لا حصل بينا كلام، ولا شوفنا بعض.
-من يوم ساعدتني وأنت ساكن تفكيري ما كنتش فاهمة ليه؟ لمَّا فهمت صوت جوايا قال لي أنك زيي، عندك نفس إحساسي، منِّيت نفسي إنك مستنيني، دخلت كليه تربية زيك، قولت لو حاسس بيا حيفهم، لما عرفت انك خطبت وحتتجوز كنت بموت ومش قادرة أتكلم، ما كنتش بقدر أعمل أي حاجة، في نفس الوقت والد سما توفى، كنت باعتبره زي بابا، وخلص تلترم الأول وأنا شايلة مادتين وتقديراتي الباقية في الأرض، والترم التاني خلافاتك مع طليقتك وكلام الناس اللي ما بيخلصش، زعلت واتوجعت إن حياتك باظت وبرده ما كنتش بقدر أذاكر أو أركز.
-أنتِ جميلة قوي يا حبيبة، وتعبتي بسببي مش عارف أقول لك إيه! حقك عليا، أقول لك أنا كمان على سر؟
-يا ريت، هو أنت كمان عندك اسرار؟!
همس لها بامسًا:
-كتير، وعمري ما قولت لحد أي من أسراري، أنت أول وآخر حد.
إبتسمت بسعادة:
-قول أنا سامعاك، ومش هقول لحد.
-أنا فعلًا كنت مستنيكي بس في لحظة يأست واستسلمت، أخدت خطوة وما قدرتش أرجع فيها.
انتشت فرحة
-بجد! كنت مستنيني!
-أيوة يا حبيبتي، وآسف عشان تعبتك طول الوقت ده.
ثم ضمها إليه بقوة ورفق وقبل جبينها:
-إيدك عاملة أيه؟ بقي أحسن؟
لم يرد التعمق بالحديث عن الماضي، فطنت ذلك؛ فنظرت له بمشاعر متعددة يغلبها الحب والفرحِ، وأجابته بجملةٍ مختصرةٍ، تحمل بطياتها كل ما ترغب، وكللتها بنظراتها العاشقة:
-أنا كويسة طول ما أنت جانبي.
شدد من ضمها، مقبلًا جبهتها، تهامسا بكلمات الحب حتى غلبهم النوم.
و بفجر اليوم التالي استيقظا وصليا الفجر وجلسا يتناولان الإفطار كعادتهما.
-أيه مواعيدك الفترة الجاية؟ بتتغير ولا ثابته؟
-بتتغير طبعًا بس مش كتير، لأني ملتزم بالمدرسة بس، مفيش دروس، في أوقات بتكون زحمة شغل زي التجهيز لبداية السنة الدراسية ودي عدت في الإجازة، كمان فترات الامتحانات والتصحيح وإعلان النتائج، وقدام شوية تبدأ المجموعات المدرسية ساعة بدري الصبح وساعة بعد المدرسة، مش حيكون في التزامات تانية إن شاء الله.
-يعني تقريبًا حترجع بكرة على امتي؟
-الساعة ثلاثة أو ثلاثة ونص.
-حتوحشني قوي.
- أنتِ كمان يا حبيبتي، كلها كام يوم وتنزلي الجامعة وتبدأي مذاكرة وتنشغلي عنِّي.
-عمري ما انشغل عنك أبدًا.
-أكلتي؟
-الحمد لله حعمل الشاي.
وقفت وكادت انت تتحرك؛ فأمسك يدها متحدثًا
-شاي أيه! دا أنا عايز أقولك كلمة جوه مهمة قوي.
احمر وجهها خجلًا، وتحدثت بحياءٍ وخجل راغب:
-نشرب الشاي الأول.
-دا كلام مهم قوي وبكرة شغل، يعني ما يتأجلش.
أقترب منها بهيام ثم حملها دالفًا بها للغرفة.
انفصل عبد الرحمن عن عالمه القاسي، وأصبحت حبيبة فقط هي عالمه طوال الإجازة، ونسيَ والدته وعالمها الجاف اليابس، الذي طالما زينته لترغبه فيه،
وبأول يوم عمل استيقظا بالفجرِ كعادتهما، وبموعد مغادرته اقتربت منه مودع، ضمته إليها بشوقٍ بدأ مبكرًا:
-ترجع بالسلامة، لا اله الا الله.
قربها إليه أكثر:
-خليكي دايمًا كدة يا حبيبة، أوعي تدعي عليَّا.
احتلت الدهشة ملامحها، رفعت رأسها تطالعه بريبة، وتحدثت نافية:
-عمري ما أدعي عليك يا حبيبي، ليه بتقول كده؟
-هتفضلي تدعي لي دايمًا.
-بدعي لك بقلبي وعقلي قبل لساني.
أطمأن قلبه، وتوغلت السعادة بقلبه، تبادلا النظراتِ بحبور وجذل ثم اتجه لعمله، مر اليوم طويلًا عليه، لم تفارق عقله وتفكيره، هاتفها مرتين، وبعد أن أنهى عمله عاد إلى البيت بشوقٍ شديد، وجدها مُتلهفة بكامل حُلتِها، متعطرة منتظرة عودته، ألقت نفسها بين أحضانه وقبلته بوجْدٍ ووَلَهٍ، تناولا طعام الغداء ثم جلسا يحتسيان الشاي، لاحظت شروده، وأن هناك ما يشغل تفكيره.
-مالك؟! أيه مضايقاك؟
-بقالي كتير ما روحتش لماما، من يوم الفرح وأنا بكلمها بس.
-خلاص يا حبيبي يبقى لازم نروح لها.
-ها تيجي معايا؟
-أكيد طبعًا.
تحدث بجدية، وأخبرها بكلمات تحمل بطياتها الرجاء:
-بصي يا حبيبتي، أنا عارف إنك عاقلة، ماما طبعها صعب شوية، ولها فكر قديم شويتين، عايزك تتحمليها وما تزعليش منها، وأنا حافضل دايمًا جنبك.
-ليه بتقول كده، ماتخوفنيش.
-أوعي تخافي وأنا جنبك يا حبيبة.
-اكيد يا حبيبي، ما تيجي نروح النهاردة نعمل لها مفاجأة.
-بجد!
-اكيد، هاقوم أجهز.
وذهبا لوالدتهِ التّي رحبت به كثيرا دونها، كلما لو لم تراها، فتحدث عبد الرحمن ملطفًا ومنبهًا والدته.
-ماما حبيبة اللي اقترحت نعمل لك مفاجأة ونيجي بدون ما نقولك.
رحبت بها على مضض غير راغبة، وختمت كلماتها بتأنيب:
-ازيك يا حبيبة، حمد الله على السلامة، على ما أفتكرتي حماتك.
-هي فاكراكي دايمًا، أنتِ أول حد نروح له.
-تنور يا عبد الرحمن وحشتني، قولي لي يا حبيبة دراعك ماله؟
-إتلوى وأنا نازلة من القطر، عبد الرحمن شدني فاتلوى، بقى أحسن كتير الحمد لله.
سعدت حافظة، عقلها يترجم أي فعل كما تريد، وأن ابنها لازال على عهده معها، تتجاهل كلماته المُعبرة والموضحة لعدوله عن أفعاله السابقة، تحدثت بكلمات تقطر شماتةً ونصرًا:
-بجد! سلامتك.
دار حوارٍ طويلٍ، تجاهلت حافظة فيه حبيبة لأبعد مدى، ولم تفلح محاولات عبد الرحمن لدمجها، فسرعان ما تثنيها حافظة عن الحوار لتتجاذبه مع ابنها فقط.
تعجبت حبيبة من طريقة حديثهما، فأحيانًا تجد عبد الرحمن الابن الذي يبرر أفعاله، وأخرى يصبح هو الأمر صاحب القرار وتمتثل له حافظة وإن كان على غير رغبتها، أشعرها ذلك بالخوف ولم تستطيع استيعاب طبيعة العلاقة بينهما.
طال الحديث، ومر الوقت، ثم اعتذر منها عبد الرحمن للمغادرة، موقن من ضرورة التحدث مع حبيبة؛ فلم يخفى عليه تشتتها وتعجبها بل رهبتها الواضحة له، تحدثت حافظة برجاءٍ، أمله ببعض من لذة الهيمنة.
-رايحين فين؟ ما تخليك النهاردة بقالك كتير بعيد.
-معلش يا أمي، خليها مرة تانية، لازم أروح، أكيد إن شاء الله هبات مرة تانية.
لم يُرد المبيت، هو على يقين من حيرة حبيبة، يري نظرة التخبط وعدم الفهم جلية بعينيها، أدرك وجوب التحدث معها لتجنب حدوث فجوة بينهما، لن يقبل أن يعود كالسابق، لن يتنازل عن سعادته التي غمرت كيانه، لم يجدها سوى معها.
عادا للبيت ثم بدلا ملابسهما اقترب منها ورسم على وجهه بسمةٍ محاولًا اخفاء قلقه بل وتوتره، حاوطها بذارعيه وثبت مقلتيه داخل عينيها.
-حبيبة أنا عايز اتكلم معاكي شوية، أيه رأيك ندخل البلكونة نتكلم.
هربت بمقلتيها بعيدًا عنه:
-الوقت تأخر خليها بكرة، عندك شغل الصبح واليوم كان طويل.
التفتت عنه راحلة؛ فأمسك يدها وجذبها إليه برفق، وضع أنامله أسفل وجهها ورفعه إليه وثبت ناظريه داخل مقلتيها المتهربة.
-مفيش وقت أهم من ده نتكلم فيه، ممكن؟!
حاولت رسم ابتسامة مغتصبة:
-حاضر، حجيب عصير عشان تعرف تنام.
وضعت على راسها وشاح كبير، تخفي شعرها أسفله كما اعتادت وجلسا بالشرفة.
تساءل مبتسمًا:
-ليه يا حبيبتي بتغطي شعرك وأنتِ في البلكونة؟ بقالي كتير عايز أسألك.
رسمت بسمة مجاملة مغتصبة:
-بحس إن شعري مُلفت، بتكسف أدخل بيه كده؛ فبغطيه.
نظر إليها بإعجاب:
-ممكن نتفق وأنتِ مَعايا ما تتكسفيش من حاجة، بحب أشوفك بطبيعتك، ممكن اشيله؟
نظر إليها منتظر موافقتها، حتى أومأت مبتسمة، فرفعه عنها.
-عارفة بقالك اد أيه ما ابتسمتيش بجد! وبتداري عنيكِ عني، كمان بطلتي تقولي يا حبيبي!
ارتبكت وتاهت منها الكلمات، فاسترسل:
-عندك حق، أنا مش بلومك فعلًا اللي بيحصل غريب، الأغرب إني قبل كده كنت فاكره عادي، لكن النهاردة بس سألت نفسي إحنا إزاي كده!
ابتسمت حبيبة ابتسامة منقوصة. فأكمل:
-قولي لي بصراحة، أنتِ مستغربة ولا خايفة؟
من
نظرت له بوجس ولم تُجِب. فاسترسل:
-أوعي تخافي مني مهما حصل، أنتِ ما خفتيش من حاجات كتير كان ممكن تبعدنا عن بعض زمان، ما تعمليش كده وأحنا مع بعض وفي بيت واحد.
-قولي لو مكاني ...
فقاطعها مجيبًا:
-كنت هاسألك واتكلم معاكي، افهم منك، ابص في عينيك وأنت بتتكلمي واحس بكل كلمة بتقوليها، ما كنتش هَابعد ولا اسكت ولا أخد جنب، عارفة ليه؟
ركزت ناظريها عليه أومأت نافية بصمت وترقب، فواصل حديثه:
-عشان اللي قولتيه قبل كده يا حبيبة، لأن حُبنا وردة لازم نسقيها ونراعيها عشان تكبر، لو أخدنا جنب من بعض نبقى بنهملها، ولو سكتنا نعطشها.
نظرت إليه برجاء، بدأت نزع زريعة الشك من قلبها:
-طيب، فهمني يا عبد الرحمن، إزاي بتبقوا كده طريقتكم أسلوبكم وكلامكم، أنا حسيت إنك حد تاني ما أعرفهوش، خُفت غصب عني.
فاضت عينيها بالدموع واسترسلت:
-خُفت أكون مش فهماك، أو يكون إحساسي غلط.
تأثر بدموعِها فاقترب منها وجففها، أخذ كفها بين كفيه وتحدث بنفي ورجاء:
-لا يا حبيبة أوعي تقولي كده، بصي، أنا هاحكي لك بقينا كدة إزاي، بابا الله يرحمه كان شديد في كل حاجة معايا ومع ماما كان يحدد لها كل حاجة تعملها، بعد ما توفى ماما توترت وحاولت تشيل المسئولية لوحدها بس ما قدرتش، بدأت تسالني في كل التفاصيل اللي بابا كان يحددها لها، الأول كنت بقولها اللي تشوفيه، فتلح عليّا وبقت تضايق، فجربت أرُد شبه بابا، لقيتها انبسطت، وبقيت أكلمها بطريقة بابا، راحتها وسعادتها نزيد كل مرة عن اللي قبلها، فبقت دي طريقتي في أي أمور تخصها وتخص البيت، ولما كانت تتكلم في حاجات تخصني كانت تحب تحس بالسيطرة اللي بابا حرمها منها، فكنت بسيبها تتكلم براحتها عشان تكون سعيدة ومع الوقت اعتادت على كدة.
-اللي بتقوله ده مش صح، فيه أدوار ملغبطة وأدوار تايهة، ما يطمنش، ما تزعلش مني أنت غلطان، كان المفروض تسندها تقويها وتساعدها مش تتقمص دور باباك شوية، ودور المنكسر شوية، حتى دورك أنت مَثّلت فيه، مش أنت، لأنك دايما قوي حتى في ضعفك.
-تقمصي لشخصية بابا غلط فعلًا لكن الابن مش عيب أو غلط يكون ضعيف أمام والدته، بصي، إحنا أكيد ما خلصناش كلامنا، نكمل بكرة ممكن.
أومأت موافقة فنهض اخذ يدها جذبها إليه واقفة، ضمها إلى صَدره بحب حنان:
-قرارتنا وحياتنا أنا وأنت بس اللي هنحددها، محدش مهما كان حيتدخل فيها، أوعدك إني أصلح حاجات كتير، وعايز منك وعد تفضلي زي ما أنت ما تتغيريش، مش حتقولي لي يا حبيبي، تصدقي وحشتني.
حاولت رسم ابتسامة هادئة على وجهها:
- حاضر يا حبيبي.
دخلا فراشهما، اخذها بين ذراعيه وقبل جبينها، وهمس بأذنها "بحبك" ظلت تفكر بحدثه، منحته العذر ببعض الأشياء تعاطفت معه بأخرى، وأخيرًا قررت تجاوز عما حدث، وتتابع ما وعد به فهو لم يخلف ايًا من وعوده.
وفي الصباح عادت لطبيعتها باسمة ضاحكة، سعد بها عبد الرحمن كثيرًا واحتضنها بقوة وقبلها
-وحشتيني قوي كُنت فين! عارفة لما بتضحكي دنيتي كلها بتضحك.
بعد عدت أيام بالمساء أثناء جلستهم اليومية
-خلاص هتنزلي الجامعة من بكرة.
-ايوة إن شاء الله، متهيألي الدراسة أنتظمت خلاص، أول كام يوم بيكون هرجلة عشان كدة ما حبتش أروح في الأول.
-يعني قبل كدة ما كنتيش بتروحي؟
أجابته ببسمةٍ عذبة:
-لا كنت بروح، كنت فاضية مش ورايا حاجة، فكنت بروح مع سما وأحضر واستفاد بأي حاجة وخلاص.
- طاب إيه اللي اتغير السنه دي! ليه ما روحتيش الأسبوع اللي فات؟
-لا أتغير كتير، أولا بقيت مدام حبيبة مش حبيبة، وفي حاجات كان لازم أجهزها في البيت، عشان أنظم وقتي، ده غير إن سما تخرجت السنة اللي فاتت، يعني بقيت لوحدي، فمحبتش أنزل وقت اللغبطة دي.
-تمام أنا مش هتدخل في تنظيم يومك طبعًا، دي بتاعتك ولو حابة أساعدك في أي حاجة أنا موجود ومعاكي، اتفقنا؟
-اتفقنا بس ليا عندك طلب ممكن؟
أجابها ببشاشة:
-ممكن طبعا.
-عايزاك توصلني بكرة، بكرة بس مش هعطلك.
-موافق طبعًا لازم أوصل حبيبتي أول يوم أروحها كمان.
-أحلى عبد الرحمن في الدنيا.
وبالصباح التالي استعدت حبيبة للخروج، ارتدت بنطال ليس بضيق وبلوزة شبه فضفاضة، نصف كوم وجمعت شعرها لأعلي.
نظر لها بغضب:
- غيري الهدوم دي ويا ريت ما تروحيش بها الجامعة بعد كدة.
نظرت إليه للحظة تستوعب ما يريد، ففطنت ان دبت به الغيرة؛ فبدلت ملابسها بهدوء، بمَ تظن رضاه عليه، فارتدت جيبة طويلة ليست بضيقة وبلوزة بكم طويل وأبقت على شعرها بأعلى.
تعلم انه شديد الغيرة، تحب تلك الغيرة أحيانًا وأخرى تخشى أن تهدم حياتهما. لم يعترض تلك المرة خرجا معا نظرت إليه بابتسامة وتحدثت معه ليمر الموقف سريعا دون أي أثر لكلاهما.
مر اليوم أنتظرته حبيبة قدومه، وقفت بالقرب من البوابة التي اتفقا عليها، تتحدث مع مجموعة من زملائها وزميلاتها، تعرفت عليهم خلال اليوم، حين هاتفها وجدت بنبرته جدية غير معهودة، وشعرت بإختناق صوته،
اسرعت إليه بابتسامة كبيرة، قابلها بنظرة جادة جامدة تحمل غضب مكتوم.
-أنتَ كويس في حاجة حصلت؟
أجابها دون النظر إليها:
-أنا كويس.
هي موقنة من حدوث خطب ما، لا تعلمه، حاولت كسر تلك الحالة بقصها تفاصيل يومها، لم يبادلها الحوار، ظل على صمته، شعرت وكأنه لم يسمع حديثها، فصمتت هي الأخرى، تنظر له من حين إلى آخر، تفكر أأخطأت دون أن تدري؟! وما يغضبه لدرجة الصمت؟
وصلا أخيرًا، هي ايضاً هداها تفكيرها لسبب حالته، بدلا ثيابهما تركها هو وجلس أمام التلفاز ينظر إليه وعقله بمكان أخر، اقتربت منه قبلت رأسه وجثت بين يديه مبتسمة، وهو يطالعها بصمت وغضب مكتوم، يخشى إن تحدث يؤذيها بشخصيته الأخرى، فصمته يخفي صراع بداخله، يخاف عليها من نفسه، مُصرًا على الوفاء بوعده لها ولنفسه.
-حبيبي أنا عارفة أنت متضايق ليه، أنا كمان بغير عليك وجامد، بغير عليك وعارفة انك في شغلك بتقابل زميلات بتكلمهم عادي في حدود الزمالة، ممكن تبتسم في وشهم بس مجاملة، بغير عليك وعارفة انك ممكن تقابل أمهات الطلبة وتتكلم معاهم في حدود شغلك، بغير عليك وعارفة إنك ممكن تكلم أي واحدة في حدود ولسبب، بس عمري ما اسيب غيرتي عليك تدمر حياتنا.
نظر إليها وهو على حالته، فاسترسلت:
-كلهم زمايل وبس والله، أنت وبس ماشوفتش غيرك من سنين، ما شوفتش غيرك وأنا فاكره انك استحالة تفكر فيّا، تفتكر ممكن أفكر في غيرك وأنا معاك! عشان خاطري وحياتي عندك ما تبوظش حياتنا بسبب الغيرة الزيادة.
ثم أمسكت يديه وقبلتهما، وتحدث بتوضيح ورجاء:
-أنا ملكك وحبيبتك، وحياتي عندك ما تستسلمش للغيرة، عارف ممكن بعد كل اللي مرينا به عشان نكون هنا غيرتك دي تموتني.
قاطعها عبد الرحمن بوجل:
-بعد الشر عليكِ، ما تقوليش كده تاني.
-لو فضلت كده حياتنا هَتدمر، مش حيكون فيها حب حتكون شك وغيرة، وتتحول لعذاب، وتقتل كل معنى جميل في حياتنا، وفي الآخر نبعد عن بعض، وهو ده الموت بالنسبة لي، أسوأ حاجة إن أحلى حاجة في حياتك تكون بين ايديك وروحك فيها، وبعدين تروح منك وقتها الوجع بيكون أضعاف تموت الروح والجسم بالبطيء.
فابتسم ومسد على رأسها و حتى وجهها فأمالت براسها اراحتها على كفه وقبلته فضمها إليه بحنان:
-كلامك حلو قوي يا حبيبة، وطريقتك كمان، عارفة أنا كنت خايف عليكِ من غضبي، خايف نتكلم غضبي يزيد، وتشوفيني زي ما حصل قبل جوازنا، أنتِ أكبر نعمة ربنا مَنّ عليّا بها، أنتِ صح، أوعدك مش حسيب نفسي للغيرة، وعمري ما أضيعك مني وتبعدي عن قلبي وحضني.
تعلقت بعنقه بقوة واخذت نفسا عميقا:
-بحبك.
تلك الحياة الهادئة كانت أمنيته، يرجو أن تدوم أبدَ، ولكن لا تتحقق جميع الأحلام بارض الواقع، فأحيانًا خوفنا واهتمامنا المبالغ باحبابنا يؤذيهم دون قصد، فمحمود لم يطمئن على حبيبة، يشعر أنها تخفي عليه امرا؛ فيلاحقها بالأسئلة، لا يصدق اهتمام عبد الرحمن، ولا يخفي شكوكه عنه، وبالجامب الآخر يتحمل عبد الرحمن ردود افعال نحمود غير المبررة بصدر رحب، جزء منه يعذره يقدر خوفه وشكه، هو أحيانًا يخشى من نفسه، يبذل مجهودًا كبيرًا ليتحكم بها.
أمَّا حافظة فلا زالت تُريد تحقيق غايتها، أنتظرت أن يعطيها عبد الرحمن الفرصة، وكلما همَّت تنصل لها ومنعها بالتهرب أو الاعتراض أو تسوية الأمر، إن ذهب رفقة حبيبة، جلسا فترة صغيرة ثم يرحل سريعًا، ولا يتركهما سويًا إلا مضطراً، وتصرفاته تلك تجعلها تَميِز غضباً، لمّحت له كثيرًا ولم يطاوعها، أو يتيح لها الفرصة؛ فشعرت تجاهها بالغيرة والكُره يزدادان بكل محاولة فاشلة.
اصطنعت الخلافات واجتهدت بها حاولت مرارًا تضْيِق الخناق لتصل لهدفها، فتفاجئها حبيبة بحُسن التصرف، أما عبد الرحمن فيقع تحت وطأة ضغط شديد على أعصابه، فوالدته تعلم جيدًا كيف تُثير الوحش الكامن داخله، وهو يُريد نفيه بأعماقه، ولن يقبل أن ينهش وحشه حبيبة حبيبته ونبض قلبه، لن يقبل أن يفترقا أو أن تتألم مهما كلفه الأمر، فتحمل ثقل ما ألقي على كاهله وأثقله شاحذًا طاقته، دعا الله راجيًا عونه وان يَشدد عضده ليحافظ على حياته مع زوجته