
رواية حبيبت عبد الرحمن الفصل الاول1الثاني2 بقلم سلوي فاضل
تبدأ حكايتنا في منتصف السبعينات بإحدى الأحياء المتوسطة حيث يوجد أسرتين هما أساس روايتنا.
الأولى هي أسرة عبد الرحيم وهو أربعيني العمر ضخم الجسم أسمر البشرة، على قدر كبير من الوسامة التي تخفي وراءها قسوة الطبع مبتسم من يراه لا يتوقع مدي شدته وقسوته على أهل بيته فكان حازم جدًا صارم متزوج من حافظة – يحب والدته ويقدرها بدرجة كبيرة ويأخذ مشورتها ورأيها في كل صغيرة وكبيرة وبالرغم من زواجه إلا أنه لم يبعد عن والدته ورغم اتخاذه لسكن منفصل إلا إنه لم يستقل عنها فقد حرص أن يكون بيته قريبا منها وبالفعل كان بيت والدته يبعد عن ببته ببعض خطوات فقط.
أما والدته تتمتع بعدة صفات سيئة رغم سنوات عمرها فهي متسلطة، شديدة قاسية الطباع، تهوي السيطرة و تتدخل في كل شيء كبر أو صغر؛ ربت عبد الرحيم منذ نعومة أظافره على حق تأديب الزوجة وضربها وإن عليها فروض الطاعة بلا نقاش أو جدال، وأن خوف الزوجة هو مقياس الرجولة والهيبة فسكنت هذه الفكرة عقله وقلبه ولم يتهاون في تطبيقها على زوجته (حافظة) التي لم تعترض على معاملته لها بالرغم من استياءها ورفضها ولكن منعها الخوف تارة ووالدتها تارة؛ فذات مرة استجمعت قواها وقصت لولدتها قسوة زوجها وسوء معاملته لها فما كان منها إلا أن طلبت منها التحمل بذلك اليوم ذهبت إليها والدتها لتطمئن عليها وجلسة معها وانفردت بها بغرفتها
-طمنيني عليكِ يا بنتي، جوزك عامل معاكي أيه؟
- تعبانة يا أمي صحيح هو كويس معايا؛ بس لو غلطت أو ضايقت الست أمه بيضربني.
تفاجأت والدتها، وسألتها بإستفاضة:
-يضربك إزاي؟! وعلى كده بيمد ايده على طول ولا بيفهمك الأول؟
أدمعت حافظة، ظنت أن والدتها ستشجعها على الاعتراض:
-بالحزام يا أمي، أول مرة يزعق ويبرق؛ بس لو اتعادت تاني أو حاجة شبهها بيضربني بالحزام، اقفي في صفي يا أمي، أنا عايزة أقول لبابا، أنا تعبت، حاولت أسكت وأخبي ومش قادرة.
انتفضت والدتها:
- تقولي لأبوكِ أيه؟! أوعي ده قدرك ونصيبك، ونصيحة أوعي تجيبي سيرة؛ لأنه حيصر على طلاقك، أنتِ ما تعرفيش يعني أيه طلاق.
- أنا جسمي اتقطع من الحزام.
- ولو تطلقتي هتتحبسي في البيت، أي دخول أو خروج محسوب عليكِ، النفس محسوب عليكِ معاملة أبوكِ هتتغير، وبعدين ما أهو أبوكِ كان بيضربك بردو، وجوزك من حقه يأدبك لو ما طاوعتهوش أدام مراعي شرع ربنا ومش بيطلب منك حاجة حرام يبقي تحطي لسانك في بؤقك (فمك) وترضي بالمقسوم.
وبهذه الكلمات قضت والدتها على ما بقى من شجاعة داخلها بل زادتها رضوخًا لواقعها الأليم وحبست نفسها داخله.
الأسرة الثانية هي أُسرة محمد موظف في إحدى المصالح الحكومية، طويل القامة ذو ملامح بشوشة، قمحي اللون عريض المنكبين، هادئ الطباع، تزوج من فاطمة، زواج تقليديا ولكن نشأت بينهما من الوهلة الأولى قصة حب كللت عرسهما، رافقهما التفاهم من اللحظات الأولى كلاهما يفهم الآخر من نظرة واحدة.
كان بيتهما يبعد بشارعين فقط عن أسرة عبد الرحيم، برغم تقارب المكان إلا أن روح كلا المنزلين مختلفة تمامًا؛ فمنزل محمد تسوده البهجة و تغمر أركان البيت السعادة والحب والتفاهم، لم تستاء فاطمة أبدًا من زوجها ودومًا ما تردد على مسامعه
" أأنت أحلى هدية أعطاها لي ربنا"
تزوج كل من محمد وعبد الرحيم بنفس الفترة، تأخر حمل فاطمة لفترة طويلة بعكس حافظة التي حملت بعد فترة قصيرة من الزواج، وعندما علمت بحملها فرحت كثيرًا لقدوم مولود جميل، كما أن حملها أصبح درعًا لها تحتمي به؛ فذات مرة هم عبد الرحيم بتأديبها فكادت أن تفقد جنينها، وأكدت الطبيبة على وجوب الراحة طوال فترة الحمل، وألا تتعرض لأي مجهود وإلا فقدوا الجنين، فاستغلت حافطة الفرصة طوال فترة الحمل.
وعندما وضعت سعدت بشدة لأن مولودها ذكرًا؛ ولكنها شعرت ببعض الضيق فقد فقدت درعها وحمايتها، وعادت مرة أخرى تخضع لتأديب زوجها، واسماه زوجها عبد الرحمن، وكان جميلا منذ اليوم الأول، أخذ من حافظة الجمال وبياض البشرة وعن والده الوسامة والطول.
اتسم بيت عبد الرحيم بالصمت وجفاف المشاعر، كان بيتًا كبيرًا كثير الغرف، يشبه بأثاثه وترتيبه ذوق والدت عبد الرحيم، لا يعلو فيه سوى صوت عبد الرحيم وصوت الصراخ، التوسل والاعتذار.
لم يفقد كل من محمد وفاطمة الأمل في الإنجاب، كانا على يقين أن الله سوف يمنح قلبيهما الراحة، وسيرزقهما الذرية صالحة، كان محمد يُسمع زوجته دومًا ما يريح قلبها ويطمئنها، ويتقبل مشيئة الله وقدره، ويعتبرها زوجته وطفلته، أما هي فلم تمل تدعوا الله موقنة من الاستجابة؛ فرزقهما الله بعد انتظار ثلاثة أعوام بمحمود، فحمدا الله كثيرًا على نعمته؛ فقد وصل شوقهما للإنجاب إلى ذروته.
دفق محمد على أسرته الصغيرة بالحب والحنان، وبنفس الوقت يغرس في محمود بذور الرجولة والشهامة ورجاحة العقل؛ فغرس فيه أن العقل هو المُصرف لكل شيء، وبالعقل والقلب نستطيع حل جميع المشاكل.
ازداد شبه محمود بوالده شكلًا وفكرًا ظهر ذلك بوضوح بمرور الوقت وكلما تحدث محمود؛ فكان حديثه دوما عاقلًا موزونًا، وساعده على ذلك قراءة الكتب التي حرص والده محمد أن يجلبها له، يحرص دومًا على مناقشته بما بها من معلومات وأفكار.
أما بيت عبد الرحيم
فلم يكن حال عبد الرحمن أفضل كثيرًا من والدته،؛ فوالده لا يتهاون معه، يعاقبه بشدة وصرامة على كل شيء مهما صغر، بدأ يعنفه من سن الثلاث سنوت، وعبد الرحمن كأي طفل يصرخ ويحاول الهرب من والده وعقابه؛ مما يزيد من غضبه وشدة تسديد الضربات له؛ فأفهمته جدته أن الرجل يجب أن يظل صامدًا مهما اشتد ألمه، لم يفهم كلماتها في البداية لصغر سنه؛ ولكن مع الوقت ومع استمرار جدته في بث كلماتها وتبسيطها له أدرك ما عَنته، واستطاعت أن تغرس به قوة التحمل، أصبح يحاول جاهدًا الصمود والتحمل دون صراخ أو بكاء، وأن يلزم مكانه حتى ينتهي والده، فشل في ذلك مرات عدة؛ حتى استطاع بالنهاية، أما إذا أشتد به الألم وفاق احتماله رجا والده أن يتوقف.
حظي عبد الرحمن أيضًا بأوقات أخرى بلحظات من الحب و الحنان الأبوي أما الأحضان والقُبل فيلقاها أحيانًا من والدته بغياب والده فلم تكن تجرؤ على فعل ذلك أثناء وجود زوجها؛ فهو يري أن تلك الأفعال تفسد الرجال، وأنها مناسبة فقط للفتيات والنساء.
علي الجانب الآخر حظي محمود بكل الحب والاهتمام؛ فكان والديه دوما يبادلونه الاحضان والقبلات ويرون أن الشخصية المعتدلة القوية يجب أن تحظى بالرعاية والاهتمام والحنان.
مرت الأعوام والسنون أصبح عبد الرحمن ذو العشر سنوات ومحمود سبع أعوام، لم يكن أي منهما يحب التعامل مع الأخر ونادرًا ما يجمعهما اللعب؛ فكل منهما لعبه يشبه تربيته فعبد الرحمن لعبه عنيف لا يقبل الهزيمة ولا يترك ثأره مهما كلفه الأمر، وبنفس الوقت يجيد التعبير وتهذيب الكلام ودوما ما يساعد أصدقاءه وزملائه دون تفكير، لذا اكتسب حب من حوله، أما محمود فلعبه رزين يعتمد على العقل والتفكير حكيم القول والفعل، دوما يمد يد العون لزملائه وأصدقاءه ، وبذلك كان كل منهما محبوبا من جميع من حولهما.
لم يشاء الله أن تحمل حافظة مرة أخرى، و لم ترغب هي خشية أن تنجب أنثى؛ فيكون لها نفس مصيرها البائس، ولم يهتم عبد الرحيم، ولم يتحدث معها بهذا الشأن ولم تجرؤ أن تسأله، وكذلك محمد وفاطمة رغم أنهما قصدا أطباء كُثر، أجمعوا على عدم وجود سبب طبي يعوق حملها للمرة الثانية؛ فرضيا بأمر الله وحمداه أن رزقهما 'بمحمود'، ودعيا الله أن يكن ذرية صالحة لهما، ولم يغب عن محمد أن يطمئنها بكلماته الرقيقة التي تصيب قلبها دومًا تريحه وتشعرها بالسعادة وكأنها ملكت العالم.
واظب محمد منذ اليوم الأول من زواجه أن يستيقظ على صلاة الفجر ويوقظ فاطمه لتصلي معه بمنزلهما، وما أن كبر محمود انضم إليهما، وكانوا بعد الصلاة يجتمعون يناولون الإفطار ويتحدثون في شتى الأمور.
أما عبد الرحيم برغم التزامه بصلاة الفجر بحينها بالبيت أو الجامع وقليلًا قبل الشروق، إلا أنه لم يهتم أن يأم حافظة في صلاته، وإن غلبها النوم استيقظت على صفعاته المتناثرة على جسدها، ثم يذهب لعمله وكأنه لم يفعل شيء، التزم حافظة بصلاة الفجر بأخر وقتها هروبًا من عقابه، ودائمًا تمقطه هو وحياتها، وتسخط عليهما، ولم يختلف إحساسها بوالدته عنه شيئًا؛ فكانت تكرهها وتتمني موتها؛ لتتخلص من تحكمها وتسلطها، تحمد ربها يوميا أنه لم يرزقها بأطفال أخرين فقد اكتفت بعبد الرحمن.
أما بيت محمد
فلم تفقد فاطمة يوما الأمل أن يهبها الله طفلًا أخر، ظلت تدعو الله بكل صلاة حتى استجاب لها، وزرقها بمولودة جميلة تصغر محمود بعشر سنوات؛ وفي يوم مولدها وبعد أن وضعت فاطمة وعلامات الاجهاد والتعب ما زالت مرسومة على ملامحها، سألت زوجها الحامل للمولودة يداعبها، ويجاوره ابنهما محمود الذي يطالعها بحب وحنان أخوي خالص متحدثًا ببسمة وسعادة:
-دي حلوة قوي يا بابا أنا أول مرة أشوف نونة صغيرة قوي كده .
-عشان لسه مولوده، حجمها صغير لكن المواليد بيكبروا بسرعة، وشكلها هيتغير كل يوم تقريبًا.
-يعني شوية وينفع اللعب معَها، أنا عايز أشيلها وخايف أوجعها.
نظر إليه والده وتحدث بجدية كمن يبلغ وصيته:
-دي أختك يا محمود، عايزك تحطها في عينك تخاف عليها، وأوعى تيجي عليها أو تزعلها، دايمًا راعيها واهتم بها، وأي حاجة تخصها لازم تاخد برأيها وتعمل به، حتى لو عكس رأيك أوعى تجبرها على حاجة أبدًا!
شعرت فاطمة بغصة بقلبها وكأنه يملي محمود بوصيته:
-بالراحة عليه يا محمد، ربنا يخليك لينا ودايما معَنا، تربيهم وتجوزهم كمان.
ابتسمت ثم استرسلت بتوجس:
-مش زعلان إن بعد السنين دي جت بنت مش ولد؟
-أبدًا يا فاطمة، بالعكس دي حبيبتي ربنا يزرع حبها في قلب كل حد يشوفها، وإن شاء الله تكون حبيبت الرحمن، إيه رأيك نسميها حبيبة الرحمن اسم جميل اسمعي كده ' حبيبة الرحمن محمد محمود'.
سعد محمود بطفولة وكأن الاسم معزوفة أطربته:
-اسم حلو قوي يا بابا.
-جميل قوي يا محمد ربنا يرزقها حب كل اللي حواليها يا رب.
-اللهم آمين.
تحسنت حالة فاطمة وعادت إلى البيت، ازدادت سعادتهم بوجود حبيبة وكانت مدللة الجميع، يعاملها محمود كأخٍ وأبٍ ثانٍ لها، يرعاها ويهتم بها يحملها كثيرًا، كلما عاد من المدرسة يبدل ثيابه ثم يجلس معها يداعبها ويحملها
-حبيبة تعالي لبابا الصغير يا حبيبتي.
أسرعت إليه بتخبط، كادت تقع مرات عدة، فأسرع إليها يعاونها كي لا تهوى أرضًا، ثم حملها وضمها إليه بحنان بالغ.
-حبيبة بابا وحشتيني جدًا وأنا في المدرسة، تعالي نلعب شوية قبل ما أدخل أذاكر، أوعي تكوني عملت شقاوة وتعبتي ماما وأنا بره.
قابلت جميع كلماته بضحكاتها وابتسامتها التي تشعره بسعادة غامرة، ووالدته تراقب تصرفاتهما بسعادة وراحة وكذلك والدهما، سعيدًا بتصرفات ابنه ومراعاته لأخته، لم يغضب من اعتقادها بأن لها أبوين، ولم يشعر بالضيق أبدًا بل كان ذلك مرضي له بشدة.
مرت الأيام والشهور أصبح محمود بالثالثة عشر عاما، من شيماته العقل والرزانة، يمحو أي مشكلة بين أصدقاءه، يسمع دوما ممن حوله "ما شاء الله زي باباه بالضبط" ويشعر بالفخر بذلك.
أنتشرت في تلك الفترة عادات سيئة كثيرة بين الشباب بسنه منها شرب الحشيش و التحرش وبعض الاشياء الأخرى، بذلك الوقت انضم إلى محمود وأصدقاءه رفيق جديد، دأب على الجلوس معهم حتى اعتادوا وجوده، بالبداية استمع لهم يؤيدهم في كل شيء، ومع الوقت بدأ يحرضهم ويدفعهم للقيام ببعض الأفعال السيئة، ورغم تعقل محمود إلا إنه وقع بالفخ الذى أحكم له، فبعد فترة استعمل فيها ذلك الشاب كل طرق الإقناع تارة، والالحاح تارة؛ فاستمعوا إليه بإحدى المرات واستمالهم لتجربة التدخين، وكان سيئ النية وكأنه يحمل لهم ضغينة؛ فأعطاهم سجائر ممزوجة بمواد مخدرة (حشيش) 'ملفوفة' كما أطلق عليها فأذهبت عقولهم.
يومها تأخر محمود بطريقة مبالغ بها، قلق عليه والداه واتصلا بجميع أصدقائه، ولم يكن أي منهم قد عادوا أيضًا، وبالبحث علموا بأمر صديقهم الجديد وسلوكه غير السوي.
وضع محمد وتخيل سيناريوهات عدة لما قد يحدث، وجلس منتظرًا عودته، عاد محمود بحال سيئ، زائغ العين مترنحًا، تحدث ولا يعي ما يقول؛ فتطاول على والده، فوجد محمد الحل الأمثل تركه حتى ينتهي، حينها نظر إليه بحده ثم صفعه بقوة، وادخله غرفته واغلق بابها وحسبه داخلها.
-لما تعرف بتقول أيه؟ وتفوق لغلطك وقتها ممكن نتكلم.
باليوم التالي استيقظ محمود ويشعر بألم شديد برأسه، يحاول تذكر ما حدث، وكان مشوشا استقام وحاول أن يفتح باب غرفته؛ فوجده مغلق طرق الباب ونادي والداه؛ بلا مجيب؛ فعاد لفراشه وسقط في النوم مرة اخري.
وبخارج الغرفة يجلس والداه بحالة سيئة، فاطمة تبكي ومحمد شارد وحزين اما حبيبة ذات الثلاثة أعوام فلا تعي ما يحدث، يعلو وجهها بسمة بريئة، وتسأل عن أخيها وتردد اسمه بأحرف متكسرة طفولية، ترك محمد الطعام لمحمود قبل ذهابه للعمل، واستمر بحبسه بغرفته، وحين عاد وأيقن محمود من عودته، ظل يدق على باب غرفته يردد كلمات الاعتذار، خجلًا مما فعل.
-بابا أنا اسف، حقيقي مش فاكر عملت كده إزاي؟! ولا قولت لحضرتك الكلام ده إزاي! لو سمحت يا بابا اسمعني، أنا مش هاجادل لأني متأكد من غلطي، ومش قادر على زعلك مني، والله مش هكلم الولد ده تاني هو السبب في الي حصل، ارجوك يا بابا افتح لي نتكلم، أنا قابل أي عقاب من حضرتك، بس بلاش تتجنبني كده.
لم يلقى أي إجابة؛ فجلس بقنوط أمام الباب شاعرًا بالخزي لما فعل ولما وصل إليه بلحظة ضعف، واستمع فيها لشيطانه.
سمع أصوات الأواني وهى توضع على منضدة الطعام، يعلم أن هذا وقت الغداء، وسمع صوت حبيبة وهي تسال عنه وتنادي عليه؛ فانتظر حتى أنتهوا ثم عاد يدق الباب من جديد
-بابا أنا أسف، سامحني ارجوك طيب عشان خاطر ماما وحبيبة اسمعني، وأنا قابل بعدها العقاب أنا عارف إني غلطان غلط كبير، والله هبعد عن الولد نهائي ومش هتعامل معاه مهما حصل.
كاد ان يتملكه الياس لولا سماع صوت المفتاح بباب الغرفة فدب به الأمل من جديد، وقف منتظرًا دخول والده، الذي حدجه بنظرة لم يراها منه يومًا، نظرة مليئة بالغضب والإتهام، تحمل معانٍ عدة لم يتحملها؛ فاخفض رأسه خجلًا، جلس محمد معه، وحدثه بعقل وهدوء
-أنا طبعا مش محتاج أقولك إنك غلطت لأن ده أكيد، لكن هقولك أنك شوفت بنفسك إن ما فيش غلط صغير وغلط كبير لأن بالنهاية كله غلطت، الغلط الصغير بيجي بعده الكبير، غلطتك انك سمحت لحد يلعب بأفكارك، يوم ما مانعتك عن السجاير فهمتك اخطارها واضرارها الصحية، فهمتك أنها محرمة ضمنيًا لأنها تضيع الصحة والمال والرسول عليه أفضل الصلاة والسلام قال "لا ضَرر ولا ضِرار" غلطك بدأ بسجارة أعطاها لك شخص نيته أذيتك، حط لك فيها حشيش، فالغلط كبر والحشش لغي العقل وبدأت تتصرف بطيش وعدم وعي؛ فكترت الأخطاء لحد ما وصلت لتطاولك عليا، تخيل لو حبيبة كانت صاحية وشافتك بالحالة دي.
تساقطة دموع الندم من أعين محمود:
-أنا أسف يا بابا، أوعدك مش هعمل كده تاني وعمرى ما استهون بأي خطأ، والله أنا كتير كنت بقول لأ لحد ما ضعفت يومها، قولت مرة مش هتعمل حاجة، والله أنا ندمان مش عايز حضرتك ولا ماما تزعلوا مني.
-للأسف أنت هزيت ثقتي فيك لدرجة أنت مش متخيلها.
-أنا قابل أي عقاب؛ بس بلاش تزعل مني، أوعدك مش هاستهون بأي غلط مرة تانية بس بلاش تقول كده.
-للأسف ده اللي حصل لازم تتحمل نتيجة خطأك، أنت محتاج تفكر إزاي ترجع ثقتي فيك من تاني؟ وتنبي جدًار الثقة اللي أنت هديته بتصرف ما حسبتش عواقبه، وده مش عقاب دي نتيجة فعلك فقط، أما العقاب هيكون أنك هتفضل في البيت تلت أيام مفيش تليفون ما فيش نزول ما فيش بلكونة، يعني من الأوضة للصالة بس، وخليك عارف إني هكون مراقب كل تصرفاتك لحد ما أتأكد أنك تغيرت د، وأرجع أثق فيك مرة تانية.
قَبَّل محمود يد والده:
-أوعدك أكون عند حسن ظنك، وإني احوز على ثقتك مرة تانية، عمري ما استهون باي فعل صغير أو كبير.
-اتمنى من كل قلبي أنك تعمل كده، يلا أطلع صالح والدتك وراضيها ما بطلتش عياط من إمبارح بسببك.
اعتذر محمود مرة أخرى، وذهب لوالدته اعتذر لها واسترضاها.
أما بمنزل عبد الرحيم فاعتاد عبد الرحمن أن يكن بعيدًا عن الأخطاء، وبالرغم من هذا لم يسلم من العقاب، وكونه محبوبا ممن حوله لا ينفي وجود المدعين للصداقة والمنافقين؛ فدبر له أحد زملائه فخًا وأجاد نصبه؛ فسقط عبد الرحمن بشِركِه صريعًا.
يومها وبعد أنتهاء اليوم الدراسي لجأ إليه زميله مدعي الخوف.
-عبد الرحمن إزيك؟
أجابه ببشاشة:
-الحمد لله، مش باين يعني ومش بتقف معَنا أبدًا لا في المدرسة ولا برة.
-ما اعرفش حد من المجموعة اللي معَك وبحرج، أنا ليا عندك خدمه، ممكن؟
أجابه بترحاب شديد:
-أكيد طبعًا، لو في ايدي استحالة أتأخر.
-أنا متخانق مع شوية شباب كده وهما عارفين خط سيري ومستحلفين يضربوني، وأنا مش هقدر عليهم لوحدي وأصحابي سابوني، فكنت عايزك معايا عشان لو حاولوا يؤذوني ما أكونش لوحدي، لو مش عايز عادي من غير زعل.
-أصحابك مش جدعان وما يستهلوش تقول عليهم أصحاب، الصديق يظهر وقت الضيق، ما تقلقش أنا معاك.
-بجد؟! يعني هنروح مع بعض النهاردة.
-أكيد يلا.
تحرك عبد الرحمن معه ولم يراوده الشك بحديثه، ومع الوقت وجده يتحرك مقتربًا من مدرسة البنات، ولم يحب عبد الرحمن المرور جوارها.
-هو مفيش غير الطريق ده؟
-أنا عارف انه زحمة بسبب المدرسة دي؛ بس ده طريق البيت لازم أعدي من هنا.
لم يتوقع الغدر؛ فصدقه غافلً عن نية الآخر، وعندما اقترب من إحدى الفتيات قام الشاب بضربها أسفل ظهرها، ودفع عبد الرحمن باتجاهها؛ فاعتقدت إنه الفاعل فصرخت بفزع، وأسرع حارس المدرسة وبعض المدرسين إليها؛ فأشارت على عبد الرحمن، وقصت ما حدث وسط شهقاتها؛ فأمسكوه ولم يصدقوا روايته، احتجزوه واتصلوا بوالده عبد الرحيم.
أقسم لهم عبد الرحمن مرارًا أنه ليس الفاعل، ويمكنه إحضار الفاعل الحقيقي دون جدوى، حتى والده لم يصدقه وتعهد أمام المدرسين بتأديبه، وتعهد لهم ألا يعاود ابنه فعله.
أيقن عبد الرحمن سوء ما ينتظره عند العودة، ظل يقسم لوالده طوال الطريق أنه لم ولن يفعل، لم يتحدث والده فقط انتظر وصولهما، وعندها جذب ناصيته وادخله الغرفة، وحدثه أمرًا بحدة:
-اقلع هدومك كلها، وأجهز لنتيجة فعلك، أنا هوريك يعني أيه تمد إيدك على واحدة ما تحلش لك، وتعاكس بالسفالة دي.
أمتثل عبد الرحمن ووقف منتظر عقابه على ما لم يفعل:
-والله يا بابا مش أنا اللي عملت كده، ده زميلي في المدرسة.
أخذ عبد الرحيم حزامًا عريضًا ووقف أمام ابنه شاحب الوجه، الذي يحاول جاهدا إخفاء خوفه ويجاهد لحبس دموعه، لم يرأف بحاله والده، وتحدث وهو يهوى بجلداته على جسد ابنه:
-ولما هو صاحبك، سابوه ومسكوك ليه؟
عاد وهوي بحزامه عدة مرات واسترسل
-وايه اللي وداك عند مدرسة البنات من الأساس؟
أجاب والده بصوت مختنق ومتقطع؛ وقد بدأت شرارات اضرام النيران بظهره أثر جلدات الحزام:
-طريق بيته، كان عايزني أروح معاه عشان في زمايل له عايزين يضربوه.
لازال يهوي بحزامه وهو يحادثه:
-بلطجي مثلًا، ولا كنت رايح تشاركه، كل واحد يقل أدبه على بنت، بس حظك كان وحش واتمسكت أنت وهو هرب.
مع نهاية جملته سدد له عدة ضربات حارقة سريعة بكل ما أوتي من قوة؛
فانتفض عبد الرحمن مخفضًا رأسه، ومغلقًا عينيه كمحاولة لتحمل الألم، تحدث مدافعًا عن نفسه بصوت مختنق متقطع:
-والله العظيم أبدًا، هو قالي أنه... أنه خايف... وأصحابه سابوه وخافوا... كنت بساعده.
لم يستمع له، ظل يسدد ضرباته بعنف واحدة تلو الأخرى، رج دوي الضربات أرجاء المنزل، تفزع حافظة وتنتفض مع كل ضربه، انسابت دموعها شفقة على ابنها لم تستطيع معنها عنه.
ظل والده على فعله حتى احترق ظهر عبد الرحمن كاملًا؛ فبدأ عبد الرحمن بالتوسل لوالده، محاولًا كظم ألمه:
-بابا كفاية... كفاية أرجوك... والله مش أنا... مش بكذب... أرجوك كفاية.
توقف والده أخيرًا، وقد تلون ظهر عبد الرحمن بين الزرق والأحمر القاتم وحدث ابنه متوعدًا ومنذرًا:
-ياريت وجعك ده يفكرك ماتلمسش واحدة ما تجوزش لك.
ألقى عبد الرحيم بحزامه ثم خرج من الغرفة، ترك ابنه محاصرا بألمه ولم تجرؤ حافظة أن تدخل له، ظل عبد الرحمن يتنفس بسرعة يحاول كظم ألمه، وجمع شتات نفسه، حتى تمكن بعد فترة وارتدى ملابسه.
استجمع عبد الرحمن قواه واحتوى ألمه ثم ذهب لبيت الشاب الذي ورطه، سحقه ضربًا ثم ذهب إلى والده، قص عليه ما حدث وأخبره بنهاية حديثه بما أراد:
-أنا يا عمو مش جاي لحضرتك عشان تاخد حقي؛ لأني أخدته، لكن جاي ومتأكد أن حضرتك هتاخد حق البنت، وتعلمه ما يكررش فعله مع أي بنت تانية، وأسف لأني ضربته؛ لكن حضرتك عارف "العين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم"
رحل عبد الرحمن مستمعًا لصرخات الشاب إثر ما يتلقاه من والده، لم يشعر بالأسى عليه ولا السعادة؛ ولكن شعر باسترداد كرامته وأخذ ثأره
الفصل الثاني
وكعادة الحياه نفقد بها الأحباب، فما الحياه إلا لقاء وفراق وإن طال اللقاء، إشتد المرض على محمد وفارق الحياة وكأنه علم بقرب الفراق؛ فأعد محمود ليصبح خلفًا له أتمت حبيبة في هذا الوقت عامها الخامس، لا تعي ولا تدرك أين ذهب والدها؟ معتقده أنه سيعود يوما ما.
عمل محمود على طمأنتها واحتوائها، ظل قريبا منها ملازم لها معظم الوقت، يأتي من مدرسته إليها يذاكر بالقرب منها شعر حقيقتا إنها ابنته وليست اخته الصغرى، زاده حزنه على والده قوة، وزاده اشتياقه له رجولة، فحاول دومًا أن يكن سندًا لوالدته، حانيًا عليها وعلى حبيبة ورفيقًا بهما، وأن يعوض أخته حنان الأب الذي افتقدته مبكرًا.
ذبلت فاطمة، ذاب قلبها اشتياقًا؛ فبهتت بسمتها، وانحنت قامتها، وكأن روحها ذهبت مع زوجها ورفيق دربها، وما عادت تتمسك بالحياة إلا من أجل ابنائها فمن لهم سواها.
عام قاسٍ على الأسرتين، فأذاقهما مرارة الفقد، فذاق عبد الرحيم ألم الفراق بوفاة والدته بعد صراعٍ مع المرض؛ فحزن عليها حزنًا شديدًا، فقد كان متعلقا بها بشدة لم يتخيل أن تَغِب عنه يومًا؛ فلحق به المرض وأعياه فسقط صريعًا طريح الفراش لعدة أسابيع، تخلت عنه قوته وهيمنته السابقة، بات ضعيفًا لا يقوي على أبسط الأشياء، لازمه عبد الرحمن يرعاه ويمرضه، ينام بالقرب منه حتى لحق عبد الرحيم بوالدته.
وعلي نحو أخر أعاد هذا العام لحافظة حياتها؛ فلم يعد هناك من يؤدبها أو يوبخها أو حتى يحاسبها، وأخيرًا تنفست الصعداء، وباتت هي المسيطرة وبيدها لجام الأمور؛ لكنها تعجبت من نفسها بل صدمت؛ فقد شعرت بقلق وتخبط بالبداية؛ فحاولت ترتيب نفسها وتنظيم حياتها، لكنها فشلت ولم تستطع تحمل المسئولية وحدها، وكأنها اعتادت على تلقي الأوامر والإلتزام بالقيود، فقسمت الأدوار بينها وبين عبد الرحمن واحتفظت لنفسها بالقليل، متشوقة أن يأتي الوقت الذي تمارس فيه دور وهيمنة حماتها.
دأبت حافظة على غرس نفس مبادئ زوجها بعبد الرحمن، ترغبه فيها وتزينها له، زرعت بفكره أن قمة الإهانة أن يضرب الرجل من امرأة حتى وإن كانت والدته أو معلمته، لذا بات عبدالرحمن متفوقًا بكل المواد التي درستها له معلمات ومشاغبًا بتلك المواد التي درسها له معلمون، لاحظ الجميع ذلك فدأبت إدارة المدرسة على جعل جميع مدرسيه سيدات تجنبًا لإثارة المشاكل.
كبر عبد الرحمن يري أمه أعظم الأمهات؛ فيكفي أنها امتنعت عن ضربه منذ وفاة والده، تعامله كرجل قائد البيت، تسأله وتأخذ رأيه في كل الأمور؛ فتحمل المسئولية صغيرًا، ومع الوقت أصبح هو من يقرر ويحدد لها ما تفعله بكل تفاصيله، بيده وحده مقاليد كل الأمور، رأيه نافذًا عليها لا يقبل النقاش؛ ولكن ببعض الأوقات تقلب الأوضاع وتتبدل، وذلك ببعض الأمور السطحية البسيطة، فيمتثل لأمرها يطيعها فقط يوافقها وينفذ، حلمت حافظة كثيرًا بدور الحماه المسيطرة والمتحكمة بزوجة ابنها، تقص على عبد الرحمن دومًا وتحكي له ما يرسغ تلك الفكرة بوجدانه.
-عارف يا عبد الرحمن نفسي الأيام تجري وتتخرج من الجامعة، تشتغل وتتجوز، وأشوفك في بيتك قوي متحكم زي أبوك، كلمتك أمر، نظرة منك ترعب مراتك وعيالك محدش يقدر يراجعك في أي كلمة، وقتها أنا كمان هبقي زي جدتك.
ابتسم لها مجيبًا:
-لازم أرعبها ما ينفعش بالحب.
كادت حافظة أن تفقد تحكمها بذاتها، وبالكاد تحكمت بكلماتها:
-حب أيه؟! ده كلام أفلام يا عبده، الست لازم تترعب من جوزها وتخاف منه، تسمع وتنفذ كلامه وإلا الحزام يشتغل، أنت ناسي أبوك كان بيعمل معايا أيه، ياما زرق لي ضهرى كنت اترعش أول ما يدخل البيت، وكنت أمشي على العجين ما الغبطوش.
-كنت فاكرك مش حابة ده، عشان كده كنت بتضايقي بابا كتير.
حاولت جاهدة إخفاء مشاعرها:
-كنت ببقي عايزة أحس بقوته فبعمل كده.
-كنت بتضايقي لما أحاوطك واتحمل الضرب مكانك، عشان كنت ببوظ اللي أنت عايزاه.
أجابته باقتضاب وأبعدت مقلتيها عن مداره، تخفي وجهها الذي كسته الحمره عنه:
-أيوة.
ظن أن حمرة وجهها خجلا فاسترسل:
-ودور جدتي أنها تقوى بابا وتشجعه صح؟!
أجابت بتسرع تخط بعلقه ما تود فعله مستقبلًا:
-ده ما كانش الأساس، كتير تخلق مشكلة عشان أبوك يأدبني، وساعات تخليه يضربني من غير سبب لو فضل حبة مفيش مشاكل؛ عشان ما انساش لسعة الحزام وأفضل خايفة وعلي حد تعبيرها امشي على العجين ما الغبطوش.
فاجأها بسؤتل لم تتوقعه:
-كنت مبسوطة بده؟
لم تجيبه، بل وتحدثت بأمرٍ أخر:
-مش عندك مذاكرة ولا أيه؟ روح ذاكر عايزاك شاطر، ولا عايز أى مُدرسة من اللي عندك تعاقبك وتضربك؟! أوعي يا عبد الرحمن دي إهانة كبيرة قوى.
-لا يا أمي، أنا بذاكر كويس جدًا استحالة أخلي مُدرسة تعاقبني، مهما كان العقاب بسيط أو أنها تزعق لي.
-شاطر يا عبده يلا قوم كمل مذاكرة.
اجتهدت حافظة لتزين غايتها لابنها، توهمه أن تلك الأفعال تسعد الزوجة وتشعرها بقوة زوجها، تخفي دومًا حقيقة شعورها، بأنها كرهت والده وكرهت وجودها معه، لم تشعر بأنها ما زالت على قيد الحياه إلا بعد وفاته ووالدته، بل غزتها السعادة حين توفيا، وأن حُمرت وجهها غضبًا ولست خجلًا كما ظنها.
دومًا تقص حافظة ما عاشته مع زوجها وتسرده مزينًا لتعزز فكرة عقاب الزوجة وتأديبها وتثبتها في قلب ووجدًان عبد الرحمن، وهو يسمعها يحمل داخله علامة استفهام عظمى رغم بسمته التي تزين وجهه، يتسائل عقله، هل هذا فعلًا ما تحبه النساء؟! كيف يكون الألم حبًا؟ كيف يكون الخوف قوة؟ أيختلف إحساس الألم من الرجل للمرأة؟ أهو للمرأة حبًا وللرجل سيطرة وهيمنة؟! غريبة هي هذه العلاقة، ما أعجبها؟!
لم يظهر عبد الرحمن لوالدته تساؤلاته عن تلك العلاقة واندهاشه لغرابتها، فأخفى عدم اقتناعه، يرى دومًا بعينيها ما يحدثه بعكس ما تقصه له وترويه، يرى بين طيات كلماتها كلمات أخرى تسدل عليها ستارًا، بقيّ غير مقتنع بكلامها شاعرًا بالتخبط بين ما ترويه وما يسكن مقلتيها.
مر الوقت واستمر الحال على ما هو عليه، اعتاد عبد الرحمن ومحمود حياتهما الجديدة؛ فأصبح كلًا منهما عماد بيته وقائده، لم يرد عبد الرحمن تكوين صداقات يتعامل مع جميع من حوله بحدود، لا يسمح لأحد بالاقتراب منه إلى حد الصداقه، وانشغل محمود باحتواء أسرته الصغيرة وإحاطتها بالحب والحنان عن تكوين صداقات، إعتاد ملازمة حبيبة ومصاحبتها ذهابًا وإيابًا، حتى المَدرسة رغم قربها من المنزل، إلا إنه لا يطمئن إلا وإن فعل، واظب على مصاحبتها بجميع حفلات المدرسة، معروفًا محبوبًا بين مُدَرسيها، اعتادت حبيبة أن تلقبه 'بابا' وأحب هو سماعها منها.
حاول محمود جاهدًا إخراج والدته من دوامة حزنها لفراق والده لكنه عجز، فلم تستطع فاطمة تخطي صدمة وفاته، وطالما شعرت باقتراب أجلها، وداومت على توصيت محمود على اخته:
-حبيبي أنت عارف أنك مكان بابا الله يرحمه، عايزاك دايمًا تفتكر كان يتعامل معاك إزاي، ونقاشه معَك في كل حاجة، خصوصًا القرارات اللي تأثر في حياتك مهما كبرت أو صغرت.
-فاكر طبعًا يا ماما، بابا الله يرحمه عودني على النقاش معَه وكان يسمعني كويس، طويل البال ودايمًا يوضح لي إزاي أقدر أختار وأفرق بين الصح والغلط.
-عايزاك دايمًا تعمل كده مع حبيبة، أوعي تجبرها على حاجة مهما شوفتها صح، أو تمنعها غصب عن حاجة مهما اختلفت رأيك عنها، دايمًا تناقش معاها وفهمها عواقب كل حاجة، احسبها معَها، كلمها دايمًا عن بابا زي ما بعمل دلوقت، هي مالهاش غيرك من بَعْدي .
-بعد الشر عنك يا أمي، ليه بتقولي كده؟! ربنا يخليكي لينا ويعطيكي الصحة.
-الأعمار بيد الله يا حبيبي، وكلنا لنا معاد، أنا من يوم ما بابا سابنا وأنا بحاول أكون قد المسئولية، وأنت يا حبيبي شايل كتير، تعمل مع حبيبة اللي بابا كان حيعمله وأكتر، بقيت أخوها وباباها ربنا يبارك فيك يا حبيبي، أعتبر كلامي ده وصية، فأي وقت ألحق بابا تنفذها، خليك سندها وأمانها، عون لها في الصعب عمرك ما تتخلى عنها مهما زعلت منها تفضل جنبها، أوعدني يا محمود.
-أوعدك يا حبيبتي، ربنا يديكي الصحة ويبارك لنا في عمرك، أنت إن شاء الله اللي هَتجوزيها وتشيلي ولادنا كمان ربنا ما يحرمنا منك.
انهى كلماته ثم قبَّل يدها واحتضنها فابتسمت بشرود ولم تعقب.
اتسمت حبيبة كمحمود بحُسن التفكير، سريعة البديهة كلما كبرت ظهر ذلك، لاحظت بسن العاشرة تألم والدتها كلما لقبت محمود "بابا" وبعد طول تفكير أرهقها ذهبت إلى محمود وهو يذاكر بغرفته، طرقت بابه المفتوح بهدوء ووقفت خجلة مخفضة الوجه.
-تعالي يا حبيبة.
كان جالسًا على مكتبه، نهض مقتربًا منها وعلي وجهه ابتسامة بشوشة، حاوط كتفها بذراعه أجلسها على فراشه وجلس جوارها ممسدًا على رأسها بحنان منتظرًا كلماتها.
تحسست كلماتها، تنظر لمحمود تارة وتخفض بصرها خجلة تارة أخرى:
-بابا هو أنا لو بطلت أقول لك بابا هَتزعل.
اندهش من سؤالها ولم يتوقعه:
-ليه يا حبيبة؟! أنا زعلتك في حاجة أو ضايقتك ومكسوفة تقولي؟! حاسة إني مقصر معاكي في حاجة؟
قاطعته متفاجأة من تحليله:
-لا والله يا بابا بس بحس إن ماما بتتعب و بتتوجع كل مرة أقولك كده قدامها، وصحتها مابقتش زي الأول، أنا خايفة عليها، بقت حساسة قوي من كل حاجة ودايمًا تعبانة.
أدمعت عينيها مسترسلة:
-والله لما بناديك بابا برتاح وبحس إنه لسه معَنا؛ بس عشان ماما.
قَبَّل رأسها كما اعتاد مبتسمًا وأجابها:
-خلاص اتفقنا وأنا حفضل بابا بردو، خليني أسمع اسمي منك وحشني قوي، أنا قلقت أفتكرت إني زعلتك في حاجة أو جيت عليكِ، بس وعد يوم ما تحبي تناديني بابا تاني اعملي كده على طول من غير كسوف و طول عمري حاتعامل معاكي على إنك بنتي واختي الصغيرة مهما كان الاسم اللي هتناديني به.
ضمها إليه بحنان رابتًا ظهرها بحب.
مرت الأعوام، إلتحق عبد الرحمن بدراسته الجامعية رغب أن يلتحق بكلية التربية وتخصص بدراسة اللغة العربية التي يعشقها، ليكمل موهبته في فن الكَلِم وحسن أنتقاء الكلمات، طوال فترة دراسته لم يتعرف على أي من زميلاته، بل لم يراهن من الأساس، وكأن بداخله شئ ما يمنعه من الاقتراب من الفتيات أو التعامل معهن، يؤمن أن الإبتعاد عنهن فضيله، لم يشغل باله بكيف يبدو أمامهن مقتنعًا بما يفعل، وبعد أن أنهى دراسته عمل بإحدى المدارس القريبة من سكنه، تبعد فقط عدة خطوات.
لم يفكر في الارتباط يومًا بل لا يريده، راغبًا عن خوض تلك التجربة رغم محاولات والدته المستميتة لتخطب له إحداهن، وبأحد الأيام حين جالسا معًا لتناول الغداء، حدثته والدته:
-وبعدين يا عبد الرحمن، مش ناوي تخطب كده وتفرح قلبي.
أجابها ببسمة بشوشة:
-نفسك يا أمي أجيب لك واحدة عشان تربيها من أول وجديد، لا مش ناوي إنسى وبعدين لسه بدرى قوي على الإرتباط، ده لو فكرت أتجوز أصلًا.
ارتدت قناع زوجها متحدثة بحزم لا يليق بها:
-لأ طبعًا، أمر الجواز مفيش إختلاف عليه، أنا بس هسيبك تختار الوقت اللي يناسبك، ما اسمعش منك حكاية مش ناوى أو مش عايز تاني فاهم.
انصاع لها بدون نقاش، بكل الأحوال أرجئ النقاش:
-حاضر يا أمي ما تزعليش وسيبيها للأيام يمكن لما أقابل واحدة كويسة رأيي يتغير.
-مفيش رأيك، دي سنة الحياه هتجوز يعني هتجوز، أنا بس هستني شوية عليك.
تركته واتجهت للمطبخ، عادت إليه بعد قليل بكوب الشاي، أخذه ودخل للشرفة نظر أمامه بشرود متحدثًا بصوت مكتوم بالكاد وصل لأذنيه.
-أنا عارف سبب إلحاحها على جوازي؛ لكن أنا مش عايز أدخل دايرة ملهاش نهاية، دايرة كلها إجبار وعنف، إزاى أخلي ولادي مرعوبين مني أو من عقابي؟! كنت بترعب لما بابا يكشر في وشي، كل ضربة حزام أخدتها زلزلتني من جوايا، ليه أجيب أولاد أعذبهم؟! حتى لو مراتي حبت أتعامل معاها كده؛ أنا مش عايز، حقيقي مش عايز.
ظل عبد الرحمن بشرفته شاردًا.
إلتحق محمود بكليه التجارة وتفوق بها، أحب التعامل بالأرقام وتطويعها، بل تفوق بدراسته أصبح معروفًا بين قرنائه، تقرب إليه كثيرون واكتسب أصدقاء كُثر، بعضهم من زملائه بنفس الفرقة والبعض من الفِرَق المستجدة، ومن بينهم بسمة إحدى الطالبات، تصغره بعامين، تاتي إليه مع بعض زميلاتها ليشرح لهن ما يصعب عليهن فهمه، وبعد فترة أصبحت تلازم مجموعته بأوقاتها الخالية من المحاضرات، شعر كلٍ منهما بانجذاب للآخر، لم يتحدثا أبدًا سوى بما يتعلق بالدراسة، بعد فترة تأكد محمود مما يكنّه تجاهها، وبحديث الأعين شعر إنها تبادله مشاعره بمثلها؛ فحدث والدته بالأمر.
قرر التحدث مع والدته، والأخذ بمشورتها، انتظر حتى انتهوا من الغداء ودخلت حبيبة لتذاكر دروسها، ثم اتجه لغرفة والدته وجلس معها بنفس المكان الذي اعتادت الجلوس فيه مع والدته متحدثًا:
-كنت عايز أكلمك في حاجة كده .
-قول يا حبيبي، مالك متوتر ليه؟! أول مرة أشوفك كده .
ابتسم بتوتر مجيبًا:
-الحقيقة مش عارف أبدأ منين، أنا عارف اني لسه صغير واني...
قاطعته فاطمة وعلي وجهها ابتسامة عذبة:
-أنت بتحب يا محمود؟!
أماؤ لها شاعرًا بالاحراج؛ فابتسمت بسعادة متسائلة:
-وهي بتحبك؟
-احنا ما اتكلمناش، بس حاسس إنها بتحبني، على الأقل مياله ناحيتي.
-أتأكد منها، ولو كده يبقي على بركة الله نقرا فاتحة وخطوبة وتتجوزوا أول ما تشتغل .
سألها بسعادة ليتأكد مما سمع:
-يعني موافقة يا امي؟
-أكيد يا حبيبي، أنا واثقه في اختيارك.
-هكلمها ولو وافقت يبقي الخطوبة أخر السنة دي، أكون تخرجت وإن شاء الله هتعين معيد وبعدها...
قاطعته فاطمة مرة اخرى:
-بعدها تتجوزوا يا حبيبي، خلي الفرح يدخل البيت، والدك كان شايل لك ولحبيبة قرشين على جنب وضب أوضتك هي كبيرة وهات أوضة حلوة كده ما أنت مش هاتسيبنا لوحدنا، مش كده يا محمود ؟!
-أكيد طبعا يا ماما.
-اسمها أيه؟
أجابها والبسمة تعلو وجهه:
-بسمة.
-ربنا ربنا يسعدك ويريح قلبك، ويجعلها سبب بسمتك دايما يا حبيبي.
حين حدثها بالأمر أحمر وجهها خجلًا ألجمتها السعادة ورقص قلبيهما فرحًا، أتم محمود العام وتم تعينه معيدًا؛ فتقدم لها وتمت الخطبة.
مرضت فاطمة وشعرت باقتراب الأجل؛ فطلبت من محمود الإسراع بالزواج، لم تخبره بشعورها، وألحَّت عليه بحجة إدخال السرور لقلوبهم؛ أما مقصدها الحقيقي أن يجد من يشدد آزره ويقويه، استجاب لها ولم يرد معارضتها، كما أراد ارواء شوقه بقرب بسمة، بسمته كما اسماها.
أقاموا حفل زفاف متوسط الحجم، ضم الأهل والأقارب والأصدقاء المقربين، شعرت فاطمة ببعض الراحة، تمنت أن تتوطد علاقة بسمة وحبيبة وأن تستطع تعويضها حنانها إن حان وقت الفراق.
بعد عدة أشهر من زواج محمود، إشتد المرض على فاطمة ونقلت إلى المشفى، وأصرت حبيبة على مرافقتها، كانت بالثالثة عشر من عمرها، شعرت حبيبة بقرب ما تخشاه الفراق، تناجي ربها وتدعوه أن يحفظ والدتها، تجلس جوارها ليلًا تحدجها بنظرات متوسلة راجية، تناجي ربها سرًا.
-يارب أنت العالم بحالي، يا رب أنا ما افتكرش بابا، لا صوته ولا شكله أعرفه بس من الصور، يارب أحفظ لي أمي، هي صحيح طول الوقت شاردة.
سقطت دموعها بغزارة ومسترسلة:
-بتتمني تروح لبابا بس أنا عايزاها معايا، مش عايزاها تسبني هي كمان، يا رب أنا ماليش غيرها هي و محمود، يا رب عشان خاطر حبيبك سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة أحفظها لي وما تخدهاش عندك، يا رب محمود بقي له حياته مع مراته، أنا مش عايزة أبوظ له حياته يا رب.
توالت عَبراتها وسقطت بغزارة، تخرج معهَا خوفها من الفراق وألمها.
اهتمت حبيبة بوالدتها، تطعمها بيدها تبدل ملابسها، وتعملت من التمريض كيف تنظفها وتطيبها، تدهورت حالة فاطمة الصحية، لا تستطيع الحركة وأحيانًا يثقل لسانها فتتحدث بصعوبة شديدة، وشعرت بنهاية الأجل تشفق على حبيبة، تعلم بتقصيرها تجاهها، استجمعت قواها الخائرة وحدثتها، محاولة مؤازرتها وتقويتها، بثتها آخر كلماتها كأنها تودعها:
-ما تزعليش مني يا حبيبة، والله كان نفسي أفضل معاكي؛ بس غصب عني، يوم بابا ما راح أخد حته مني، أنا بحبك أنتِ ومحمود خليكوا سند لبعض، ربنا ينور قلبك يا حبيبة ويلهمك دايما الصواب، خلي قلبك دايما نقي يا حبيبتي، أعملي زي الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام ما قال لنا
"استفتي قلبك وإن أفتوك"
طول ما نيتك صافية وقريبة من ربنا؛ هَيلهمك الصح، نقي قلبك وأوعي تسيبي نفسك للدنيا.
استمعت لوالدتها ودموعها تتساقط دون توقف، أدركت أن تلك وصيتها الأخيرة، تاهت منها الكلمات جميعًا فاقتربت منها تحتضنها وتقبلها، وكأنها تحاول الإرتواء من حنانها قبل الفراق، ذهب عنها النوم وهجرها، رافقتها دموعها كما عذابها.
وبالصباح أسلمت فاطمة روحها لخالقها، ذهبت إلى مأواها الأخير بالحياة، احترق قلب حبيبة وتملكها عميق الحزن، أصبحت صامته منكمشة، منغلقة عن العالم، تشق دموعها مجراها على وجهها، رغبت عن الدنيا زهدت الحياة آزرتها بمحنتها تلك صديقتها الوحيدة سما، تاتي إليها يوميًا، تجالسها تتحدثها من طرف واحد.
بعد فترة طويلة عانا بها كلٍ من محمود وسما تمكنا أخيرًا بمعاونة بسمة من إخراجها من عزلتها وحزنها، وعادت تدريجيًا للحياة.
سما هي صديقة حبيبة الوحيدة، بنفس عمرها، طيبة القلب كحبيبة، ملامحها عادية تحب حبيبة كشقيقتها، يملك والدها مكتبة لبيع الأدوات المكتبة (قرطاسية) أسفل البيت المقابل لمنزل حبيبة، تراها من شرفة منزلها، اعتادت حبيبة مرافقتها هناك بأوقات تواجد سما مع والدها.
أما فهي بسمة فتاه جميلة بسيطة، متوسطة الطول محجبة تكبر حبيبة بثمانية أعوام، طيبة القلب حنونة وحيدة توفي والدها وهي بالعام الثاني بالجامعة، قبل خطبتها بفترة قصيرة.
رغم طيبة قلب بسمة وشعورها بالشفقة على حبيبة، إلا إنها شعرت ببعض الغيرة منها؛ لاهتمام محمود الشديد بها، والذي ازداد وتضاعف وقت وفاة والدتهما حيث استحوذت حبيبة على قدر كبير من اهتمامه.
لم يخفى على محمود شعور بسمة، رآه بمقلتيها مهما حاولت إخفائه، لم يتجاهل الأمر ولم يتزمر منها، وانتوى محادثتها، وبعد تحسن حبيبة مباشرةً، جلس مع بسمة:
-بسمة حبيبتي الفترة اللي فاتت كنت مشغول عنك شوية، متأكد إنك عذراني، وقدرة الظروف، أعملي لنا كوبايتين شاي وتعالي عايز أتكلم معاكي شوية.
بادلته الابتسام تحركت وعادت بعد قليل تحمل المشروب وجلسا بمكانهما المعتاد.
-أنا سمعاك يا حبيبي.
-عارفة يا بسمة أنت وحبيبة أهم اتنين في حياتي، أنت مراتي وحبيبتي، عمري الجاي وبنتي، أما حبيبة أختي وبنتي وعيلتي كلها، بابا الله يرحمه مات وهي عمرها خمس سنين، بعدها كانت بتقولي يا بابا.
تحدثت بدهشة وتعجب:
-فعلًا؟!
-أيوه، من وقت ما عرفت تتكلم لحد ما بقى عمرها عشر سنين، كانت تقولها ليا أنا وبابا الله يرحمه، بس بطلت عشان ماما كانت بتتعب، لكن ساعات لما بابا يوحشها تناديني بابا.
-أنا عمري ما سمعتها تندهك بابا.
أجابها مبتسما:
-مش بتحب تقولي كده قدامك، بتخاف تزعلي.
ابتسمت بسمة مندهشة
- ساعات بتحس أنك مش مستوعبة العلاقة بيني وبينها، بتخاف تحصل مشاكل بسببها، بس أنا قولت لها ان بسمة هي بسمت حياتي وأنك فهماني أكتر من نفسي، وأكيد مقدرة فقدها والدها و دلوقتي والدتها كمان وبقت يتيمة الأب والأم.
نظر داخل عينيها وأخذ كفها بين كفيه مبتسمًا:
-عارف إنك مقدرة إحساسها؛ لأنك فقدتي والدك قبل ارتباطنا بفترة صغيرة، ومقدرة سوء إحساسها دلوقت، بسمة أنا لحبيبة أخوها وأبوها وعيلتها كلها، ملهاش غيري بابا وماما الله يرحمهم وصوني عليها، من يوم ما تولدت حسيت أنها بنتي يمكن عشان فرق السن بينا عشر سنين زود احساسي ده، بس عمر حبي لها واهتمامي بها ما يأثر على حبي ليكي أبدًا، تفهمك لده بيحببني فيكي أكتر، وتأكدي لما ربنا يرزقني بأولاد منك هَاحبهم وأخاف عليهم زي ما بعمل معها وأكتر فهماني يا حبيبتي.
أجابته ببسمة راحة وسعادة:
-ما تقلقش، حبيبة من النهاردة بنتي أنا كمان، هَاحاول على قد ما أقدر أقرب منها، سامحني لو في وقت ماقدرتش أفهم العلاقة بينكم، عارف أنا بحبك دلوقتي أكتر من الأول وكبرت في نظري أكتر وأكتر.
ثلاث أعوام مرت، أصبحت حبيبة بمرحلة الثانوية العامة، ازداد حسنها وجمالها، تغيرت ملامحها لم تعد طفلة باتت شابة ممشوقة ومتناسقة القوام، ذات بشرة قمحاوية تميل للبياض، متوسطة القامة، شعرها ناعم طويل يكاد ان بماثلها طولًا، رغم حبها لذلك إلا انها تخجل من طوله؛ فاعتادت أن تجمعه لأعلى أو تجدله أثناء خروجها، وتطلقه في المنزل، تضع عليه غطاءً إذا أطلت أو جلست بالشرفة.
ظل محمود على عادته يرافقها دوماً ذهبًا وإيابًا، يحاول توفيق مواعيده بالجامعة مع دروسها، حملت بسمة بعد تأخر حملها لأكثر من عامين، وهم الآن متأهبين ومنتظرين أن تضع مولودها بأي لحظة.
ما زالت حياة عبد الرحمن رتيبة جدًا ذات قواعد ثابتة لا تتغير، يذهب بالصباح إلى المدرسة ثم يعود بعد انتهاء اليوم الدراسي، ثم يتناول وجبة الغداء رفقة والدته، ثم يجلس بالشرفة يحتسي مشروبه ويشاهد حركة المارة إلى أن تنتهي والدته من أعمال المنزل، وخلال جِلسته يشاهد عودة محمود صحبة حبيبة.
وبالمساء يجلس مع والدته لقرابة الساعتين، تقص له ما أرادت عن حياتها مع والده ثم يخلد للنوم ليعيد نفس الأحداث باليوم التالي ولنفس التسلسل.
قطبين متنافران رغم التقاءهما يوميًا بالطريق، لا يتحدثان يتجاهل ويتجنب كلاهما الآخر، شاعران باختلافهما أو ربما تناقضهما ولم يحبا التعامل معًا.
بكل يوم يرى محمود يرافق حبيبة من وإلى مدرستها، لم يلتفت لها اطلاقًا يغض بصره دومًا، إلا بذاك اليوم، جلس كعادته بشرفته وبيده مشروبه الساخن، فوقع بصره ككل يوم عليهما بتلك المرة انتبهت كافة حواسه، لا يعلم السبب، ربما لأنها ولأول مرة بزي مخالف للزي المدرسي، فكان ثوب طويل، قصير الأكمام، ذو لون هادئ رقيق، تجمع شعرها لأعلي وتجدله بشكل ضفيرة مهدلة على كتفها الأيمن، وجد نفسه يسير خلفهما يسأل عنها؛ ولم يستطع معرفة اسمها.
تملكته حالة غريبة لا يعرف سببها، رغبة في التقرب ومعرفة اسمها وعمرها، سأل نفسه هل يمكنه محادثتها يومًا؟ تعجب من ذاته، لم يجد سبب لحالته، ولم يستطع منع نفسه من انتظارها كل يوم ومتابعتها، يراقبهما حتى يختفيا عن ناظريه، تغمره حينها سعادة لم يعتاد عليها، وبعد بضع أيام استطاع تحديد موعد عودتهما.
لم يستطع فهم أحاسيسه، وكل ما علمه انه يستمتع برؤيتها والنظر إليها ومراقبتها.
جلس بشرفته ككل يوم، منتظرًا عودتهما؛ لينعم بقدر من السعادة، لكنها بذلك اليوم عادت وحيدة، أثار ذلك تعجبه؛ فمحمود لم يتركها يومًا منذ رحيل والده، وبذات الوقت شعر بالضجر منه، متسائلًا لما لم يرافقها كعادته؟! ألا يخشى من وقوع أي ضرر أو أذى عليها؟! لاحظ اسراعها وتوترها، كمن تخشى أو تهاب أمرًا، تابعها قلقًا فوجد من يلاحقها، لم يمهل نفسه وقتًا للتفكير؛ فأسرع إليها ولحق بها وجذبها خلفه مطمئنها بكلماتٍ معهودة.
للمسته وقع عليها، لم تخشاه أو تخافه ولكن أقشعر جسدها بل قلبها، لم تفهم معنى تلك القشعريرة، ولكن نبض قلبها وهدأ خوفه، بل شعر بالأمان، دبت بها نشوةٍ لا تفهمها؛ فتعجبت من أمرها، تابعته وهو يوسع الآخر ضربًا حتى فر من أمامه خائفًا، وحين إلتف إليها اخفضت مقلتيها خجلًا.
-أنت كويسة؟
رفعت وجهها ناظرةً إليه فاسترسل مشدوهًا:
-ما شاء الله، تبارك الله خلق فأبدع.
إحمر وجهها خجلًا، وبتلك اللحظة وصل محمود تتصارع أنفاسه كمن كان يعدو لمسافة طويلة، اتجه نحوها مرتابًا ومتسائلًا:
-حبيبة حصل أيه؟ أنت كويسة؟
انتبه لوجود عبد الرحمن فتسائل متوجسًا:
-عبد الرحمن! حصل أيه؟
-واحد كان ماشي وراها يضايقها، ما تقلقش أنا قمت بالواجب، ما تسبهاش لوحدها تاني الناس مابقتش زي الأول، واختك ما شاء الله فيها الطمع.
ازداد وجهها حمرة بينما إستاء محمود منه ومن حديثه ولم يتحدث مكتفيًا بإماءة بسيطة وابتسم بملل ثم حاوط كتف حبيبة بذراعه وتحرك لمواصلة طريقهما.
-أنت كويسة؟
أومأت مطمئنة إياه، واسترسل هو:
-عبد الرحمن ضايقك في حاجة؟
نفت بصمت فتابع حديثه:
-أنا اسف يا حبيبة، الطريق زحمة والمواصلات صعبة، أنا حتى سبت بسمة عند الدكتورة حوصلك وأرجع لها.
-ما تقلقش أنا كويسة، هو عبد الرحمن ده صاحبك أول مرة أسمع اسمه.
-لا أبدًا، مستحيل نكون أصحاب، عمرنا ما اتفقنا ولا هَنتفق لو قابلتيه تاني ما تتكلميش معاه.
صمتت وتملكها الضيق ولا تعلم السبب، وحاولت ألا تظهر ذلك
يتبع