رواية نيران الغجرية الفصل التاسع عشر19والعشرون20بقلم فاطمة أحمد
الفصل التاسع عشر : نزاع للعيش.
_________________
" أكان ذنب المرأة أنها صادقة فصدقت ، و أنها مخلصة فأخلصت ، و أنها رقيقة فلانت
و أنها محسنة فرحمت ، و أنها سليمة القلب فإنخدعت ! " # الرافعي
ضمت وجهه بين يديه و عند عدم تمنعه اقتربت منه أكثر و في لحظة مجنونة حطت بشفتيها على خاصته تقبله بنعومة مستسلمة لرغبتها !!
مرت ثوان يحاول فيها عمار إستيعاب ما حدث ولم ينتبه لكونه يستجيب لقبلتها فضم خصرها بين ذراعيه يبادلها لكن عند إدراكه أن التي أمامه ليست مريم بل هي إبنة عمه الصغرى انتفض يدفعها بعيدا عنه و يقف صارخا بلهاث :
- ندى ايه اللي عملتيه ده !!
شهقت عائدة للخلف بخطوات مرتجفة و ذهول من فعلتها الصادمة و ردة فعله فهو قد إستجاب لقربها للتو لكن خزيها و حرجها من نفسها كانا أكبر من تحليل ردة فعله فهمست بحروف متقطعة :
- مش قصدي .... انا معرفتش عملت كده ازاي ... عمار ااا انا ...
رمقها بعصبية و أدار ظهره لها فتحركت و غادرت الغرفة مسرعة تاركة إياها يضغط على رأسه و يكلم نفسه بصدمة :
- ايه اللي انا عملته ده .... ازاي ... عقلي كان فين ازاي اتخيلتها مريم و اتفاعلت معاها ... و ندى ...
تذكر ما حدث فأغمض عيناه يسب نفسه على ضعفه أمامها كيف إنفلتت زمامه و اقترب من إبنة عمه .... المرأة الوحيدة التي ربطته بها علاقة بريئة صافية !
و مريم زوجته .... لقد كان يشك فيها و يتوقع خيانتها له في أي لحظة و الحال أنه هو من فعلها ... كيف سينظر في عينيها مجددا !!
زفر عمار وقد إحتقن وجهه من الإنفعال فضرب الحائط بقبضته هامسا :
- ده مش غلطي ... انا مش فوعيي و ندى اللي قربت مني ... هي الغلطانة مش أنا بس مريم ...
دخل إلى الحمام و نثر بعض قطرات المياه على وجهه ثم خرج ضاغطا على شفته بعنف خاصة عندما سمع زوجة والده تناديه من أجل تناول فطور الصباح لكنه أخبرها دون فتح الباب لها أنه لا يريد تناول شيء فتركته على راحته ....
________________
في نفس الوقت.
إعتدلت في جلستها على الأريكة في الصالة وهي تتأمل بوكس الشوكولاطة التي وصلتها منذ نصف ساعة مع رجل زوجها ، و أخبرها أن السيد عمار طلب منه إختيار هذه الهدية بعناية و تزيينها مع الحرص على جلب كل الأنواع المفضلة لديها.
تنهدت و إستندت بوجهها على يدها تحدي في خاتم يدها بمرارة ، مريم لم تعد تفهم عمار ولا تفهم تصرفاته أبدا ، من جهة يمارس عليها الترهيب النفسي و يؤذيها بكلامه و من جهة أخرى يحضر لها هدايا و يطبخ لها و يعتني بصحتها عندما تتعب ...
لم تعد تعرف ماهية حقيقته ولا نواياه ، لكن ما هي متأكدة منه أن عمار له جانب غير الجانب " الراقي" الذي يختص به ، طرف يخفيه عن الناس و يظهر فقط عندما يعرف أن كلامه لا يُنفذ و أوامره تُعصى !!
هي لا تعرف إلى أي حد ممكن أن تصل نوبات جنون عمار ، لا تعرف بالضبط ماذا سيفعل بشأنهما ، لكن ما تدركه أنها كانت مخطئة طوال هذه الفترة في رؤيتها له ، أن تصرفاته الهادئة معها عادة لم تكن نابعة عن لطافته و إحترامه لشخصها ، بل كلها كانت مزيفة لغرض ما !!
تأوهت مريم بتعب و دلكت جبينها متمتمة :
- جايبلي بوكس شوكولا بعد ما أهاني فاكر يعني إني هنسى اللي قالهولي و عمله فيا بسهولة كده.
أشاحت وجهها بضيق لكن عادت و نظرت إلى هديته و كمية الشوكولاطة المغرية التي تقابلها ، ستكون كاذبة لو قالت أنها لم تشتهي تناولها جميعها لكن إستياءها من صاحبها يحول دون ذلك.
نفخت بتذمر و نهضت لتتفحص البوكس و عيناها تجولان بإشتهاء عليه حتى زفرت مستسلمة و ملست على بطنها تحدث صغيرها شبه ضاحكة :
- شكلك انت كمان عايز تدوق خلاص يا حبيبي متزعلش هتاخد منها حته بما أن باباك جابهالنا مخصوص.
أخرجت قطعة صغيرة من النوع الفاخر و قضمت منها لتغمض عينيها بلذة و تهمهم مستمتعة بمذاقها الرائع ، أخذت قطعة أخرى و أخرى وقد إزدادت شهيتها بمعدل بالغ لتنهي كمية معتبرة منها و أخيرا نظرت إلى نفسها وهي تضحك مرددة :
- انا قولت لعمار مرة واحدة اني بحب أنواع معينة و ده كان من زمان معقول لسه فاكر لحد دلوقتي.
ثم جلست مريم مجددا تفكر في شرود :
- معقول بعت الهدية كإعتذار على اللي عمله معايا و بيكون قرر يعلن جوازنا ... طب لو ده اللي بيحصل فعلا انا هعمل ايه هسامحه و انسى اللي قاله و عمله معايا ...
سكتت لثوان قبل ان تضع يدها على بطنها تبتسم بحنان :
- انا هعمل اي حاجة علشانك يا حبيبي حتى لو اضطريت ادوس على قلبي و كرامتي ... انا كده كده مش تقدر اقف فوش أبوك و اتحداه.
تلون وجهها بالحزن و الإنكسار لكن أقنعت نفسها أن عمار نادم على ما فعله و سيأتي ليعتذر منها و يعيشا سويا في علاقة زواج طبيعية .... سيكون لها الحق بأن تسمى زوجته و طفلها سينتسب لعائلته بكل فخر .... عمار لن ينفذ تهديداته و بالتأكيد سيحميهما !!
دخلت إلى غرفة المكتبة تطالعها بشغف وقد أعيدت لها طاقتها نوعا ما ... معظم سعادتها تتعلق بالكتب و رائحتها الساحرة إنها نسخة عن والدها المرحوم لقد ورثت عنه عشقه و إدمانه على القراءة و لكنها للأسف لم ترث قوة شخصيته هو و أمها.
نفثت مريم تلك الأفكار السوداوية من رأسها و شردت في أخرى أعادتها للماضي ...
Flash back
( كانت مستلقية في حضن عمار بعد ليلة عاصفة بينهما في بداية زواجهما ...
كانت حينها لا تزال تخجل منه و تخاف من التكلم بأريحية لكنه حثها على الحديث دون إرتباك و بالفعل بدأت تحدثه عن نفسها و عما كانت تفعله في السكن الجامعي أيام حتى زل لسانها و أخبرته أنها كانت تقضي معظم وقتها تقرأ كتب أبيها و تستعير أخرى من مكتبة الكلية ...
أخفض رأسه لها متسائلا بلهجة قوية :
- انتي بتحبي الكتب اوي كده ؟
تلجلجت مريم و فكرت أنه من الممكن أن يكون تضايق أو هو من النوع الذي يستهزئ من فكرة أن الناس من طبقتها لا تفيدهم المطالعة بشيء ، لكن كان يجب عليها أن ترد فأجابت عليه بخفوت :
- ايوة بحبها و بحب اقرا كتير حتى اني جبت معايا شوية كتب من بتوع والدي الله يرحمه .... مقدرتش أجيبهم كلهم معايا للأسف.
لاحت على وجهه إبتسامة أدهشتها ثم غمغم وهو يداعب بإصبعه خيط الشعر الملون الذي ركبته مع خصلاتها :
- أي نوع بتحبي تقري.
إرتاحت مريم من ظنونها السوداء نوعا ما و سعدت لكونه إهتم بما تقوله فهمست وهي ترفع الغطاء على جسدها العاري :
- مفيش نوع معين انا بحب اقرا كل حاجة .... بس يعني الروايات الرومانسية و الأساطير القديمة بتلفت إنتباهي أكتر.
همهم عمار و إلتزم الصمت فإعتقدت أنه غير مهتم بما تقوله ولامت نفسها على ثرثرتها المزعجة و صمتت أيضا.
لكن بعدها بيومين سمح لها بالخروج مع صديقتها صباح اليوم و حينما أعادها بنفسه في المساء دخلا سويا للشقة و فتح عمار باب الغرفة الفارغة التي لم تعد كذلك .... فهاهو قد حولها إلى جنة على الأرض !!
شهقت مريم بذهول و لهفة و هي تتطلع إلى تلك الرفوف العالية التي ربط بينها خيوط مضيئة بألوان هادئة تحمل كتبا عديدة لم تحصها من كثرتها .... و طاولة متوسطة الحجم متبوعة بكرسي بجانب الأرفف عليها دفاتر ملونة و أقلام مصطفة بترتيب بالغ.
و في طرف الغرفة وضع أريكة واسعة باللون الرمادي الفاتح تحيط بوسائد جانبية صغيرة مع منضدة زجاجية صغيرة و لم يكفي ذلك بل وضع على الأرضية كرات كبيرة مضيئة إنبعث نورها في الأرجاء .... لترى عالمها الذي تبدد عند تحويل مكتبة والدها إلى غرفة تخص إبن عمها المدلل .... يصنع من جديد و بأحلى صورة لم تتوقعها حتى في أحلامها !!
شهقت بلوعة و ركضت إلى الأرفف تتأمل الكتب بلهفة و إنصدمت عندما رأت كتب أبيها على الرف الأول فنظرت إلى عمار الذي إبتسم بشجن :
- انا بعت رجالتي لبيت عمك امبارح و جبت كل كتبك و رواياتك و وصيت على مجموعة من الكتب الأجنبية اللي بتتكلم ع الأساطير و الأشعار و روايات رومانسية لسه نازلة طبعتها الأولى .... تماما زي ماانتي بتحبي.
وضعت مريم يدها على فمها غير مصدقة لما تسمعه و أنه فعل كل هذا من أجلها هي و دون أن تطلب حتى ، ثم لم تشعر بعينيها اللتان إغرورقتا بالدموع متأثرة و عقلها يعجز عن معرفة إن كان هذا حلما أم حقيقة.
فتحت كتابا تلوَ الآخر تشم أوراقه بعمق مثل المهووسة كأنها تسترجع رائحة ماضيها مع والديها ثم وضعت ما بيدها جانبا و تحركت تتلمس الطاولة و الدفاتر و الاريكة و الكرات المضيئة و تتأرجح بحماس على أرجوحتها الجميلة .... حتى ذلك البساط الأبيض ذو الملمس الحريري الناعم الموضوع على الأرضية أسفل الأريكة لم تتوانى مريم عن تمرير أناملها عليه !
و في لحظة متهورة ركضت إلى عمار تقبله بقوة و تعانقه مرددة كلماتها الممتنة ... كانت هذه أول مبادرة منها منذ زواجهما من أشهر قليلة ... و في ذلك اليوم بدأ الإعجاب يتحول إلى حب إستطاع عمار زرعه في قلبها دون شعور منه .... ثم لامها بعد ذلك على حبها له !! )
Back
أفاقت مريم من شرودها على دمعة نزلت في غفلة منها و تنهدت وهي تسحب كتابا بعشوائية ثم تجلس على الأريكة تقلب صفحاته بشرود حتى سقطت عيناها على جملة باللغة الأجنبية
( Be strong because things will get better , It may be strong now , but it never rains forever.
كن قويا فلأمور ستتحسن ، قد يكون الطقس عاصفا الآن و لكنها لن تمطر إلى الأبد ).
ظلت مريم تقرأ بصمت حتى بدأت تشعر بوخزات تصيب بطنها لكنها لم تركز كثيرا و شيئا فشيئا إزداد الضغط فوضعت يدها على بطنها تتأوه بألم.
تحاملت على نفسها ووقفت متجهة إلى الصالة أين تركت هاتفها و عندما سمعت صوت وصول رسالة أسرعت إليه بلهفة معتقدة أنه عمار لتخبره بأنها تشعر بالألم ..... مؤكد سيأتي إليها و يأخذها إلى الطبيب.
فتحت الرسالة دون رؤية رقم صاحبها في لهفة تبددت على الفور .... و حل محلها ذهول قاتم .... و عيناها تصرعان برؤية مقطع الفيديو الذي قابلها للتو !!
إرتدت للخلف منتفضة كمن لسعتها نار حارقة وهي تشخص بصرها على المشهد أمامها ..... كان مشهد طعن قاتل بطله زوجها و أداته الخيانة .... خيانة تجسدت في عمار عاري الصدر وهو يحصر إبنة عمه بين ذراعيه و يقبلها بشغف على سريره !!
شعرت مريم بالدنيا إسودت في عينيها و إهتزاز أسفل قدميها المرتجفتين مطالعة المشهد مرارا بأعين فارغة.
و بالكاد إستطاع عقلها المغيب التنبه إلى تاريخ تسجيل المقطع المسمر بأرقام جعلتها ترتخي و تذوي .....
و تسقط أرضا تحت وطأة الصدمة و البشاعة التي إستحالتها بعنف عند رؤيتها لتاريخ اليوم المسجل على الفيديو و بالتحديد منذ ساعة واحدة فقط.
أي بعد إرساله هديته المزينة بقناع رسم لها جماله المزيف .... مزيف مثله هو !!
سحبت مريم شهيقا عميقا تسترد به أنفاسها المخطوفة و عادت تحمل هاتفها بيد مرتعشة و عينين جامدتين كي تعيد مشاهدة مسرحية حقارته و خداعه لكن للمفاجأة كان المرسل قد حذف الفيديو بعد رؤيته لعلامة مشاهدتها .... يا إلهي مالذي يحدث الآن !!
جاهدت مريم لكسر بكمها وهي تهمس بحروف متقطعة :
- انت ... ااا انت .. خ ... خنتني ... ل ... ليه ... ليه.
صرخت بغتة صرخة إهتزت لها جدران الشقة لكن لم تكن بسبب ألم الخيانة فقط هذه المرة ... بل بفعل بطنها التي إنقبضت بعنف و أصبح ألمها لا يحتمل !!
إنحنت مريم للأمام تصيح ببكاء وهي تشعر بإنسحاب روحها من جسدها ثم سقطت على الأرضية الباردة تكاد أنفاسها تنقطع ، وضعت يدها على بطنها هامسة بجنون باك :
- لأ يارب لأ ... يارب احفظلي ابني أنا مليش غيره ... عمار ... عمار ....
مدت يدها بضعف إلى هاتفها و دخلت لسجل الأرقام فقابلها إسمه و قررت الإتصال به ... حتى لو خانها لكن بالتأكيد سيحضر ليساعدها .... فهو أخبرها سابقا أن لا تتصل به إلا لأمر ضروري جدا و اذا اتصلت به في يوم من الأيام سيأتي إليها سريعا !!
إزدادت دموعها لكنها داست على رقمه و دعت مرارا أن يجيب عليها سريعا .... هذه أول مرة تتصل رجاء أجب ...
لكن الحياة لم تكن منصفة لهذه الدرجة .... فهاهو يرن بإستمرار حتى إنقطع الرنين .... و لم يفتح عمار الخط في أول طلب مكالمة لها معه !!
عضت على شفتيها بقوة حتى أدمتها و جربت التحرك ولكنها لم تقدر ، رفعت عينيها إلى باب الشقة المغلق و تمنت أن تصرخ فيصل صوتها إلى من في الخارج و يهرعوا لينقذوها.
أو ان يدخل عمار الآن و يخبرها أنه لن يحدث مكروه لطفلهما ، و لكن لم يحدث.
هاهو الباب مغلق ، ولا أحد يستطيع إنجادها.
دسَّت مريم رأسها في الأرض تنتحب بألم حتى تفاقم الدوار و الألم فإستسلمت لموجة الظلام التي غرقت بها ... !
_________________________
عاد بظهره إلى الخلف وهو ينفث دخان السيجارة من فمه إلا أن روائح النيكوتين المنبعثة من لفافة التبغ المحترقة لم تفلح هذه المرة في رسم الإنتشاء على محياه ، بل كانت منقبضة و أعصابه مشدودة تكاد تتمزق.
زفر عمار بعنف مدلكا بيده عنقه المتعرقة ثم تأفف في سخط عند تذكر ما حدث بينه و بين ندى و حينما سمع صوت رنين هاتفه يعلو كاد سينهض و يجيب لكنه توقف و بعد دقيقتين رن ثانية فقرر تجاهله ، فرغم أنه إرتدى ثيابه الرسمية للعمل إلا أنه طاقة له الآن لكي يتكلم مع أحد.
وبعد ربع ساعة أخرى نهض و تحرك نحو سريره بوجوم ، وجوم تحول إلى ذهول و صدمة عندما فتح هاتفه و رأى إسم مريم يرن يضيء أمام عينيه ، ذلك الإسم الذي لم يره على قائمة الإتصالات الواردة منذ زواجه منها !!
ام يهتم بإسم حارس العمارة أسفل خاصتها و ظل يحدق في رقمها وقد إحتل الفزع قلبه عند تذكره أنها وعدته أن لا تطلبه إلا إذا كان الأمر ضروريا جدا و هاهي إتصلت به بعد سنوات و لكنه لم يرد عليها بل تجاهلها مبررا أنه لا مزاج له في التحدث.
إزدرد عمار لعابه و نبض قلبه بقلق وهو يتصل بها لكنها لم ترد عليه .... إتصل ثانية و ثالثة و نفس النتيجة فتوترت أعصابه و بدأ بالتعرق هامسا :
- هي مش هتتصل لو مكنتش حاجة مهمة ... حتى لما وقعت من سنتين متصلتش ايه اللي حصل علشان تطلبني المرادي.
كاد يدخل إلى تطبيق المراقبة ليراها من الكاميرا إلا أنه تذكر أنها معطلة منذ فترة طويلة و أجل إصلاحها و فجأة إتصل الحارس به ليجيب فورا :
- خير ايه اللي بيحصل في الشقة !
جاءه صوته المرتجف المُحمل بالتوتر و الإضطراب :
- يا فندم ااا انا حاولت اتصلت بحضرتك اكتر من مرة بس حضرتك مردتش عليا وو ...
- انطق في ايه !
صرخ عمار بحدة عصبية فرد عليه الآخر :
- انا سمعت صوت صويت و عياط مريم هانم من الشقة بتاعت حضرتك حاولنا نكسر الباب عشان ندخل و نشوف في ايه بس مقدرناش و كمان النسخة الإحتياطية من المفاتيح مع حضرتك و مش عارفين ايه اللي بيحصل مع الهانم و طلبنا المساعدة بس ...
لم يستمع لبقية حديثه لأن عقله توقف عند قول أن مريم تصرخ و تبكي و لا أحد إستطاع مساعدتها ، ولقد إتصلت به لكنه لم يرد عليها !
شعر عمار بجفاف حلقه وقد تشوشت الرؤية أمامه ، غمره إحساس الفقدان الذي يرتعب منه و كاد قلبه يهوي أرضا عند تخيله لحالة مريم الآن دون أن يستطيع أحد فتح الباب و رؤية ما يحدث لها.
أغلق الخط سريعا و خطى خطواته الواسعة في الحال و نزل على الدرج ركضا غير آبه للقلق البادي على عمه و نساء عائلته عند رؤيته حالته المريبة.
نهضت سعاد و ذهبت إلى غرفة مكتب رأفت سريعا فوجدته جالسا على مقعده يطالع ما بيده في تركيز حاد لتقول :
- إلحق يا رأفت عمار لسه خارج من شويا و حالت مش طبيعي ده مبصليش وهو بيجري شوفه راح فين أنا خايفة يكون حصله حاجة.
لم يبدُ عليه التأثر بما قالته أبدا ، في الحقيقة هي لم تكن متأكدة في الأساس من أنه سمعها فها هو يتأمل أشياء على الأغلب أنها صور ما ، جعدت حاجبيها بإستهجان من تجاهله لها و يقترب لترى ما لديه فإنصدمت أنها صور لفتاة !
- ديه تبقى البنت اللي عمار مصاحبها رجالتي قدرت توصل لإسمها الكامل ..... مريم عبد الرحمن.
إعتدلت في وقفتها بتوجس ثم أخذت إحدى الصور فوجدتها شابة سمراء ذو شعر أسود مموج و طويل و إبتسامة فاتنة .... تعانق إحدى الفتيات مرتدية زي التخرج و صور أخرى لها وهي ترتدي أزياء غريبة ملونة و بنفس القدر ملفتة للنظر .... هذه المرأة لقد رأتها سابقا إنها متأكدة !!
تنحنحت سعاد بوطل متمتمة :
- انت جايب صورها ديه منين و بعدين انت قولتلي أن أكيد عمار مصاحب واحدة من الشارع و عامل معاها علاقة عابرة مقابل الفلوس بس البنت ديه طالبة في الكلية يعني هي متعلمة و كمان باين عليها محترمة ازاي واحدة زيها هتعمل علاقة غير قانونية مع شاب ؟
تأفف رأفت بغضب و حنق :
- معرفش أنا مقدرتش اوصل غير للمعلومة ديه عمار ذكي و عرف يخبي أي حاجة تخصها علشان كده معرفتش نوع علاقته بيها .... هو يا مصاحبها يا متجوزها بورقة عرفي بس في الحالتين احنا لازم نبعد البنت ديه عنه.
بينما كان يتحدث كانت هي تحدق في الصور بتركيز حتى إنتفضت وقد تذكرتها ....
إنها نفس الشابة التي ساعدتها في المول قبل أشهر قليلة و عاملتها بطيبة و إحترام و بعدما جاء عمار و رآها ظل واقفا يحدق بها و ظنت سعاد أنه أعجب بها ربما لذلك تجمد مكانه محدقا بها إلا أنه حين نظر للخاتم في يدها أشاح وجهه عنها ..... لحظة .... الخاتم !
فغرت سعاد فاها بجزع محدثة نفسها :
- الخاتم اللي كانت لابساه هو نفس الخاتم اللي شافته ندى يوم اللي عملت شوبينج مع عمار و عجبها و قالتلي بعدها أنه اتباع أنا متأكدة هي ورتني الصورة بتاعته .... معقول يكون عمار اللي اشتراه و اداه للبنت ديه ...
لألأ لو كان كده فعلا كان صاحب المحل قالنا بس البنت لابسة الخاتم في أيدها الشمال ليه ؟
وضعت سعاد يدها على رأسها تفكر بفزع ثم بللت شفتيها اللتان شحبتا بعد تفكيرها بإحتمال ما لو تحقق ستحدث كارثة كبرى !!
_________________________
بعد زيادة سرعته إلى حد مرتفع ، و إوشاكه على التعرض لحادث سير أكثر من مرة ، وصل إلى المنطقة التي تقبع فيها زوجته فتوقف فورا و ترجل من سيارته راكضا نحو باب العمارة بوجه شاحب و قلب وجل.
صعد عمار للطابق العلوي و عند وصوله لشقته وجد بعضا من الجيران متجمعين و هناك رجال من الصيانة يحاولون فتح الباب المقفل من الداخل ، تقدم وهو يدفعهم للخلف لإزاحتهم و يأمر بصوت صارخ بالمغادرة ثم أخرج المفتاح الإحتياطي و دلف إلى الداخل مناديا عليها :
- مــريــم ، مــريــم انتي فين ؟!!
قابله صراخه سكون مرير عصف بكيانه و جعله يعجز عن تمالك نفسه أكثر من ذلك ، لف بعينيه في الشقة و هو يسير و يناديها حتى تيبس جسده و تجمدت عضلات وجهه عندما رآها مرمية على الأرضية و الدماء أسفلها !!
لوهلة أحس عمار أن أسفله يهتز و الدنيا تسود من حوله لدرجة أنه كاد يسقط ولكنه تحامل على نفسه و ركض لها مرددا بهلع :
- مريم ... مريم ردي عليا.
أبعد شعرها المتعرق عن وجهها و هاله شحوبها الكثيف و الهالات السوداء حول عينيها و كان سيعتقد أنها ماتت لو لم ترتجف رموش مريم قليلا مطلقة تأوها خافت إلا أنه كان كافيا لوصوله إلى مسامع عمار ، مسح عليها بعشوائية هامسا :
- انا هنا يا حبيبتي متخفيش مفيش حاجة هتحصلك.
خلع سترته ووضعها عليها ثم حملها و أخرجها و لحسن الحظ أن حارسه المخلص كان قد لحق به عندما رآه يركض منذ نصف ساعة فأمره بالقيادة عنه و جلس هو في المقعد الخلفي بعدما عدل جسد مريم ثم وضع رأسها على ساقيه مزمجرا :
- يلا اتحرك بسرعة على أقرب مشفى !
حول ناظريه نحو وجه زوجته الباهت و قلبه الملتاع يكاد يصرخ ألما عليها فهمهم بشجن :
- أنا آسف ... مكنتش أعرف أن الوضع هيوصل لحد هنا و تتأذي كده سامحيني.
*****
مرت ساعة كامل وهي غائبة عن الوعي ، تذكر عند إحضارها إلى هنا و تصميمه على البقاء معها داخل الغرفة لولا الممرضة التي إضطر للخروج بعدما أخبرته أنه يعطلهم عن عملهم و هذا لا يصب في مصلحة المريضة.
كان عمار وقتها في أشد مستويات إنهياره فأخذ مهدئاته غير آبه إلى أنه أصبح يتجرع الأدوية بكثرة ، فعلى كل حال كان سيرتكب فعلا شنيعا و يفقد الوعي بعدها لو لم يلحق بنفسه و يأخذها.
و ها هو جالس على المقعد جانب سريرها بعدما طلب من وليد الذي حضر إليه أن يرحل لكي لا يلفت أنظار والده له ، و في الحقيقة أن عمار لم يرغب في أن يرى صديقه حالته المزرية و المثيرة للشفقة لذلك تحجج بأعذار واهية.
هاهو يمسك كفها بكلتا يديه و يسند جبينه عليهما محاول تمالك أعصابه قدر المستطاع و لكنه لم ينجح !
شعور كأن هناك صخرة ضخمة تجثم فوق صدره بات يمزق داخله و زادت حالته سوءا بعدما حدث لمريم !
بعد دقائق حركت يدها و بدأت تئن مستعدة للعودة إلى الواقع رغم عدم رغبتها في ذلك ، فتحت عينيها بصعوبة و كأن هناك طاقة سوداء فوق رأسها أثقلت جفنيها و جعلت طنينا مزعجا يحتل أذنيها ، تدحرجت مقلتيها في المكان ذو الرؤية الضبابية حولها تحاول إستيعاب ما يحدث و أين هي.
إنتبه عمار لها فإنتفض يقف متلمسا وجهها و اليد الأخرى متمسكة بخاصتها :
- مريم انتي صحيتي !
طالعته بنظرة فارغة غير مدركة لما حدث معها ثم همست محاولة التغلب على الجفاف المؤلم بحلقها :
- في ... ايه ... انا ... انا فين ...
توقفت عن الهمس المتقطع عند غزو ذكرياتها المرعبة لذاكرتها و إستعادة المشهد الذي عاشته قبل وقوعها.
وصول فيديو يؤكد خيانة عمار لها ، ثم إزدياد الشعور بتمزق أحشائها و إتصالها به و تجاهله لمكالمتها ، ثم فقدانها الوعي و الآن أفاقت في غرفة ذات ستائر بيضاء ، هي في المشفى إذا.
تجمد وجه مريم وهي تحرك يدها على بطنها و أحست بأن ذلك الإنتفاخ البسيط إختفى ولم يعد له أثر ، إرتجفت شفتها السفلى بدموع كبحتها ثم طالعت عمار تسأله بعينيها فقط دون التكلم.
أغمض جفنيه مدركا لما تحاول سؤاله حوله ثم تنهد متمتما :
- أنا لقيتك واقعة و في حالة صعبة ... الدكتور قال ان جسمك كان ضعيف جدا و ضغطك إرتفع جامد ... و الجنين مقدرش يستحمل.
سمع شهقة حارقة تصدر منها و أصابعها الضعيفة تضغط على فراش السرير ، تأهب عمار بحزم بعدما ظن أنها ستدخل في إنهيار و تصرخ و تبكي إلا أنها لفت وجهها للناحية المعاكسة الأخرى تطالع الفراغ كابحة دموعها بتجلد.
إستغرب الأخير ردة فعلها فهمس :
- انا مش عارف أقولك ايه يا مريم علشان أواسيكي بس اللي اعرفه أن مفيش حاجة هتنسيكي الوجع ده مهما قولت ... ربنا يعوضنا بغيره.
نفس الجمود ... و نفس النظرة الخاوية ... و نفس الدموع المحتجزة ... كل هذا البرود في مريم الآن قابله غضب و رعونة من عمار و ذهول بقدره فهي لا تتكلم ولا تصرخ ولا حتى تبكي مالذي يحدث معها و منذ متى و مريم إمرأة قوية إلى هذه الدرجة !!!
مد يده يلامس خصلاتها و تفاجأ عندما إبتعدت برأسها مانعة إياه من قربه عليها فزفر عمار بعنف ثم إنتصب واقفا يردد بجدية :
- انا رايح اطلب من الدكتور يبعت معانا ممرضة على الشقة بتاعتنا لأن مينفعش تفضلي هنا و كمان علشان يطمني على حالتك أكتر.
تحرك خطوتين ثم إستدار يتأملها قبل أن يتابع طريقه ...
بعد دقائق دخلت ممرضة تشرف عليها و رددت بعطف وهي تقوم بعملها :
- ربنا يصبرك و يعوضك يا مدام.
اومأت دون إجابة بينما تابعت الممرضة :
- وضعك كويس دلوقتي الحمد لله الصراحة حضرتك كنتي في حالة صعبة لما جيتي و جوزك كان كل دقيقة بيسأل عليكي واضح أنه بيحبك اوي.
رسمت مريم إبتسامة متهكمة على وجهها إختفت سرعان ما سمعت باقي الحديث :
- خسارتك صعبة بس الحمد لله اننا مخسرناش حضرتك كمان مع البيبي لأن السم كان منتشر بنسبة كبيرة في دمك.
عقدت مريم حاجبيها وهي تتكلم أخيرا :
- سم ايه ؟
نظرت لها الممرضة و تابعت ثرثرتها :
- والله معرفش ايه نوعية الناس اللي بتقدر تأذي ديه ... ربنا ينتقم من اللي كان السبب.
جزت الأخرى على أسنانها وقد بدأت تحدق بها و كأنها شخص ذو رأسين حتى إستطاعت لملمة شتات نفسها و سألتها مجددا بحدة :
- انا مش فاهمة إنتي بتقصدي ايه و أنا حصل معايا إيه بالضبط ؟
- يا مدام حضرتك اتعرضتي لإجهاض مقصود احنا عملنا تحاليل و لقينا مواد مسممة كبيرة في دمك و ممكن المادة اللي خدتيها كانت من آخر حاجة حضرتك واكلاها لأن مفعولها سريع و قوي.
سكتت تطالع ملامح مريم المنصدمة و التي كانت تتردد عدة جمل في ذهنها "لقينا مواد مسممة كبيرة في دمك ... اخر حاجة حضرتك واكلاها... جوزك رفض يعمل محضر "
ثم تابعت الممرضة وهي تقوم بعملها :
- بس لما الدكتور قال للسيد عمار على اللي حصل جوز حضرتك كان متفهم و قابل كلامه بهدوء يتحسد عليه بس يمكن كان لازم عليه يتمالك نفسه علشان يقدر يساندك و متتجرحيش أكتر.
****
بعد خروجه من غرفة الطبيب منذ دقائق إتصل به صديقه وليد مستفسرا عن الوضع و طمأنه الأخير أن مريم بخير لكنهما خسرا الجنين ، و ها هو يهرع الآن للغرفة التي تقبع فيها مريم لكي يخبرها بما كان ينوي فعله.
فتح الباب يدخل ولم يلبث أن وقف يطالع السرير الفارغ بذهول محدقا في فراغها ، منذ دقائق فقط كانت هنا إلى أين ذهبت الآن ؟
حمحم عمار و طرق باب الحمام المتصل بداخل هذه الغرفة لكنه لم يسمع ردا ففتحه و وجد المكان فارغ.
جن جنونه و كاد يخرج ليبحث عنها و لكنه و فجأة وقف جامدا عند وقوع عينيه على خاتم الزواج وقد تركته مريم على المنضدة الصغيرة بجانب السرير ... و غادرت !!
الفصل العشرون : غربة قلب.
___________________
" تعلم ألا تلوم أحدا على اختياره ما لم تضعك الظروف مكانه ، لو دخلت لقلب من تستنكر صنعه لأشفقت عليه.
فلا يدري بقلوب العباد إلا رب العباد ! "
أدار المفتاح في مزلاج الباب و فتحه ليلج للداخل بخطوات هامدة و أعين جامدة ، منذ قليل فقط كان يقود سيارته بسرعة إلى هنا على أمل إيجادها و لكن عندما إتصل في منتصف الطريق بالحارس و الذي أخبره أن السيدة لم تأتي إعتصر قبضته و غلت الدماء في عروقه.
ألقى نظرة مطولة على الأرضية الملطخة بقطرات الدماء دون أن يرف له جفن و إستحضر في ذاكرته مشهد مريم صباح اليوم وهي فاقدة الوعي.
ثم إشتدت عضلات وجهه متذكرا عندما غادر غرفتها في المستشفى كي ينهي إجراءات الخروج ولكنه تفاجأ بإختفائها عند عودته و رؤية سريرها فارغ و قد تركت خاتم الزواج !
حينها جن جنونه و صرخ على الأطباء و الممرضات و هددهم بمقاضاة مشفاهم إذا لم يجدوا المريضة المختفية حتى أنه لم يصدق أنها تركته بملء إرادتها إلا عندما رآها بواسطة كاميرات المراقبة وهي تسير حافية في الرواق تضع يدها على بطنها بينما اليد الأخرى تستند بها على الجدران و ملامحها كلها تدل على التعب و الإرهاق ... اللعنة إلى أين ذهبت مريم وهي بهذه الحال ... و لماذا ؟!
لمح هاتفها الملقى أسفل الأريكة فإنحنى ليأخذه متأملا أن يكون فيه شيء يدله على مكانها ، دقق عمار في سجل المكالمات و رسائل الهاتف و حتى رسائلها على جميع حساباتها في مواقع التواصل المختلفة لكنه لم يجد شيئا ...
هي لم تتكلم مع أحد إلا صديقتها هالة و عمها و زوجته هؤلاء الثلاثة فقط من تتواصل مريم معهم و بالفعل منذ إختفائها وهو يتتبعهم و أوكل رجاله بحراستهم فربما أحد منهم يخفيها عنه بطلب من تلك المجنونة.
تحرك و سار بإتجاه غرفة نومهما ثم جلس على الفراش ضاغطا بيديه على أطرافه و عدة أفكار تغزو عقله الآن.
قبض عمار على فكه بتزمت متذكرا نفسه وهو يجوب الشوارع بحثا عنها حتى وجد نفسه يقطع طريق رفيقتها البغيضة و يستجوبها بحدة عن مكان مريم ... و لكن هالة تفاجأت عندما علمت بإختفائها بل و انصدمت صارخة عليه بأنه السبب فيما حدث.
رفع عمار يده يدلك عنقه المتشنجة مناشدا إستقراره العقلي و بدأ يفكر مليا ... مريم غادرت فجأة و كانت في حالة مزرية لا تسمح لها بالتحرك كثيرا إلا أنها إختفت ولم يستطع رجال كثيرون إيجاد أثر لها ...
هل من الممكن أن تكون مريم تواصلت مع أحد لا يعرفه قبل وقوع الحادث و خططت معه لعملية الهروب هذه ثم حذفت رقمه ؟
هناك إحتمال كبير لحدوث هذا و لكن سحقا كان عمار سيعلم كل شيء لو تنصت على مكالمات آخر شهر لزوجته إلا أن التعطل المفاجئ لتطبيق المراقبة من على هاتفها حال دون ذلك.
ولم يجد وقتا لتصليح نظام كاميرات المراقبة و كأن الكون كله تعاون ليمنعه من معرفة شيء عنها فهاهو يجلس مثل الأحمق جاهلا مكان زوجته واللعنة ألف مرة على ذلك.
هذا كله حدث بسببه ، لقد أهمل مراقبة تحركاتها في آخر فترة و السبب كان إنشغاله بالجانب العاطفي الذي يخص حياته الزوجية ، في السابق كان يرصد كل خطوة تخطوها مريم يتابع ما تفعله في الشقة حتى هاتفها وضع به تطبيقا يجعل كل ما تفعله عليه ينعكس على شاشة هاتفه كنسخة ثانية له و يرى من خلاله سجل مكالماتها و محادثاتها على مواقع التواصل و معرض الصور وكل تفصيلة صغيرة عنها.
لو أن عمار ظل كما كان في أول زواجهما يترقب كل نفس يصدر منها لم يكن ليحدث هذا و تختفي فجأة دون أن يعرف أين هي ...
مؤكد أنها ستعود ... مريم غادرت بسبب قهرها و ستعود إلى هنا عندما تهدأ .... ساعتها لن يتوانى عن تلقينها درسا لن تنساه و حبسها داخل الشقة .... سيضيق عليها أنفاسها لكي لا تفعل ذلك مجددا !!
رن هاتفه بغتة ففتح الخط سريعا :
- ايه الأخبار انتو لقيتوها ؟
سمع صوت الطرف الآخر يجيبه بإضطراب و شيء من الإحباط :
- لأ يا باشا احنا دورنا في كل الشوارع و المستشفيات حتى أقسام الشرطة بس ملقيناش زوجة حضرتك مش فاهمين المدام ممكن تكون راحت على فين حتى بيت صاحبتها المقربة و بيت عمها محدش راحله النهارده .... أنا آسف.
لم يعلق عمار عليه بل إكتفى بإبعاد الهاتف عن أذنه و الضغط على أطرافه بعنف ، عضلات وجهه تشجنت و حدقتاه أظلمتا وهو يتذكر نفس الكلمات منذ ما يقارب ال 20 عاما ....
"- يعني ايه ضيعتوها ومش لاقيينها هتكون راحت فين يعني أنا وكلتك تكون السواق بتاع الهانم انت سبتها فين و جاي هنا لوحدك ؟
- يا رأفت بيه صدقني حضرتك انا كنت قاعد برا الكافيه اللي متعودة فيروز هانم تقعد فيه و استنيتها 3 ساعات على ما تخلص و أرجعها ولما حضرتك اتصلت بيا و قولتلي أجيبها دورت عليها و ملقتهاش.
- هيفيدني ب ايه كلامك ده مراتي مختفية بقينا بليل و لسه مرجعتش والله اعلم هي فين ولا حالتها عاملة ايه اسمعني كويس لو فيروز هانم مرجعتش سليمة هندمك مفهوم ! "
عاد عمار للواقع بعدما زاد طنين أذنه و جعله عاجزا عن التركيز و ذاكرته سافرت إلى يوم يحمل نفس ما يحمله هذا اليوم من أحداث.
والده رأفت فقد زوجته فجأة و ظل طوال النهار يبحث عنها حتى عادت في منتصف الليل و بررت إختفاءها بحجج واهية أقنعته ... لكن تلك لم تكن آخر مرة بل بداية لخيانتها و إستغلال طفلها لتغطية غيابها عن القصر.
عمار الآن يعيش ما عاشه أبوه إذا هل من الممكن أن تكون مريم إلتجأت إلى شخص يحميها من زوجها ... شخص .... رجل .... عشيقها مثلا ؟
إنتفض برهبة ثم ثقلت أنفاسه مرددا بهمس هستيري :
- لأ مريم خسرت إبنها علشان كده انهارت و خرجت ....طب ما انا خسرت إبني كمان هو كان حته مني و مكنش قصدي اتجاهل مكالمتها يبقى مشيت ليه !!
مسح على وجهه زافرا بقوة و فجأة توقف عن الحركة عند سماعه ضجة خافتة تصدر من مكان ما في المنزل فإنتصب واقفا و خرج بخطوات متسارعة ليرى من جاء .... بالتأكيد هذه مريم لا يوجد غيرها.
لكن سرعان ما إضمحلت لهفته ، و حلت محلها صدمة تسمرت بها أقدامه ، لأن الذي أمامه لم يكن مريم ، بل والده رأفت و السيدة سعاد !!
كأن الزمن توقف في هذه اللحظة تماما ، هاهو عمار يقف الآن في منتصف الصالة يطالع أباه بذهول و عدم إستيعاب ، نضا اللون من وجهه و عجز عن النطق ، و راح يتأملهما محاولا جمع الخيوط كي يستعيد وعيه.
حينها أدرك أن البيت السري كُشف أمام رأفت البحيري و ربما كشف أمر زواجه أيضا ، و شيئا فشيئا تذكر أنه غفل عن الهروب من الحرس صباحا عندما كان يقود بسرعة جنونية ليصل إلى مريم و لم يهتم بهم في تلك اللحظة.
تبا ، بالتأكيد عُرف مكانه فقط لأنه غفل مرة واحدة ، و عند إدراك هذا ، تجمد وجه عمار و توقف عن التحديق بإنفعال ، إلا أن إجفاله كان واضحا للعيان ، خاصة للسيد رأفت !!
قطع الصمت صوت خطوات الأخير وهو يقترب منه حتى توقف أمامه ، متحدثا بتهكم ساخرا :
- أخيرا انا عرفت السر اللي مخبيه ، أنت مصدوم مش كده ؟
- رأفت ...
هتفت سعاد محاولة تهدئة الوضع لكنه رفع يده مشيرا لها بالتوقف عن محاولة فعل هذا فتنهدت بتزمت و صمتت متذكرة ما حدث صباحا.
كانت مع زوجها عندما إتصل به أحد من رجاله و أخبره أنه أخيرا إستطاع تتبع حركات السيد عمار و الوصول إلى المكان الذي يزوره بين الحين و الآخر .
فأشرق وجه رأفت بهذا الخبر رغم تعجبه من فشل عمار في الإختباء هذه المرة ، وعلم بوقوع حادثة مع المرأة التي تقطن الشقة و عمار ركض ليسعفها.
حينها أصرت سعاد على الذهاب معه و بالفعل وصلا منذ ساعة ، و نجح رأفت في الحصول على المفتاح الذي تركه ولده معلقا في الباب و أخذه الحارس.
ثم دلفا إلى الشقة التي صممت بإحترافية و جُهِزت بأغلى الأثاث و بالفعل لم ينقصها شيء ، و تفاجأ الإثنان عند دخولهما للغرفة الرئيسية الفاخرة و رؤيتهما لما يدل على أن المرأة التي على علاقة بعمار ليست عادية.
فإكسسواراتها و ملابسها و طريقة تزيينها للغرفة تظهر كم هي مختلفة ، إنما إمرأة فريدة من نوعها و علاقة عمار بها ليست مجرد علاقة عابرة ، بل هي أشبه بشيء لن تتمنى سعاد حدوثه أبدا !!
إسترعى إنتباهها صوت زوجها قائلا :
- رجالتي قدرت تلحقك و تعرف مكانك و سمعت أن الست اللي عايشة في الشقة هنا حصل معاها حادث و أنت أسعفتها.
سكت لبضع ثوان ثم أكمل بحدة تنافي إبتسامته المرسومة على وجهه :
- و لما جيت و شوفت المكان استغربت الصراحة و اتفاجأت فنفس الوقت من جمال الشقة .... انا معتقدش ان عشيقتك اللي بتقضي معاها لياليك زيها زي اي بنت ليل بتستاهل المصاريف ديه كلها .... مريم عبد الرحمن مش كده.
قبض على يده بشدة و أظلمت عيناه بقتامة عند سماعه يهين زوجته هكذا ، عمار يعلم جيدا أنه مادام رأفت وصل إلى إسمها فبالتأكيد وجد ما يثبت أن علاقتهما ليست مجرد رجل و عشيقته ، إنه متأكد من أن والده يحاول إستدراجه في الكلام لمعرفة نوع العلاقة بينهما و ربما هو يشك في زواجهما أيضا !
حاول الهدوء و السيطرة على نفسه و سرعان ما فشل عندما رأى شيئا يلمع بين يدي الآخر .... إنه خلخال من خلاخيل مريم ماذا يفعل بحوزته و اللعنة !
أدرك هو ماهية نظراته فرفع حاجبه مستفزا إياه :
- أعتقد ده بيخص حبيبتك صح .... انت بقى بتحب النوع الرخيص ده من الستات القروية.
- رأفت بيه !
هدر عمار في حدة محاولا قدر الإمكان التحكم في لسانه و عدم النطق بأشياء غير لائقة ، ثم تابع محذرا إياه :
- متغلطش فيها و اطلعو انتو الاتنين برا بما انكم خلاص عرفتو اللي انا مخبيه عنكو.
إختفى البرود المزيف من رأفت فصرخ بعصبية :
- لا أنا مش هطلع و انت هترد عليا دلوقتي و تقولي ايه علاقتك بالست ديه و ايه الدم اللي ع الأرض ده فاهم انت هتشرحلي اللي اسمها مريم ديه بتبقى حبيبتك ولا .....
سكت راميا عليه الصور الذي وصل إليها فإلتقطها عمار يتأملها متسائلا لكيفية وصوله إلى صورها أيام دراستها في الجامعة لكنه ضحك بإستمتاع مريض و راوغ :
- بما انك عرفت اسمها ووصلت للملف بتاعها في الجامعة و قدرت تجيب صورها ف أكيد هتوصل للحقيقة في وقت قريب حضرتك مستعجل ليه ؟ ديه حتى مراتك بتعرف مريم.
- انت بتقول ايه سعاد هتعرفها منين يعني ؟
إبتسم مراوغا و حول عينيه إلى زوجة أبيه يردف بعبث :
- فاكرة البنت اللي ساعدتك يوم اتأذت رجلك في المول ؟ البنت اللي قولتي عليها طيبة و مرضيتش تسيبك غير لما تطمن عليكي إنتي في اليوم ده استغربتي انا فضلت متنح فيها ليه لما شوفتها واقفة معاكي و افتكرتيني معجب بيها بس الحقيقة أنها كانت حد قريب مني جدا.
هتف الآخر بغضب مستحقرا :
- يبقى أكيد واحدة من الشارع عجبتك و قعدت سنين تصرف عليها وهي باعت نفسها ليك لما لقتك معاك فلوس ... لأن مفيش ست محترمة تقبل تعيش مع راجل في السر كده إلا لو كانت * *
شهقت سعاد بصدمة من حديثه أما عمار فخطف الخلخال من يده مزمجرا بشراسة :
- رأفت بيه إلزم حدودك و متتكلمش عليها كده .... مريم مش عشيقتي و باعت نفسها ليا لا هي مراتي و انا متجوزها من وقت طويل.
- اسمها مش هيتغير حتى لو انت متجوزها بورقتين عرفي.
إنفلتت من فمه ضحكة خالية من المرح عند تأكده أن رأفت يستدرجه لقول المزيد ، فقرر إراحته و تلبية رغبته لذلك إقترب بوجهه منه هاتفا بلهجة قوية :
- لأ أنا متجوزها على سنة الله و رسوله زواج كامل شرعا و قانونا.
شهقت سعاد بصدمة بينما أغمض الآخر عيناه يلعن بداخله بعدما تأكد من من ظنونه ، أما عمار فتابع بلهجة واثقة تخلو من التردد :
- أنا شوفت مريم فحفلة التخرج بتاعها و لفتت نظري ، طالبة متفوقة أبوها كان صحفي و والدتها من الغجر أنا أعجبت بيها و اتجوزتها فتحتلها بيت و عشت معاها و جبتلها كل اللي بتتمناه و تعرف ايه كمان انا رفضت السفرية اللي كانت من شهرين عشان اقعد معاها حتى لما كنت بسافر كنت باخدها معايا أحيانا.
انت فاكر خاتم الأوبال اللي سألتني اديته لمين لما اشتريته ؟ أنا بقى اديته لمريم مراتي أخيرا عرفت الجواب اهه.
إختفت النبرة الساخرة من عمار لتمتلئ بالألم مشيرا إلى نقطة معينة على الأرض :
- انت عارف دم مين اللي ع الارض ده ؟ ده دم إبني.
إهتزت عينا رأفت لثوان قبل أن يستعيد جموده سريعا ، أما سعاد فهتفت بذهول وهي تقترب منه :
- عمار انت بتقول ايه ؟
تهكم الأخير مرددا :
- مريم كانت حامل بس سقطت النهارده الصبح و أنا ملحقتهاش ... جيت ولقيتها مغمى عليها وديتها المشفى بس وصلت متأخر جدا يعني انا مقدرتش انقذ ابني ..... و هي مختفية حاليا ومش عارف راحت فين.
ساد الصمت بينهم ولم ينطق أحد منهم و كأن على رؤسهم الطير ، شحنات سلبية إنتشرت في المكان و إزداد التوتر لدرجة دفعت عمار للضغط على مفتاح الشقة بعنف حتى تشكلت نقاط دم داخل يده.
لكن هذا لم يمنع سعاد من السؤال بحذر :
- مراتك مختفية ازاي يعني مش قولت انك انت اللي وديتها المشفى.
- هي خرجت من غير ما أشوفها و مش قادر ألاقيها لحد دلوقتي.
القهر الظاهر عليه لم يمنع والده من غض النظر عنه و الإهتمام بكبريائه و مركزه الإجتماعي فهدر متعمدا إستعمال أقسى الألفاظ للتعبير عن غضبه :
- كويس أنها هربت و إلا كنت انا بنفسي اللي همحيها من على وش الدنيا الظاهر الست اللي عاملها هانم ديه طلعت أذكى منك و عرفت أن ملهاش مستقبل مع عيلة البحيري فقررت تهرب قبل ما تلحق إبنها.
حذرته سعاد بعينيها للتوقف عن قول هذا إلا أنه أردف بقسوة نتجت عن جرح كبريائه لأنه آخر من علم بزواج ولده الوحيد :
- اللي مستغربه أنك ازاي طلعت غبي كده و روحت اتجوزت بنت همجية من الغجر أنا مقدر أنها جميلة و عجبتك بس انت كنت قادر تخدعها بورقة عرفي و لما تزهق منها ترميها ليه تروح تتجوزها ؟!
عموما اللي حصل أحسن كويس أنها سقطت و مشيت لأن سواء كان البيبي اللي انت زعلان عليه عاش أو مات مستحيل كنت هدخلها بيتي لأني مبقبلش على إبني الوحيد غير أنه يتجوز بنت من الطبقة بتاعته و مناسبة لشكله قدام الناس خلاص متقلقش يومين و تنساها و أنا هجوزك اللي تليق بيك.
لم يندهش عمار من حديثه ، ولم يظهر أي إستغراب و إستنكار مما يسمعه ، على العكس تماما كانت ملامحه هادئة ، منطفئة بشكل ما وهو يعلق عليه ساخرا :
- هنسى مراتي و ابني و ابدأ حياتي من اول وجديد زي ما انت عملت صح ... حضرتك نسيت الست اللي كنت بتقول أنك بتعشقها و اتجوزت بنت خالتك بعد شهرين من وفاة أمي و رميت إبنك ليها علشان تربيه بدالك بعدين بعته لمدرسة داخلية و أنكرت وجوده.
أنت أكتر واحد عندك موهبة في النسيان و عايز تطبق ده عليا مش كده.
شعرت سعاد التي تستمع بالحزن و أدركت أنه للآن لا يزال عمار ينظر لها على أنها المرأة التي سرقت والده منه ، لم تحبذ السماع أكثر فتنحنحت مردفة في جدية :
- أنا في العربية تحت لحد لما تخلصو كلام.
بعد مغادرتها إلتفت رأفت إلى ولده مهمهما بنبرة غامضة تحمل خلفها الكثير :
- كل المشاكل اللي بينا بتلف و بتدور و بترجع لمكان واحد ... " فيروز" .... صح ؟
عدت سنين طويلة على وفاتها بس الغضب اللي فعينيك لسه مطفيش ، كنت بقول أنك متعصب مني علشان عاملتك بقسوة و بعدتك عني و ده صحيح بس في حاجة غير ديه .... حاجة أنا معرفهاش.
إختنقت أنفاس عمار و أحس برغبته في شرب المهدئات تزداد بإستماتة و لكنه لم يظهر ذلك بل ظل على حاله وجهه لا يفسر ما يفكر به ، ليستطرد أباه وقد غامت عيناه بشيء من الحسرة :
- أنا حبيت فيروز مامتك اوي ... حبيتها لدرجة محدش يقدر يتوقعها كنت مستعد أجيبلها كل اللي بتحلم بيه و كل اللي بتتمناه بس ... مقدرتش أخليها تبادلني نفس الشعور.
- تعرف إيه اللي بشوفه لما أبصلك يا عمار ؟ بشوف صورة أمك انت نسخة منها عندكم نفس العيون و الشعر و رسمة المناخير و الشفايف و البرود و الغضب و القوة و للأسف أنت ورثت منها صفات سيئة كمان و هي عدم الإلتزام باللي ينفع يحصل و اللي مينفعش و التمرد على الحياة و أنك مبتعرفش فين مصلحتك و الدليل أنك اتجوزت و خليت مراتك حامل بس البيبي اتوفى و حاليا هي ضايعة.
لوى عمار شفته مطلقا ضحكة لم تصل لعينيه :
- و أنت بقى اللي هتصلح أغلاطي صح ؟ يبقى حط في بالك يا رأفت بيه أن اول ما الاقي مريم هعلن جوازي منها غصب عنك و عن الكل.
- و أنا قولت لأ ده مش هيحصل انت هتنساها و تكمل حياتك.
عض على شفته من الداخل ثم إندفع يصرخ بشراسة إنفجرت يعد كبت طويل :
- عمال تقولي انسى انسى ... انت متعود تنسى متعود ترمي أي حد وراك من غير ما تهتم طالما عندك بديل أنت زمان اتجوزت و رميتني و دلوقتي عايز مني انسى اني خسرت ابني كأن مكنش ليه وجود و انسى الست اللي خسرت ابنها و أغمى عليها وهي لوحدها في الشقة و انا مش عارف راحت فين !
توقف لثوان يسترجع أنفاسه المسلوبة ثم أكمل :
- عايزني ابقى زيك معدوم الضمير و الرحمة و تتحكم في حياتي بس لأ مستحيل ده يحصل عارف ليه لأن الإنسانة اللي انت بتقول عليها مش معروف أصلها ديه هي الوحيدة اللي قدرت أقضي معاها وقتي بعيد عن النفاق بتاعك و الوحيدة اللي بنام معاها تحت سقف واحد من غير ما احس بالقرف لأني أنا ووياها بنتنفس من نفس الهوا ...
مريم الوحيدة اللي مكنتش بتفكر فيا كوريث و ووسيلة تفتخر بيها قدام المجتمع أنا لقيت معاها الأمان و الراحة اللي ملقتهمش في بيتك يا أستاذ رأفت و تعرف ايه كمان مريم عيشتني اللي مقدرتش أعيشه معاكم لما عرفت أنها حامل و اتعصبت عليها هي اتحولت و هددتني اول ما افتكرت اني ممكن اؤذي البيبي ..
اتخيل أنها كانت معلقة بروح لسه مشافتهاش و دافعت عنها و في المقابل أنت كنت جبان و اتخليت عني بسهولة أنت مجرد راجل مراته و ابنه محبوهش ولا اتقبلوه كزوج و أب بالعكس كل مرة كانو بيتمنو يطلع من حياتهم و انا دلوقتي بقولك اهو يا رأفت بيه أنا بكره نفسي لأني شايل دمك في عروقي و عمري ما هعتبرك أبويا ا.....
قطع حديثه صوت صفعة قوية وقعت على وجهه من يد والده ، صفعة إمتدت بقوة كل الغضب و الصدمة و القهر و الإنكسار الذي شعر بهم رأفت في هذه اللحظة ، فأجفل عمار غير مستوعب لما حدث ..
عيناه أصبحتا أكثر قتامة ، و لونهما يشبه الغيوم الملبدة في السماء ، لم يتحرك أو ينبس ببنت شفة ، فقط ذاكرته أعادته إلى سنين مضت ، بات يشعر و كأن الزمن يعيد نفسه و يكرر ما تعرض له من إهانة أمام أساتذته في المدرسة الداخلية و المدير عندما تشبث بساق والده يترجاه لأخذه معه أما الأخير فدفعه عنه و ضربه على وجهه دون رحمة.
تقطعت نياط قلبه في ذلك اليوم و خاب أمله في كل مُحب ، خسر والده لقب " أبي " الذي كان يردده على مسامعه كل مرة وهو يطلب حبه.
و اليوم ، حطم آخر ما تبقى له من إحترام في داخله ، كسر كبرياءه و إستخف من ألم فقدانه لإبنه و إختفاء زوجته ، و ذكره بأنه ليس سوى رجل عديم الرحمة الذي لم يحب إبنه يوما و تخلى عنه بعد وفاة زوجته ، زوجته التي كانت تخونه و تدوس على شرفه دون ذرة ضمير تؤنبها على ما تفعله.
إرتخت تقاسيم وجهه رغم زيادة رجفة جسده ، فإبتسم مغمغما بقتامة :
- رأفت بيه أنا عايز اقعد لوحدي ... امشي لو سمحت.
فتح رأفت فمه ليتحدث لكنه توقف و إختار الصمت ، هو لم يرد على الإطلاق أن يصفع عمار ، لم يرد أن يتسبب في إتساع الفجوة بينهما ، ولكن الآخر لم يتوانى عن إهانته و نعته بالجبن و عدم تحمل المسؤولية.
آلمه سماع عمار وهو يبصق كلماته بكره أهوج لذلك و بدون شعور منه رفع يده عليه بغية إيقافه ... لكنه لم يقصد صفعه !!
تنهد بيأس و إستسلم لرغبة ولده ليغادر بهدوء ، بينما بقي عمار واقفا بمفرده في منتصف الشقة و إحساس الدونية يتملك منه.
طرق الباب فجأة و كان الحارس الذي وقف أمامه متمتما في خوف :
- سامحني يا باشا عشان مقولتلكش أن في ناس دخلت لشقة حضرتك ااا انا كنت هتصل بيك بس هما منعوني و هددوني وأنا مقدرتش أعمل حاجة خصوصا لما قالولي أن الباشا بتاعهم بيبقى والد حضرتك سامحني يا عمار بيه.
هز رأسه بآلية و أغلق الباب ، ثم أخذ هاتفه و إتصل برجاله و الرد كان نفسه " لم نجد السيدة مريم في أي مكان " ، أغلق الخط يجز على أسنانه و عيناه قد أظلمتا بسواد مخيف حتى أمسك تحفة زجاجية و رماها على الأرض بقسوة !
إستند عمار على باب شقته و صدره يرتفع و ينخفض بشدة يجاهد ليتنفس ، مرر يده يمسح شعره منتقلا إلى وجهه و عنقه ولم ينتبه إلى جسده الذي بدأ ينزلق رويدا رويدا حتى لامس الأرضية الباردة.
أكثر من شعور يغلف قلبه الآن الغضب و الحقد و اللهفة و التوتر لكن الإحساس بالشك هو ما طغى عليه ، و الفزع من الخيانة أكثر شيء يمزقه حاليا.
يستحيل أن تختفي مريم ولا يستطيع أحد إيجادها هكذا ، ستعجز عن القيام بهذا بمفردها لكن هي لم تعرف أحدا في هذه المدينة سواه هو وصديقتها ، المدعوة هالة ليست برفقتها و عائلة عمها في القرية لم يأتيها أحد حسب المعلومات التي وردته.
إذا مريم تعرف شخصا يجهله وهو من يساعدها في الإختباء هكذا شخص ربما يكون رفيقها أو ... أو حبيبها.
إنتفض عمار بعدما شعر بالإختناق و جن جنونه عندما فكر حول إحتمالية أن مريم قد تكون مخططة للهروب منذ وقت طويل و إستغلت إجهاضها أو هي من تسببت في قتل طفلهما لكي تخرج من المنزل و لهذا هي لم تبكي في المستشفى عندما علمت بشأن الإجهاض !!
تكاثفت قطرات العرق على وجهه و عنقه و بدأ الدوار يداهمه مجددا فأخرج علبة دوائه و إبتلع قرصا منها ثم رماها بعيدا ، و جملة واحدة يهمس بها بتكرار :
- هلاقيكي ... و هحاسبك على اللي عملتيه ... ولو طلع اللي بفكر فيه صح ... هقتلك يا مريم.
_________________
أطلت سعاد من شرفة الجناح الخاص بها ثم إلتفتت إلى زوجها تهتف بسأم :
- الوقت اتأخر و عمار لسه مجاش.
رد عليها رأفت بهدوء :
- أكيد هو لسه بيدور على ست الحسن اللي اختفت.
جلست الأخيرة بجانبه و تمتمت بترقب :
- هنعمل ايه بعد اللي عرفناه ده ؟ احنا كنا فاكرين أن عمار عنده حبيبته بس هو طلع متجوز البنت من اكتر من سنتين و فاتحلها بيت و كان بيروحلها في الأيام اللي بيبقى غايب فيها ازاي مكناش واخدين بالنا من اللي بيحصل ده ؟
زفر بخنق متمتما :
- أنا لحد النهارده الصبح فكرت اني بدور على حبيبته او واحدة متجوزها عرفي عشان يتسلى معاها ... محطتش إحتمال ولو صغير أنه يكون كتب كتابه عليها في السر و إلا كنت وصلتلها من زمان ده حتى رجالتي لسه متصلين بيا من ساعتين قالولي عمار باشا طلع متجوز البنت بس بعد ما أنا كنت عرفت.
هزت رأسها مستطردة بحذر :
- البنت حملت منه و سقطت و حاليا هي مختفية و معرفش يلاقيها أنت متخيل ايه اللي ممكن يحصل لو القصة ديه اتكشفت و الناس عرفو بيها ؟
تأفف رأفت بضيق وقد أوشك رأسه على الإنفجار :
- ايوة عارف ممكن ندخل في فضيحة منقدرش نطلع منها بس ده كله بسبب إبني اللي بيعمل أي حاجة علشان يتمرد عليا و ياريته عرف يختار هه ساب بنات الطبقة بتاعته و إختار واحدة قروية من الغجر مش فاهم ايه اللي كان بيفكر فيه لما اتجوزها.
ربتت سعاد على كتفه ثم قالت بعدما حمحمت بتردد :
- أنا شايفة الحل أن نعلن جوازهم لما يلاقيها و يجيبها للقصر هنا على الأقل عمار هيفضل تحت عنينا أساسا مادام علاقتهم استمرت لفترة طويلة كده يبقى هو بيحبها مش شايفاها مجرد نزوة.
إنتفض الأخير و حدجها بعصبية قبل أن ينتصب واقفا و يصيح برعونة :
- مستحيل ده يحصل إلا على جثتي إبن رأفت البحيري مستحيل يحب واحدة زي ديه و يكمل حياته معاها عمار عمل أغلاط كتيرة لحد دلوقتي بس أنا مش هسمحله يسوق فيها و يدمر مستقبله و هعمل أي حاجة علشان أحميه حتى من نفسه !!
- طيب اهدى البنت اساسا مكانها مش معروف فين على الأقل نحاول نلاقيها يمكن القصة تتحل لما نفهمهم أن ملهمش مستقبل مع بعض و يطلقها بقى قبل ما الموضوع ينتشر أكتر من كده.
- و هو ده اللي هعمله هحاول ألاقيها و أخلي عمار يطلقها و تاخد مننا اللي عايزاه المهم تسيبه.
طرق الباب فذهبت سعاد لفتحه ووجدت فريال تقابلها بوجه واجم و طلبت التحدث معها على إنفراد.
ذهبت معها إلى غرفة فارغة و سألت مستفهمة :
- في ايه يا فريال ؟
- يعني انتي مش عارفة.
تأففت سعاد بخنق مردفة :
- انا مش حمل احل الغازك دلوقتي قوليلي في حاجة حصلت.
ناظرتها بجمود ثم أخرجت هاتفها و فتحت إحدى مقاطع الفيديو تريه إياه :
- حصلت حاجات كتيرة اوي خدي شوفي.
قضبت حاجبيها بتعجب و سرعان ما إنتفضت بصدمة مما رأت ، ندى في غرفة عمار الشبه عاري جالسة على سريره يقبلان بعضهما و من الواضح أنه غارق فيها تماما فهو يشدها من خصرها و يقربها نحوه دون تردد !
وضعت سعاد يدها على فمها و عيناها تعيدان المشهد مرارا لكي تستوعب لكن هذا لم يحدث ، لم تصدق ما تراه حتى أنها شكت في كونه مزيف.
ندى و عمار ؟ كيف ذلك لقد أخبرها سابقا أنه لا يفكر في ندى كزوجة و حبيبة كيف يتقرب منها هكذا .... و هو في الأساس متزوج ؟!
رطبت شفتيها و جاهدت لتهتف بصدمة باهتة :
- ازاي ده حصل .... وانتي جبتي الفيديو ده منين.
ردت عليها فريال بحدة :
- النهارده الصبح لما طلبتي من ندى تروح تصحي عمار ، أنا لقيتها اتأخرت و قمت ادور عليها قولت يمكن زعلت تاني و هتقول مش عايزة تفطر بس وانا رايحة ليها عديت على أوضة إبنك المحترم و سمعت صوتها وهي بتقوله أنت بتعمل ايه و ليه بتقرب كده.
صمتت تستجمع أنفاسها وقد بدى كذبها مقنعا لدرجة لم تتوقعها ، ثم تابعت محاولة جعل إبنتها هي الطرف الذي تم إستغلاله :
- ندى كانت بتقول اللي بتعمله ده مينفعش ف أنا اتخضيت و قربت بسرعة أشوف في ايه و اتصدمت زيك لما لقيت عمار بيشدها لحضنه و بيبوسها.
انا معرفتش أعمل ايه و لقيت نفسي بصور اللي بيحصل عشان متكدبنيش لما أقولك أن إبن جوزك ده استغل قرب ندى منه و صغر سنها و من غير ما يتكسف قعدها على سريره و ... طبعا عشان هو عارف أنه هيقدر يضحك عليها و ده الواضح في الفيديو لما استسلمتله و مبعدتوش عنها.
رفعت الأخرى رأسها لها عاجزة عن التفكير بشكل مناسب و حتى فريال لم تدع لها فرصة لذلك وهي تدمع و تمثل عليها دور الأم الخائفة على شرف إبنتها :
- سعاد أنا بقالي كتير ملاحظة أن عمار معجب ببنتي و جيت بنفسي و اقترحت عليكي نجوزهم عشان خايفة على ندى تتأذى ساعتها انتي قولتي أن عمار شايفها زي أخته الصغيرة و عمره ما هيفكر فيها من الناحية ديه و ياريتني مصدقتكيش شوفي نتيجة كلامك عمار اتجاوز حدوده معاها و سابها وهي عماله تعيط من الصبح و قافلة أوضتها على نفسها.
رأت سعاد أن صوت فريال بدأ يعلو فرفعت يديها مجربة تهدئتها :
- طيب خلاص إهدي أنا هكلم عمار و أشوف حل للحكاية ديه بس متخليش حد يعرف باللي حصل و إلا هتحصل مشكلة كبيرة.
- الحل واضح يا سعاد هانم احنا كلنا عارفين أن عمار بيقضي لياليه مع بنات الشوارع لما بيبقى غايب عن البيت بس أنا مش هسمحله يلعب ببنتي الصغيرة أنا لحد دلوقتي بذلت جهد كبير علشان بناتي ، كفاية أن بنتي الكبيرة بعيدة عني بسبب أنها متجوزة و عايشة برا البلد مش هسمح لبنتي الصغيرة تبعد عني كمان بسبب اللي انتو بتعملوه.
ألقت كلماتها بشدة و غادرت إلى غرفتها و عندما أغلقت الباب إختفى عبوسها و حلت إبتسامة واسعة مرتسمة على وجهها ، مسحت فريال دموعها الزائفة و نظرت إلى الفيديو في هاتفها تتذكر عندما إلتقطته صباح اليوم.
على عكس ما تقوله للآخرين فهي قد رأت بنفسها إبنتها تقترب من عمار الذي بدى و كأنه ليس بوعيه لتقبله فيبادلها في لحظة غفلة ثم يبعدها بعدما أدرك ما يحدث.
في الحقيقة هي صورت الفيديو في بداية تقاربهما فقط لإعتقادها أن ندى ستكتفي بحضن في سريره وهذا ما كانت ستعمل على إستغلاله ، إلا أنها إندهشت عندما رأتها تقبل إبن عمها و لثوان ثارت غريزة الأمومة لديها وكادت تقتحم الغرفة صارخة عليهما.
لكنها إستطاعت العودة لرشدها و التفكير بعقلها فهي تعلم أنها لو افتعلت فضيحة ستحدث مشكلة كبيرة و عمار لن يفيد معه أسلوب التهديد هذا ، لذلك إلتزمت الصمت و تابعت التصوير.
و ها هي الآن ستصل لمرادها قريبا بعدما بعثت المقطع إلى رقم عشيقة عمار التي رأت صورها على هاتفه و رقمها يسطع أعلى الشاشة منذ أشهر ، ثم حذفت الفيديو بعدما رأت علامة المشاهدة و تأكدت من أن تلك اللعينة شاهدته.
بالطبع فريال لا تعلم مالذي سيحدث الآن تماما ، لكن الشيء الوحيد الذي تعرفه أن حبيبته السرية ستدرك جيدا أن لا مكان لها في حياة عمار ، و ربما تكون قد تشاجرت معه و رحلت لذلك هو خرج ركضا منذ ساعات ولم يعد حتى هذا الوقت.
المهم الآن أنها ستستغل ما حدث لصالحها ولن تكون سيدة من سيدات عائلة البحيري إذا لم تجعل عمار يلبس إبنتها خاتم الخطوبة قريبا.
أفاقت من شرودها على صوت فتح الباب إلتفتت لخلفها و تساءلت محاولة إخفاء إنفعالاتها :
- عادل أنت اتأخرت كده ليه النهارده.
عقد الأخير حاجباه متعجبا :
- ما انا قولتلك الصبح أن رأفت أخويا مش هيروح للشركة النهارده علشان كده الشغل كتر عليا و اني احتمال اتأخر.
ضحكت فريال بخفة :
- ايوة افتكرت معلش يا حبيبي أصلي نسيت.
- و هو ده بيخليكي تضحكي يعني ؟
هزت رأسها تنفي ببرود مستفز :
- لا خالص بس أنا كنت بفكر في حاجة بتفرحني ..... جواز بنتك و إبن أخوك مثلا.
حملق بها ثم تأفف بسخط معلقا عليها :
- هو كل ما أقول أنا أنك عقلتي ترجعي تفتحي الموضوع ده من أول و جديد مش انتي كلمتي مرات أخويا وهي قالتلك أن عمار مش عايز يتجوز و أساسا هو مش شايف ندى غير أخته ليه مبتفهميش من أول مرة.
هتفت تبرر مدافعة عن نفسها :
- يعني أنا الغلطانة علشان بفكر في مستقبل بنتي ما هو لو عمار اتجوز ست تانية و خلفت منه الثروة كلها هتروح ليهم و إحنا هنطلع من المولد بلا حمص يرضيك ده يحصل ؟
إحتدت عينا عادل و دنى منها يرفع إصبعه في وجهها محذرا :
- فريال .... شيلي الأفكار ديه من دماغك و متخليش ندى تتأثر باللي بتقوليه لحسن تبقى تفكر زيك و نقع في مصيبة متأذيش بنتك بالشكل ده.
******
أنهى سيجارته الخامسة و رماها في المطفأة بعدم إهتمام ليخرج الأخرى و يضعها بفمه.
عادة ما تساهم مادة النيكوتين الموجودة داخل التبغ في إراحته و تهدئة أنفاسه المتشنجة لكن هذه المرة لم ينجح في ذلك ، اللعنة ، اللعنة على الحالة البائسة التي وصل إليها.
مر شهر كامل ، ثلاثون يوما لم يتوانى فيها عن البحث عنها في كل أنحاء مدينة القاهرة و قريتها و القرى المجاورة لها ، حتى أنه وصل لعناوين منازل زملائها في الجامعة و كلف من يراقبهم ربما تكون مريم ذهبت إلى أحد منهم لكنه لم يجدها.
و يبقى السؤال إلى أين ذهبت و مع من ؟ لقد أصلح هاتفها و أعطاه لمختص عرف أن هناك مكالمة تمت بينها و بين أحد مجهول قبل أيام قليلة من الحادثة لكنها حذفتها .
ناهيك عن الرسالة التي وصلتها قبل بضع دقائق من تدهور صحتها و إتصالها به و أيضا تم حذفها .... و رقم المُرسل كان من الإنترنت و يستحيل تعقبه و معرفة من صاحبه.
من هاذان اللذان تواصلا مع مريم ؟ هل هما نفس الشخص أم طرفين مختلفين ؟
أخرج عمار هاتفه و فتح معرض الصور ليراها ، وجهها يبزغ على الشاشة كمصباح أنير وسط الظلام.
غامت عيناه وهو يرى الصور التي إلتقطها لها ، منذ سنة ونصف عندما سافر معها إلى أحد البلدان السياحية و أخذها معه ...
كانت كالملاك في ذلك الثوب الأبيض المطرز بتصاميم غجرية تضع على رأسها قبعة صيفية و تزين قدمها بخلخال به رسومات ملونة جميلة.
يتذكر عندما هرعت إلى مياه الشاطئ تلعب بها متخلية عن خجلها ثم طلبت منه تصويرها بهاتفها ، ولم تنتبه إلى أنه نقل الصور لهاتفه في غفلة منها.
أطلق عمار زفرة ملتاعة وهو يستند على الكرسي في الشرفة ، يكاد يجن و عقله لا يسعه للتفكير.
كيف لإمرأة ضعيفة حاول كسر جميع ما تستند عليه
إتضح أنه هو الذي كان يلعب دور الأحمق في هذه القصة.
قطعه عن دائرة تفكيره صوت دق الباب و عندما رأى والده يدخل أطفأ سيجارته فورا و وضع هاتفه على المنضدة أمامه.
ولج رأفت إلى الشرفة ورغم إنزعاجه من رائحة السجائر القوية إلا أنه كف النظر عنها و تمتم :
- مساء الخير.
رد التحية بجمود و أشاح وجهه عنه سريعا فهو لم ينسى أنه ضربه منذ شهر و ترك له آثار نفسية إضافية لمشاكله.
أدرك رأفت غضبه و إحترم ذلك ليجلس بجانبه متحدثا بصلابة :
- أنا قولتلك من أسبوعين إني بدور على البنت اللي كنت معاها مش علشانك لأ علشان أعرف أحل المصيبة اللي انت عملتها و فعلا دورت كتير و في كل مكان يمكن ألاقيها .... بس فشلت.
نظر له و أكمل :
- أنا لحد دلوقتي مش مصدق انك كنت متجوز في السر و ياريت اتجوزت واحدة محترمة تليق بيك و بعيلتنا لأ انت اخترتها بربرية و مبتفهمش في الأصول مراعتش زعلك على إبنك اللي مات و هربت فنفس اليوم اللي أجهضت فيه.
تلعثم عمار يحاول تبرير موقفها :
- يمكن ليها أسبابها أنا ....
قاطعه رأفت بنبرة حازمة لا تحتمل النقاش :
- إيه هي الأسباب اللي هتخلي ست تهرب من جوزها بص أنا شوفت الشقة بتاعتكو و سألت و عرفت أنك مكنتش منقص عليها حاجة أنت جبتها من مكان بيكسف و عيشتها ملكة عملتلها قيمة بس هي محترمتكش و مشيت من غير ما تبص وراها.
ثم ربت على كتفه مغمغما :
- الحقيقة أن الراجل مهما عمل للست هتفضل مستخفة فيه و متقدرش اللي عمله ليها و هتزهق منه و تمشي و ده اللي حصل معاك يا إبني مريم راحت تعيش حياتها بعيدة عنك و أنت فضلت تدور عليها و عايش على ذكرياتها بس خلاص لازم تفوق لنفسك و تنساها .... لأنها مبتستاهلكش.
أنهى حديثه و غادر مخلفا وراءه بركانا على وشك الإنفجار ، شد عمار شعره بهستيرية و كلام والده يتردد في أذنيه مجددا ، هو يعلم جيدا أن رأفت كان يقصد نفسه بهذا الكلام.
فهو عشق إمرأة لم تبادله الحب قط ، صحيح أنه لم يعلم بخيانتها ولكنه أدرك جيدا أنها قابلت حبه بسوء عجرفة ، و الآن نفس الشيء يحدث معه.
مريم هربت تاركة وراءها خاتم زواجها و كل ذكرياتهما معا ، هربت ولم تدع له مجالا لإيجادها ، حتى أن أباه رغم نفوذه قد فشل في معرفة طريق يقوده إليها ، و ها هو عمار البحيري يعيش نفس ما عاشه والده يوما !
أدخل يده في جيبه و أخرج منه خلخالها الذي كان يلتف حول قدمها يوم إجهاضها و عندما دخلت للمستشفى سقط على الأرضية و وصل بشكل ما إلى يد رأفت فأخذه عمار منه سريعا عندما رآه ...
هذا الخلخال مميز بالنسبة له ، فهو من قدمه هدية لها وهو أيضا ما كانت ترتديه في آخر لقاء بينهما.
لوى شفته بحدة وإنتصب واقفا متجها إلى خزانته ، فتح صندوقا صغيرا و رمى فيه الخلخال ليوضع بجانب الخاتم ثم أغلقه و خبأه ثانية ، و جملة واحدة رددها بتصميم :
- مش هسمحلك تعيشيني اللي عيشته فيروز لأبويا ، خلاص إنتي إنتهيتي من حياتي يا مريم !