رواية نيران الغجرية الفصل الحادي والاربعون41 والثاني والاربعون42بقلم فاطمة أحمد
الفصل الواحد و الأربعون : معرفة مسبقة.
_________________
" لمحت الثقب في سفينتك منذ اليوم الأول للحكاية لكنني غامرت بالإبحار معك ...
ظنا مني أن الحب يصنع المعجزات " مقتبس
- حتى لو أفكاري اتجاهك غلط و ظلمتك بإدعاءاتي بس مفيش حاجة هتتغير لاني مستحيل انسى دموعي و زعلي وقلة القيمة اللي حسيت بيهم من ساعة ما اتجوزتك انت فاهم !
احنا مبقيناش ننفع لبعض يا عمار !
جملة ألقتها على مسامعه لكن تأثيرها طال قلبه ، العضو النابض بداخله و الذي شعر بأنه سينفجر في أي لحظة من شدة سرعة دقاته المجنونة !
و في الحقيقة هي لم تكن تكذب ، كل ما قالته منطقي و صحيح إنهما لا ينفعان بعضهما البعض فهي تحمل من الكره و الحقد الكثير أما هو فماضيه لن يجعله يعيش حاضره و مستقبله ، و لكن كونها تواجهه بهذه الحقائق و تعري دواخله و تكشف عن أفكاره فهذا أمر لم يكن يتوقعه أبدا !
هز عمار رأسه مستنشقا الهواء بصعوبة ثم تركها و ذهب ناحية باب الشقة كي يغادر ، إلا أنه توقف عند طاولة الزينة الصغيرة القابعة في الجانب ، و استند بيديه عليها لاهثا حمما من سعير ، سيجن !
و جنونه هذا سيحرقها قبل أن يحرقه.
كما لو أن الشياطين تلبسته بعدما اتهمته بالخيانة ووصفته بالمريض الذي يظن السوء بجميع الناس هذا لأنه سيء ، ولكنها لا تعلم ...
لا تعلم أن حياته لم تكن لِتُخرج رجلا سويا يثق في غيره.
أم خائنة و أب مهمل ، عم و زوجة عم يريانه كورقة اليانصيب التي ستدر عليهما مالا وفيرا ، و مجتمع هو ملزم بتقديسه و اِتباع تقاليده لكي يظل الرجل المتحضر دائما ، زوجة كشرت عن أنيابها و بدأت تهاجمه بضراوة و الآن اكتشافه لمجهول يراقبه و يخطط ضده !
لم يطق عمار حرقة اللهيب الأخضر الذي رآه يشتعل كالجذى في اِنعكاس المرآة فالتقط زجاجة من زجاجات العطور المرصوصة على الطاولة بعناية و قذفها بها حتى تهشمت ...
و رافق صوت التهشم شهقتها المنصدمة وهي تراه يكسر المرآة بجنون فجر الدماء من باطن يده التي دخلت بها قطعة زجاج من العطر حين رماه بدون أن يفكر مرتين.
وضعت مريم يداها على فمها بذعر نال منها و تراجعت الى الخلف بتلقائية عندما وجدته يحيد برأسه نحوها و يرمقها بتلك النظرات المخيفة ، مظهره في هذه اللحظة قادر على إخافة الحجر حتى !
و لكن شعور بداخلها أخبرها بأنه لن يفرط بها و يؤذيها ، و بقدر ماكان ذلك الشعور مطمئنا إلا أنه آلمها حقا لأن هذا الرجل الذي تقول عنه لن يصيبها بضرر ... هو نفسه الذي عاشت الأشهر الماضية تتغذى على كرهه لأنه قتل طفلها !
وجدت مريم نفسها تتأمل الفوضى المروعة ثم تدنو خطوات بسيطة منه ، غير أن عمار عاكسها عندما اقتلع الباب فاتحا اياه بعنف ليغادر تاركا إياها بمفردها بعدما نادت بإسمه لكنه لم يجبها ...
فظلت نظراتها تلاحقه حتى اختفى ثم همست :
- ايدك بتجيب دم ...
__________________
عقال المرء مرهونة بنقاء روحه ، و نقاء الروح متعلق بدواخل الإنسان و الأفكار التي تحركه ...
فعندما تزرع بذور الطمع و الحقد بالقلب و تكبر مع مرور الأيام يصبح العقل متأرجحا بين غياهب الظلام ولا يطرح سوى الأفكار التي من شأنها شق طريق الطموح الأعمى و دعس كل من يقابله بدون رحمة.
و هذه كانت حالة عادل الذي أظلم وجهه وهو يجلس على الجهاز يستمع لمحادثات مريم و عمار بعدما كُشف أمر التتبع فذهب الأخير لزوجته لكي يستجوبها ، و في أثناء ذلك صدم وهو يستمع لحقيقة أن عمار اقترب من إبنته !
حينها جن جنونه و تحفزت أبوّته لينوي الذهاب اليه و تحطيم وجهه ، غير أنه تراجع في آخر لحظة و ارتمى على كرسيه مهمهما بوعيد :
- يعني انت قربت من بنتي و خليتها تتعلق بيك بعدين سبتها علشان واحدة مبتسواش ... ماشي يا عمار و ربي هندمك ع الساعة اللي اتولدت بيها.
رفع رأسه عند سماع صوت خطوات فوجد سليم يدخل و الخزي باد على وجهه المكدوم ، ضيق عيناه و نهض اليه مغمغنا من بين أسنانه وهو يجذبه من ياقة قميصه :
- ازاي عمار عرف ان في حد عامله تتبع و اواي انت تغفل و تحط الجهاز في مكان سهل يشوفوه !
رد عليه الآخر :
- يا فندم ال Gps بقاله سنين وهو محطوط في عربيته اللي بيستخدمها لما يبقى رايح لمشواير مهمة و كنت حاطه في مكان مستحيل يوصله بس معرفش ازاي الجهاز وقع و خدو بالهم منه.
أفلته بعصبية وزفر بقوة مرددا :
- اللي حصل ده مصيبة كبيرة لان اغلب خططنا اتكشفت عمار قرب يفهم من مريم كل حاجة و دلوقتي هياخد احتياطات اكتر و يبقى صعب نوصل لاي حاجة تخصه.
انا زمان كنت بعرف كل خطوة هو بيعملها بفضل الجهاز ده بس دلوقتي لازم نثبتله أنك بريء و الغلط كان بسبب غفلة منك ومش متعمد ... وبعد ما يرجع يثق فيك تاني احنا هنرجع لخطتنا القديمة هنأذيه في شغله من جهة و من جهة تانية هنقلبه على أبوه رافت و نخليه يفكر انه هو ورا كل حاجة حصلتله هو و مراته.
أومأ سليم بخضوع دون أن يرفع رأسه :
- أمرك يا فندم ... اوعدك هصلح المشكلة اللي حصلت النهارده.
_______________
دخل الى القصر بترنح وهو يلف الضمادة الطبية بعشوائية على يده ، استقل المصعد ولا يزال منشغلا في ربط الجرح لكنه فشل بذلك فتأفف بسخط و همهم :
- و كأن همومي مش كفاية عليا ناقص ايدي تتفتح يعني.
وصل الى الطابق الذي تقبع به غرفته فخرج مسرعا و اتجه لجناحه ليصفع الباب خلفه و يرمي الضمادة بخنق تملك منه و جعله يطلق سبابا خفيضا.
وبعد دقائق قاطعه صوت طرق الباب الذي يألف وقعه جيدا ليندهش عمار عندما وجد ندى تقف أمامه و بيدها علبة الإسعافات الأولية لكن لم يدم اندهاشه طويلا عندما حمحمت و همست بصوت خفيض :
- كنت مروحة لأوضتي لما لقيتك داخل و ايدك مجروحة ومش عارف تعالجها.
تلجلج عمار و اضطربت ملامحه من صعوبة موقف لقائهما الآن ولكنه اومأ برأسه على أي حال و تمتم :
- تعالي نقعد في البلكونة برا.
ذهبت معه و جلسا في الشرفة الخارجية و شرعت ندى تعقم جرح يده و تضمدها برتابة دون أن تنظر اليه ، و هذا ما جعل عمار يتلوى من داخله لأنها جاءت تساعده رغم ما فعله بها و ما قاله لعائلته بخصوصها فتنهد و ضغط على نفسه مرارا كي يخرج الحروف من لسانه :
- ندى انا مكنتش عايز الوضع يوصل لكده و اتكلم قدام والدتك و سعاد هانم ... صدقيني مكنتش اقصد اهينك ولا اجرحك بس في لحظة غضب ...
انا مكنتش واعي للي بقوله لما عرفت ان مرات ابويا خبت عليا اللي حصل و ان مامتك صورتنا في اللحظة اللي قربنا فيها من بعض و استغلتها ضدي عشان تبين كأني انا اللي مراعيتش الروابط اللي بيننا و بوستك و كمان بعتت الفيديو لمراتي ... في لحظة واحدة لقيت نفسي مخدوع و مظلوم و متهم بحاجة معملتهاش قمت ...
- وانت اضطريت تبرئ نفسك قمت فضحتني انا.
قاطعته ندى بهدوء فاِنتفض الآخر و رفع رأسها ناحيته متشدقا :
- اقسم بالله مش ده قصدي يا ندى لان لما سعاد هانم قالتلي من سنة ونص انك قولتيلها ع اللي حصل بيننا انا سكت و شلت ذنب الحادثة و مرضيتش اتكلم عليكي بس مريم ... مريم شافت الصورة وهي بتسقط يا ندى.
التمعت عيناها بحزن وهي ترى ألمه المرتسم على وجهه بينما يسرد بأسى :
- الفيديو اتبعتلها فنفس الوقت اللي كانت بتعاني فيه من الوجع ولما اتصلت بيا انا مردتش عليها قامت هي فكرت ... فكرت اننا لسه مع بعض عشان كده اتجاهلتها و ملحقتهاش.
تسربت دموعها من خضراوتيها التعيستين فتنهدت بحسرة هاتفة :
- معاك حق تتنرفز يا عمار و الغلطة هي غلطتي لاني قربت منك وانا شايفة انك مذ في وعيك بس كانت لحظة ضعف مني و دفعت تمنها غالي.
بعدها انت خطبتني و رسمتلي أحلام كتيرة انا صدقتها ، و فوقت على كابوس لسه بعاني منه لحد دلوقتي.
أغمض عمار عيناه بذنب مزقه و كاد يهمس بكلمات معتذرة لكن ندى مسحت دموعها و استقامت واقفة :
- انا حبيتك و بسبب مشاعري ديه اتحولت ل انسانة مبعرفهاش لدرجة بقيت افكر بطريقة غبية و بقول اني لازم ارجعك ليا ... نسيت نفسي و نسيت ان محدش بيقدر يتحكم في قلبه و انت قلبك معلق بالبنت اللي دمرتلنا حياتنا.
بس انا هنساك يا عمار ... مش هسامحك على الوجع اللي سببتهولي بس هنسى حبك و اعيش حياتي من جديد اوعدك.
انحنت و التقطت علبة الإسعافات و مضت في طريقها تحت أنظار عمار الذي أسند رأسه على الحائط مشاهدا بأم عينيه كمَّ العلاقات التي حطمها ، ثم شد يده المضمدة على ساقه عند تذكره لكل ما حدث هذا اليوم فغامت زيتونيتاه في الظلام مفكرا بأنه حان وقت استيقاظه من غفلته و تتبع من يحاول التربص به ...
________________
مساء اليوم التالي.
كان في مكتبه منهمكا بمتابعة المهام الإضافية التي وقعت على عاتقه نتيجة إهماله في الآونة الأخيرة ثم أجرى إتصالا بمساعدته و طلب منها إحضار كوب اضافي من القهوة ليعيد الاتصال بقسم الترجمة آمرا إياهم بإرسال الملف المترجم عبر الايميل الخاص به قبل تحريره.
إلا أنه عندما أخبره نائب المسؤول عن أنهم قاموا بإرسال العديد من الملفات و سبب ذلك ضغطا على الشبكة لذلك سيحتاج الملف الجديد لفترة نصف ساعة على الأقل لكي يستطيع التحميل و يصل اليه قال بنبرة جادة :
- مفيش وقت استنى انت ابعتلي ال file المكتوب ع الورق مع واحد من عندك عشان اراجعه بسرعة.
- بأمر حضرتك يا فندم.
أنهى الاتصال وبعد دقائق طرق الباب و دلفت مريم حاملة معها إحدى الملفات ، اقتربت منه و هتفت بهدوء :
- الملف اللي طلبته.
لم يرفع عمار رأسه ناحيتها بل أشار لها بالجلوس مغمغما :
- اتفضلي اشرحيلي مضمون الملف و اختصري.
استغربت من تجاهله لشخصها و أنه لم ينظر اليها كعادته غير أنها شتتت أفكارها و اومأت بإيجاب لتبدأ بالقراءة و الشرح و شيئا فشيئا تبدد توترها و طفقت تتكلم بثقة عن مضمون الملف الذي أنجزوه.
و فور انتهائها سألها الآخر بجدية :
- مين اللي اشتغل ع ال file ده.
- المستر يوسف و الأستاذ علي و انا واتنين من ال trainees كنا معاهم.
همهم بإيجاب في نفس اللحظة التي دلفت مساعدته سلمى ووضعت كوب القهوة على سطح المكتب متمتمة بإحترام :
- تؤمرني بحاجة تانية يا فندم.
حينها و - أخيرا - نظر عمار الى مريم سائلا إياها :
- عايزة تشربي حاجة.
- No thank you.
ردت مريم بتشوش عندما وقعت عيناها على يده المضمدة بإتقان ثم حمحمت و أعادت تركيزها على الورق أمامها ، غير أن عمار فاجأها ببلادته وهو يردف :
- شكرا متنسوش تبعتوه ع الايميل في اسرع وقت عشان نفحصه ... تقدري تروحي دلوقتي.
حقا ؟ كاد لسانها ينزلق و يسأله عن إن كان هذا كل ما سيقوله بعد الشجار الكبير الذي حدث بينهما أمس ولا تعلم مريم لماذا خاب ظنها عندما تجاهلها هكذا و عاملها كفرد من المتدربين حقا.
ربما اعتقدت أنه سيفحصها بعينيه كالعادة و يراوغها و يستفزها ليسحب منها بعض الكلمات لكنه لم يفعل ...
عبست ملامحها بخذلان و نهضت لكي تخرج فقابلت وليد في طريقها عندما فتحت الباب وقد تجاهلها هو أيضا و عبر نحو عمار قائلا :
- انا خلصت اللي عليا و ... ايه ده ايدك مالها.
اضطربت مريم و سمعت الآخر يجيبه :
- مفيش حادث صغير و ندى عملت الازم متقلقش.
كان هذا اخر ما التقطته أذنها قبل أن تغادر مغلقة الباب خلفها ، فزمت شفتيها بعصبية غير مبررة و همست :
- طبعا هيستغل كل فرصة عشان يقرب من حبيبة القلب ... قال ايه ندى عملت الازم ماهو انا كمان ناديتلك عشان اعالج ايدك ...
قطعت كلماتها فجأة و شعرت بالذعر من تفكيرها الأحمق فضربت رأسها مرددة :
- انتي بتقولي ايه وانتي مالك بيه اصلا !
ثم تأففت بغضب من نفسها و مضت الى قسمها لتنجز مهامها قبل نهاية الدوام ...
*** بينما في الداخل.
تساءل وليد بشك مطالعا يد صديقه المصابة :
- لا بجد ايه اللي حصل انا مش مصدق انها حادثة عادية ... مراتك ليها علاقة ؟
تجهم عمار و ترك جهاز الابتوب راشقا إياه بنظرات يعرفها جيدا فضيق وليد حاجباه و زفر بخشونة :
- لا كده كتير بقى هي وصلت لأنك تأذي نفسك للدرجة ديه بسببها وبعدين معاك يا عمار انت ناوي على ايه مش شايف اللي بيحصلنا ب ...
قطع كلماته وهو يرى تضايق الآخر و صمت على مضض مفكرا بأن رفيقه أصبح مجنونا بالفعل و الفضل يعود الى تلك المرأة التي تزوجها و يرفض تطليقها ، ثم بلل شفتاه وغير الموضوع هاتفا :
- انت عملت ايه بخصوص ال Gps اللي لقيناه عرفت مين حطه.
لم يصل بعد لخيط يمكنه من معرفة الفاعل و لكنه أخذ جميع الاحتياطات الازمة و غير سيارته و هاتفه و قلب غرفته في القصر باحثا عن أي جهاز مراقبة او تنصت إلا أنه لم يجد.
همهم عمار و فتح فمه ليتحدث لكنه تراجع فجأة عندما طرأ بباله فكرة أنه من الممكن أن يكون مراقبا هنا في المكتب أيضا ، لذلك تمتم بإختصار :
- هبقى اشوف اللي لازم اعمله بعدين ... المهم انتو عملتو ايه ...
تابعوا الحديث عن العمل حتى انتهى الوقت فغادر عمار الشركة في السيارة التي طلبها بشكل مؤقت ريثما ينهي اجراءات اقتناء واحدة جديدة ...
وبينما هو يقلب في هاتفه رن بين يداه و كان المتصل رفيق قديم له يتولى أحد شركات الأمن وقد طلب منه منذ أسبوع تقصي آثار مريم و حول اذا كان يستطيع معرفة أين كانت في الفترة المختفية بها.
أوقف عمار السيارة على جانب الطريق و أجاب :
- الو وائل اهلا وسهلا.
- اهلا بيك يا عمار عامل ايه.
-بخير وانت.
- الحمد لله بص انت كنت طلبت مني اجمع معلومات عن المدام مريم عبد الرحمن هي كانت ركبت في قطر من الاسكندرية للقاهرة زي ما قولتلي و انا من النقطة ديه بدأت ادور ...
المهم انا هختصرلك مراتك قدمت طلب من سنة ونص عشان تعمل ورق جديد بدل اللي سابتهم في بيتك لما طلعت منه و كانت مع راجل هو اللي ساعدها في الاجراءات و اللي عرفناه انه كان معاها طول الوقت.
وهو نفس الشخص اللي المدام مريم سافرت معاه من القاهرة للاسكندرية في القطر بعد يوم واحد من هربها.
توقفت أنفاسه لثوان و ساد صمت مخيف لدرجة خُيِّل له أنه يسمع صوت غليان الدماء في رأسه ، فأغمض عيناه و ضغط على الهاتف بعنف مغمغما :
- كانت مع راجل.
أجابه وائل بحذر :
- ايوة ... كان معاها طول الوقت و المفروض هو اللي كانت قاعدة معاه في ...
بلع باقي حروفه حينما أدرك أنه على وشك جعل صديقه مجرما بسبب أقواله هذه لكنه كان مضطرا على إخباره بنتائج تحقيقاته ، بينما أعاد عمار رأسه الى الخلف يسحب أنفاسه التي اختنقت ليهدر بعدها بنبرة مميتة :
- مين الراجل ده ... اسمه ايه.
- انا هقولك عليه بس توعدني متتسرعش عشان في معلومات تانية هتوصلني اليوم المسا و ممكن تفيدنا اكتر.
- ماشي اتكلم.
- شاب في العشرينات اسمه الكامل محمد صادق علي.
جعد حاجباه بغضب تلاشى قليلا وحل مكانه التوجس عند إحساسه بأنه سمع هذا الإسم من قبل و لكنه لا يدري أين و متى.
اعتدل في جلسته مرددا حروف الاسم على لسانه حتى قال :
- عندك صور ليه ؟
- ايوة قدرت اجيبهم من الكاميرات ثواني و هتوصلك.
اومأ و أمسك الهاتف بين يديه يهتز بعصبية و وعيد لهذا الرجل الذي كان برفقة زوجته طوال هذه المدة حتى وصلته الصور فبهت عمار مطالعا إياها بتدقيق ثم همس :
- الولد ده انا شايفه من قبل ... ملامحه مألوفة ليا.
اغلق الخط مع صديقه وائل و ظل يعتصر دماغه لعله يتكره حتى طافت في عقله ذكرى بعيدة لرجل التقى به في المشفى بنفس الليلة التي تشاجر فيها مع مريم عند معرفته بحملها ....
Flash back
( كان يستند على أحد جدران أروقة المشفى عندما لمح شابا في أوائل العشرينات ربما يسير و على وجهه أمارات القلق و يتطلع لرقم كل غرفة يعبر عليها فأوقفه عمار هاتفا :
- انت أخو ثريا.
أماء الشاب بتلهف :
- حضرتك اللي كلمتني على الموبيل صح أختي فين و عاملة ايه حصلها حاجة.
رد عليه بتريث :
- الانسة كويسة و محصلهاش حاجة مجرد ضربة خفيفة على دماغها بس وهي جوا الأوضة ديه.
دخل الشاب و تبعه الآخر بغية الإطمئنان على وضعها فوجدها تحضن شقيقها ببكاء وهو يعاتبها بقلق عليها ، إنتبهت لوجود عمار فقالت :
- هو ده الراجل اللي أنقذني يا ابيه.
التفت له محتضنا إياه بصدق و عليه أمارات الإمتنان :
- انا مش عارف اقول ايه لحضرتك واحد غيرك كان خاف و هرب ولا عمل نفسه مش شايف بس انت انقذت حياة أختي انت راجل جدع و محترم و عندك نخوة قليلين اللي زيك انا متشكر اوي اطلب مني اللي عايزه و انا هنفذهولك فورا.
افترت شفتاه عن إبتسامة بسيطة وقد سخر بداخله من مدح الفتى له فهو حقا لا يرى نفسه كرجل " محترم " بل في الحقيقة هو مثلما قالت مريم منذ ساعتين " جبان و مجرم يتخفى خلف قناع التحضر " لكنه أجاب على أي حال :
- العفو انا اعتبرت البنت زي أختي الصغيرة و اي حد غيري كان هيعمل نفس الشي المهم أنها بخير انا هستأذن دلوقتي مضطر امشي.
إبتسم الفتى و مد يده يصافحه معرفا إياه عن نفسه :
- محمد صادق علي. )
Back
انتفض عمار عند تذكره و ازدادت صدمته ونو يجد نفسه يعرف الرجل الذي هربت معه زوجته ... انه شقيق المراهقة التي أنقذها من حادثة الاغتصاب تلك الليلة !
الفصل الثاني والأربعون : مشاركة نفس القدر.
_______________
" حين رمى نفسه في النار لينقذها قالت له : أتريد ان تثبت لي أنك مجنون ؟
قال : لا ، أردت فقط أن أخبرك أني أحبك حد الإشتعال " ادهم الشرقاوي
- محمد صادق علي. )
Back
انتفض عمار عند تذكره و ازدادت صدمته وهو يجد نفسه يعرف الرجل الذي هربت معه زوجته ... انه شقيق المراهقة التي أنقذها من حادثة الاغتصاب تلك الليلة !
حدق في صورته بغير استيعاب وهو يشعر بالكون يدور من حوله ، و عقله لا يفهم شيئا مما يحدث الآن.
هل الرجل الذي اختبأت زوجته عنده هو نفسه الشخص الذي قابله سابقا ؟ لكن كيف و مِن أين يعرف مريم و لماذا قابله هو بالذات !
يا الهي مالذي يحدث معه هل يعقل ان تكون للحياة كل هذه الصدف ؟
غلغل عمار أصابعه في شعره يسحب أنفاسه بضراوة قبل أن يغلق الهاتف و يخرج علبة سجائره التي دائما ما تكون ونيسه الوحيد في حالاته العصيبة ...
________________
قبلها بنصف ساعة.
خرجت من سيارة الأجرة و نظرت بإنبهار الى الشركة الضخمة التي تقف أمامها هامسة :
- معقول نجحتي في انك تدخلي للمكان ده يا مريم حلال عليكي والله.
أطلقت صوتا يدل على الإعجاب و فجأة انتفضت عندما صوتا رجوليا يصدر بالجانب منها :
- هالة !
شهقت بذعر و تراجعت للخلف بتلقائية فرأت المدعو وليد يقف بجوارها و على وجهه علامات الدهشة ، ثم قلبت عينيها و تأففت بتوبيخ :
- انت بتعمل ايه هنا في حد يخض حد كده.
رفع وليد حاجباه بإستهجان من سؤالها فقال :
- المفروض انا اللي اسألك جاية تعملي ايه هنا في خطط تانية عاملاها انتي و صاحبتك و محتاجين تنفذوها جوا الشركة ولا ايه.
انكمش وجه هالة بقرف و قررت تجاهله فاِبتعدت لتقف في زاوية أخرى لكنه ذهب اليها مجددا و تمتم :
- لسه فاضل ربع ساعة عشان يخلص دوام المتدربين تقدري تدخلي جوا و تستني صاحبتك.
نفت هالة بعدم اهتمام :
- معنديش مشكلة استناها هنا لو سمحت ممكن تتفضل عشان وقوفنا كده مع بعض غلط.
تنحنح وليد معتذرا و كاد يغادر لكن عيناه وقعتا على يدها و بالتحديد اصبعها البنصر و تفاجأ عندما رآه خاليا من خاتم الخطوبة الذي كانت تتفاخر به في المرة السابقة ، فالتمعت مقلتاه و كان سيسألها بكل بلاهة عن سبب خلعه له إلا أنه تراجع في آخر لحظة ليهتف بمراوغة :
- مع ان المفروض متجيش لوحدك تاني بعد اخر مرة ولا خطيبك عادي بالنسباله يسيب خطيبته تفضل لوحدها برا في الساعة ديه.
أراد استفزازها و نجح في ذلك حيث جزت هالة على اسنانها و التفت له مغمغمة بحدة :
- اولا عيلتي الأولى ف انها تخاف عليا مش مستنية اتخطب عشان يجي راجل يسمحلي اخرج امتى و ادخل امتى و ثانيا خلاص مبقاش في خطيب ولا حاجة وفر كلامك لنفسك احسن.
رمقته شزرا و ابتعدت عنه تاركة اياه منذهلا من كلامها لتبدأ الفراشات بالتطاير أمام عينيه وهو يردد قولها ، هل كانت تقصد بجملتها الأخيرة ان خطوبتها فسخت ؟
نعم بالتأكيد فهي لا تضع خاتمها و كذلك تقول أنه لم يعد هناك خطيب في حياتها اذا بالتأكيد حدث شيء أنهى علاقتهما.
ابتسم وليد بإتساع غير مصدق بأنه أصبح يسعد بفسخ علاقة ما و خاصة بما يتعلق تلك الفتاة إلا أنه لم يهتم بالوضع الذي آل اليه بل رفع رأسه للسماء مرددا بخفوت :
- يارب لو ديه فرصة ليا سهلي طريقي.
بعد دقائق غادرت مريم الشركة و اتجهت مباشرة الى الجهة المقابل حيث اتفقت مع هالة على أن تجدها بها و بمجرد أن رأتها ابتسمت و عانقتها بود :
- عاملة ايه يا حبيبتي.
لمحت الأخيرة وليد وهو يطالعها من بعيد فتنهدت بحنق و قالت :
- بخير الحمد لله يلا نمشي انا متفقة مع ابيه احمد عشان متأخرش.
هزت رأسها و سارت معها و هما تتبادلان أطراف الحديث حتى تكلمت مريم فجأة :
- بيطلبني ع مكتبه و يقعد يشتغل و عامل نفسه مش واخد باله مني ع اساس مهتمة بيه يعني.
رمقتها هالة بتعجب من حديثها :
- انتي بتقولي ايه مش فاهمة.
تأففت مريم و سردت لها ما حدث اليوم و تجاهل عمار التام لها منذ آخر مواجهة بينهما حيث نعتته بجميع الصفات السيئة و أخبرته أنه غير متوازن نفسيا ، و أنهت كلامها وهي تردف بخنق :
- اتخيلي عامل نفسه هو المظلوم اللي عنده حق في كل حاجة و انا الظالمة المستبدة و كمان واخد مني موقف عشان قولتلك انت خاين و محتاج تتعالج و مفيش حاجة هتتصلح بيننا.
- طيب يمكن عمار اقتنع بكلامك و شاف ان مفيش فرصة بينكم علشان كده قرر يبعد و يبطل يضغط عليكي.
قالتها ببساطة فحدجتها مريم برهبة سادت لثوان قبل أن تمحيها و تستدرك :
- وهو لحق يقتنع ده روح لبنت عمه في نفس الليلة و طلب منها تعالج ايده وبعد كل ده بيقولي انا مخنتكيش !
هذه المرة لم تعلق عليها هالة و اكتفت بالتوقف عن السير و مطالعتها بغموض أثار حفيظة الأخرى ثم هتفت :
- انتي متأكدة انك لسه ناوية تنتقمي من عمار و مش غيرانة عليه دلوقتي.
ذعرت مريم و اضطرب وجدانها متمتمة :
- غيرة ايه لا مستحيل انا بكره عمار و مبطيقوش اصلا ... انتي ليه بتقولي كده.
تنهدت و أشارت عليها متشدقة بجدية :
- اصل من لما جيتي وانتي مضايقة عشان اتجاهلك و كان مع ندى امبارح مش علشان حاجة تانية ... انتي ملاحظة انك مبقتيش تتهمي عمار بقتل البيبي بتاعك وكل همك انه خانك ؟
تبلمت مريم و تجمد وجهها بذهول تمكن منها وهي تستوعب فعلا أنها لم تعد تفكر بهذا الموضوع ، فرمشت بعينيها و هتفت بتشتت :
- هو انا ... انا ..
قاطعتها هالة مباشرة :
- متنكريش ... انتي من ساعة عمار وداكي لشقة بعيدة و شوفتيه وهو خايف عليكي لما انتكستي رغم انك ضربتيه ع دماغه و عيونه دمعت وهو بيحلفلك انه معملش حاجة تأذيكي بقصد ... من ساعتها وانتي مشوشة و من جواكي بدأتي تصدقيه.
شهقت مريم و نفت سريعا بذعر :
- لا مفيش الكلام ده اا انا مصدقتوش بس ...
أعادت ذاكرتها مشهد عمار وهو يحتضنها و يربت عليها بلطف يسع الكون كله ثم دمعت مقلتاها فأخذتها صديقتها لأقرب مقعد و جلستا عليه ، نظرت اليها و أمسكت يدها بمؤازرة هاتفة :
- انتي واجهتيه بخيانته وهو مأنكرش انه باس ندى و اعترف بغلطته ليه متواجهيهوش بحقيقة اجهاضك.
- هينكر و يكدب عليا و انا ... انا هرجع اصدقه او ممكن يأذيني تاني.
أجابتها بشرود فإبتسمت هالة معلقة :
- لو عايزة رأيي ... ف انا شايفة انك رافضة تواجهي عمار مش عشان انتي خايفة تتأذي لا لأنك خايفة تخسري الحاجة الوحيدة اللي عايشة علشانها.
رمقتها بحيرة وعدم فهم لتتابع الأخيرة بصراحة مطلقة :
- السبب اللي خلاكي تقفي ع رجليكي بعد اللي حصلك هو غضبك و حقدك على عمار انتي اخترتي تتهميه مش عشان متأكدة من أنه هو المجرم لا اخترتيه لأنك عايزة حد تقتنعي انه هو المجرم فتقومي تفضي كل غضبك فيه و تنتقمي لدموعك و قهرك طول السنين اللي عشتيها في سلبية عمك و ظلم مراته و تحرش ابنه بيكي و جبروت عمار عليكي.
لما شوفتي عمار متمسك بكلامه و متهزش لحظة وهو بيقول انه مأذاكيش و كان ناوي يعلن جوازكم و يربي ابنكم خفتي تطلع عصبيتك و كرهك ع الفاضي و تطلعي انتي الظالمة مش المظلومة.
شهقت مريم باِختناق ووضعت يدها على صدرها تتحسس دقات قلبها المضطربة وهي ترتجف بغير وعي ، داخلها يتمزق و روحها ترفض فكرة أن كل ما حدث مجرد كذبة.
لكن كيف وهو من بعث لها الشكولاطة المسمومة ، كيف و الممرضة أخبرتها بمحض الصدفة أنها تعرضت لإجهاض بسبب التسمم و زوجها ظل صامدا رغم معرفته بذلك.
بينما تسمم جنينها كان عمار قد أخبرها بأن الإجهاد و الضغط النفسي هما سبب الإجهاض.
اذا كيف سيفسر هذا ؟ و كيف ستواجهه ماذا سيحدث لو استطاع خداعها مجددا ، او ماذا لو اكتشفت أنها كانت تظلمه طوال هذه الفترة !!
انتفضت مريم واقفة تهز رأسها بنفي هستيري :
- لا مستحيل ... مفيش حاجة زي ديه انتي غلطانة يا هالة انا سمعت بنفسي وهو كان قالي انه رافض البيبي و هيحل المشكلة ديه بنفسه و بعدها انا ع طول سقطت بسبب الشوكولا اللي بعتهالي.
اومأت الأخرى تسايرها و تمتمت :
- طيب نفرض كلامك صحيح و عمار اللي قتل ابنك طيب هو ليه مخدش احتياطاته عشان يخبي الحقيقة ليه كان مستهتر في جريمته لدرجة الممرضة تدخل ببساطة و تحكيلك اللي حصلك هو بيبقى ابن اغنى العائلات هنا في القاهرة و قادر يوديكي لمشفى يكون متفق معاها على تزوير الحقيقة مقابل الفلوس يبقى ليه مخدش باله ؟
صمتت قليلا تناظر حالة مريم التي اصبحت سيئة فلم ترد الضغط عليها كثيرا لذلك تنهدت بحسرة و قالت :
- انتي غضبك مش مخليكي تفكري بشكل صحيح انا من رأيي تقعدو مع بعض و تتكلمو في كل اللي شاغل بالكم و تواجهو بعض بالحقايق ... احكيله ع اللي حصلك و قوليله انتي روحتي فين لما هربتي يا مريم عشان متكبرش المشكلة ما بينكم اكتر من كده.
ولو عايزة تسأليني عن رأيي ف انا من لما شوفت تصرفات عمار و انه سكت ع كل غلطاتك و منع حد من عيلته يقربلك و يأذيكي بقيت اشك في حقيقة انه هو اللي قتلك ابنك.
زفرت مريم ووضعت يديها على رأسها وقد أوشك على الانفجار من شدة الضغط الذي يعاني منه أما قلبها فكان يصرخ موافقا على كل حرف نطقته صديقتها غير أن ما رأته عيناها و ما سمعته أذناها يحول دون تصديقها لعمار ... أين الحقيقة اذا !
*** على مقعد آخر في نفس المكان ..
وضعت حقيبتها الجلدية الثمينة على المقعد بحرص و اتخذت لنفسها مكانا بجانبها فجلست بهدوء تاركة نسمات الهواء الباردة تعبث بشعرها ، ثم غامت عيناها بشرود تفكر في أمير خيالاتها و تذكرت يوم كانت تأتِ برفقته و تقضي معه ساعات طويلة على هذا المقعد.
و الفرق اليوم أنها جالسة هنا بمفردها و بدل الضحكات التي كانت تطلقها بغير حساب أصبحت الدموع تأخذ مجراها على وجهها...
تنهدت بحسرة و تذكرت عمار وهو يخبرها أنه لم يعتبرها حبيبة أبدا و لطالما كانت ابنة عمه و ستبقى ، ترك فتاة تحبه مثلها و ذهب ليعشق امرأة أهانته و افترت عليه ، بالله أي حب هذا !
أغمضت ندى عيناها فتسربت الدموع من تحت جفنيها و شقت وجهها الجميل لتؤكد بأن كل ضحكاتها و مرحها اليوم مع صديقاتها لم يكن سوى تمثيلية لمسرحية هابطة تثبت بها أنها مازالت قوية و لم تسقط و لعل هذا ما يزيدها حرقة ... فهي برغم كثرة أصدقائها لم تجد شخصا واحدا تستطيع الشكوى اليه و القاء حمولة حزنها عليه.
و هنا أدركت أن الصداقة ليست بكثرة الناس من حولها بل بوجود شخص واحد لا تخجل من اظهار ضعفك أمامه و البكاء على كتفه ، و بالنسبة لندى لم يكن هذا الإنسان سوى عمار الذي تريد أن تشتكي منه إليه !
أحنت ندى رأسها تستعد لموجة بكاء جديدة قطعتها يد ظهرت من العدم حاملة منديلا رماديا وصلتها منه رائحة عطر رجولي ، فرفعت وجهها على الفور و تفاجأت عندما رات يوسف يقف فوق رأسها باِبتسامة لطيفة.
ارتبكت سريعا و همت تخفي دموعها فقال :
- لازم تدي لكل حاجة في الدنيا ديه حقها حتى دموعك ... متتكسفيش بيها لانها الوحيدة اللي تقدر تعبر عن مشاعرك.
لم تعلق عليه فأشار لها يوسف بالسماح له لتهز رأسها موافقة و تزيح حقيبتها ، و جلس الأخير بعدما أعطاها المنديل مقترحا عليها :
- This handkerchief has a magical effect ، و لما قلت عنده تأثير سحري متفكريش اني ببالغ لأنه بجد اول ما تحطيه ع وشك دموعك بتختفي فورا.
نجح في سرقة ضحكة ضائعة منها فهتفت وهي تلتقطه بين يديها :
- يعني مش عشان هو مصنوع من الحرير و القطن فطبيعي يمتص الدموع.
ابتسم و أجابها بنبرة رجولية مثقلة :
- هو جماد و انتي انسان تقدري تتحكمي فيه و تتخيليه بأي شكل يقدر يريحك.
رفعت حاجباها مهمهمة :
- مفكرتش بالطريقة ديه من قبل ... I like it.
تابعت متنهدة بأسى :
- ياريت نقدر نتحكم في مشاعرنا بردو ... تعرف اني اول مرة بحس بالعجز ده انا طول عمري بلاقي الاهتمام و الاعجاب من كل اللي اعرفهم الا الراجل اللي كنت عايزة اعجابه و حبه مبادلنيش بنفس مشاعري.
لقيت نفسي اتحولت لواحدة معرفهاش همها الوحيد تشحت حبه حتى بعد ما صحيت ع نفسي مقدرتش اتخطاه.
ترقرقت مقلتاها بدموعها مجددا فنظرت له متسائلة بصوت مبحوح :
- هو انا متحبش ؟ معقول شكلي مش عاجبه و كان لازم ابقى بصفات معينة عشان يعجب بيا ؟
صمت يوسف يتأملها بتريث و من دون ارادة وجد عيناه تحيدان لتفاصيلها ...
بداية من وجهها الأبيض المزين بخضراوتين لامعتين بشكل مبهر ثم شعرها الحريري الأشقر و البدي القطني الأبيض مع بنطال و حذاء عال بنفس اللون ، أسفل جاكيت جلدية ذات لون زهري مشرق.
فكر للحظات وهو يطالعها بأنها فائقة الجمال ولا تحتاج لأي تغيير لان حسنها يكمن في تفاصيلها ، رباه إن حتى دموعها تزيدها بهاء فكيف تقول أن شكلها لا يعجب أحد !
أفاق من شروده و هتف بعاطفة :
- الحب مش بإرادتنا يا ندى ... هو مش بالشكل و النسب لا انتي فجأة بتلاقي نفسك منجذبة لشخص معين ومش قادرة تتفادي الاحساس ده ولا تخلصي منه حتى لو عارفة ان الشخص ده مستحيل تجتمعي معاه.
- زي احساسك اتجاه مريم ؟
تشدقت بها على حين غرة فاِختفى ثباته و حلت مكانه الصدمة من كلامها و نضبت الدماء من وجهه فكاد يرد عليها بالنفي غير أن ندى قاطعته بتريث :
- Don't deny this ... مفيش داعي تنكر انا شوفت نظراتك ليها يوم روحت للشركة و قابلتها في اوضة عمار.
ساعتها عمار لما مسك ايديها و طلعها للبلكونة عيونك انت متشالتش من عليها و فضلت تراقبها حتى لما لقيتها خرجت و الدموع في عينيها انت كنت هتحصلها بس وقفت لما شوفت عمار جه و مصدقتش امتى تطلع من المكتب عشان تروح وراها.
تبلم يوسف بتفاجؤ و رمش عدة مرات باحثا عن كلمات مناسبة ليقولها لكنه لم يجد شيئا يستطيع الانكار به ، ان قدرة ندى الفظيعة على تذكر الوجوه و الأصوات و ملاحظة التفاصيل الصغيرة تجعل من أمامها يقف عاجزا عن مجاراتها و لذلك لن يضيع جهده في تكذيبها.
بل اختار الطريق الأقصر فتنهد و تمتم :
- لما شوفتها اول مرة مكنتش اعرف انها مرات عمار فجأة لقيت بنت طلعت قدامي وكنت هخبطها بالعربية جذبتني بنظرات عينيها و صوتها و هدوءها.
وبعد ما شفت اللي عملته و ازاي انها وقفت قصاد عيلة كبيرة من غير خوف و قدرت تدخل للشركة أعجبت بقوتها و بقيت ضايع و حاسس بالذنب لان الست ديه هي مرات اقرب صديق ليا بس فنفس الوقت مش قادر ابعد ولا ابطل ...
- مش قادر تبطل تخلي مشاعرك تتحرك ناحيتها صح.
هتفت ندى بثقة و تابعت :
- Forget it , تقريبا احنا مكتوب علينا نتعلق بالناس الغلط و مع الاسف فشلنا في اننا ننساهم او نخليهم يبادلونا نفس المشاعر.
سحب يوسف نفسا عميقا و نفثه بتريث قبل أن يعلق عليها :
- انا عارف ان مشاعري ناحيتها غلط في غلط و مستحيل تكمل عشان هي مرات عمار ولأنها بتحبه كمان ... فانا هكتفي ب اني اعيشها لوحدي و اخبيها في مكان صغير جوا قلبي.
و مين عارف ممكن في المستقبل الاقي البنت اللي تخليني أعشقها و ميبقاش فقلبي الا هي حتى انتي عندك فرصة تحبي حد تاني غير عمار ... و مش هكدب لو قولت ان واحدة زيك تستاهل راجل ميفكرش في واحدة غيرها ولا يحطها بديل.
ابتسمت ندى بمواساة لنفسها و له هو ايضا ثم استقامت واقفة و قالت مقترحة عليه :
- انا حاسة نفسي جعانة هدخل اكل في الRestaurant اللي قصادنا ديه بعدها اتصل بالشوفير عشان يروحني للقصر تجي معايا ؟
نظر يوسف خلفه ثم اليها مجددا و ضحك بخفة :
- و الله وانا كمان جعت اوي مش هقول لأ ، تعالي ناكل سوا و انا هبقى اخدك مفيش داعي تتصلي بالشوفير.
- اوك.
أشار لها بلباقة لتتقدمه ثم ذهب معها ناسيا أنه في الأصل جاء الى هذه الحديقة لأنه لمح مريم من بعيد جالسة مع احدى الفتيات و يبدو عليها الحزن و الشرود فاِلتقى بندى في طريقه و أحب مجالستها للتخفيف عليها بما أنهما تشاركا نفس القدر ...
_________________
و بينما يحاول بعضهم دسَّ الحقائق ... يسعى البعض لكشفها ، و هذا ما كان يفعله هو !
فتح باب جناحه و منه الى حجرة تبديل الملابس فطفق ينزع جاكيته و عقله مشغول في أحداث اليوم.
بداية من أخذ جميع احتياطاته و تغيير لوازمه إلى اخرى جديدة كي يضمن عدم تتبعه ، و لقائه مع سليم الذي أظهر له كذبا بأنه يصدق إخلاصه وولاءه له و في الحقيقة كانت هذه مجرد تمثيلية من عمار لأنه أوكل لأحدهم مهمة تتبع جميع خطوات سليم من الآن فصاعدا !
ثم معرفة أن مريم كانت تقطن مع شاب التقى به سابقا وكم جن جنونه عمار حينها و وسوست له نزعته العنيفة أن يذهب اليها و يعتصر عنقها بين قبضته لكنه تراجع في آخر لحظة عندما أخبره صديقه وائل بأن يصبر حتى يعرف نوع العلاقة التي تربطهما لربما يكون قد ظلمها.
و ها هو بعد استهلاك علبة سجائر كاملة و 3 من حبوب الإكتئاب و أخرى للصداع اصبح يشعر بالخمول و ارتجاف في أطرافه لدرجة لم يقوى فيها على الصعود لغرفته بخطوات متزنة !
تأوه عمار بإرهاق المَّ به و دلك صدغيه ثم ارتدى بنطالا من القطن و اتجه الى سريره في نفس الوقت الذي رن به هاتفه.
نظر الى المتصل و أجاب على الفور :
- ايوة يا وائل عرفت حاجة جديدة ؟
تنحنح و رد عليه بجدية :
- الوقت مكنش كافي عشان اوصل لمعلومات كتيرة بس قدرت اوصل لملف محمد صادق علي و جمعت عنه كام معلومة ... والدته اسمها نورهان أصلها من الغجر و اتجوزت راجل متمدن اللي هو ابوه صادق علي متوفي و كان موظف عند الحكومة.
توقف عمار عند كلمة معينة فأعاد نطقها بهمس :
- الغجر ؟ والدته غجرية !
- استنى انا جاييلك اهو ... عرفت ان والدته نورهان هربت من القبيلة بتاعتهم من سنين طويلة لان اهلها مكنوش موافقين تتجوز واحد من المدينة بما أن اختها الكبيرة عملت نفس الشي و وقفت في وش عيلتها عشان تتجوز واحد صحفي.
- و اختها ديه اسمها ايه ؟
تركزت حواسه بتوجس يتوقع الاسم الذي سيذكره و جاءته الصدمة عندما أخبره الآخر :
- ثريا يا عمار ... اختها ديه هي نفسها والدة مراتك يعني مريم كانت متخبية في بيت خالتها طول الوقت ده.
حينها توقف العالم من حوله و ارتكزت قوقعته على شيء واحد فقط ، مريم لديها خالة كانت متزوجة من رجل في الاسكندرية ، مريم التي ظن أنها لا تملك في الدنيا سوى عمها و ذكريات والديها اتضح أنها كانت تخفي عنه حقيقة امتلاكها لعائلة من طرف أمها !
كيف استطاعت إخفاء هذا و لماذا لم يسمع عنها من قبل هل كانت مريم من البداية تتوقع مجيء يوم تهرب فيه فتضطر للتخفي بمكان لا يعرفه أم هذه خطتها من قبل زواجها اساسا.
حسنا هذا أصبح منطقيا أكثر ، المراهقة التي أنقذها كانت ذات شعر مجعد و ملامح شبيهة بملامح مريم ، اسمها " ثريا " وهو نفس اسمه حماته المتوفية و لقد اخبرته في تلك الليلة أنها جاءت الى القاهرة مع شقيقها من أجل شيء مهم.
و اتضح ان هذا الشيء بالغ الأهمية هو زوجته !
رمش بعينيه المنطفئتين لثوان و شعر بخمول غريب يكتسيه و يمنعه من التفكير الزائد ، لذلك أسدل جفناه و القى ظهره على السرير ، و لم يشعر بشيء بعدها ....
إلا أنه عندما غرق في ظلام مهيب أحس بيد حانية توضع على وجهه ، فقاوم لطرد الطاقة السوداء التي تمنعه من الاستيقاظ ، و فتح عيناه فأبصر بزيتونيتاه تلك المرأة ذات الوجه الجميل و الشعر البني الطويل ، مكتسية في ثوب أبيض فضفاض بإبتسامتها اللطيفة ، فتأوه و تشنج متمتما بصوت متقطع لم يخفي دهشته :
- م ... ماما.
استند على مرفقيه ليقوم لكنها وضعت يدها عليه مهمهمة :
- هشش اهدا.
أطلق آنة خفيفة بسبب صداعه ثم قال :
- انتي بتعملي ايه هنا ... ده حلم مش حقيقة.
- انت مش عايزني ابقى هنا معاك ؟
سألته بنبرتها الأنثوية فرد عليها بدون تفكير :
- ايوة مش عايزك تبقي لا في حياتي ولا في ذاكرتي ... كفاية اللي حصلي بسببك و المشاكل اللي بتحصلي لحد دلوقتي.
ضحكت فيروز و رفعت حاجبها بإنكار :
- مينفعش تكدب على ماما يا حبيبي ... انت لحد دلوقتي بتحبني و متمني اكون معاك دايما.
انحنت عليه و همست في أذنه :
- تقدر تنكر انك بتبقى عايز تشوفني مكان مرات ابوك و تحط راسك على رجلي زي زكان في كل مرة بتبقى مضايق و زعلان ؟
وده اللي مخليك تكره نفسك عشان مش قادر تطلعني من قلبك و تحكي لأبوك كل حاجة كنت اعملها.
ارتفع نسق أنفاسه و ازدادت ضربات قلبه بشكل مريب لكن الأخرى لم تكترث وهي تطالعه مجددا بفخر :
- انت نسخة عني شبهي في كل حاجة فشكلي و طريقة كلامي و تفكيري كل تفصيلة فيك ورثتها مني حتى قوتي.
هز عمار رأسه بهستيرية لاهثا بصعوبة :
- مستحيل ابقى شبهك انتي واحدة خاينة كنتي بتستغليني و تجبريني اسكت عن اللي بتعمليه مع الراجل اللي ...
زم شفتيه بقرف وهو يرى أطياف سوداء أمامه ، أطياف ذاكرة مازالت واضحة لم يطمسها غبار السنين ...
فاِلتف ناحيتها ينظر لها بقوة :
- انتي كنتي بتخوني جوزك ... الخيانة مش قوة ديه ضعف وانا مستحيل ابقى خاين زيك.
حينها اختفت لطافتها السمحة و ظهرت بملامحها الحادة التي كانت تواجهه بها في طفولته و تهدده بعقابه ان نطق حرفا واحدا ، فسحبته اليها و قابلته مغمغمة من بين أسنانها بحدة :
- يبقى انت ضعيف كمان ... نسيت انك لسه شايل سري و بالتالي انت كمان شريك في الخيانة ... بتبقى شايف ابوك قدامك و رافض تحكيله ع الحقيقة لانك خايف قمت فضيت غضبك في بنت غلبانة عشان تعالج رجولتك المجروحة بس عارف ...
صمتت لثوان تراقب انهياره بإستمتاع قبل أن تضحك و تردف :
- تستاهل تعيش نفس قدر أبوك و تتعرض للخيانة لان اللي زيكم حرام يتحبو.
احمرت عيناه بقسوة و امتزج غضبه مع هلوسته فردد بإنفعال حاد :
- بابا كان بيحبك و يثق فيكي بس انتي خدعتيه وكنتي بتروحي للراجل اياه قوليلي ايه اللي اداهولك عشيقك و ملقيتهوش عند جوزك فهميني ليه عملتي كده ليه دمرتي حياتي و خلتيني اخسر الانسانة اللي ...
سارعت بوضع يدها على شفتيه تمنعه عن مواصلة الحديث محذرة :
- اوعى يا عمار اوعى تقول الكلمة ديه لو مش عايز تبقى زي ابوك متخليش حد يدخل لقلبك ... احيانا الحب بيبقى مش كفاية يا عمار و باباك حبني بالطريقة الغلط زي ما انت اتعلقت مريم بالطريقة الغلط فلو رافض تتعرض الخيانة خليك لوحدك و متديلهاش الفرصة عشان تأذيها ... انت اللي لازم تأذيها.
قارنت كلامها برفع يده لعنقها فتبلم يطالعها بهلوسة و ضياع تشققت من بينهما صورة الغجرية ذات الشعر المجعد و الخلخال الرنان بإبتسامتها الخجولة التي تجعل عيناها الكحيلتان تلمعان ببريق فاتن.
فأغمض عيناه نافيا بعجز :
- مبقدرش ااذيها ... مستحيل اعمل كده في مريم.
ضحكت فيروز ببلادة مجيبة :
- انت خلاص عملت.
حينها تفاجأ بوجود مريم بين قبضته يضغط على مجرى تنفسها بغير رحمة حتى سقطت على الأرض ، فاِنتفض صارخا بذعر :
- مريم !
أمسكته والدته و قالت مشيرة نحو الجثة الهامدة :
- ديه اخرتها مادامك حواليها لو فضلت متمسك بيها هتلاقي نفسك خلصت عليها و ع الناس اللي بيحبوك ... قولي يا عمار انت عايزها تموت ؟
ارتجف و سالت قطرات العرق منه مهمهما بهستيرية :
- لأ ... لأ ... قوليلي لازم اعمل ايه علشان اخليها تفوق.
تمتم محدقا في الغجرية الملقية على الأرض فأجابته الاخرى ببرود :
- لازم تدفع تمن كبير انت مش قده.
نظر اليها برعب و اردف وهو يهزها :
- مستعد اعمل اي حاجة بس متسببش في أذيتهم قوليلي لازم اعمل ايه يا ماما ارجوكي !
لم تنبس ببنت شفة ، و اكتفت بالنظر لما خلفه ف استدار هو أيضا ليبصر باب الشرفة المفتوح تقبع من اسفلها الهاوية المنشقة من بين تلافيف الظلام ...
عرف وقتها ما يجب عليه فعله كي يرتاح العالم من هوسه و جنونه وقد بدأ الظلام يخترق نور عينيه ...
و من بين الظلمة و النور كان عمار يتبين طريقه نحو الشرفة حيث اختار إنهاء حياته لإنقاذ حياة الآخرين ... مستقبلا الهواء البارد الذي يضرب صدره العاري بدون هوادة ...
ثم استفحل به الدوار و تشتت تركيزه فإنقطعت صلتة عمار بالواقع و هام كما لو أن الزمن مسَّه الخبل بينما يصعد بقدمه للشرفة و يناظر الهاوية في الأسفل.
فارتخت أضلاعه ... و لانت قدماه ... ليغمض عيناه مستعدا لرمي نفسه ... نحو الخلاص !!