رواية نيران الغجرية الفصل الثالث والستون63 والرابع والستون64 بقلم فاطمة أحمد


 رواية نيران الغجرية الفصل الثالث والستون63 والرابع والستون64 بقلم فاطمة أحمد
الفصل الثالث والستون : بوصلة ذات إتجاه واحد

الصدمة ، الذهول و الغيرة ، كل هذه الأحاسيس تكالبت عليها في تلك اللحظة وهي ترى زوجها يعانق امرأة أخرى بود و كأنها حبيبته و يضحك معها أيضا ، لقد جاءت مع صديقتها و زميلاتها في العمل لإحدى المطاعم ثم جلسن في الحديقة لكي يرفهن عن أنفسهن ولكنها لم تتوقع بأن سترى زوجها في هذه الوضعية ... و مع إمرأة جميلة بعينين ساحرتين ! 

شعرت بنفسها يضيق و النار تندلع من داخلها و أحست بالخيانة و الإهانة الشديدة خاصة أنها أمام زميلاتها اللواتي لا يفوتن فرصة للإستهانة بغيرهن لذلك قررت كبت دواخلها مؤقتا لئلا تعطي لإحداهن فرصة الاستمتاع على حسابها فعادت ترسم الجمود على وجهها و اِستدارت تسير بأناقة ناحية الفتيات وهي تردد :
-  Girls مش يلا بقى نمشي. 

همهمت واحدة منهن متسائلة بمكر :
- ليه ما احنا قاعدين. 

ابتسمت مريم و قالت :
- صراحة اختيارك للمكان ده معجبنيش ممل اوي انا عاملة program أحلى و عازماكم ع مكان افضل من ده بكتير و متقلقيش هخلي المصاريف ع حسابي.
- ايه سر الكرم ده كله.

- مش انا كسبتكم في اخر مهمة و مستر يوسف كافأني قدامكم اعتبروها احتفال صغير. 
أجابتهم بثقة و نظرت لهالة التي رمقتها بذهول ممتزج بالإعجاب ثم للفتيات اللواتي حدجنها بخنق أخفينه سريعا ليغادرن أخيرا ، ولم تغفل مريم في هذه الأثناء عن رشق عمار بنظرة غاضبة متوعدة ...

عادت مريم من شرودها و تذكرها لأحداث صباح اليوم فزفرت بعصبية و أسندت يداها على شرفة غرفتها مهمهمة :
- ديه تاني مرة اشوفه بيحضن واحدة في مكان عام من غير كسوف لسه امبارح كان معايا و قضى الليل بطوله وهو بيقولي بحبك و بموت فيكي ... حب ايه ده وانت مش عاتق أنثى معدية من قدامك. 

ضربت قدمها على الأرض كاتمة صرخة لو خرجت منها لأجفلت الطيور المزقزقة فرحا بفصل الربيع لتسمع بعد دقائق صوت الباب يفتح و يظهر عمار من خلفها مغمغما :
- انا كام مرة قولتلك تردي عليا لما اتصل بيكي.

لم يجد جوابا منها فإقترب و لفها ناحيته متهدجا :
- مريم ! 

أزاحت يده عنها و دخلت لغرفتها هاتفة ببرود :
- محبتش أعطلك عن أشغالك وانا كمان كنت مشغولة مش هفضل فاضية و مستنياك تتصل يعني. 

اندهش عمار من رد فعلها المفاجئ بعدما توقع أن تتهجم عليه في الحديقة أو تصرخ و تبكي متهمة إياه بالخيانة غير أنه لم يتوقع هدوءها و برودها هذا ، فزم شفته بغيظ و اقترب منها مرددا بجدية :
- انا عارف انتي بتفكري ف ايه دلوقتي بس صدقيني انتي فاهمة غلط و الموضوع ا...
- مبيهمنيش انا تعبانة و عايزة ارتاح فياريت تمشي. 

زفر عمار و غمغم محذرا :
- مريم بقولك انا ...

في هذه اللحظة فقدت أعصابها فنظرت اليه بحدة صارخة :
- انت ايه ها انت ايه و هتقول ايه يبررلي المنظر اللي شوفته ديه المرة الكام يا عمار اللي بتحطني فيها فموقف محرج ! و جاي متنرفز وكمان و بتعاتبني عشان مردتش علي مكالماتك انت مجنون ! 

ضيق عيناه بإستنكار من كلامها فكاد يحذرها من إطالة لسانها لكن مريم قاطعته :
- انا سمعتك بتقولها يا ريماس يعني ديه نفس البنت اللي كنت بتقوم من جنبي وبتروح تكلمها صح ؟ نفسها اللي قلت عليها عميلة ومابينكم علاقة شغل مش اكتر بس كل مرة بسمعك بتكلمها.

وجد عمار نفسه محاصرا بأسئلتها ليرضخ في الأخير و يومئ بإيجاب :
- ايوة هي ديه ريماس. 

تراجعت مريم الى الخلف رامقة إياه بذهول و خذلان و تمنع غشاوة الدموع من التسلل لعينيها لكنها لم تستطع درء حشرجة صوتها وهي تتمتم :
- انت ازاي كده ... ليه مصمم تقهرني و تحسسني كل مرة اني رخيصة و مليش قيمة عندك ليه بتخليني اصدقك وكل لما احاول اثق فيك من تاني انت بترجع تؤذيني و تأكدلي اني غلطانة. 
- يا مريم صدقيني انتي فاهمة غلط اا...
- طيب رد عليا ريماس ديه بجد عميلة ولا انت كنت بتكدب عليا ؟ 

سألته مباشرة فأغمض عمار عيناه مجيبا إياها بصراحة :
- لأ مش عميلة ... انا بعرفها من سنين طويلة بتقدري تقولي عليها صديقة طفولتي يعني انا لسه عارف الحقيقة ديه من شويا بس.
- انت بتقول ايه مش فاهمة.

صمت مرغما وهو يجد نفسه واقعا في حيرة بين الصمت أو الإعتراف لها بكل شيء لكن مريم اعتبرت سكوته تجاهلا و إستهانة بمشاعرها فضربت صدره وهي تصيح بجنون :
- انا كنت عارفة انك مخبي عني حاجات كتير بس متوقعتش توصل بيك الأمور لأنك تخونني بكل وقاحة كده و بتقول اني فاهمة غلط هو ايه اللي فاهماه غلط انا كنت بشوف رسايلكم بعينيا و اسمعكم بتتكلمو بعدين بتجي وتقولي انك بتحبني ده حتى ... حتى ليلة وفاة عمك انت روحت اتصلت بيها و دلوقتي بتاخدها في حضنك كأنها حبيبتك انت ازاي بتبقى عارف تضحك عليا اكتر من مرة و بتعاملني زي الهبلة !

ضربته ثانية وهي تتابع بحرقة و قهر :
- ليه مصمم تعيشني في الوجع ده مرتين و ليه بتجيلي مادامك بتحب غيري حرام عليك.

- ريماس ديه بتبقى psychologist و انا بتعالج عندها.
لفظ عمار جملته دفعة واحدة فإنطفأت ثورتها فجأة و توقفت الحروف في حلقها تنظر له بصدمة و عدم استيعاب حتى همست :
- بتبقى ايه ؟ 

أخذ نفسا عميقا و حمحم يجلي صوته ليقول بهدوء :
- دكتور ريماس انا بتابع معاها في جلسات من شهور طويلة لما جيت في ليلة كنت هنتحرف و ارمي نفسي من البلكونة لولا بابا لحقني في اخر لحظة.

شهقت برعب و أمسكت يده بتلقائية فنظر اليها مكملا :
- ساعتها عرفت ان حالتي متدهورة و مينفعش أأجل العلاج اكتر من كده خاصة ان الأدوية مبقتش تفيدني.

هزت مريم رأسها بتعب و توهان :
- أدوية ايه ... انا مش فاهمة حاجة.

نعم لقد كانت تراه يتجرع بعض الحبوب من حين لآخر وحتى أن هالة رأته في المطعم منذ سنتين و أخبرتها بأنه كان يبدو بحالة غير متوازنة لكنها لم تركز في هذا كثيرا و انشغلت بمشاكلها الأخرى ، أدرك عمار ما تفكر هي به الآن وكم كان صعبا عليه أن يفشي أسراره و يعرض ضعفه على الآخرين و خاصة المرأة التي يحبها لكنه لو لم يفعل سيخسرها ولن يكسب ثقتها مرة أخرى لهذا هو مضطر وربما سيكون أفضل من أجله كما أخبرته ريماس منذ قليل.
ضغط على يده و تشنج صوته بينما يتنفس بحدة هاتفا :
- مريم انا مكنتش طبيعي و عانيت من الاكتئاب و نوبات عصبية و اضطرابات كتيرة من قبل لما كنت بنتكس ببقى مش شايف حاجة قدامي و ممكن اعمل اي حاجة.
يعني لما كنت بتعامل معاكي وحش كنت ببقى تحت تأثير واحدة من النوبات بتوعي ومش واعي علشان كده بضطر ابعد عنك فترة عشان مأذكيش ... و بالمناسبة يوم حطيت ايديا على رقبتك و خنقتك كنت قاصد اعمل كده ولولا اغمى عليا كنت قتلتك من غير ما احس.
__________________

طالعها وهي تسند رأسها على الأريكة و عيناها مشخصتان في الفراغ بدون أي تعبير عليها فتنهد بحيرة متذكرا كيف جاءته منذ ساعات في حالة يرثى لها و انهارت بين ذراعيه مرددة بأنها لا تود العودة الى القصر ثانية حينها صُعق و خاف عليها خاصة انها كانت تنوي قضاء أسبوعين هناك بجوار أمها لكنها جاءت الآن بوضع لا يفسر ، و حين اتصل بشقيقتها اضطرت هي لإخباره بكل شيء فنال نصيبه من الصدمة ووجد نفسه يحتضنها و يهدئها حتى صمتت و منذ ذلك الحين وهي بهذه الحال.

تنهد يوسف و نظر للخادمة التي أحضرت كوبا من الماء فأخذه منها و همس بطيبته المعتادة :
- ندى حبيبتي خدي اشربي شويا. 

ارتشفت منه بعض القطرات ثم وضع هو رأسها على كتفه و عانقها بحمية لم تكف لمواساتها بسبب الصدمات التي توالت عليها فهمست بصوت مبحوح :
- انا كنت معتبراه قدوتي و افضل راجل في الدنيا ... كنت عارفة انه عايز يجوزني لإبن عمي عشان الورث و الفلوس بس متوقعتش يوصل بيه الطمع ل أنه يؤذي ست حامل و يتسبب في انها تخسر ابنها و يؤذي اخوه و ابنه و شركته و يقتل مساعدينه وكل ده علشان الفلوس.
معقول الطمع بيخلي الانسان وحش للدرجة ديه ؟ تعرف انا دلوقتي اتأكدت من ان اللي عملته مريم كان قليل في حقنا والدي غلط معاها وهي انتقمت و خدت حق البيبي اللي ملحقش يشوف الدنيا ... انا مصدومة في بابي بجد يا يوسف و مكسوفة اقول اني بنته.

- هو مهما عمل فده مش غلطك يا ندى ايوة صحيح عادل بيه ارتكب حاجات كتيرة غلط بس مننكرش أنه كان أب كويس ليكي و قدر يربي ملاك زيك مبتقدرش تضر غيرها. 
- بس الملاك ديه اكتشفت ان كل اللي اتربت عليه طلع مزيف ومش حقيقي ... انا حاسة نفسي مكسورة ووحيدة.

اعتدل يوسف في جلسته ورفع رأسها اليه متشدقا بجدية :
- طول ما انا موجود معاكي مش عايزك تقولي ع نفسك كده وحتى لو مكنتش جمبك اوعى اسمعك بتقولي انك مكسورة و وحيدة يا ندى ... انتي قوية و زي ما قدرتي تتجاوزي اللي حصلك من كام شهر و كملتي حياتك هتقدري تتجاوزي دلوقتي ماشي. 

ابتسمت ندى بخفوت و أماءت برأسها وهي تشعر بالأمان و السكون بين يديه ثم نهضت و دخلت للجناح الخاص بهما و منه لحجرة تبديل الملابس كي تغير ثوبها و أثناء ذلك رأت ساعة يده ملقاة على الأرض و يبدو أن يوسف لم ينتبه لها فاِلتقطتها و فتحت الدرج الخاص بساعات اليد الفاخرة لحي تضعها داخله إلا أنها لاحظت في أقصى طرفه قطعة تلمع ومن الواضح أنها فضة فسحبتها بيدها لتتفاجأ وهي ترى قرطا نسائيا.
عقدت ندى حاجبيها مركزة في هذا القرط الذي يظهر عليه أنه تصميم قديم رأته سابقا ، وشحب وجهها وهي تدرك بأنه مثل الأقراط التي كانت ترتديها مريم يوم التقت بها في المطعم و حفلة عقد قرانها من عمار ! 
شهقت بذهول و ارتجفت يدها محاولة التفكير في سبب مقنع يجعل يوسف يحتفظ بذكراها سوى لأنه يحبها و مع الأسف لم تجد فلماذا سيحتفظ رجل متزوج بغرض فتاة نسيها كما كان يقول ... ما هذا الذي تواجهه هي الآن هل أصبحت ندى البحيري عرضة لهذه المواقف ايضا وهل كُتب عليها أن تحب و ترتبط بالرجال المغرمين بمريم دائما ! 

ارتجفت شفتاها و عصفت عيناها بالدموع المريرة لترى يوسف يدخل و يسألها عن سبب تأخرها لكنه توقف عند رؤية ما تحمله فأصابته الدهشة و تسمر مكانه ينتظر رد فعلها حتى نظرت هي اليه و ألقت القرط بقوة على الأرض ثم اتجهت لرف الحقائب وسحبت واحدة منها تجمع فيها ملابسها بهستيرية وكأنها أصيبت بمس من الجنون ، انتفض يوسف و ردد بتشنج محاولا ثنيها عما تفعله :
- انتي بتعملي ايه.

أزاحت ندى يده عنها صارخة :
- ابعد عني من النهارده انا مش عايزة اشوف وشك ابدا. 
- يا ندى حصل ايه لكل ده اهدي شويا مش كده. 

نظرت له بغضب و استهجان :
ن- حصل ايه ؟ انا لقيت جوزي محتفظ بالearring بتاع البنت اللي كان بيحكيلي قد ايه هو بيحبها مفروض اعمل ايه افرح و اغني مثلا ؟ مادامك لسه بتحبها اتجوزتني ليه !
- بس انا نسيت مريم و بالنسبالي صفحتها اتقلبت خلاص.

- اللي بينسى حد مبيفضلش محتفظ بحاجة تخصه.
صاحت بحدة فأمسك يوسف كتفيها يسيطر على حركتها محاولا تهدئتها و الشرح لها :
- انا مكنتش ناوي من الاول احتفظ بيه اساسا حاولت اكتر من مرة اديهولها بس خفت هي او عمار يفهموني غلط عشان كده سبته معايا وبعدين نسيت وجوده و مفتكرتوش غير دلوقتي. 

ضيقت ندى عيناها مطالعة إياه جيدا ولكن كان يظهر على وجه يوسف الصدق المطلق و الخوف من ردة فعلها فوقفت مكانها محتارة و غاضبة ... إحساس الغيرة ينهشها من الداخل خاصة وهي تتذكر كلامه من قبل عن حبه لمريم صحيح أنه تجاوزه سريعا ولم يجعلها تشعر يوما بأنه يحب غيرها بل على العكس كان يوسف يعاملها بكل رقة و احترام و يغازلها ترى الحب في عينيه لها لكن كل هذا لا يكفي من أجل نزع الغيرة من قلبها.
هي تغار عليه مثل المجنونة لدرجة أنها خلعت ثوب الزوجة المتحضرة و أصبحت تلتصق به ولا تسمح لأي إمرأة بأن تتواجد معه في مكان واحد بمفردهما حتى لو كانت مجرد موظفة أو زميلة في العمل.

لاحظ هو حيرتها فاِستغل ذلك كي يقنعها بحديثه خوفا من أن تكذبه و تتركه ليضم وجهها اليه هاتفا بلوعة :
- ندى حبيبتي انا نسيت مريم واللي قبلها من لما عرضت الجواز عليكي و حطيت دبلتي في ايدك لو كان قلبي مشغول بغيرك مكنتش هعرف اتجوزك أساسا ... انا بحبك انتي وبس. 

أجفلت ندى و اتسعت عيناها بدهشة من اعترافه فنظرت له مهمهمة :
- انت ايه ؟

ابتسم عليها فأومأ بلهفة :
- اتعلقت بيكي من قبل خطوبتنا حتى ، بقيت بصحى وانا منتظر اتصالك عشان نروح لدور الايتام ونقضي يومنا معاهم او نقعد ع النيل وتحكيلي عملتي ايه في يومك اتعلقت بتفاصيلك اللي مكنتيش بتظهريها للناس إلا أنا وبعد جوازنا اتقربت منك اكتر و اتقبلتك بمميزاتك و سلبياتك لو كان كل ده حب ف أنا بحبك يا ندى. 

ترقرقت عيناها بالدموع و انتابتها قشعريرة سرت في أوصالها فأسندت وجنتها على يده و إبتسمت هامسة :
- وانا كمان بحبك يا يوسف ...  I love you. 
- انا عارف و شوفت ده فعينيكي اكتر من مرة. 

أنهى كلامه وهو ينحني عليها يقبلها بروية فاِستسلمت له و أحاطت عنقه بيديها تستقبل إندفاعه و ترحب به ....

___________________
عند أول ساعات الفجر.
أسند رأسه على مرفقه يراقبها وهي تتوسد كفيها بجانبه في صمت تواري عنه حدقتيها خلف جفنين منسدلين بوداعة ، ثم أزاح عن وجهها خصلة من شعرها و طفق يتأمل ملامحها مفكرا ... لقد اعترف لها بكل شيء ، أفرغ لها ما بجعبته من أسرار و أخبرها بالذي ظل يثقل روحه لسنوات.
ما يزال يتذكر كيف شل لسانها من الصدمة و انقطعت أنفاسها وهي تستمع لخيانة والدته مع عمه ، و انقلب وجهها بإشمئزاز لحظي دارته سريعا لكي لا تزيده وجعا ثم انقضت عليه تحتضنه وتقبل دموعه التي تسربت من عينيه بدون شعور منه متمتمة بلهفة بأنها بجواره الآن ولن تتركه ، ليبادلها العناق و يتمسك بها مقنعا نفسه بأنه فعل الشيء الصحيح و استمات لكي لا يشعر بالذنب فهي زوجته ولا ضير من أن تعرف أوجاعه ...
و انتهت لحظاتهما بليلة سرمدية بينهما بعدما تحول ألمه إلى رغبة و اِحتياج فلم تمتنع مريم و استسلمت له تستقبل حبه ... و وجعه. 

تنهد عمار بعمق وهو يملس على شعرها بخشونة زائدة نتج عنها استيقاظ مريم التي تململت وهي ترفع الغطاء على جسدها الملحف بقميص خفيف لا يناسب برودة الجو ثم نظرت له هامسة بصوت مبحوح :
- انت لسه منمتش. 

اكتفى بنفي صامت ثم مرر أنامله على كتفها نزولا لذراعها بوجه جامد و نسق أنفاس بطيء يشبه الركود مابعد الثورة ، لتغمض هي عيناها مجددا مستشعرة لمساته التي لم تكن كافية لتنسيها آثار صدمة الليلة الماضية.
ما تزال في عقلها صورته وهو يخفض عيناه عنها بخزي مخبرا إياها بأنه كان شاهدا على خيانة أمه من رجل نسي ملامحه بسبب صدمة تعرض لها وقد نتجت عن ترهيبه و دفعه من أعلى السلم ، لكنه لم يكن حظه جيدا لدرجة أن ينسى كل شيء فلقد ظل يعاني من الكوابيس و الهلوسات سنوات طويلة دون أن يجد مؤنسا له حتى أوشك على الإنتحار ! 

إضطرب حلقها بغصة وهمية و فترت ملامحها بشكل تنبهت له حواسه ، فأمسك عمار ذقنها و مال عليها يتحقق من غشاوة الدموع التي غطت مقلتيها فضيق حاجباه يهتف بنبرته الهادئة :
- مالك يا مريم. 

وكأن كلماته الحانية كانت القطرة التي أفاضت الكأس فاِرتجفت شفتها و أجهشت في بكاء هستيري أذهل عمار وجعله يصاب بالذعر فإعتدل جالسا لكن قبل أن يسألها عن سبب بكائها تفاجأ بها تحضنه و تضع رأسها على صدره العاري مرددة بتقطع :
- انا ... انا اسفة ... انا مبستاهلش ... انك تحبني. 

صعق من تصرفها و تجهم وجهه بحيرة فهمس بينما يحاوطها بذراعه :
- مش فاهم انتي بتقولي ايه. 

تعلقت به مريم أكثر و هتفت من بين انتفاضاتها الخفيفة :
- انت كنت بتتوجع و بتعاني قدامي بس انا مفهمتش ومعرفتش مالك ... كنت بشوفك بتصحى من نومك وانت عرقان و باين عليك مخنوق ومش كويس بس اخترت اني مركزش معاك و التهيت بمشاكلي و زعلي.
مع انك انت اول واحد كنت بتاخد بالك من تفاصيلي سواء فرحانة او زعلانة ولا مريضة حتى عمي كان تعبان وانت عالجته لانك شوفت قد ايه انا خايفة عليه بس والله العظيم يا عمار انا كنت بخاف اسألك عن حاجة تخصك و بقول ممكن يضايق لو حبيت اطمن عليه. 

أبعدها عمار عنه و أمسك وجهها بين كفيه يمسح دموعها و يكلمها بجدية :
- ده مش غلطك لاني كنت قاصد اخفي حالتي عنك واكيد انتي مش هتعرفي انا مالي من غير ما انا اتكلم و ايوة انا كنت بلاحظ حيرتك و تساؤلاتك في عينيكي لما بتلاقيني تعبان و خوفك من انك تسأليني علشان كده انتي ملكيش ذنب في حاجة.
- طيب ليه محكتليش ليه روحت لغيري هو انت مكنتش بتثق فيا اوي كده.
- مش مسألة ثقة يا مريم انا حتى عيلتي و صحابي اقرب اتنين ليا محكيتلهمش كنت بلاقي صعوبة في الموضوع ده لأنه حساس جدا علشان كده اخترت اتكلم مع واحد غريب عني وبيقدر يساعدني بموضوعية من غير ما اشوف نظرة الشفقة في عيونه.

أوضح لها عمار وجهة نظره كي يخفف عليها ذنبها الذي ظهر من الاشيء فهدأت شهقات مريم قليلا و همست بتحشرج :
- انت بتتكلم بجد ؟

ابتسم بيأس مجيبا عليها :
- ايوة بجد.

مسحت دموعها بإرتجاف ثم طالعته بنظرات حانقة :
- مع واحد غريب قولتلي ... ماهي الغريبة ديه انت كنت بتتصل بيها في كل وقت و شوفتك واخدها في حضنك كمان.

عض شفته بإرتباك و سارع يتصرف قبل أن تفتح نفس الموضوع مجددا :
- يا حبيبتي قولتلك اني اتفاجأت لما عرفت ان ريماس هي نفسها صديقة طفولتي و تصرفي كان تلقائي يعني لأني متعود على كده بس هو حضن بريء.

رمقته مريم بإستهجان مستنكرة تبريره :
- حضن بريء و متعود على كده طب ايه رايك ابقى انا زيك و احضن ابن خالتي او واحد زميلي حضن بريء.

شاهدت ملامحه المسترخية تتحول لأخرى متشنجة فتوجست قليلا وهي تلاحظ أنه زيتونيتاه أصبحتا كاللهيب بينما نفث عمار أنفاسه و إبتسم بشكل إجرامي قابضا على ذراعها :
-مش عايز اسمع الكلام ده تاني اوعى تجيبي السيرة ديه تاني فاهمة.
- اتضايقت ليه وانا قولت حضن بريء يعني انت عندك حق تغير وأنا لأ ؟

- مريم متنرفزنيش ! 
هدر عمار بحدة و شدد عليها مغمغما بتحذير :
- متخلنيش اغلط و اعمل حاجة تزعلك قولتلك اني متعود ع كده و كان تصرف تلقائي مني و مادامك اتعصبتي خلاص مش هعمل كده تاني تمام ؟ 

تملصت مريم منه و لمعت عيناها بالتحدي بينما تحدق فيه غير عابئة بغضبه :
- لمصلحتك انك متعملش كده تاني انسى حياتك الكلاس واللي متعود عليه لأني مش هقبل بالحركات ديه المرة ديه انا سامحتك بس صدقني المرة الجاية هولع فيك و في البنت اللي حطيت ايدك عليها. 

لسبب ما أعجبته طريقتها و غيرتها الشرسة عليه فأماء مسايرا إياها ثم طبع قبلة على جبينها و عانقها لتغيب ابتسامته بمجرد ابتعاد وجهه عن مرمى نظرها متذكرا الإتصال الذي راوده قبل مجيئه للشقة وقد بدأ يفكر جديا في الموضوع الذي طرحه عليه المتصل ! 

___________________
في صباح اليوم التالي. 
اخترق ضوء الشمس أنحاء الغرفة فقطب حاجباه بإنزعاج و تململ مستيقظا من غفوته التي حصل عليها منذ ساعتين فقط ، فتح عيناه و نهض يغتسل ثم اِرتدى ملابسه و خرج ليجد مريم قد حضرت الفطور و عند رؤيته ابتسمت مرددة :
- صباح الخير انا جهزت الفطار خلينا نفطر بسرعة عشان نروح للشغل.

جلس عمار بجوارها بهدوء لتقول بإهتمام :
- انت كويس مش حاسس نفسك تعبان ولا حاجة ؟ 
- أيوة أنا كويس.
- طب مش قولتلي انك متعود تشرب الدوا أول ما تصحى انت خدته ولا...

تنهد عمار بتجهم مردفا :
- ايوة خدته يا مريم متقلقيش. 

أمسكت الأخرى يده و ضغطت عليها قائلة بهدوء :
- بص انا عارفة انك معتبر اهتمامي شفقة و عبء عليك لانك فاكر انك كده هتبقى ضعيف  بس ممكن تبطل تشوف الموضوع من الناحية ديه و تحط في بالك اني بحبك و أسئلتي ديه لاني بهتم بيك ؟ مش كنت بتقول اننا واحد و بنكمل بعض معقول غيرت رأيك بسرعة.

نفى سريعا وقبل يدها متمتما :
- لأ مغيرتش رأيي بس يعني حاسس بغرابة لأني مش متعود يسألني حد ع حاجات حساسة بالنسبالي انتي فهماني صح.
- فاهماك طبعا بس حاول تتقبل فكرة ان مش عيب نحاول نطمن عليك ماشي.
- هحاول.

شرعا في تناول الفطور وسط صمت منهما حتى تنحنح عمار و قال :
- اتصلت ماري بيا امبارح و قالت اننا هنبدأ ننفذ المشروع اللي وقعنا عليه من شهر ... و زي ماانتي عارفة لازم أسافر لباريس و اقضي هناك فترة التنفيذ.

انتبهت لحديثه و شطحت مخيلتها بالأفكار التي لا توجد واحدة منها لصالحها فوضعت الشوكة و نظرت اليه مهمهمة بحذر :
- و الفترة ديه اسبوعين يعني ولا ... اكتر.

ازدرد عمار ريقه و حاول انتقاء أكثر كلمات مناسبة هاتفا :
- المشروع كبير ولو نجح هيبقى مسار جديد للشركة فهو محتاج وقت طويل ... شهور ع الأغلب.

شهقت مريم و شحب وجهها من وطأة ثقل جملته فاِرتجف صوتها متسائلة :
- كام شهر يعني طب ... طب انا اقدر اجي معاك بصفتي مترجمة صح لأني من أفضل المتدربين و هبقى موظفة رسمية بعد كام يوم بس.

أخذ عمار نفسا عميقا وقد وجد صعوبة أكبر في الأمر لأن ردة فعلها لا تساعده ، لكنه تمالك نفسه و أجابها بثبات :
- صحيح هتبقي موظفة بس معندكيش الخبرة الكافية اللي تخليكي تسافري معانا احنا اخترنا فريق و ....

- اخترتو ؟ 
قاطعته بتعجب تدرس قصده حتى نضحت ملامحها بالإدراك فهزت رأسها مستطردة :
- ده انت مخطط ليها من زمان بقى ... عايز تبعد عن هنا قصدا مش كده و المشروع حجة مش اكتر.

نهضت من على المائدة فأمسك يدها يمنعها لكنها أفلتت منه هاتفة :
- انت خدت قرارك من غير ما تفكر بيا و بمشاعري اخترت تبعد عني تاني بحجة انك محتاج تفضل لوحدك ومش مهتم سواء انا زعلت ولا لأ.
- انتي فاهمة غلط انا اول حد بفكر فيه هو انتي بس بما اني المدير التنفيذي للمشروع لازم اسافر.
- متضحكش عليا يا عمار انت عندك اكتر من نائب في الشركة بيقدر يروح مكانك.
- محدش بيقدر يشتغل نفس شغلي بس مش هكدب عليكي انا كمان محتاج ابعد عن هنا يا مريم اللي حصل معايا مش قليل وانتي عارفة. 

هزت رأسها بنفي تكتم دموعها بإستماتة إلا أنها لم تستطع منعها من النزول على وجهها وهي تقول :
- محتاج تبعد طب وانا ؟ انا كمان عايز تبعد عني يا عمار. 

تنهد بإرهاق و أمسك كتفيها موضحا :
- مريم افهميني ... اللي حصل كان صعب عليا اوي انا بقالي سنين بكتم اللي جوايا بس بعد اخر صدمة اتعرضتلها مبقتش طايق نفسي و المكان اللي انا فيه حاسس نفسي مخنوق علشان كده محتاج اصفي دماغي ... عشاني وعشان اقدر افتح صفحة جديدة معاكي من غير ما اسمح للماضي يأثر عليا.

- بس انا مش هستحمل انك تبعد عني ليه مصر تعذبني كده.
صاحت بإنهيار و أبعدته عنها مرددة بتماسك مهزوز :
- انت أناني و بتنفذ اللي في بالك دايما ومبتديش أهمية لمشاعري لازم تعرف يا عمار انك لو روحت مش هتلاقيني لما ترجع فاهم ! 

اِلتقطت حقيبة يدها و غادرت الشقة سريعا تاركة عمار واقفا مكانه يدلك عنقه و يتأفف بسخط وهو لا يعرف كيف سيقنعها ...
___________________
- انا اتشرفت بمعرفتك يا مدام مريم ... بس مع الأسف مش هقدر أفيدك لأني مستحيل اطلع أسرار مريض عندي حتى لو كان جوزك. 
هدرت ريماس بعملية مطلقة وهي تنظر للمرأة التي تفاجأت بقدومها إليها ... نفس المرأة التي كانت بطلة جميع أحاديث عمار و شهدت على تطور علاقتها بزوجها بدون ان تعرف هي حتى ! 

و الآن ها هي تجلس أمامها بعدما رأتها لأول مرة في الحديقة وصدقا كانت تتمنى لو أن الأرض انشقت و اِبتلعتها أفضل من أن تتعرف عليها بتلك الطريقة ، لكن رغم هذا لم تستطع منع فضولها و رغبتها في معرفتها أكثر ، ربما لأن عمار حكى لها عن شخصياتها المتقلبة و ردودها المختلفة ، من ضعيفة مكسورة لا تجيد سوى كلمتي "نعم" و "حاضر" إلى إمرأة قوية و شرسة كعنقاء بزغت بجناحيها محلقة بين ألهبة النيران.
أما مريم فكانت هي الأخرى تتأملها بتركيز وهي تتذكر كيف قضت ساعات البارحة داخل المكتب مفكرة في أمر عمار الذي صدمها ، ربما لم تكن حزينة من سفرية العمل لأنها تعلم جيدا بأن منصبه يتطلب السفر بشكل دوري بقدر ما كانت غاضبة من قراره للإبتعاد عن الجميع حتى عنها هي و لكنها شردت في قوله بأنه يحتاج للبقاء بمفرده و فكرت في حالته النفسية المتضررة فلم تجد نفسها سوى وهي تبحث عن عنوان عيادة هذه الطبيبة لتجدها بعد مدة معتبرة لذلك اِتصلت و أخذت موعدا دون أن تفصح عن هويتها و هاهي تقابلها الآن و تسألها عن عمار ... زوجها الذي رأته يحتض هذه المرأة الجميلة !

تنحنحت تطرد عنها شعورها بالغيرة و قالت موضحة :
- عارفة ان ممنوع تطلعي أسرار مريضك بس انا بسأل بشكل عام عن حالته يعني اذا اتحسن ولا لسه فاضل كتير عشان يخلص علاجه و ازاي لازم اتعامل معاه لو جتله نوبة.

همهمت ريماس بتفهم و ردت عليها :
- أولا عمار قطع شوط كبير في العلاج و اكيد ملاحظة ان شخصيته اتغيرت و التعامل معاه بقى أسهل من الأول يعني حالته اتحسنت بس مع ذلك مش هقدر احدد المدة الفاضلة من العلاج ثانيا نوبات عمار قلت كتير عن الاول و مبقاش يتعرض لأي health setback يعني بالمجمل هو بقى أفضل بكتير من الأول ... مش هقدر أقولك اكتر من كده.

أماءت مريم بإيجاب وهي تشعر بالراحة النفسية لإدراكها بأنه أصبح أفضل و في نفس الوقت تحزن لأنها لم تكن معه في هذه المرحلة فبينما كان هو منشغلا بمرضه و يتعرض لنوبات و هلوسات كانت هي تفعل المستحيل من أجل أن تضايقه حتى أنه كاد ينتحر تحت وطأة الضغط الذي تسببت به هي.
تنهدت و سألتها بخفوت :
- عمار قالي ع كل حاجة يعني حكالي عن والدته و عمه وباقي مشاكله بس هو دلوقتي عايز يسافر وبيقول أنه ده أفضل ليه و ليا و عايزني اتقبل الفكرة ديه واني مش هشوفه شهور طويلة ... لو سمحتي قوليلي بجد عمار هيستفاد يعني لما يبعد ولا مفيش داعي للموضوع من أصله.

جاهدت ريماس لكبت إبتسامتها و عدم إظهارها الى مريم التي لا يبدو عليها وكأنها ستتقبل فكرة سفر عمار بسهولة ثم حمحمت قائلة بجدية :
- طبعا هو مش ضروري بس انا من رأيي كدكتور مشرفة على حالته ديه فرصة ليه عشان يصفي دماغه ويعرف نفسه عايز ايه و في انهي نقطة هو واقف.
- مش هيعرف يصفي دماغه وهو هنا يعني.
- في حاجات كتيرة هنا بتضغط عليه و ذكرياته مليانة اي مكان هو بيروحله من الأحسن يبعد عن أي ضغط ممكن يأثر على تفكيره.

- ازاي شغله و عيلته و انا ممكن نضغط عليه و نأثر فتفكيره يا دكتور ؟ مش المفروض وجود الناس اللي بتحبه بيساعده طيب وبعد ما يسافر ممكن ... يعني يلاقي نفسه أحسن وهو بعيد عن هنا و يسيبنا.
تساءلت بتوجس مدعية التكلم بصيغة الجمع لكي لا تظهر خوفها من أن يختار عمار أن يبتعد عنها للأبد لكن ريماس فهمتها فقالت :
- انا معرفش بخصوص البقية بس اللي اعرفه ان انتي بالذات يستحيل عمار يلاقي راحته في بعده عنك.
- اشمعنا.
- لأنك كنتي أكبر دافع ليه عشان يتعالج حتى لو مش عارفة ... و طول ماهو وسط الجلسة بيجيب سيرتك في كل تفصيل و على طول بيفكر ازاي يحسن علاقتكم.

لمعت عيناها و شعرت بالفراشات تحوم داخل معدتها من كلام الطبيبة و ابتسمت تلقائيا مفكرة في أن عمار كان يحاول من أجلها وصدقا نجحت محاولاته لذلك قررت الآن ألا تقف في طريقه بل ستقف معه في كل ما يجده هو مناسبا حتى لو كان الثمن هو تحمل ألم الفراق !
_________________
و كان له ما يريد.
اِستمع لنداء الموظفة من أجل الإلتحاق بالطائرة التي ستقلع في دقائق فتجهم وجهه بضيق ممررا عيناه في أنحاء المطار لعله يلمحها لكنه لم يرها ، لقد رفض السفر في طائرة العائلة الخاصة من أجل أن تكون له فرصة توديعها في المطار بعدما ودعته عائلته و أصدقاؤه حتى فريق العمل التحق بالرحلة التي أقلعت قبل ساعات قليلة و بقي هو بمفرده ينتظر على أمل مجيئها. 
سمع آخر نداء للطائرة المقلعة بعد ربع ساعة فزفر بوجوم و همس بينما ينهض و يسحب معه حقيبته :
- قال يعني هموت و اشوفها بنت دماغها ناشفة عايزة تمشي عمار البحيري على هواها انا مالي بيها اصلا هي كده كده مش هتوحشني. 

و في اللحظة الموالية وحين كاد يستدير لمحها قادمة من بعيد وهي تركض وعندما رأته زادت من سرعتها فتهلل وجهه و نزع نظاراته الشمسية يشاهدها و يملي عيناه من مرآها ثم مد يديه يلتقفها و يحيط جسدها بذراعيه منبها اياها :
- متجريش كده هتقعي.

توقفت مريم تلتقط أنفاسها المسحوبة منها و طالعته بعتاب :
- انت بجد كنت هتمشي قبل ما تشوفني ؟

- بقالي ساعتين وانا مستنيكي و ع الاغلب كنت هكنسل في اخر لحظة و ابطل اسافر لو مجيتيش.
رد عليها عمار ببساطة ممررا يده على وجهها ينهل من طلتها الجميلة و يشبع نظره منها أما مريم ففتحت حقيبة يدها و رددت بينما تخرج شيئا ما :
- انا كنت بجيب حاجة عشان كده اتأخرت.
- جبتي ايه مكنش في داعي.

- انت دايما بتديلي هدية وبتقولي ديه عشان تفتكريني بيها انا بقى جبتلك هدية المرة ديه علشان تفتكرني و متنسنيش. 
هتفت بحنين شابته غصة احتكمت حلقها بدون رغبة فتمالكت نفسها سريعا و أرته ما بيدها ليقطب حاجبيه بحيرة وهو يجد غرضا مستديرا لامعا فتفطنت خلاياه مدركا بأنها بوصلة ... ولم تكن كأي بوصلة !

التقطها من يدها و فتحها فغامت عيناه ملتهما تفاصيل تلك البوصلة الإستثنائية التي كانت باللون البرونزي المتوهج ، لم تحوِ إلا على عقرب واحد يسبح في دائرة بيضاء فارغة تماما سوى من إسمها المحفور بخط إنجليزي أنيق أبهر عيناه و سلب لُبّه ، نطق إسمها الذي كان العقرب موجها له بنبرة ولهة و اِبتسم بينما يسمع مريم تردد برقة :
- خليني الاتجاه اللي بتروحله دايما في فرحك و زعلك و ضحكتك و عياطك و مشاكلك و انا هكون ليك المنارة اللي مبتخيبش. 

تأوه عمار بجذل و ضمها إليه بلوعة :
- أنا بحبك ... مندمتش لحظة على حبي ليكي ومش هندم لأن قلبك اختارك انتي. 

لفت مريم يديها حوله بلهفة و ترقرقت عيناها بدموع الشوق من الآن فسارعت تمسحها لكي لا تضايقه و طفقت تشبع عينيها منه هامسة :
- و أنا بموت فيك يا عمار و هستناك ... خد بالك من نفسك. 

سقطت دمعتها في هذه اللحظة فسارع عمار يحتويها مغمغما بصوته الرجولي :
- هتوحشيني. 

طبع قبلة عميقة على وجنتها و دفن رأسه في شعرها ينهل من عطره قبل أن يستجمع نفسه و يخبئ البوصلة متابعا :
- انتي هتكوني في نهاية كل طريق انا بمشي فيه يا مريم. 

كانت هذه آخر كلمات قالها ثم ألقى عليها نظرة أخيرة و غادر مبتعدا حتى اختفى عن مرأى نظرها ، و هنا ضغطت على صدرها موضع قلبها معترفة لنفسها بأنها لا تستطيع العيش بدون رؤيته أو سماع صوته ، فكيف ستتحمل بعده ، لكنها ستفعل ، من أجله و من أجلها ، و من أجل مستقبلهما معا ! 


الفصل الرابع والستون 

مخاطرة بقدر العشق.


"لم أحبك كشخص فقط بل أحببتك كوطن لا اريد الانتماء لغيره" نزار قباني

أسبوعان ... شهر ... 6 أشهر ... سنة ! 
اِرتكنت لصحبة جدار مكتبها المشترك مع موظفة أخرى وهي تضم كوب القهوة بين يديها بعد أن استجدت راحة فسامرتها لوعة الإشتياق ، تعد بإنطفاء الأيام التي مرت على سفره و تدرك أن غيابه طال عن اللزوم ففقدت الساعات خفتها اللذيذة و أصبحت تنافس الدهر في طغيانه. 
تنهدت مريم بإرهاق مفكرة ، هذه السنة كانت طويلة ولكنها لا تنكر بأنها عادت عليها بالفائدة ، قامت بتصفية وجدانها و الإبتعاد عن أية ضغوط تؤثر بها فنجحت في عملها و هاهي الآن قد أصبحت عضوا في فريق المترجمين الأساسي بعد مرور سنة واحدة فقط على تعيينها كموظفة رسمية في الشركة.
عالجت رسوب روحها لتغدو كالمياه الصافية لا تحمل حقدا أو وجعا لكن هذا لم يكفها فهي تحتاجه معها ... تحتاج وجوده.

لتكون صريحة لم ينقطع عنها عمار أبدا فلقد كان يتصل بها بشكل دوري و يطمئن عليها إضافة لمساعدتها و تزويدها بالمعلومات الكافية عندما توكل لها مهمة في الشركة الا في الفترة الأخيرة عندما اصبح لا يتواصل معها بحجة أنه لا يملك الوقت وبالكاد ينتهي من أشغاله في وقت متأخر من الليل لينام سريعا وهي لا بدورها لا تلومه بل تتفهمه و تسانده.
إضافة إلى أنها تتابع أشغاله وقد سمعت البارحة بأن المشروع الذي نفذوه في عاصمة فرنسا لاقى نجاحا كبيرا كما أنها ترى صوره على مواقع التواصل الإجتماعي برفقة العملاء وحقا هي لا تستوعب كيف للإنسان أن يزداد وسامة يوما عن يوم ، كيف أن عيناه الزيتونيتان تطلقان سهاما تصيب القلوب و اِبتسامته الهادئة تجعل الخفقات تتسارع.
ابتسمت مريم فجأة وهي تتذكر أن عمار بات لا يتلامس مع النساء بأريحية كما في السابق حتى تلك البرتقالة الروسية المدعوة ماري التي كانت تعانقه في كل صورة وهو لا يمانع أصبح يبتعد عنها قدر الإمكان في الصور و الله أعلم ان كان يتصرف بنفس الطريقة بعيدا عن الكاميرا ! 

رن هاتفها فجأة فأجابت سريعا :
- أهلا بالسوبر مامي.

وصلها صوت هالة المتشنج :
- الحقيني يا روما انا انتهيت أيهم مجنني ومش راضي ينام انا مطبقة بقالي يومين. 

هلعت وهي تستمع لبداية جملتها لكن عندما أدركت مقصدها تنهدت براحة ثم كتمت ضحكتها و قالت :
- خضتيني والله هو مش أيهم عنده شهر لسه منتظمش في نومه ولا ايه.
- تؤ ماما بتقولي انهم في اول سنة بيبقو كده طب انا هستحمل سنة ازاي بس.
- مجبتيش حد يساعدك ليه.
- انا مش عايزة اجيب دادة لإبني وكمان ماما تعبانة و مرات اخويا مشغولة مع ابنها و وليد صراحة مش مقصر بيساعدني احيانا و بياخد باله من البيبي بس صعب عليا لأنه بيجي ميت من التعب في الشركة و محبتش ازود عليه.

تهدل وجهها بتعاطف و شفقة مواسية إياها ووعدتها بأنها ستحضر إليها في أقرب وقت كي تخفف عنها ثم أغلقت الخط و ذهبت لمكتب يوسف تعطيه إحدى الملفات هاتفة بجدية :
-  مستر يوسف انا خلصت اللي طلبته مني ممكن حضرتك تراجعه وتشوف اذا في adjustment( تعديلات) لازم تتعمل.

- اوك متنسيش تبعتيلي نسخة منه في الايميل ونسخة كمان لكل واحد في قسم الترجمة. 

أماءت بإيجاب و استأذنت لتغادر لكنه أوقفها قائلا :
- مريم ... ممكن أسألك لو مفيهاش ازعاج يعني.

ضيقت حاجبيها بإستغراب و هزت رأسها بترقب فتنحنح و سألها بنبرة جادة :
-  Are you okay... يعني من لما عمار سافر  وانا شايفك متغيرة صحيح اتقدمتي كتير  في شغلك و I'm Proud of you بجد.
 بس ده مبيعنيشش انك تعملي مجهود اكتر من الازم و تهملي صحتك مش شايفة نفسك بقيتي عاملة ازاي.

بهتت مريم وهي تدرك تماما بأنه محق في كل يقولها لكنها إن لم تفعل ذلك و تضبع وقتها في العمل ستموت من شوقها له ، لقد مر أسبوع كامل بدون أن يتصل عمار بها يكتفي فقط ببعض الرسائل القصيرة التي يسأل فيها عن حالها ثم يختفي حسنا لا تنكر ان هناك حل آخر وهو الإتصال به لكنها ليست مستعدة من أجل أن تطلب رقمه ثانية.
هاجس عدم الرد يجتاحها في كل مرة تفكر فيها بأن تتصل بعمار لذلك لا تود الاقدام على هذه الخطوة مهما كانت بسيطة و تافهة بالنسبة للآخرين ، استعادت مريم نفسها و تنحنحت مرددة :
- انا بخير يافندم ومبسوطة لاني بعمل اكتر حاجة انا بحبها بس هحط كلامك في بالي و شكرا على اهتمامك ... عن اذنك. 

خرجت من غرفته فبقي ينظر لأثرها حتى رن هاتفه ليبتسم بتلقائية بمجرد قراءة اسم المتصل و فتح الخط على الفور :
- honey ، وحشتيني.

ابتسمت ندى عند سماع نبرته الرجولية التي تجذبها ثم همست بدلال :
- مش مصدقاك لو وحشتك كنت اتصلت بيا ع الاقل.

تنهد يوسف بحسرة و أردف :
- ما انتي اللي قولتي انك عايزة تقضي يومين في قصر البحيري لأن مامتك تعبانة وانا محبتش اضايقك يعني لو عليا كنت هجي ابات عندكو عشان متحرمش من عينيكي الحلوين.

- عارفة يا حبيبي بس مامي من وقت وفاة بابي وهي بتتعب كل شويا و الدكتور قال ان حالتها النفسية بتأثر ع صحتها فلازم ناخد بالنا منها و نهتم بيها ... مش عارفة ازاي هنقدر انا وانت نستقر في لندن و اسيبها هنا لوحدها. 
تنهدت ندى تشكو اليه حيرتها فأجابها الآخر بهدوء :
- طب ما طنط فريال اللي رافضة تروح معانا و بتقول مستحيل اسيب بيتي احنا حاولنا معاها كتير ورفضت ... معلش يا حبيبتي احنا هنلاقي حل للموضوع ده بس انتي متزعليش نفسك ولو عوزتي حاجة اتصلي بيا فورا ماشي.
- Fine, يلا انا هقفل دلوقتي.

ودعته وأغلقت الخط أما يوسف فدخل لمعرض الصور ليتأمل شكل القلادة المزينة بالزمرد و التي طلبها خصيصا من أجل حبيبته و سوف تصل في غضون يومين مؤكد أنها ستفرح عندما تراها و تنسى حزنها بسبب حالة والدتها التي ازدادت عنادا و عصبية بعد وفاة زوجها.

. وفي طريقها الى القسم تصادمت مع السيد رأفت فتلجلجت بتلقائية قبل ان تهز رأسها إحتراما له و تتابع سيرها لكن بعد دقائق رن الهاتف الأرضي وكانت المساعدة تخبرها بأن رأفت طلب حضورها إلى مكتبه سريعا ، تفاجأت مريم و ترددت قليلا لكن رضخت في النهاية وذهبت اليه ، طرقت الباب فأذن لها بالدخول لتدلف و تجلس أمامه بصمت منتظرة ما سيقوله.
لكن رأفت بقي ينظر اليها بدون أن يتطق فتوجست ريبة و حمحمت متسائلة :
- خير يا رأفت بيه ممكن اعرف حضرتك ليه طلبتني. 

أفاق من شروده الذي غرق فيه بينما يطالعها محللا شخصيتها بموضوعية ودون أي حكم مسبق منه فوجدها اِمرأة قوية و طموحة تبدع عندما تفعل شيئا تحبه و شجاعة بما يكفي لكي تدخل وسطا لا تعرفه و تتحدى ذوي الخبرة فتنجح و تظهر من بينهم ! و رغم أن الطريق الذي سلكته في الإنتقام خاطئ تماما لكن اتضح أنها معذورة فيما فعلته ، رباه لقد تسممت وقتل طفلها و فُعل بها الكثير من طرف أخيه لذلك حتى و ان قلبت قصرهم رأسا على عقب لن يلومها.
- رأفت بيه حضرتك معايا ؟
سألته مريم مجددا بتعجب فحمحم مومئا :
- أنا طلبتك عشان اعرفك انك هتاخدي انتي و فريقك مكافأة مالية على اخر مهمة عملتوها ونجحتو فيها.

- بجد شكرا لحضرتك. 
ردت عليه بإبتسامة ليتابع الآخر وهو يرص حروفه بتدقيق :
- في حاجة تانية كمان كان لازم اقولهالك من زمان بس ملقيتش الفرصة المناسبة مبدئيا انا عرفت سبب الحادثة اللي حصلتلك وقصة التسمم و عايز ... اعتذر منك لأن اخويا اتسببلك بكل الأذى ده.

اختفت ابتسامة مريم سريعا وحل مكانها الألم و الغضب فأكمل رأفت بجدية :
- انا كمان غلطت في حقك لما كدبت عليكي بخصوص عمار و عرضت عليكي فلوس مقابل انك تسيبيه و أوهمتك انه خانك اكتر من مرة و مهتمش بإجهاضك ... على فكرة عمار هو اكتر واحد اتأذى من غيابك و دور عليكي كتير ومكنش هيخطب ندى لولا أصريت عليه أنا و والدتي الله يرحمها بس احنا كنا فاهمين طبيعة علاقتكم غلط أو ب الأحرى حرصي على عمار وسمعته و مستوانا الإجتماعي خلوني اعمل تصرفات غلط عشان احميهم حتى لو على حساب ابني ... و انتي كمان ياريت لو كنتي جيتي من الأول وواجهتينا بدل ما تختفي و تجي تضيعي وقتك في الأوهام و تنتقمي بطريقة غلط.

شدت مريم على يدها بتزمت و تشنجت تقاسيم وجهها بكبت واضح لتتنحنح وهي تجلي صوتها ثم تقول :
- حضرتك معاك حق بس ياريت متنساش أن اللي بيعرف عيلتكم و يسمع قد ايه هي بتهتم بسمعتها على حساب أي حد هيلاقي صعوبة في انه يعرف اذا انتو بريئين فعلا ولا لأ اضافة لأني بعد هروبي فكرت كويس وكنت هتصل بعمار و اطلب منه نتقابل بس انت جيت و قولتلي كلام خلاني اتهم عمار يعني الغلط مش عليا انا بس. 

رمقته بكبرياء وجرأة لا مثيل لهما ليطالعها رأفت بدهشة لحظية قبل أن يتمالك نفسه ويفكر بأن هذه المرأة تغيرت كثيرا عن أول مرة رآها بها ، حينما بحث عنها كثيرا حتى علم بمكانها فذهب اليها ووجدها تسير في الشارع بشحوب و هوان تحدق في من حولها بإرتجاف كمن تخشى إنقضاض وحش عليها في أي وقت ، صوتها الراضخ المهزوز بات الآن قويا يجبرك على الإنتباه اليها و عيناها اللتان لم تكونا تملكان الشجاعة الكافية لتتطلعا له أصبحتا الآن تقدحان قوة و شررا حسنا لقد كان رأفت يدرك جيدا بأن مريم بها شيء غريب يجذب عمار ناحيته و اليوم علم ماهو ...
كونها تستطيع الانتقال بسرعة بين حالة الضعف و القوة ، الهدوء و الشراسة ، الرقة و الجدية فهذا وحده يكفي لكي يسلب لُبَّ إبنه ! 

- معاكي حق بس أهم حاجة ان المواضيع ديه بقت من الماضي و أنا عايز اعرف اذا علاقتك انتي و عمار بقت جدية و مفيهاش لعب زمان ايوة عارف انكم بتحبو بعض و موافق على علاقتكم لأني عذرتك ع كل تصرفاتك بس حطي في بالك يا مريم اني مش هغفرلك لو غلطتي في حق ابني تاني أو عملتي حاجة تضر سمعته و سمعتنا.

عادت كرامتها تقرصها من جديد لكي تثور عليه و تخبره بأنه ليس لديه شأن بالحكم على علاقتهما ولا داعي لهذه التهديدات لكنها تمالكت نفسها مفكرة بأنه أب ومن الطبيعي أن يقلق على ولده فإبتسمت مجيبة بدبلوماسية :
- متقلقش يافندم انا وعمار بخير مش هقدر ادخل في تفاصيل اكتر من ديه لأني مبحبش اتكلم عن حياتي الشخصية و حتى ابنك مش هيرضى ودلوقتي بعد اذنك لازم ارجع لشغلي.
- تمام تقدري تتفضلي.

اشار لها بالخروج وقبل أن تفعل أوقفها مجددا :
- صحيح انا كلمت عمار من شويا و قال انهم مشغولين جدا في الفترة ديه و ممكن يفضل قاعد في باريس كام شهر زيادة وبالتالي مش هيقدر يتواصل مع حد غيري انا و مجلس الإدارة  يعني في حال لو قلقتي عليه.

تسمرت مكانها بذهول و شحب وجهها متخيلة أنها ستضطر لتحمل أشهر أخرى من الفراق ربما تمتد للسنة الموالية بدون تواصل حتى فعضت على شفتها بإرتجاف وكادت عيناها تغرورقان بالدموع لولا أنها تمالكت نفسها في اخر لحظة و انتظرت حتى تدخل للحمام و تستند على الباب معطية لنفسها حرية البكاء وهي تردد :
- انت قولتلي انك مش هتطول بس كدبت عليا عملت الحركات ديه قبل كده لما كنت بتسيبني بالشهور من غير اتصال و دلوقتي كمان ... انا مش هسامحك يا عمار وحتى لو رجعت هقولك اني مبقتش عايزاك !
____________________
انقضى النهار و حل الليل ليبعث القمر نوره في الأرجاء و يضيء ظلامها ... و يخفف حزن قلوب قاطنيها ...
لكن بالنسبة لها لم يكن هناك شيء يكفي من أجل أن ينسيها ألمها و لوعة الفراق ، تقسم بأن قلبها يكاد يتشقق من شدة الشوق ،و الحزن و الغضب ...
لم يكفها تحمل عدم سماع صوته منذ وقت طويل و لم يكتف هو بجعلها تنظر الى هاتفها كل دقيقة كالبلهاء منتظرة إتصاله ثم تعد الأيام المتبقية على عودته بل صدمها أيضا بحقيقة أنه سيغيب عنها ... حسنا و بفرض أن الغياب ليس بيده لكن ألا يستطيع الإتصال بها و إخبارها بهذا بنفسه ؟ 

لقد قال لها رأفت بأن عمار لن يجد الوقت لمحادثة اي شخص غيره هو و كأنه كان يلمح لها خفية بأن تكف عن جعل عمار ينشغل عن عمله بسببها ، قالها مباشرة بعد نطق جملته بشأن أنه موافق على علاقتهما و اعتذر منها كذلك هل يعاني هذا الرجل من الإنفصام حسنا يبدو أن عمار ورث عن والده هذه التقلبات المزاجية.
زمت شفتها بغيظ و همست بينما تتأمل صور عمار على هاتفها الذي يكاد شحنه ينفذ :
- انت شايف نفسك ع ايه مش فاهمة يعني بس علشان حضرتك ابن عيلة البحيري المعروفة و ناجح و وسيم و ابتسامتك بتجنني بقيت فاكر نفسك مفيش منك اتنين ؟ 

قامت بتكبير الصورة مطالعة عيناه الزيتونيتان و رموشه الكثيفة وكل تفصيلة في وجهه لتتنهد في النهاية و تهمس بمكابرة بائسة :
- انت مبتوحشنيش اصلا.

ضمت مريم الهاتف لصدرها تشغل بالها بتخيل وجهه الذي بالطبع لم تشتق له أبدا ، ثم و بغتة تقبض قلبها اِستجابة لإهتزاز الهاتف الخاطف فوقه لتسارع وهي ترفعه لعينيها بلهفة و لوعة تبددتا عندما أدركت بأنها رسالة من أحد زملائها فاِنفرطت دمعتها التي كبتتها كثيرا ثم رمته بعيدا مغمضة عينيها وقد اتخذت الطريقة الوحيدة للهروب ... النوم.

و في غمرة غفوتها استنفرت خلاياها ردا على ذلك الهجوم الكاسح الذي بدد سلامة نومها حين كانت تحلم بشخص واحد فقط دون سواه إلا أن الحلم هذه المرة كان يبدو حقيقيا لدرجة أن مريم انتفضت معتدلة في فراشها بحركة واحدة تنهب أنفاسها المخطوفة بنهم غريق طفا الى سطح الحياة بعد اختناق كاد يودي بحياته ! 
وضعت يدها على قلبها تتحسس خفقاته بذعر وقد بدت عنيفة بشكل آلمها لوهلة قبل أن تبتلع رمقها وهي تستمع لحركة خفيفة تصدر من خارج الغرفة !

ركزت مريم حواسها قليلا معتقدة بأنها تتوهم لكن الصوت اِزداد ليرتجف جسدها بوجل و جفت شفتاها بخوف متيقنة بأن هناك أحد ما في الشقة فوقفت سريعا متخيلة بأن هناك لصا تربص بها وهو يعلم بأنها تسكن بمفردها أو شخصا آخر يود أذيتها ، في كل الأحوال لم تستطع التفكير بمنطقية في هوية الدخيل خاصة عندما تناهى لأسماعها صوت جلجلة أقوى فشهقت برعب وقد كاد يغمى عليها ! 
هرعت مريم سريعا لهاتفها كي تطلب النجدة غير انها لعنت بداخلها مدركة بأنه انطفأ لأنها لم تشحنه منذ وقت طويل و بقي لديها حل أخير وهو حماية نفسها بنفسها ، صحيح لا يوجد شخص بجوارها الآن لكنها كفيلة بفعل الازم من أجل سلامتها.

أخذت نفسا عميقا و ارتسمت الحدة على وجهها وهي تستل مقصا من أحد أدراج طاولة الزينة ثم فتحت الباب ببطء و تسللت إلى الصالة على أطراف أصابعها تتبع مصدر الصوت حتى وقفت مكانها عندما أبصرت بمساعدة الضوء الخارجي جسدا ضخما يتحرك بين تلافيف الظلام فتجمدت دماؤها و أصبحت ساقاها كخيط رفيع من الهلام لا يقوى على حملها و كادت تصرخ لكنها تراجعت في آخر لحظة خوفا من أن يهاجمها فلا تستطيع مجابهته ، من الأحسن أن تهاجمه هي دون أن ينتبه لوجودها كي تتفادى أية أضرار قد تلحق بها لذلك اقتربت منه بحذر ..

ثم وحين همت بتوجيه المقص الحاد نحوه و غرزه في جسده استدار لها فجأة و اِنتفض وهو يجد يدا تمتد عليه فأمسكها سريعا لتصرخ مريم بشراسة موجهة قدمها لبطنه لكنه قبض عليها سريعا مغمغما بنبرته القوية :
- مريم يا مجنونة اهدي ده انا.

امتدت يده للقاطع يشعل الأضواء فتوضح له وجهها المنصدم و شعرها الأشعث ليزفر مبرطما :
- يخربيت جنانك انتي مسبتيش حاجة الا و عملتيهالي كان فاضل تقتليني واهو قربتي تعمليها لو ملحقتكيش. 

لم تجبه مريم بل ولم تحرك رمشا واحدا حتى ، فقط تقف مقابلة له وهو يمسك يدها التي تحمل المقص الملتصق بكتفه تماما ولحسن الحظ أنه كان سريع الحركة فمنعها من غرزه بداخله بأعجوبة ، فغرت فاهها محدقة فيه بصدمة وكأنه شبح أو كائن فضائي و ظنت لوهلة بأنها لم تستيقظ من غفوتها بعد.
نعم هي نائمة الآن و لا بد أنها تحلم به مثل العادة لأن عمار مسافر ولن يستطيع العودة إلا بعد أشهر أخرى ...

لكن ملامحه و بنيته ، صوته و رائحته و ملمس يده الخشنة على بشرتها تؤكد لها بأنه حقيقي كيف حدث ذلك و متى فليساعدها أحدهم و يرشدها للطريق الصحيح.
طالعها عمار بهدوء رغم أنفاسه المتسارعة و مرر عيناه عليها بلهفة يتشبع من وجهها الذي اِشتاقه حد الجنون و كاد يتكلم غير أن مريم قاطعته بتيه :
- انت ... انت حقيقي ... بتعمل ايه هنا ازاي. 

ولم تدرك في غمرة صدمتها أن جسدها اِرتخى فأسندها بذراعه و همس بصوته الأجش :
- وحشتيني يا مريم ... وحشني وجودك وكل حاجة فيكي.

تقدم منها يدفن أنفه في شعرها و يضمها إليه لكنها دفعته عنها صارخة بجنون وقد استوعب لعبته :
- انت كدبت عليا قولتلي انك مشغول ومش هتعرف تفضي نفسك ليا و والدك قال انك مش هتقدر تتواصل معايا الفترة ديه انتو كنتو بتلعبو بيا ! 

ابتسم عمار بشكل لا يناسب اِضطراب الموقف و قال موضحا :
- كنت عايز اعملهالك مفاجأة عشان اشوف انتي هتعملي ايه بس قصة والدي مفهمتها هو عمل ايه بالضبط.

يا الهي وهل هذا وقت الاستجواب و السؤال لقد غاب عنها سنة كاملة ألا تجد سوى هذا الوقت لكي تناسبه ، ارتعشت يدها بضعف وأسقطت المقص فأفلتها عمار و انقض عليها فجأة يعانقها بخفر لبته هي سريعا مهمهمة من بين شهقاتها المجنونة و ضربها لصدره بضراوة :
- وحشتني اوي يا عمار انا مش هسامحك لانك بعدت عني المدة الطويلة ديه انا بكرهك.

عتابها الأخرق لم يكن يناسب احتضانها له بهذا الشكل القوي فأدرك أن حبها يهزم غضبها لذلك قبض عليها بقوة و جذبها ناحيته هامسا بلوعة :
- و انا بحبك ... بحبك لدرجة مبتتوقعيهاش يا مريم.

تأوهت بجذل و اغمضت عينيها مستسلمة لفيضانات الدموع التي تسيل منهما ثم ابتعدت عنه و قبلته بشغف نتج عنه جنون عمار الذي احتجزها بين ذراعيه يبادلها مشاعرها بلهفة و نبضات قلبه تتضارب مع بعضها البعض بعنف اختلجت له أنفاس مريم ...

بعد مدة كان الإثنان جالسان في الشرفة يشاهدان شروق الشمس معا وضعت رأسها على كتفه بسلام بينما رفع هو اللحاف و غطاها به لتتمتم مريم معاتبة :
- طولت الغيبة يا عمار انت قولتلي هتسافر كام شهر بس بقالك سنة بعيد عني. 

جذبها من ذراعها لتلتصق به أكثر و أجاب متنهدا :
- مكنتش متوقع ان المشروع هياخد مننا كل الوقت ده بس صبرت نفسي بذكرياتي معاكي و بالبوصلة اللي ادتيهالي و خليتك انتي اتجاهي دايما عشان كده جيتلك اول ما نزلت.

اِبتسمت بخفية دارتها وهي تقول بينما تمرر سبابتها على صدره :
- و متصلتش ليه طيب ... تعرف ان والدك النهارده الصبح قالي انك هتضطر تغيب اكتر وقتها حسيت الدنيا بتلف بيا ووعدت نفسي اني مش هسامحك و مكلمكش تاني.

ضحك عمار بخفة و قال :
- مقدرتش اتصل لاني كنت يدوب بدخل لجناحي في الاوتيل الساعة واحدة الفجر و بنام عشان اصحى بدري و اروح للشغل و الحمد لله ان تعبنا مكنش ع الفاضي أما بابا فهو حب يلعب بأعصابك لانه كان عارف اني نازل النهارده و قابلني في المطار ... بس قوليلي انا وحشتك اوي كده.

رمشت مريم بعينيها و كابرت بعناد :
- امم مش اوي يعني. 

رفع عمار حاجبه بإستهجان من عدم مبالاتها الزائفة لأن وليد أخبره بأنها كانت تسأل عنه دائما و وجهها ينضح بالحزن عندما تسمع بأن سفره سيطول و حتى أنه رآها بنفسه منذ ساعات وكيف كان وجهها ملطخا بخيوط الدموع الجافة ، أخذ نفسا عميقا و طبع قبلة على شعرها ثم أدارها اليه وضم وجهها بين يديه مغمغما :
- كل دقيقة كانت بتمر عليا وانا بعيد عنك بتقتلني يا مريم مفيش ليلة عدت عليا غير وانا بفكر فيكي و بتأمل في صورك البوصلة اللي ادتيهالي مكنتش بتساعد في اني اتخطاكي ولو ثانية واحدة بالعكس بتخليني متشوق ليكي اكتر  ... علشان كده عايز أسألك يا مريم ... تقبلي تتجوزيني.
- بس احنا متجوزين.

ردت عليه مريم بتلقائية فهز عمار رأسه نافيا ماتفكر به و شرح لها قصده بجدية :
- مش عايز مجرد كتب كتاب و علاقة في السر انا عايز نعمل فرح كبير و تلبسي فستان أبيض و عيلتك تسلمك ليا عايز اعملك فرح بيليق بيكي و بيخلي كل الناس تعرف اننا ملك لبعض.
يمكن انتي متفاجأة دلوقتي بس انا الفترة اللي مرت عليا بعيد عنك حسستني قد ايه محتاجك في حياتي علشان كده بعرض عليكي تكملي حياتك معايا بإرادتك و نفتح صفحة جديدة مع بعض ... قوليلي يا مريم انتي موافقة. 

تلجلحت مريم من حصاره و عيناها الامعتان بدموع التأثر وهي تتخيل نفسها بفستان أبيض مثل الذي تحلم به كل فتاة و بجانبها الرجل الذي اختاره قلبها ، هي لم تعش هذه اللحظات مع عمار رغم أنه راعاها في الليلة الأولى بينهما و أظهر لها حنانه و صبره من تخشبها و خوفها الظاهر على وجهها لكنه لم يكن يفعل ذلك بدافع الحب أبدا وحتى هي لم ترضخ له لأنها كانت تحبه وقتها.
أقصى حلامها كانت أن تزف إلى حبيبها الذي هي متيمة به حد الجنون و يعرف الناس بأنها زوجته و حاملة إسمه مع الأسف لم يستن لمريم فعل هذا لكن عمار يمنحها الآن فرصة تحقيق ما كانت تريده ... إلا أن رغبتها أصبحت محملة بالأشواك التي لا يمكن لأحد قطعها بدون أن يصاب بأذى !

لم تكد مريم تفيق من صدمة عودته حتى باغتها بصدمة أكبر تخشب لها جسدها و جف بسببها حلقها فإهتزت عيناها بإضطراب و تمتمت :
- نعمل فرح يعني ... ونبقى متجوزين وبنعيش في مكان واحد ؟ 

هز عمار رأسه مومئا بغبطة :
- مش هضطر اغيب عنك كتير او اعمل مليون حساب قبل ما امسك ايديكي في الشارع الكل عارف اننا بنحب بعض يبقى ايه فايدة التأجيل ده يا مريم انا غلطت اول مرة لما عرضت على عمك فلوس مقابل انك ترضي تتجوزيني في السر و وجعتك وزعلتك بس دلوقتي عايز اصلح غلطتي و اعمل فرح يليق بيكي. 

كانت تستمتع لحماسه وإصراره فرق قلبها من أجله لكنها تجهمت سريعا و تملصت منه هاتف بإضطراب :
- انت فاجأتني بالموضوع ده انا مكنتش متوقعاه منك بس لازم افكر شويا لاني مش مستعدة للخطوة ديه.

- مش مستعدة ؟ مش انتي بتحبيني يا مريم و عايزة تقضي حياتك معايا وبعدين الكل عارف اننا متجوزين فين المشكلة بقى.
هتف عمار بتجهم و اِستنكار وهو يرى رفضها الباد على وجهها فكر في البداية أنها تتدلل عليه فقط أو تعبث بأعصابه إلا أن عيناها المشبعتان بالنفور من الفكرة أكدتا له بأنها ترفض حقا الزواج به خاصة عندما تمتمت بشجن :
- المشكلة اننا عملنا حاجات كتيرة في بعض و أنا أذيتك و أذيت عيلتك و الناس شهدت ع كرهنا لبعض ازاي هنطلع فجأة كده ونقول اننا هنتجوز وكمان ... عمار انت عارف اني مبخلفش اا...

ذهل من عذرها هذا و كاد يظنها تسخر منه فسألها بإستهجان :
- مش بتخلفي ... حبيبتي اقتنعي بقى ان مشكلتك هتتحل لو داومتي على العلاج وديه اثار بديهية لانك أجهضتي يعني مفيش داعي تفقدي الأمل وانتي محاولتيش تتعالجي حتى.
تمام نفترض ان كلامك صح ومش هتقدري تجيبيلي ولد يا ترى من بين كل المشاكل اللي اتجاوزناها مع بعض انتي لقيتي ان الخلفة هي الحاجز مابيننا و هتخلى عنك مثلا لو مخلفتيش. 

تنهدت مريم بوهن وهي تدرك الوضع الكارثي الذي تسير نحوه ليلة اللقاء بعد الغياب ثم أنكست رأسها وغطت وجهها بيديها هادرة بحرقة :
- انت مش فاهمني يا عمار اللي حصل زمان لسه مأثر فيا ومبقدرش اتجاوزه بسهولة صعب عليا انسى كل اللي عشته و اصدق ان مشاكلي اتحلت و خلاص هعيش في سعادة و كمان حقيقة اني اتحرمت من فرصة اني ابقى أم صعبة يا عمار انا مش مستعدة اتأمل بالعلاج عشان افوق بعدها ع نتيجة سلبية ! 

اختنق صوتها بغصة في حلقها فطالعها عمار مستنيرا بالإدراك ... إدراك أنها لم تخرج من تحت تأثير ظلام الحفرة التي أوقعت نفسها بها حتى وإن كانت تعلم بأنه لا وجود لحفرة من الأساس ! 
لهذا أخذ نفسا عميقا و سارع بمسح دموعها هادرا بتفهم :
- خلاص اهدي كل حاجة هتتحل بالراحة يا مريم و زي لما اتجاوزتي الصعوبات في الماضي هتعرفي تتجاوزيهم دلوقتي اطمني انا معاكي.

- اسفة الموضوع مش متعلق بيك بس انا  ... مش مستعدة يعني ...
همهمت مريم بتقطع من بين شهقات بكائها فضمها إليه بلوعة محاولا إعطاءها الدفء و الأمان لكي يطمئنها و بقيا على هذه الحالات حتى غفت على صدره فحملها عمار ووضعها على السرير ثم خرج الى الشرفة مجددا وهو يفكر في حل لهذه المعضلة حتى خطرت هي بباله ... هي الوحيدة التي يمكنها أن تساعد مريم.

___________________
بعد مرور يومين و داخل قصر البحيري. 
وقف أمام المرآة يتحقق من هيأته بالطقم الرياضي الأسود الذي فتح سترته لتظهر الكنزة الخفيفة البيضاء من أسفلها مع حذاء رياضي أسود ثم أعاد خصلات شعره الى الخلف بعشوائية و ألقى نظرة أخيرة على نفسه ليغادر الغرفة فوصلته الأصوات المتداخلة من الطابق السفلي و أدرك بأن صديقاه قد جاءا لكي يرحبا به ، و عندما كان سيدخل الى المصعد سمع صوتا يصدر من غرفة والده فطرق الباب بهدوء و دخل متمتما بإبتسامة :
- صباح الخير انتو لسه منزلتوش. 

رد عليه رأفت مبتسما هو الآخر :
- لا انا كنت تحت و لسه جاي عشان اقول لوالدتك تنزل اهو متتأخرش لان صحابك جم و بيخططو للحفلة اللي هتتعمل على شرف المدير التنفيذي بتاعنا.

غادر الجناح أما عمار فنظر إلى سعاد مرددا بإعجاب بينما يقترب منها :
- ايه الجمال ده كله يا ماما هاتي بوسة

طبع قبلة على وجنتها و أكمل :
- وحشتيني.

 رمقته الأخرى بإقتضاب قبل أن تستدير الى المرآة لتضع قلادتها :
- عشان كده مهانش عليك تجي تشوفني اول ما رجعت من السفر ولسه جاي تسلم عليا ... تمام يعني عارفة انك روحت لمراتك ومش بلومك على فكرة بس كمان ليا حق عليك مده انا منمتش طول الليل وانا بستنى فيك ولا عشاني مرات أبوك هتستخسر فيا اني اشوفك بعد غياب سنة كاملة.

- ايه الكلام ده بس يا سعاد هانم معقولة استخسر فيكي حاجة ده انتي هانم قصر البحيري و أمي اللي بحبها. 
غمغم عمار بتعاطف وهو يسند رأسه على كتفها من الخلف مدركا أن شوقه لمريم أعماه عن المرأة التي لم يشبع من مناداتها بأمي بعد بينما زمت سعاد شفتها معلقة :
- مش باين على فكرة. 

- طيب نتكلم جد انا قابلت بابا في المطار وقالي انه لسه مقالكيش اني رجعت علشان كده قولت لنفسي بما ان الوقت متأخر دلوقتي هسيبك تنامي وترتاحي بعدين اجي الصبح و اشوفك و بيني وبينك انا قعدت مع مريم كام ساعة عشان ابقى افضالك يا عسل يا مربى الفراولة انت.
شاكسها عمار بمشاغبة غير معهودة عليه فضحكت سعاد و استدارت اليه قائلة :
- كل بعقلي حلاوة وانت هعمل نفسي مصدقاك لانك ابني الوحيد ومليش غيرك احبه و ادلعه.
- في رأفت بيه محتاج يدلع. 

ضربته على كتفه موبخة إياه :
- بس ياقليل الأدب انت بتتعلم الألفاظ ديه منين.

قهقه عمار بتلقائية و قبل يدها ثم أفسح لها الطريق كي تتقدمه و نزلا معا و بمجرد أن رآه وليد و يوسف نهضا يحتضنانه بشوق ثم رحب بفريال و ندى بهزة خفيفة من رأسه و أعطته هالة التي جاءت برفقة زوجها إبنها الرضيع فحمله عمار بإرتباك و حدق فيه بعاطفة لا تظهر عليه كثيرا فقال وليد بحماس :
- شبهي صح. 

حدجه بسخرية مجيبا :
- شبهك ازاي بمناخيرك ديه لو سمحت متظلمش البيبي بالشكل ده. 

ضحك الجميع عليه ليردد وليد بفكاهة :
- قمة طحن الخواطر هنشوف ابنك هيطلع شبهك ولا شبه ... أمه. 

تلجلج عمار لثوان متخيلا أنه سيحمل إبنه في يوم من الأيام ثم حمحم يجلي صوته و قال وهو يعطيه لهالة :
- يتربى في عزكم و دلالكم الف مبروك مع انها جت متأخرة.
- الله يسلمك شكرا. 

أوما لها ببساطة ثم جلس مع عائلته بقلب منشرح وهو يستمع لضحكاتهم و مزاحهم و يرى سعادتهم البادية على وجوههم رغم ما يمر به كل شخص منهم ، و هنا أدرك بأنه لا داعي لكي تكون حياتك مثالية حتى تفرح و تضحك لأنه ببساطة لا وجود لحياة تتميز بالكمال نحن كلنا معرضون للسعادة و الحزن ، الضحك و البكاء ، الحب و الكره ، لكن لا يجب أن ندع عنصرا واحدا يؤثر على البقية لأن الحياة أقصر من أن تضيع في البكاء على الأطلال ...

كانت هذه أفكاره بعد آخر جلسة علاجية خضع لها يوم أمس مع ريماس حين سألها عن موعده القادم فأخبرته بإبتسامة :
- انت بقيت كويس يا عمار ومش محتاج تتعالج ديه اخر Session معايا.
- ازاي يا دكتور طب و اذا حسيت نفسي مش كويس ومحتاج مساعدة.
- ساعتها هتقنع نفسك انك قادر تحلها زي ما حليت اللي قبلها انت اتجاوزت طريق طويل وصعب ياعمار ولولا قوتك مكنتش هتتحسن ابدا عشان كده انا واثقة فيك ولو جه يوم حسيت فيه انك محتاج مساعدة معنوية فمراتك موجودة وانا كمان هبقى موجودة بس بصفتي صديقة مش دكتور و افضل فاكر يا عمار ان الحاضر و المستقبل مش مبنيين على الماضي زي ما الناس بتقول طبعا مفيش مانع ناخد منه الايجابيات اللي بتحفزنا عشان نكمل بس السلبيات بتترمى مباشرة و الحياة اقصر من اننا نضيعها على الزعل و الكره و الحقد  "

استفاق من شروده على ضحكة وليد المرتفعة فإبتسم و مد ذراعه ليحتضن رأفت والذي بدوره استقبل تصرفه بصدر رحب و دموع التأثر ...
_________________
- ديه مش مسألة اقتناعك ب انك مش هتخلفي لان الدكتور قالك كده وبس ... انتي من جواكي عايزة تصدقي الحقيقة ديه علشان تحمي نفسك.
هتفت ريماس بهدوء وموضوعية متطلعة إلى مريم التي جاءت اليها اليوم ، و تذكرت أن عمار اتصل بها صباحا و أخبرها أنه من الممكن ان تحضر اليها مريم في أي وقت سواء اليوم أو بعد عدة أيام و أوضح لها حالتها بالتفصيل و بالفعل جاءت الأخيرة و أخبرتها بأن عمار كان يحدثها البارحة عن مدى استفادته من تلقي العلاج النفسي فخطرت في بالها فكرة المجيء إليها لعلها تساعدها هي أيضا.

إلا أن كلام الطبيبة بدى لها غير منطقي فقضبت حاجبيها مرددة بإستهجان :
- وانا هحمي نفسي ازاي بفكرة اني مبقدرش اخلف ومقدرش ابقى مع الراجل اللي بحبه. 

لم يبدو على ريماس الإنزعاج من تهكم مريم بل شرحت لها وجهة نظرها بمنطقية :
- عايزة تحمي نفسك من خيبة الأمل ... كون انك بنوتة اتحرمت من أهلها في سن صغير و مراهقة اتخذلت في الحب و اتعرضت للتحرش وبعدين شابة اضطرت تتجوز في السر عشان تحمي نفسها من ابن عمها و في النهاية ست خسرت ابنها و ثقتها في الراجل اللي بتحبيه كل العوامل ديه أثرت على داخليتك و اتولد عندك شعور الخوف من الحب و السعادة.
بقيتي عايشة في تحفز دائم و استعداد ل انك تخسري سعادتك في اي لحظة و عقلك صورلك ان مفيش حاجة ممكن تكمل معاكي من غير أذى و خذلان علشان كده حطيتي نفسك في وضعية الدفاع و رفضتي كل عامل خارجي ممكن يبقى خطر عليكي.

انتي عشان اتعودتي ع انك تعيشي مع عمار في السر مبقيتيش عايزة تتجوزيه قدام كل الناس لانك خايفة تدي لقلبك الأمل ده وبعدين يخيب فيرجع قلبك ينكسر.
و نفس الفكرة بالنسبة للخلفة انتي اقنعتي نفسك انك مش هتقدري تحملي عشان تريحي دماغك.

صمتت لثوان كي تعطي للأخرى وقتا تستوعب فيه كل كلمة قالتها ثم تابعت :
- وده السبب اللي مخليكي لحد دلوقتي متقدريش تتصلي بعمار رغم انك بتحبيه و بتثقي فيه بس خايفة تغامري وتقومي تتعرضي لنفس الموقف فترجعي لنقطة الصفر مش كده يا مريم.

طالعتها بدهشة و انبهار من مدى تدقيق تحليلها و بدأت تستوعب بأن هذا ما كانت هي تعيشه حقا دون إدراك منها فإحتشدت المشاعر و الكلمات بداخلها عاجزة عن الرد و ظلت تتدبر في كل حرف سمعته حتى سألتها بخفوت :
- طيب ايه الحل اعمل ايه عشان ابقى كويسة.

- ابعدي عن منطقة الثبات العاطفي اللي انتي واقفة جواها دلوقتي و خلي عندك الشجاعة الكافية عشان تغامري زي الشجاعة اللي خلتك تقفي قصاد رجالة أكبر عيلة في البلد و تتحولي من طيف خايف صوته يطلع ل ست قوية و ناجحة في شغلها.

كانت هذه آخر جملة قالتها لها قبل أن تشكرها مريم و تغادر العيادة مفكرة في كل كلمة سمعتها ، اتجهت الى البناية و عند دخولها الى المصعد الذي يأخذها لشقتها صرخت بهلع بعد أن توقف المصعد في الهواء مجددا و انقطعت الكهرباء لينتشر الظلام من حولها على حين غرة ! 
أحست بتجمد الدماء في جسمها و تراقص صدرها مع تراقص خفقات قلبها بجنون الصدمة و الهلع ... و تفاقمت عقدتها الأزلية من الأماكن المغلقة فاِرتجفت بهستيريا و انبثق من جوفها صرخة أخرى وقد ساورتها ذكريات كوابيسها الدائمة يوم إجهاضها بعد عدم استطاعتها من أن تتواصل مع أحد لكي ينقذها !

ازدردت مريم ريقها بصعوبة و جاهدت لكي يخرج صوتها طالبا النجدة لكنها خابت وهي تشعر بأن أحبالها الصوتية قد تم اتلافها فطفقت تضرب على باب المصعد هامسة بهوس :
- طلعوني من هنا ... عمار ... عمار ...

سمعت أصواتا تأت من الخارج فأنكست رأسها و ارتجفت ساقاها وهي تهبط شيئا فشيئا حتى وقعت على الأرضية ، وضعت يدها على عنقها تتوسل هواء و انهمرت دموعها الحارة كخيوط من النار محاولة أن تتمالك أعصابها قبل أن يغمى عليها ، و فجأة أنير قلبها بإسم واحد فقط ظلت تردده في هذه اللحظة ... عمار.
اصطكت أسنانها برعب وهي تمد يديها في الظلام تحاول ايجاد هاتفها الذي وقع منها حتى التقطته و قامت بفتحه و حينها اعترضتها أسماء كثيرة لم تجد منها ما يلفت نظرها سوى إسمه هو فاِنهمرت دموعها أكثر متذكرة إياه ، بحنانه و عطفه و وقوفه كجبل صلب خلفها و اختارت في هذه اللحظات أن تغامر و تطبق نصائح الطبيبة و توجيهات قلبها فضغطت على زر الإتصال بإرتعاش ثم أسندت رأسها إلى الخلف مستمعة للرنين المتقطع و الذي قد طال حتى أوشك على التوقف.

شهقت مريم بحرقة و يأس ثم وفي اللحظة التي استعدت فيها كي تسمع كلام الموظفة وهي تخبرها بأن مراسلها لا يرد ... جاءها صوته الخشن المتلهف كخيط ضوء انبلج من رحم الظلام !

- مريم ... مريم انتي معايا.
من الناحية الأخرى كان هو أيضا لا يستوعب أنها طلبت رقمه أخيرا فهاهو في سيارته التي كان يقودها متجها بها لصالة الرياضة لولا أوقفه رنين الهاتف في البداية اعتقد بأنه من أحد رفاقه فلم يعره اهتماما لكن للحظة عابرة وقعت عينه على الهاتف المعلق أمام المقود فضغط على المكابح فجأة بقوة كادت تلقيه من الزجاج الأمامي ! تعلقت أبصاره على أسمها بصدمة و بدون شعور منه رد عليها و كلمها بواسطة سماعة البلوتوث الموصولة بأذنه :
- مريم .... مريم انتي معايا !

وصلته أنفاسها المتقطعة ثم نشيجها الباكي فهدر بجنون :
- مريم ردي عليا انتي كويسة انتي فين.

ابتسمت الأخرى بهوان و همست :
- انت ليه متأكد اني اتصلت بيه عشان في مصيبة.

رمش بعينيه و انطلق بسيارته مجددا مغمغما :
- ممكن عشان مبيجيش من وراكي غير المصايب مثلا ... اتكلمي بقى في ايه انا قربت اعمل حادث !

عادت لحالتها السابقة وأجابته بتقطع :
- الاسانسير ... كنت طالعة للشقة بتاعتنا بس الاسانسير وقف فجأة ... و الكهربا اتقطعت انا مش شايفة حاجة ... عمار انا خايفة الحقني أرجوك.

ضرب على المقود بعنف و زاد في سرعته مرددا بإضطراب :
- متخفيش انا جايلك حالا اوعى تفصلي الخط تمام افضلي معايا و اوعى تستسلمي للدوخة ماشي.

لعن بداخله وهو يطلب رقم الصيانة ثم حارس البناية فأخبره الأخير بأن أفراد الفريق جاءوا و هاهم يحاولون إصلاح العطل فزفر بعصبية و عاد يتكلم مع مريم :
- الصيانة تحت و هتصلح العطل بس انتي افضلي معايا و متنسيش انك واحدة قوية و حاولتي تقتليني من يومين لانك فكرتيني حرامي و عملتي كوارث قبل كده.
- مش عارفة ليه حاسة انك بتحاول تدس السم في العسل و عامل نفسك بتمدحني بس انت بتهزقني بطريقة غير مباشرة.
- ديه الحقيقة انتي عندك سوابق يا بنت الغجر بس ده مبيمنعش اني بحبك بكل حالاتك حتى لو كنتي توكسيك.
- وانت مش قليل بردو نسيت نفسك عملت فيا ايه بس انا كمان بحبك و ... انت الوحيد اللي فكرت استنجد بيه دلوقتي.

ابتسم عمار بسعادة لا تناسب الموقف وهو يستمع لإعترافها و بعد دقائق من قيادته السريعة وصل إلى البناية فركض لداخلها ليجدهم قد أصلحوا عطل النظام و بدأ المصعد بالنزول و عندما فتح منعهم بيده من التقدم و دلف هو بمفرده ليجد مريم تقبض على الهاتف بقوة كأنه إكسير الحياة و عندما رأته أمامها سالت دموعها فهرع إليها و احتجزها بين ذراعيه بجنون و قوة حتى كادت أضلاعها تنكسر لكنه لم يكن يبالي في هذه اللحظة بل شدد على عناقه لها و انقض عليها يقبلها في كل مكان يصل اليه مرددا بلهفة :
- انتي كويسة ... انا هنا معاكي ياحبيبتي ومش هسيبك أبدا.

بادلته مريم بيدها المرتجفة و السلام يغمرها لكن ليس لأنه رد على اتصالها وحسب بل لأنه حطم أكبر حاجز كان يمنعهما عن بعضهما ..
لذلك و عندما انسلخ عنها عمار مجبرا لكي يرى وجهها و يمسح من عليه آثار الخوف بينما يسألها ان كانت بخير عاجلته هي بهمستها المتسائلة وهي تطالعه بعشق خالص :
- عمار ... تتجوزني ؟ 
تعليقات