رواية الماضي الملوث الفصل الحادي عشر11والثاني عشر12 بقلم داليا السيد


 رواية الماضي الملوث الفصل الحادي عشر11والثاني عشر12 بقلم داليا السيد

الوحدة قاتلة
عادت للعمل بشركة أخيها كما كانت لتستعيد نفسها وقوتها وثقتها، لم تنزع دبلتها ولا خاتم الزفاف ولم تمنح أحد أي إجابات خاصة بحياتها الشخصية، دولت حاولت كثيرا أن تفهم أسباب الانفصال ولكن كل ما قالته "لم يمكننا التفاهم ماما"
انقضي العام وتبدلت حالتها للأفضل واتسعت الشركة بفضل مجهودها لافتتاح فرع جديد بنفس الولاية، لم تعرف عنه إلا أخبار العمل، لم ترى له صورة مع امرأة منذ انفصالهم، هاري استعاد اتصاله بها ولكن عرفت أنه على علاقة بامرأة فاتنة فكانت سعيدة من أجله
عادت إلى البيت والتعب قد أخذ مأخذه منها، بحثت عن دولت فوجدتها بالفراش على غير العادة فقالت "مساء الخير ماما، لم تنتظريني كعادتك"
بدت المرأة شاحبة وهي ترد "شعرت ببعض التعب ففضلت انتظارك هنا"
قبلت أمها وهي تشعر أن والدتها على غير ما يرام فجلست بجوارها على الفراش وقالت "ماما هل يؤلمك شيء؟"
تنهدت المرأة وقالت "لا فقط أريد أن أطمئن عليكِ حبيبتي"
ابتسمت وقالت "أنا بخير ماما والعمل على أفضل ما يرام"
أمسكت المرأة يد ابنتها وقالت "وزهير؟"
سحبت يدها من يد أمها ونهضت مبتعدة وقد شعرت بيد تعصر قلبها، عام كامل لم يجرؤ أحد على أن يذكر اسمه أمامها، الجميع كان يخشى عليها من الانهيار مرة أخرى، التجربة كانت صعبة لذا خاف عليها الجميع من تكرارها، عيون زهير قفزت فجأة أمامها بآخر لقاء لهما بالمشفى، لم تفهم نظراته ولكنها رجحت أنه غير راضي عن انتهاء انتقامه، كما أنه لم يعد ينشر مغامراته كما كان بالتأكيد زواجهم كان كارثة ولكن الغريب أنه لم يمنحها حريتها ويحرر نفسه هو الآخر منها 
سمعت أمها تعيدها لها وهي تقول "ليس من الصواب أن تعيشا هكذا"
لم تلتفت لدولت وهي تشعر بجفاف فمها وانتفاضة قلبها المتألم من ذكر الماضي، لم ترد أيضا وأكملت دولت "لابد من أن تتوقف تلك الحياة حبيبتي، ربما وجدتِ رجلا أفضل"
التفتت لدولت بفزع وقالت "أي رجل ماما؟ أنا لن أفعل، لقد نلت كفايتي من الرجال"
ظلت دولت تراقبها بحزن وقالت "ماذا حدث بينكم بيري؟ لماذا تدمر الحب الذي رأيناه بعيونكم وقت الزفاف؟"
منعت الدموع ولأول مرة تلح أمها على التدخل بالأمر، قالت بضيق "ماما من فضلك كفى، لا أريد التحدث بالأمر، طابت ليلتك"
كادت تتحرك عندما أوقفتها دولت وهي تقول "أنا لن أحيا للأبد بيري، وبرحيلي ستكوني وحدك والوحدة تقتل يا ابنتي أنتِ تضيعين حياتك"
غضب استولى عليها وهي تستدير لتواجه دولت وقالت "أنا أستعيد حياتي ماما، أستعيد نفسي التي فقدتها، فقط طفلي هو ما لن أستطيع استعادته"
تألمت دولت لابنتها وقالت "يمكنك تعويضه حبيبتي، أنت وزوجك يمكنكم الحصول على طفل آخر"
أشاحت بيدها بنفس الغضب وقالت "وأنا لا أريد طفل منه"
صعقت دولت من كلمات ابنتها وقالت "لماذا؟ وإذا كنتِ تكنين له كل ذلك الكره لماذا تظلين زوجته؟"
ابتعدت وقالت "لأن لا فارق عندي ماما، أنا لن أتزوج مرة أخرى ولن أعيد ما كان فقط انسي الأمر ولا تذكريه مرة أخرى"
رقت نبرة الأم وقالت "وأنتِ؟ كيف ستكملين الحياة وحدك؟ زهير يحبك"
هتفت بغضب "زهير لا يعرف الحب إنه حتى لا يحب نفسه"
تنفست بعمق لتعيد الهدوء لنفسها بينما فزعت دولت من كلماتها وقالت "بريهان!؟"
أغمضت عيونها وقالت بتعب من بين الدموع "ماما أرجوكِ لا تفتحي أبواب لن يأتي من وراءها إلا الألم والحزن، أنا سعيدة هكذا"
وتحركت خارجة من غرفتها وقد انتفضت الذكريات لتعود للسطح، أغلقت باب غرفتها وأسندت رأسها على الباب والدموع تنهار، دموع أغلقت عليها كل الأبواب الممكنة، ارتاحت وظنت أنها سعيدة لكن الآن؟ شعلة متوهجة أمسكت بجزء من قلبها لتنتشر على كل جزء من جسدها، عيون زهير هجمت عليها فالتفتت تفتح عيونها وتسند ظهرها على الباب وهي تبكي، بكاء كتمته كل تلك المدة السابقة، بكاء يواسي قلبها المتألم ومشاعرها المدفونة وجراحها الدامية
الوقت لم يعد له معنى وكأنها انعزلت عن العالم من حولها وهي تتمدد بالفراش واحتضنت وسادتها وهي ما زالت تراه أمامها بتلك الأيام التي جعلها فيها تشعر أنها مليكته، يريدها يمنحها حنانه واهتمامه، ولكن سرعان ما عادت اللوحة السوداء، أُم تفقد جنينها دون حتى أن تعرف بوجوده، فقدت كل شيء حتى نفسها، والآن لماذا تعمدت دولت إعادة ما كان؟ لو ذكرته هي فهي أكيدة أنه أخرجها من حياته وقت خرج من غرفتها بالمشفى ولم تراه مرة أخرى
دقات على الباب أعادتها للوعي فمسحت دموعها وأذنت لترى ميرا تفتح وتقول بقلق "مدام دولت متعبة هل أستدعي الطبيب؟"
نهضت بسرعة وأسرعت وهي تهتف "بالتأكيد"
المشفى تلقاها بسرعة نتيجة اتصال الطبيب المسبق ولم يسمحوا لها بالدخول لغرفة الطوارئ، شعرت بقلبها يخرج من صدرها ليرحل لأمها، هي كل من لها حتى ليث لم يمكنها الاتصال به فهو بالمالديف مع عهد وأولادهم، لن تأتي به وهاري مع امرأته بسيدني
سقطت على مقعد ودفنت رأسها بين يداها وهي تشعر بالوحدة و الخوف مما يمكن أن يصيب أمها
لم يمضي وقت طويل حتى خرج الطبيب فنهضت له وهو يتقدم منها وقال "القلب ليس على ما يرام، من المفضل إجراء جراحة ولكن ليس قبل أن تستقر حالتها"
ظلت هادئة وهي تقول "ومتى تستقر حالتها؟"
تأملها بهدوء وقال " ستبقى بالعناية الآن وسنقوم باللازم وعندما نجد الحالة مناسبة سنجري الجراحة"
قاومت الدموع وهي تقول "أريد رؤيتها"
قال "لا أظن أن ذلك سيفيد بشيء، لقد حصلت على علاج ومهدئات وبالعناية لن تشعر بكِ، ربما بالغد"
وتركها وذهب وكأنه لا يريدها أن تسأل أي شيء آخر ولم تنظر له وهي تحدق بالفراغ لا تعرف ماذا تفعل؟ هل تبقى أم تذهب أم ماذا؟ 
الهواء انتهى من حولها فعادت للمقعد وهي تعلم أنها لن ترحل، لن تذهب لأي مكان دون أمها، ستبقى هنا حتى تعود معها
انتصف النهار وهي جالسة بمكانها، أخبرت أليكس بإلغاء كل مواعيدها بالطبع، أبلغها الطبيب بإمكانية رؤية دولت ولكنها لم تكن تشعر بشيء مما حولها حتى عندما نادت بريهان باسمها لم تفتح عيونها مما زادها ألما وخوفا
المساء وصل سريعا وما زالت تجلس مكانها على نفس المقعد ولم تتحسن حالة دولت والأطباء لا يمنحوها أي هدوء زائف "بريهان"
كانت تحيط وجهها المجهد بيديها عندما لم تصدق الصوت الذي سمعته فلم ترفع وجهها، ربما نامت وتحلم؟ "بريهان"
لا لم يكن حلم أو خيال بل هو صوته، رفعت وجهها ويداها تزيل خصلات شعرها المحيطة به لتراه أمامها، هو، نعم هو، لم يختلف عن الرجل الذي عرفته وتزوجته، عام ليس بكثير ليضيف أو ينزع منه أي شيء
نظراته فقط هي من تبدلت، الأزرق بها بدا قاتما، وسامته ما زالت حاضرة، قوته تبدو من عضلات وجهه النحيف، جسده الشاهق ما زال يعلن عن بدن صحي ومثير للإعجاب
لقاء العيون كان غريب، نظرة شوق ارتسمت بعيون كلا منهما ولكن سرعان ما تحولت نظراتها للغضب عندما استعادت الماضي بكل أحزانه فأبعدت وجهها كله عنه ولم ترد
تحرك وجلس بجوارها وقال "تبدين متعبة"
لم تنظر له بل نظرت للأرض التي أمامها محاولة إيقاف فيضان الذكريات من اندفاعه لعقلها وقالت بهدوء غريب "أنا بخير"
كان ينظر لها بقوة، يمرر عيونه على كل جزء بها، أدرك أنها عادت بريهان التي عرفها أول مرة بملابسها القاتمة والبنطلونات الواسعة، كان يعلم أنها تجد الأمان بهم وعندما استجابت له وتبدلت لما أراد دفعت الثمن غاليا وأصبح ما كانت عليه هو الأفضل لذا عادت له دون ندم 
عاد لوجهها المتعب وقال "هل يمكن أن تعودي للبيت حتى"
قاطعته دون أن تنظر له "لا تخبرني ماذا أفعل"
جز على أسنانه من كلماتها وهدوءها يثيره أكثر ومع ذلك كان عليه أن يتوقف ولكنه لم يستطع وهو يقول "لا تدفعيني لما لا يرضيكِ"
التفتت له وقالت "أنت لا تحتاج دافع لتفعل ذلك بالأساس"
شحب وجهه وهو يدرك كلماتها التي تعني أنه لم يفعل سوى ما لم يرضيها، كان يعلم أنها على حق ولم يملك أي دفاع عن نفسه فأبعد وجهه وقال "لا مجال لتلك الكلمات الآن"
هزت رأسها وقالت "ولا مجال لوجودك هنا"
ونهضت لتبتعد ولكنه أمسك يدها وقال "بل لابد من وجودي بريهان، ألا تجدين أنك وحدك بدون أحد"
نظرت له من الأعلى بعيون تنبض بالألم وارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيها وقالت "شيء مؤلم أليس كذلك؟"
تحركت عضلة بوجهه وهي تجذب يدها من يده وتبتعد وهو يفهم ما تلمح له من ذلك الشهر الذي تركها به وحدها دون حتى سؤال، كم ندم على ذلك وكم ندم بالأساس على كل ما فعله معها وكم تمنى لو رحل كله للا عودة ولكن..
تحركت بدون وعي ولا تعلم لأين ستذهب والمصعد يفتح بابه وضغطت زر النزول وقبل أن يغلق الباب كان يدخل المصعد فلم تنظر له ولكنها لم تريده، لا تجد طاقة لديها له ولا للجدال، ذهنها كله بوالدتها والأطباء لا يبدون أي كلمات جيدة
فتح المصعد فخرجت وهو بجوارها وقال "هل نتناول أي طعام؟"
كانت تعلم أنه لن يتركها فهو لم يأتي ليفعل لذا عليها تقبل وجوده رغما عنها فقالت "لا"
بالخارج رأت السائق ينتظرها ولكنه أمسكها من ذراعها وقال للرجل "يمكنك الذهاب"
أحنى الرجل رأسه وقادها هو لسيارة لم تراها من قبل، أحدث من سيارته الأخرى، سوداء مرتفعة وجميلة، كان الجو برد والسماء مغلقة على سحب قاتمة ومن الواضح أنها ستمطر، أعياد الميلاد اقتربت بشهر ديسمبر والثلج يسقط كثير، جذبت معطفها عليها ولكن داخل السيارة ارتفع الدفء بمجرد أن أدار السيارة وتحرك بها
عطره غطى على رائحة الجلد الذي بدى جديدا والآن دخان السجائر امتزج به، الثلج تساقط ورأت زينة عيد الميلاد تملأ الشوارع وشردت بتلك الحياة التي اندمجت بها و..
فجأة تنبهت أنه ليس طريق بيتها فاعتدلت وقالت "إلى أين؟"
نفخ الدخان وقال "بيتي"
نظرت له بغضب وقالت "لا، عد بي لبيتي"
نظر لها بنظرات غاضبة مماثلة لها وقال "بريهان"
لم تتراجع "أعدني الآن وإلا أقسم أن أفعل سيرا على الأقدام"
ظل يحدق بها ولكن الضوء المواجهة له وصافرة السيارة المواجهة جعلته ينتبه للطريق فأدار المقود بقوة ليبتعد عن السيارة الأخرى ثم أوقف السيارة بجانب الطريق وهتف "والآن ماذا؟"
لم تتراجع وهي تقول "الآن أعدني بيتي"
 تعصب من كلماتها وقال "بريهان لا تجعلي الغضب يحكم بيننا"
قالت دون تراجع "أنت من تدفعني للغضب، أنا لم أطلب وجودك فلماذا تدعي عكس ذلك؟"
أطفأ السيجارة بطفاية السيارة ليبعد عيونه عنها وقال "لأن وجودك وحدك بتلك الظروف لا معنى له وأنا زوجك"
ضحكت بسخرية وقالت بنفس السخرية "حقا؟ وهل تظن أني من المفترض أن أشكرك الآن على وجودك؟ هل تصدق نفسك؟"
عاد لها بعيونه وهو يرى الإصرار بعيونها ولم تعد نفس العيون التي كان يعرفها فقال "تغيرتِ كثيرا بريهان"
لم تذهب ابتسامة المرارة والسخرية من على وجهها وقالت "أتساءل من وراء ذلك؟"
للحظة ظل جامدا ثم أبعد وجهه وعاد للسجائر مرة أخرى حتى نفث غضبه بدخانها وقال "ما حدث"
قالت بغضب "أنا لا أريد التحدث عما حدث، أنا أريد العودة لبيتي الآن وإلا اتركني أعود وحدي"
الغضب الذي واجهه بعيونها وملامحها جعله يتراجع، كان يعلم أن تلك المواجهة آتية لا محالة ولكنه لم يدرك أنها تبدلت لشخص آخر لا يعرفه
لم يرد وهو يدير السيارة ويقود عائدا فأبعدت وجهها للنافذة وقلبها ينزف غضبا بلا توقف غير مهتمة بما حدث ولا بما سيحدث فمهما كان قلبها يدق له فهو أيضا يدق ألما منه ولن تسمح له بأن يؤلمها مرة أخرى
توقف أمام بيتها فنزلت وتركت باب السيارة ولم تنظر حتى له وهي تتحرك للبيت والدموع تسبقها ودقات قلبها تدفعها حتى دخلت البيت وخلعت المعطف والطاقية الصوفية وانتشرت بواقي الثلج هنا وهناك 
لم تتحرك لغرفتها بل قابلتها ميرا فقالت لها "بعض الشاي ميرا"
ما أن تحركت الفتاة حتى رأته يدخل خلفها فأبعدت وجهها وتحركت للنافذة تنظر لها وهي تبعد دموعها جانبا، لا وقت للضعف الآن
تحرك تجاهها حتى وقف بجوارها وقال "هل تهدئين؟"
لم ترد وهي بالفعل تحاول تهدئة قلبها وجسدها المرتجف وعقلها الثائر، أكمل "بريهان لابد من وضع حد لكل ذلك"
لم ترد أيضا ولم تنظر له فنفخ بقوة وفك ربطة عنقه وأزار قميصه العلوية وقال "هل نجلس ونتحدث؟"
التفتت له فبدت ملامحه غريبة، شاحب الوجه وعيونه تواجهها فتحركت للمقعد وجلست تاركة له الأريكة فتحرك ليجلس وهو يبعد جاكته قبل أن يجلس وقال "ماذا تريدين؟"
عيونها وجدت طريقها لعيونه ولم تسمح للضعف بتملكها وهي تقول "لا شيء فقط ابتعد عني"
دخلت ميرا بالشاي، وضعته أمامهم وخرجت فتحركت هي وسكبته بالأكواب ثم وضعته أمامه ولم ترفعه له وتناولت خاصتها فحدق بها وقال "تكرهيني؟"
كادت تنفجر بالضحك من سؤاله، فرغم كل ما فعله بها إلا أنها بغباء لم تستطع أن تكرهه، غاضبة، ساخطة، متألمة لكن الكره لم ينجح بالتسرب لقلبها، أخفت وجهها بقدح الشاي واحترق لسانها منه فأبعدته بهدوء وقالت دون أن ترفع وجهها
"أنت أخبرتني يوما أن لا مكان للمشاعر بيننا، فقط الرغبة والكيمياء"
تذكر كلماته فأشعل سيجارة ولاحظت أنه يكثر منها ثم تناول قدح الشاي وأخذ بعضا منه ثم قال "والآن؟"
رفعت عيونها غصبا له وقالت "الآن لا مكان لأي شيء بيننا، لقد انتهى كل شيء زهير فماذا تفعل هنا؟"
دخان السيجارة كان سحابة محملة بالغيوم حجبت عنها رؤية عيونه، ظل صامتا دون أي حركة حتى قالت "أنا أرى أن تعيد حساباتك وتلغيني منها فوجودنا سويا كواحد مع واحد لم يعد يساوي اثنان، بل يساوي واحد وهو أنت، هذا ما كنت تريده دائما أنت فمن الأفضل أن تعود لحياتك كي تعتدل المعادلة ويكون واحد يساوي واحد"
كان قد أحرق السيجارة كلها وهو يسمعها حتى أطفأها وقال "لم أعد أريد تلك المعادلة بعد"
ضاقت عيونها للحظة ثم عادت لطبيعتها وقالت "اللعبة الغامضة تلعب مرة واحدة زهير لأن الغموض ينكشف باللعب ولا يصح لعبها مرة أخرى"
انحنى للأمام مواجها إياها وهو يقول "زواجنا ليس لعبة بريهان"
هتفت بغضب "زواجنا لعنة أصبت بها ودمرتني وكسرتني ولن أسمح لك بتكرار ما كان"
ونهضت ولكنه نهض معها ليقف أمامها مانعا عنها الطريق وعيونه تسقط على عيونها وهو يقول "لن يتكرر، أعدك ألا يكون"
نظراته كانت جدية حقا، تحمل رجاء غريب ولكنها لن ولم تصدقه وهي تقول "وهل تظن أن لدي ثقة بكلماتك زهير؟"
جمد جسده وشعر بخنجر حاد يطعنه بصدره واحمرت عيونه وهتف "حسنا هذا حقك ولكن لنبدأ من جديد"
هزت رأسها بالنفي وقالت "لم يعد لدي ما يدفعني لأفعل أنت نسفت كل شيء، الدمار الذي نشرته بحياتي لم يبقي على شيء"
زاد الألم بصدره ومع ذلك هتف "لا تخبريني أن هناك رجل آخر؟"
تراجعت بعيون متسعة من الدهشة وظلت تحدق به ثم قالت "هل حقا عرفتني بيوم ما زهير؟ هل عرفت المرأة التي تزوجتها وتلاعبت بها وهزمتها؟ لا، لم تفعل، لأنك لم ترد أن تفعل، لم يكن يهمك سوى انتقامك حتى دون أن تتأكد من صحة هدفك، أنا آسفة زهير أنا حقا لا أريدك بحياتي"
ودفعته بيداها بعيدا وهي تتحرك لغرفتها وصفعت الباب خلفها دون اهتمام به ولا بما فعلته به كلماتها فقط قالت ما رغب عقلها بقوله وتصرفت كما تمنت أن تفعل، لم تضعف ولم تستسلم ولكن ما أن جلست على المقعد حتى تركت الدموع تتكوم بعيونها وانهارت بالبكاء وهي تعلم أنها سجنت قلبها الذي كان ينادي باسمه ولم تسمح له بأن يضعفها ولكنها الآن تتركه يصرخ متألما معترضا ساخطا عليها لأنها جعلت الرجل الذي تحبه يخرج من حياتها للأبد..
اتصلت بالمشفى فلم تجد أي جديد، بدلت ملابسها وتمددت بالفراش بمحاولة للنوم ولكن بدون فائدة والدموع ما زالت تبلل وسادتها
بالصباح الباكر أخذت حمام أعاد لها بعض الطاقة وارتدت بنطلون أزرق قاتم وكنزة بنفس اللون ووضعت كوفية بيضاء حول عنقها وربطت شعرها من الخلف ثم خرجت لتتفاجأ به ممدد على الأريكة بنفس ملابسه فتراجعت من الصدمة وقد ظنت أنه رحل..
تحركت للمطبخ ورأت ميرا تعد الفطور فقالت "صباح الخير ميرا"
ابتسمت ميرا وقالت "صباح الخير مدام، الفطور جاهز لقد أعددته لفردين"
هزت رأسها ولم تنظر لها وهي تسكب بعض القهوة لنفسها ثم قالت "لحظات وأعدي المائدة"
خرجت لتراه كما تركته فتحركت تجاهه وانحنت لتوقظه وتعلقت يداها بالهواء وهي تتأمل ملامحه التي تفككت منها كل التعابير وبدا هادئا جدا، أنفاسه المنتظمة ذكرتها عندما استيقظت بين أحضانه مرة، قبضت أصابعها بقوة من الذكرى وكادت تبتعد ولكنها استعادت تركيزها وعادت تمد يدها على كتفه لتهزه وهي تناديه
"زهير، زهير استيقظ"
انتفض من لمسة يدها وفتح عيونه فبدت غريبة باللون الأحمر وهو ينظر لها لا يعرف أين هو؟ عندما أدرك ما حوله اعتدل جالسا فابتعدت هي وهو يرفع شعره بيده فقالت " لم يكن عليك النوم هكذا"
نهض وعدل قميصه وقال "لم أجد الأفضل"
التفتت له وقالت "لم تخبرني أنك ستبقى"
نظر لها بغضب وقال "وهل كنتِ سترحبين بالفكرة؟ أعتقد أنكِ كنتِ ستفجرينني قبل أن أبقى"
وتحرك للحمام تاركا إياها في دهشة وقد تورد وجهها رغم الصداع الذي صاحبها من عدم النوم أو الطعام، رفعت يدها لشعرها بلا وعي ثم أبعدتها وهي لا تفهم سر سعادتها لوجوده
قالت ميرا "المائدة جاهزة مدام"
هزت رأسها وشكرتها فذهبت الفتاة بينما عاد هو وقد تبلل شعره ولكنه صففه جيدا وعدل من ملابسه وارتدى الجاكيت فقالت وهي تقاوم النظر له "الفطور"
لم ينظر لها وهو يشعل سيجارته وقال "أنتظرك بالسيارة"
وتحرك ليأخذ البالطو الخاص به وارتداه ثم خرج فشعرت بالغضب يرتد لها، هي لم ترغمه على البقاء ولو كان قد غضب من كلماتها فلماذا ظل هنا معها؟ 
ركبت بجواره دون أي كلمات والثلج لا يتوقف، نظرت له وقالت "أليس هناك ما يشغلك؟"
لم ينظر لها وهو يقول "لو تعنين نساء فلا، أما لو تعنين العمل فيمكنه أن يسير بدوني بفضل من يحصلون على رواتب ضخمة مني"
احمر وجهها ولم ترد فالتفت لها ليرى توردها فانقبض قلبه وعاد للطريق وقال "علمت أنكِ افتتحتِ فرع جديد للاموند؟"
قالت بهدوء "نعم، اقترحت الفكرة وليث لم يعترض والفرع يحقق نجاح لا بأس به"
هز رأسه وقال "وهاري!؟"
نظرت له وقالت "ماذا عنه!؟"
نظر لها وقال "لم يعد صديقك؟"
لم تفر من مواجهته وقالت "بلى ما زال صديقي"
أبعد وجهه وقال "لم أراه بالمشفى"
نظرت للطريق أمامها وقالت "بسيدني"
التفت لها وهي الأخرى وكأنهم يستعيدوا الذكريات المؤلمة سويا ثم افترقت النظرات وقال "كارين سألت عنكِ كثيرا"
لم تستطع إيقاف لسانها من أن يقول "وجورجينا؟"
لا شيء يمكنه إيقاف المدافع التي تنطلق بينهما غصبا عنهما، قال بهدوء "أخبرتك أن لا نساء تشغلني"
لم تنظر له وهي تسخر "هذا رائع حقا، ليتني أصدق"
كان يعلم رأيها فلم يعلق وهو يوقف السيارة أمام المشفى وكلاهم ينزل لتشعر بيده بظهرها وهما يدخلان المشفى، قابلا الطبيب الذي أبلغهم أن الحالة لم تسقر ولن يتم إجراء الجراحة حاليا، طلبت رؤية دولت وبالفعل دخلا سويا لتراها ما زالت بين الأجهزة ولكنها شعرت بهما ففتحت عيونها
ابتسمت عندما رأت زهير الذي تحرك تجاهها وقال "كيف حالك الآن؟"
قالت بتعب وضعف "الحمد لله، لم تتركها وحدها أليس كذلك؟"
هز رأسه وقال "نعم ولن أفعل"
التفت دولت لابنتها وقالت "أنتِ لستِ بخير"
ظلت تنظر لوالدتها والدموع تقف على أعتاب عيونها حتى قالت "بدونك؟ لا ماما، لست بخير"
رفعت المرأة يدها فأمسكت هي بها وقالت دولت "لا تقلقي، سأكون بخير ولو اطمأننت عليكِ سأكون أسرع بالشفاء"
كانت تفهم كلمات أمها التي عادت لزهير وقالت "أنا سعيدة لوجودك زهير"
هز رأسه وقال "وأنا أتمنى سرعة شفائك ماما"
وأخيرا خرجا من المشفى وعادا للسيارة بعيدا عن الثلج المتساقط وتحرك وهو يقول "ربما بعض القهوة أو الشاي سيكون مفيدا"
نظرت له وقالت "لنعد للبيت أحتاج للراحة"
حدق بها لحظة فأبعدت وجهها وقالت "هناك غرفة للضيوف ربما تحتاج للنوم أو لو شئت رحلت لبيتك"
لم يرد وهو يقود السيارة والغضب يحاول السيطرة عليه منها ولكنه كان أقوى من غضبه، ما أن وصلا حتى نزلت دون أن تسأله ما إن كان سينزل معها أم لا ولكنها رأته ينزل فلم تعلق 
تخلصا من المعاطف فدخلت المطبخ وتذكرت أن ميرا رحلت لأجازة عيد الميلاد فقالت 
"سأعد الشاي، هل ترغب ببعض الطعام"
تحرك معها للمطبخ وقد خلع جاكت بدلته وظل بالقميص وقد لاحظت أنه لم يعد يرتدي القطعة الثالثة للبدلة، قال وهو يجلس على كرسي المائدة "لو أمكن فقط لا تضعي بها سما"
حدقت به وقالت "لا أرغب بقضاء باقي حياتي بالسجن من أجلك"
لم يرد فصنعت بعض الساندويتشات وتركت الماء يغلي وأعدت أكواب الشاي ثم وضعت الطعام أمامه وجلست هي الأخرى لتأكل
تناولا الطعام في صمت حتى انتهيا فأشعل سيجارته وقال "لن تخبري ليث؟"
قالت دون النظر له "لا، هو بأجازة ولن أسبب له القلق"
ثم رفعت عيونها له وهو يجلس براحة بمقعده وسيجاره بين أصابعه ونظراته ثابتة عليها، قالت "وأنت يمكنك العودة إلى حيث كنت، أنا"
ولم تكمل وهو صامت لا يرد، شعرت بفمها جاف وضاعت كلماتها والدموع تتكون بعيونها فأغمضتها وقالت بضيق وتعب "لماذا أتيت؟"
تجمدت نظراته عليها وعلى الألم المرتسم على وجهها فسخط على نفسه وأطفأ السيجارة وهو يقترب من طرف المائدة وقال "أَتيت من أجلك بيري، أَتيت لنأخذ الفرصة التي لم تمنحينا إياها بذلك اليوم، أَتيت لإعادة زواجنا"
فتحت عيونها والدموع تتساقط هنا وهناك وقلبها تبعثر معها بدون هدى من كثرة دقاته وتنفست بصعوبة وارتجفت يداها فنهضت مبتعدة لجهاز تسخين الماء والتفتت لتكمل الشاي فرأته واقفا أمامها فرفعت وجهها الملطخ بالدموع له وامتلأت عيونه بنظرات غريبة عنها وقال 
"لا يمكن أن تفري من كل حديث خاص بنا بريهان"
عيونه تحكمت بها جعلتها تنسى كل ما حولها، لم تعد تشعر سوى به هو، هو فقط ملأ كل الفراغ الذي حولها جعلها لا تسمع سوى أنفاسه ولا ترى سوى عيونه ولا تسمع سوى صوته، شهقت من البكاء وقالت 
"فقط اتركني لأعود لما كنت"
وتخطته للمائدة لتسكب المياه بالأكواب ولكنه استدار ووقف خلفها وقال "وكيف كنتِ بيري؟ كلانا لم يكن شيء بدون الآخر"
سكبت المياه بالكوب وقالت بصعوبة "كفى زهير، أرجوك كفى، ما بيننا انتهى بذلك اليوم الذي عرفت فيه أنك تزوجتني لتنتقم، كان لابد أن أرحل ولكني خشيت على أخي ولكن بعد أن ضاع طفلي"
كانت قد بدأت تسكب الماء بالكوب الآخر عندما انهارت بالبكاء وتساقطت المياه المغلية وكادت تسقط عليها وهي تتراجع بفزع وهو أدرك ما يحدث فمد يده لينزع الإبريق من يدها ولكنها فقدت توازنها وكادت تسقط فأحاطها بيده ليمنعها من السقوط ولكن الإبريق مال تجاهه وانسكب على صدره فهتف من ألم الاحتراق
"اللعنة"
يتبع..

الفصل الثاني عشر
لا أريدك
عندما استوعبت ما حدث فلتت من ذراعه ورأت الألم يرتسم على ملامحه والقميص يلتصق بصدره فهتفت "زهير الماء كان مغلي، دعنا نذهب للمشفى"
أبعد القميص عن صدره برفق وألم وهو يفك أزراره فرأت صدره العاري الذي لم تنساه يوما وقد احمر جلده بشكل صعب وهو يقول بصعوبة "ربما لديكِ دواء للحروق"
أسرعت لإحضاره وقالت "موجود هنا ولكن لابد أن نذهب للمشفى"
كان قد جلس والألم يزداد وقد صنع دائرة حمراء ملتهبة على الجزء الأيسر من صدره، ارتجفت يدها وهي تحاول أن تضع المرهم فأمسك يدها فنظرت له ليواجها بنظرات حاسمة وهو يقول "فقط ضعي المرهم بريهان ولا تخشي شيء"
هزت رأسها والدموع تسيل دون توقف وبنفس الأصابع المرتجفة وضعت المرهم والألم مرتسم على ملامحه وما أن انتهت حتى قالت بإصرار "هيا لابد أن نذهب"
ولكنه قال بهدوء "لا، سأكون بخير هل تهدئي؟"
ظلت ترتجف والدموع لا تتوقف وهي تقول "لا، ليس قبل أن يراك طبيب، هيا من فضلك"
لم يمكنه البقاء وهي تنهار أمامه، ساعدته على وضع البالطو على أكتافه بعد أن استبعد قميصه المبلل وأحضرت له واحدا من سيارته كما أخبرها
بالمشفى طمأنهم الطبيب أنه حرق بسيط من الدرجة الأولى ولم يضر إلا بالطبقة الأولى من الجلد ومنحهم مرهم أقوى مما استخدمته
عادا للبيت وقد ظل محتفظا بهدوئه ولكن الألم لم يرحل، تأملته وهو يبعد البالطو وهي تأخذه وقالت "أنت بحاجة للنوم"
لم ينظر لها وقال "أنا بحاجة للسجائر، أين هي؟"
تحركت للمطبخ لتبحث عنها وعندما التفتت لتخرج اصطدمت به فتراجع من الألم فوضعت يدها على فمها وهتفت "أنا آسفة"
عاد واقترب منها وتناسى ألمه وهو يرى القلق والفزع بعيونها فرفع يده لوجنتها ومسح الدموع وعيونه تتجول على وجهها وقال "لا تفعلي، أستحق أكثر من ذلك"
تراجعت من لمسته واستدارت لتفر منه ولكنه أحاط كتفيها بيده فأغمضت عيونها وهو يقول "بيري، أنا حقا أريد ذلك الزواج"
أعادها أمامه ولكنها لم ترفع وجهها له فرفعه بيده لتلتقي بزرقة عيونه التي لمعت كسماء الصيف الزاهية وأكمل "فقط فرصة واحدة"
وعندما تاهت عيونها بنظراته كانت ذراعه تلتف حول جسدها وتجذبها له وما زالت جامدة مكانها وهو يحني رأسه ليلتقط شفاهها في قبلة انتظرها الاثنان كثيرا وحلما بها، قبلة قاوم بها الاثنان الخوف الذي يملأ قلوبهم، قبلة سكنت بها الآلام وخمدت بها نيران الذكريات، قبلة دافئة رقيقة لكن بسرعة تحولت لقبلة قوية، قبلة الشوق واللقاء، استنزفت أنفاسهم ولم تدرك أنها رفعت يداها لعنقه وضمته بهما ولم تشعر بيده تتخلل كنزتها الصوفية لتلمس جسدها الناعم حتى رن هاتفه ليفزع منه الاثنان وتتراجع هي وكأنها أفاقت من صدمة وأنفاسها لا تهدأ فاستدارت تمنحه ظهرها ويدها تعيد كنزتها حول جسدها وتبعد خصلاتها عن وجهها بينما تحرك هو لجاكته وأخرج الهاتف ليرى رقم جاكوب فأجاب
التفت لها وهو يسمع كلمات جاك ولكنها كانت بعالم آخر تحاول تركه والعودة للعالم الواقعي
أنهى اتصاله وتحرك لها وهي تجلس على كرسي المائدة تفكر فيما حدث بينهم ولكنه قال "أحتاج للذهاب بريهان وسأعود على العصر لنذهب المشفى"
رفعت وجهها الدموي من لونه الأحمر له وقالت "حسنا"
سمعته يغلق باب البيت فأغلقت عيونها وهي تشعر بالغضب من نفسها لما حدث، كيف سمحت لنفسها بذلك؟ كيف تضعف هكذا؟ ما زالت تريده وما زال قلبها يدق له، زوجها وهي حرمته على نفسها فهل لديها الجرأة لتوقفه مرة أخرى..
هاتفها على الرابعة وقد كانت نائمة ولكنها أجابت فقال "لن يمكنني المرور عليكِ بريهان ولكن ما رأيك بالعشاء؟"
اعتدلت بالفراش ونظرت للساعة ثم قالت بضيق لم تفهم سببه "العشاء وماما بالمشفى زهير؟ لا شكرا لا تحمل هما سأكون بخير إلى اللقاء"
ولم تمنحه فرصة للجدال وهي تنهي الاتصال بغيظ لأنه عاد للعمل الذي كان يأخذه بالأسابيع، عليه أن يحارب أكثر من أجلها لو أرادها..
ما أن خرجت من العناية حتى رأته يتقدم للداخل وبالطبع قميصه مفتوح ودون ربطة عنق فشعرت بالذنب لحظة ثم حولت عيونها عنه لتستعيد غضبها منه وهو يقف أمامها وقال "كيف حالها؟"
لم تنظر له وقالت "نائمة، الطبيب أخبرني أنها لو استمرت هكذا للغد سيمكنهم إجراء الجراحة"
بدا الإرهاق أكثر على وجهه ورفع خصلاته للخلف بيده السليمة وقال "حسنا هل نذهب؟"
قالت بضيق "أردت رؤيتها عندما تستيقظ"
نظراته عنت الكثير من التردد بالضغط عليها للذهاب أو الرضوخ لها والبقاء ولكنه أبعد وجهه وقال "حسنا"
بالطبع مضى وقت قبل أن تخبرها الممرضة بأنها استيقظت فدخلا للقائها ثم خرجا وما أن وصلا لباب المشفى وفتح لها الباب حتى كاد يصطدم بامرأة جميلة  بشعر أحمر ناري ما أن رأته حتى توقفت أمامه وهتفت بدلال واضح 
"أنا لا أصدق! زهير! ماذا تفعل هنا؟"
توقفت هي بعيدا تراقب والغضب على وجهها وعيونه تحدق بالمرأة وهو يقول "أهلا كارما كيف حالك؟"
كانت المرأة تجيد ارتداء ملابسها حقا بفستان أزرق سماوي قصير تحت معطف سميك وثمين وحذاء بكعب عالي ليس مناسب لمشفى ولكن مناسب لامرأة مثيرة حقا، شعرها الناري يتهدل على كتفيها بلا اهتمام منها، قالت كارما بابتسامة تأخذ العقل 
"لم أكن أفضل حال من الآن، لماذا أنت هنا؟"
عقدت بريهان ذراعيها أمام صدرها والغضب يطل من عيونها وينبض من كل خلية بجسدها وظهر المرأة يواجها بينما قال هو "حماتي هنا ونحن بزيارتها"
لم ترى بريهان وجه المرأة وهي تردد "نحن!؟"
كان يحاول الإفلات من حبس كارما ولكنه فشل فهي كانت تسد طريقه فأشار بيده لبريهان وقال "زوجتي، بريهان"
التفتت كارما تتبع يده لتراها واقفة والغضب يطل من عيونها، نظرات كارما جابت كل مكان بجسدها ثم عادت لوجهها وهي تبتسم ابتسامة باردة وتقول "نعم ما زلت أذكر صوركم بالزواج، أهلا"
ظلت قليلا قبل أن تدفع يدها بيد المرأة وتقول بنفس البرود "أهلا"
ابتسمت المرأة بخبث وقالت "لا تخبرني أنكم عدتم لبعضكم البعض"
الغضب ملأ عيونها بينما قال هو بفارغ صبر "هذه أمور خاصة كارما، اسمحي لنا"
وانتظرها أن تتحرك من طريقه وهي تنظر لبريهان بعيون غامضة وقالت "من الصعب أن تكوني زوجة لرجل مثله حياته كلها للنساء والكأس"
الغضب زاد داخل بريهان واحمر وجهها بينما جذب هو ذراع كارما بقوة بعيدا عن طريقه وهو يقول بغضب "ومن الصعب التخلص من امرأة تدس أنفها بما لا يخصها"
تألمت المرأة من قبضته وكادت تسقط من دفعته القوية وهي تصرخ "زهير هل جننت؟"
التفت لها بعيون تبرق بشرر وهو يقول "عندما تمسين كرامة زوجتي فالجنون هو المقابل، لا تضعي نفسك بطريقي مرة أخرى كارما"
والتفت لبريهان وقد تراجعت من ملامحه الغاضبة وهو يقبض على ذراعها برفق ويقودها للسيارة وقد حل الظلام حولهم والجو برد وقد توقف سقوط الثلج
البيت كان وجهته دون أي كلمات وما أن دخلا حتى خلعت معطفها ولاحظت أنه يحاول إزاحة خاصته فأسرعت تساعده وقد بدت ملامحه متعبه فقالت بعد أن انتهت "لابد من أن نضع المرهم على الحرق"
هز رأسه وهو يتحرك للداخل وسقط على الأريكة وأسند رأسه على ظهر الأريكة بينما أحضرت هي الأشياء كما أمرها الطبيب
قالت برقة "زهير افتح قميصك من فضلك"
فتح عيونه فبدت ملونة بالأحمر وهو يحدق بعيونها الرمادية فقالت "هل تدخل غرفة الضيوف وتتمدد على الفراش أفضل؟"
هز رأسه بالنفي وهو يفتح قميصه وقال "لا، لابد أن أجري بعض الاتصالات أولا"
لم ترد وقد عاد صدره يواجها فلمعت عيونها وهو يبعد وجهه فنزعت الضمادة التي وضعها الطبيب ولم تتبدل ملامحه وهو يغمض عيونه وبدأت بتعقيم الحرق وهو متماسك ثم وضعت المرهم بحرص وبطء ولكنه تنفس بعمق فأدركت أنه يتألم فأسرعت حتى وضعت الضمادة وقالت 
"لقد انتهيت"
عندما فتح عيونه كانت قريبة جدا وهو كان يقاوم دفء جسدها الذي شعر به يلمس ساقه ويداها الرقيقة التي تمررها على صدره، أنفاسها كانت تضرب وجهه عطرها جعله يثمل ولا يدري بما حوله
كانت تركع أمامه على الأرض وتراجعت لتنهض ولكنه لم يتركها وهي تضم قميصه بيديها فقبض عليهما وعيونه تلتقي بعيونها بنظرة طويلة قبل أن يجذبها من يدها تجاهه ثم تحركت يده لشعرها وفك رباطه ليغطي يده كالشلال المنساب بهدوء فمرر يده به فلم تتحمل لمسته وتهاوى قلبها متألما فابتعدت ونهضت تفر من أمامه فسقطت يده بالفراغ على ركبته وجمعت الأدوات وقالت 
"أنت بحاجة للراحة، سأعد بعض الطعام حتى تنتهي من اتصالاتك و"
لم تكمل وهي تشعر بيداه تتخلل خصرها من الخلف وأنفاسه تسقط على عنقها وهو يهمس "أنا لا أريد أي طعام"
كان يطبع قبلة على عنقها أشعلت داخل جسدها كل ما انطفأ برحيله، فجأة وجدت نفسها تواجه صدره ويده تعبث بوجنتها والأخرى تقبض على جسدها، لم ترفع يدها له وإنما ارتجف فمها وهي تفتحه لتقول 
"زهير توقف"
ولكنه لم يفعل بل سقطت قبلاته على وجنتها ويده تتعمق بين شعرها وعنقها وهمس "ليتني أستطيع التوقف"
وانتهت قبلاته عند شفتيها ليبدأ قبلته التي تهد كل ما تبقى لديها من قوة وهي تعلم أنها ضعيفة ولا تملك أي قوة بمواجهته بل خانها جسدها وانساق له وازداد قربا منه، قبلته أخذت أنفاسها بل أخذت عقلها وقلبها ورحلت بهم وتركوها وحيدة معه لا تدري ماذا تفعل كل ما لديها لا يقاومه، يريده، يستسلم له، جسدها، قلبها حتى عقلها رفع رايته البيضاء
أطلق شفتيها للحظة وهمس "عانقيني بيري، اشتقت لأن أكون بين ذراعيك حقا"
ولكن كلماته كانت كالمدفع الذي انطلق بدوي مفزع أعادها من الغيبوبة وبدلا من أن تعانقه أفلتته وتراجعت وهو يحدق بها بذهول وعيونها تمتلئ بالدموع ثم أسرعت لغرفتها وأغلقتها وتراجعت مبتعدة عن الباب والبكاء رفيقها وما زالت تنظر للباب ورفعت يداها على فمها لتكتم شهقاتها ولكن بالنهاية انفلتت أصوات بكائها ولم يعد باستطاعتها إيقاف نزيف الألم الناتج عن الذكريات المؤلمة، لم تستطع نسيان الصور التي كانت تراها ولا أنها كانت سبب ضياع طفلها
دقات الباب لم تجعلها تتوقف ولم توقف الذكريات المؤلمة حتى عندما سمعته يقول "بريهان افتحي من فضلك، بريهان توقفي عن البكاء وافتحي لي لابد أن نتحدث"
قالت بألم "أنا لا أريد أن أتحدث"
لم يتراجع وهو يقول "بريهان هناك الكثير لابد أن تسمعيه وأوله أني ما زلت أريدك وأريد هذا الزواج"
هتفت بألم "ولكني لا أريده، لا أريد الألم مرة أخرى وذلك الزواج هو مصدر كل الألم الذي عشت به، ابتعد عني زهير نحن لا نصلح لبعض كل ما بيننا انتهى بذلك اليوم، ذهب مع الطفل البريء الذي فقدته"
هتف بقوة "فقدناه بريهان، فقدناه نحن الاثنان فهو طفلي أنا أيضا ألا تدركين ذلك؟ أنا أيضا تألمت لضياعه"
لم تتوقف عن النحيب وهي تقول بغضب "أنت لا تعرف عن الألم شيئا، أنت فقط تؤلم وأنا تألمت بسببك جدا ولا أرغب بتكرار الأمر مرة أخرى، لن ننجح بما فشلنا به ليس بعد ضياع كل شيء"
صمت أجابها للحظة فأغمضت عيونها وقلبها يدق بهذيان وكأنه ممزق بين العودة للرجل الذي يريده وبين الألم الذي لا يريد أن يخوضه مرة أخرى بالقرب من نفس الرجل
صوته كان عميق وهو يقول "حسنا بريهان لا يمكن أن نتحدث وأنتِ بتلك الحالة بالصباح سنفعل"
ولكنها صرخت به "لا، فقط ابتعد عني أنا لا أريدك، لا أريدك"
وعادت للبكاء بقوة وانتصر الصمت على ما حولها فقط صوت بكائها هو ما طغى على ما حولها ولم تسمع كرات الثلج وهي تضرب النافذة ولم تدرك أنها ليلة عيد الميلاد والبلدة كلها تحتفل بالكريسماس بينما هي ساقطة بقاع دموعها وأحزانها وخوفها من وحدتها من بعد أمها ورحيل الرجل الذي أحبته ورفضته 
الصباح كان محمل ببرودة الثلج ولم تكن تشعر بأي شيء سوى صداع رهيب يضرب رأسها عندما رن المنبه بجوارها فاعتدلت وأطفأته واستلقت على ظهرها وحدقت بسقف الغرفة وهي تدرك ما كان بالأمس لقد ألقت به خارج حياتها وبالتأكيد لن يعود..
عندما أخذت حمام وارتدت ملابسها القاتمة وخرجت من غرفتها كان البيت خالي من أي حياة، أمسكت دموعها وأوقفتها وهي تعلم أن ذلك هو نتيجة ما قالته بالأمس ألم تكن تريد ذلك؟ لم الحزن والندم إذن؟ 
ما أن تحركت لتذهب للمطبخ حتى لمحت شجرة الكريسماس الصغيرة التي كانت قد أحضرتها قبل مرض دولت ورغبت بتزيينها ككل عام ولكن مرض دولت أوقفها
ورق الهدايا لمع مع نور النهار الشاحب فظلت ساكنة بمكانها لا تصدق أنه ترك هدية لها، لم تتحرك لها بل تحركت للمطبخ وهي تقتل الفضول داخلها فما زالت تريد القوة التي واجهت بها حياتها الفاشلة لتنهض بنفسها للنجاح ونفس القوة التي ساعدتها لتواجه إعاقتها
سكبت كوب من القهوة وتناولت بعض منها مع كعكة باردة لم تكملها وانتهت من القهوة عندما رن هاتفها فخرجت من المطبخ لتبحث عنه حتى عثرت عليه بغرفة المعيشة وأجابت
كانت المشفى عندما أخبروها أن حالة والدتها تطلبت إجراء الجراحة وهم بحاجة لها الآن فلم تتراجع وهي تضع معطفها وتخرج وهي تطلب سيارة أجرة ولكن سيارته المرتفعة كانت تتحرك تجاه بيتها وتقف أمامها
تجمدت بمكانها أمام البيت وهي تراه ينزل من السيارة بقميص مختلف دون الجاكيت والأزرار مفتوحة وبالطو ثمين عليه مفتوح أيضا وبدت الضمادة من أسفل قميصه المفتوح، ارتفعت عيونها له وهو يصل لها ولاحظ انتفاخ عيونها من أثر البكاء كما بدت عيونه متأثرة من عدم النوم لأيام نسى عددها
قال بهدوء "المشفى اتصلت بي"
هزت رأسها وهي تحاول أن تبدو هادئة وهو أدرك الصراع الذي يحتدم داخلها وقد بدا بعيونها كم تحاول التحكم به وهي تقول ببرود "نعم وأنا أيضا"
تنحى من أمامها وقال "حسنا دعينا نذهب"
ولكنها أبعدت وجهها عنه وقالت "كنت أطلب سيارة أجرة، لست بحاجة لك"
كتم غضبه وهو يعلم العناد الذي يحتويها والغضب الذي يقودها والذي هو سببه فعاد ليقف أمامها ونظر بعيونها وقال بهدوء "بريهان لا أعتقد أن الوقت مناسب لهذا الصراع الذي تريديه، فقط نطمئن عليها و"
قاطعته "وتعود لحياتك وأعود لحياتي"
انحنى حتى وصل لوجهها وقال بهدوء "أنا عدت لحياتي بريهان ولن أتراجع ولن أسمح لشيء أن يدفعني بعيدا مرة أخرى حتى ولو كان غضبك هذا، أنا لن أستسلم كما فعلت من قبل هل تسمعيني؟"
ظلت تواجه عيونه وقلبها يؤلمها من دقاته الغير مفهومة وعيونه تحاوطها وتتحداها ولكنها لم تضعف وهي تقول "لم تعد كلماتك تخيفني زهير، أخبرتك من قبل، لم يعد هناك ما أخسره إلا لو عدت لتهددني بليث وقتها"
أمسك معصمها بقوة وقال بغضب واضح "أمسكي لسانك هذا بريهان وتوقفي الآن، لم أكن أيوب بأي يوم فدعينا نذهب ليس هناك وقت لجنونك هذا"
ووجدته يجذبها غصبا ويدفعها داخل السيارة دون أي كلمات أخرى ولكن الغضب ترجم بالقيادة المتهورة وقبضات أصابعه على المقود وما زال رفضها يغضبه إلى أقصى حد ولكنه يعلم أنها تحبه، هي أخبرته ذلك بتلك الليلة بين ذراعيه وكل ما كان بينهم كان يعني حبها له وتسبب بغبائه في خسارتها ولكنه عرف أنه يريدها بحياته ولم يتوقف يوما عن رغبته بها
كان الطبيب بانتظارهم رغم الاجازات وما أن وقعت على الأوراق حتى تم تجهيز دولت للجراحة بعد أن قابلتها ولكن لم تتحدث معها وقد بدت متعبة جدا
عندما خرجت من العناية رأته يتحدث بالهاتف وما أن رآها حتى انتهى وتحرك تجاهها وقال "كيف حالها؟"
لم تنظر له وقالت "ليست جيدة"
لمس ذراعها وقال "لنذهب للكافتيريا ونحصل على قهوة"
لم تعترض فالصداع لا يخف وتركته يقودها والقلق يسكن كل قلبها عندما جلست وهو يدفع مقعدها قليلا ثم تحرك وجلس بالمقعد المواجه لها وأشار للرجل وطلب قهوة ثم أشعل سيجارة وقال "ستكون بخير"
لم ترفع له عيونها وهي تقول "أتمنى ذلك"
تراجع بالمقعد فاشتد القميص على صدره وكأنه لا يتسع له وهو ينفخ الدخان وقال "ما زلتِ لا تريدين إخبار أخيكِ؟"
هزت رأسها وقالت "نعم، لا داعي لوجوده" ثم رفعت عيونها له وقالت "ولا وجودك يمكنني التعامل وحدي"
لم يتحرك والسيجارة بيده تطلق دخانها بالهواء الطلق والرجل يضع القهوة ثم رحل فقال "تقريبا أنت لا تسمعين شيئا مما أقول"
بدلت عيونها للقهوة وهي تحيط الكوب بيداها ثم قالت "لا، لا أسمع ولا أريد أن أسمع"
نفخ الدخان بقوة وقال "لي كل الحق بما فعلته بريهان"
عادت لوجهه وارتفع الغضب داخلها وهي تحاول استيعاب كلماته ورددت "حق!؟ أي حق؟"
أشعل سيجارة من سيجارته الأولى التي أطفأها ونفخ دخان الثانية وقال "لو عرفتِ بيوم ما أن أحدهم كان سبب بموت شخص قريب منكِ فماذا ستفعلين؟"
ضاقت عيونها ثم قالت "أتحرى بالأمر وأتأكد من صحته ولو كان صحيح أواجه المتهم وأسمع دفاعاته"
اعتدل دون أن يترك عيونها وقال "كل الأدلة كانت ضدك"
لم تتراجع وهي تقول "أي أدلة؟"
ظل ينظر لها لحظة قبل أن يترك السيجارة بفمه ويخرج هاتفه ويفتحه ليعبث به ثم منحه لها وقال "تلك"
عندما تركت عيونه للهاتف رأت نفسها بأوائل العشرينات وهي تنكب على المخدرات وبجوارها فتاة أخرى لا تعرفها وشابان آخران أيضا لا تعرفهم فقط المكان هو ما تذكره، رفعت وجهها له وقالت "هذه أنا ولكني لا أعرف الباقين"
ضاقت عيونه وهو يقول "ماذا تعنين؟ هناك صور أخرى"
عبثت بأصابعها لترى نفسها ترقص بملهى ليلي ونفس الفتاة ترقص بجوارها وشابان يرقصان معهما وهي أيضا لا تعرفهم فعادت له وقالت "أيضا لا أعرفهم، أنا كنت أصاحب مجموعة معروفة من الشباب ولكن هذان الشابان ليسوا منهم ولا تلك الفتاة، ببيتنا القديم بمصر صور كثيرة لي مع أصحاب السوء لو شئت أرسلت رجالك لهناك يمكنني منحك مفتاح البيت لتتأكد من هم أصحابي بذلك الوقت"
كانت هادئة وهي تتحدث لأنها صادقة وهو أدرك ذلك، لم تمنحه الفرصة وهي تقول "من هي؟ حبيبتك الأولى؟"
جذب الهاتف من يدها ورأسه يعج بالأفكار ودخن السيجارة وهو يتناول القهوة كما فعلت هي وظنت أنه لن يتحدث كعادته عن ماضيه الذي لا تعرف عنه شيء ولكنها رفعت رأسها له عندما قال 
"لا"
ظلت تحدق به ولكنه لم يكن ينظر لها بل كان ينظر في الماضي والذكريات، هل يمكنه أن يفعل؟ يترك الحمم تخرج من فوهة البركان؟ يسمح للذكريات بأن تطفو على سطح الحاضر ولكن هل هو مستعد لتلوث حاضره ومستقبله؟ هي لا تقبله اليوم وهو بليونير شريف الجميع يحسب له حساب فهل ستقبله بعد أن تعرف ماضيه؟
لم تتحدث ولم تحاول قطع أفكاره الشاردة وسمعته يكمل وكأنه يجذب صوته من عالم فضائي بكوكب آخر "بعد خمس سنوات من وصولي نيويورك وصلتني رسالة على حسابي الشخصي من.. من أمي"
ارتجف جسدها من طريقته بنطق الكلمة وتحولت عيونه لها وهو يقول "لا أعلم كيف وصلت لي ولكن ربما صوري هي السبب لم أهتم لأن الرسالة أغضبتني جدا"
ظلت صامتة تحترم رغبته بالحديث أو الصمت ولكنه تناول القهوة وأطفأ السيجارة ورفع عيونه لها وقال "كانت تخبرني أن لي أخت غير شقيقة وأني كأخ ملزم بها وعلي رعايتها وهي ما زالت بالخامسة عشر"
نظرت له وقالت "والدك؟"
نفخ بقوة وغضب وقال "لم يكن يعلم عنها شيء لقد رحلت وتركتنا منذ كنت بالعاشرة، والدي تولى رعايتي حتى.."
اختنقت الكلمات بحلقه فشعرت به وقالت "لا تكمل زهير"
نهض وقال "ربما لو سرنا بالخارج قليلا يكون أفضل، لن نتأخر"
نظراته كانت كلها رجاء فهزت رأسها فوضع بعض المال ونهضت هي ليلمس ذراعها ويقودها للخارج، الثلج توقف والمكان فرغ من المارة فقط سيارات قليلة، أحكمت غطاء الرأس على شعرها وجذبت الكوفية حول رقبتها وترك هو المعطف مفتوح عند الصدر ثم وضع يده بجيوبه وتحرك الاثنان بدون هدى حتى وجدا مقاعد خشبية فجلسا 
ظل يتأمل السماء ثم قال والبخار يخرج من فمه "زينب التي كانت زيزي هي أمي، كانت فتاة صغيرة عندما رآها والدي بالقاهرة بإحدى زياراته لصديق هناك وسقط بحبها ولم يسأل عنها أو يعرف أصلها أو لمن تنتمي وعاد البلد وصرح برغبته بالزواج منها، جدي كان من أغنياء البلدة وبالطبع رفض زواج أبي من فتاة غريبة ولا عائلة لها وثار صراع كبير بين أبي وجدي وعمي وقتها كان أبي قد أنهى الجامعة فما كان منه إلا أن" 
توقف وهو يعود للسجائر ولكنها وضعت يدها على يده لتوقفه وقالت بإصرار "توقف زهير، هل تعي ما تفعل بنفسك؟"
ظل يحدق بها ثم قال "حتى عام مضى لم أكن أعي ماذا أفعل بنفسي بيري"
احمر وجهها رغم البرد المحيط وأبعدت عيونها وكادت تبعد يدها ولكنه قبض عليها فرفعت عيونها له لترى إصراره بعيونه فلم تعيد الأمر وهو يكمل "سرق أموال جدي"
اتسعت عيونها على آخرها من المفاجأة ولكن لم تعلق وهو يفلت عيونها ويكمل "كل الأموال التي احتفظ بها جدي بالخزينة بدلا من البنك، أموال عمي وعمتي، أموال جدي، ثمن المحاصيل لسنوات، كل شيء ورحل ليضيع بزحمة القاهرة الكبرى وهناك تزوج زينب وبالطبع أنشأ شركة كبيرة أطلق عليها اسم غير معروف ونجح حتى وصلت أنا للعاشرة، وقتها تفاجأنا برحيلها، بالطبع خلافتها معه كانت كثيرة وقتها ظننت أنها خلافات عادية ولكن كنت صغيرا لأفهم"
التفت لها ويده تحتضن يدها وقال "أنا جاد بريهان بأمر زواجنا، دعينا فقط نأخذ فرصة، ربما نتظاهر بأننا مخطوبين ونبدأ بالتعارف فنحن حتى لم نفعل"
ظلت صامتة تسمعه وعيونه صادقة حتى قالت "وأنا جادة زهير، أنا لم أعرف تلك الفتاة بأي يوم ولم أجذبها أو أجذب أي أحد لطريقي"
ظل صامتا ثم قال "كان علي التأكد من صحة الصور قبل أن أندفع بانتقامي"
أبعدت وجهها وقالت "ولكنك لم تفعل"
ضغط على يدها فعادت لعيونه فقال "لطالما كنت متهور، مغرور، لا يمكنني التحكم بغضبي عندما يمسهم الأمر"
ضاقت عيونها وقالت "هم من؟"
نظر لبعيد وقال "ياسمين، أبي وأمي"
قالت باهتمام "لماذا؟"
قال "لأنهم العار الذي يلحق بي بكل مكان، هم ماضي الملوث الذي عشت خمس وعشرين سنة أحاول الهروب منه دون فائدة"
احترمت صمته حتى تنفس ببطء وقال "كانت تخونه دون أن يعرف"
بهت وجهها ولكنه لم يواجها بل أكمل وألم صريح بادي بعيونه "كانت تريد رجلا كاملا لا نصف رجل"
رددت "نصف رجل!؟"
هز رأسه وقال "بعد ولادتي بعدة سنوات سقط أبي من على سقالة بإحدى مشروعاته ونجا منها ولكنه أصيب برجولته ومن وقتها والخلافات تشتعل بينهم، بالطبع لم أعرف ذلك وقتها كنت صغير لأفهم، بعد أن رحلت جن جنونه وبحث عنها ولكنها اختفت ولم نعرف مكانها حتى مرت خمس سنوات كنت بالثانوية عندما بدأ يتعثر بشركته ولاحقته الديون ولم يمكنني مساندته وتقريبا ضاعت الشركة"
ترك يدها وقال "أحتاج لسيجارة بيري"
فلم تعترض وهو يشعلها ثم قال "وقتها عرف بمكانها صدفة، رأى صورها على الميديا، راقصة شهيرة بملابس خليعة وغيره مما تشتهر به أمثالها"
جف حلقها وحاولت ألا تبدي أي تعبيرات على وجهها ولم تنطق بكلمة وهو حمد أنها لم تعلق وأكمل "حاول قتلها لينتقم لشرفه ولكنها نجت وهو لا"
التفت لها فحركت يدها ليده فقبض عليها وقال "عشيقها كان رجل عصابات رجاله قتلوا أبي وأنقذوها هي"
لم تستطع أن توقف كلماتها "يا الله! هذا فظيع"
أبعد عيونه وهو يسترجع أسوء أيام حياته وقال "وقتها كنت وحيدا، خائفا، لا أعرف ماذا علي أن أفعل، أهل والدي رفضوا حتى حضور الجنازة ولم يبحثوا عني، زيزي هانم اختفت مرة أخرى ولم تفكر بالسؤال عن ابنها الوحيد"
الصمت فرض نفسه عليهم وما زالت يداهم ملتحمة حتى قالت "ماذا فعلت؟"
لم ينظر لها وبدا باردا فارغا من أي تعبيرات أو مشاعر، نظرات قاتمة تملأ عيونه، يد باردة تحتضن يدها وأخيرا صوته يقول "تركت حلمي خلفي"
انقبض صدرها وارتجفت يداها بين يده فشعر بها ليعيد وجهه لها ولمعت عيونه، ربما هي دموع ولكنها عالقة بين سنوات الجفاف التي عاشها، لم يبعد عيونه عنها وقال "الهندسة كانت الحلم بالنسبة لي ولكن الدراسة كانت مستحيلة والشركة تنهار وكل حياتي تنهار معها، بعض المخلصين القلائل لوالدي تجمعوا حولي وعلموني كيف تدار الشركة وقد نفذت كل ما علموني إياه، كنت أريد أن أنهض بها للنجاح وبالفعل حققت ذلك ولكن فجأة عاد العار يطاردني"
ابتلع ريقه بصعوبة وبدأ الثلج يتساقط فنهض الاثنان وهو يقول "لنعد للمشفى"
ورغم أنه كان على حق لكنها أرادت أن تكمل تلك القصة الغريبة التي بدت كقصة من الخيال، فيلم سينمائي كئيب، بالمشفى لم تكن الجراحة قد انتهت فجلسوا بمكان الانتظار حتى قالت "أنت متأكد من أن كل ذلك لا يشغلك عن عملك؟"
التفت لها وقال "أخبرتك أن لدي من يدير العمل بريهان"
أبعدت عيونها وقالت بضيق "من الجيد أنك حصلت عليهم الآن"
ظل ينظر لها وقال "لا أفهم كلماتك"
قالت ببرود "كان العمل يأخذك بالشهور"
فهم كلماتها فقال "كانت رغبتك"
التفتت له والغضب يطل من نظراتها "رغبتي بأن تتركني وحدي شهرا وأكثر بالسجن الذي وضعت حوله حراسك!؟ رغبتي بأن تمنعني حتى من الخروج وزيارة أي شيء حتى ماما؟ رغبتي بماذا زهير؟ بالألم ومداواة جراحي وحدي"
كانت نظراتها حادة، مؤلمة له وهو يتذكر تلك الأيام، ابتلع ريقه ورأت حركة عنقه وقال "لم تكن الظروف وقتها تسمح لي بالتفكير بأي شيء، كنت غاضب للبرود الذي تعاملتِ به معي، رفضك أثار جنوني بريهان، لم ترفضني امرأة من قبل"
ظلت صامتة وهي تراقب الغضب بعيونه موازيا لها عندما أبعدت وجهها وقالت "بالتأكيد كان لي كل الحق"
لم يرد والطبيب يخرج من غرفة العمليات فوقف الاثنان لمتابعة الحالة فقال الرجل "الجراحة جيدة ولكن بالطبع سنوات عمرها لا تساعدنا"
قالت بخوف وقلق "ماذا تعني؟"
حدق بها الطبيب وقال "أعني أن الخطر ما زال موجود وبالطبع هي بالعناية المشددة وتحت متابعة الجميع حتى يمر الخطر"
قال زهير "ومتى يمكن أن يمر الخطر؟"
التفت له الطبيب وقال "نحن نأمل ألا يطول الأمر، يمكنكم رؤيتها من خلال الزجاج بآخر الممر، وجودكم لا داعي له لن تستيقظ قبل الغد"
ولم تكن هناك كلمات أخرى وشعرت بالرعب يملأ قلبها وللحظة فكرت بليث والغضب الذي سيتملكه لو علم بالأمر وأنها أخفته، لمسة يده أخرجتها من أفكارها وهو يقول "هل نذهب لرؤيتها؟"
هزت رأسها وتحركت معه ورأت والدتها من خلف الزجاج، جسدها ساكن على الفراش، الأجهزة متصلة بها من كل جانب وماسك النفس على وجهها فدمعت عيونها لحالتها وشعرت بالخوف من ألا تعود لها ووقتها ستضيع وحيدة بهذا العالم الكبير
ذراعه التفت حول كتفها وشعرت بالدفء رغم أن المكان دافئ وسمعته يقول "ستكون بخير"
مسحت دموعها وهزت رأسها فقال "هل تفضلين العودة للبيت؟"
نظرت للأعلى حيث وجهه ينظر لها بعيون لم تعرفها، كل هذا الحنان لم يكن به من قبل وهي لا تعرف هل تصدقه أم لا؟
هزت رأسها بالإيجاب كي يرحل لأشغاله التي تعطلت بسببها، جذبها برفق للخارج حتى انطلق بالسيارة إلى بيتها فنظرت له قبل أن تنزل وقالت "شكرا لوجودك زهير"
وكادت تنزل ولكنه أمسك ذراعها فعادت لتلتقي بالزرقاء وهو يقول "هذا يعني أنه غير مرحب بي على الغداء؟"
ظلت تنظر له والدهشة تملأ عيونها فأكمل "نحن مخطوبين على حسب اتفاقنا ومن الممكن أن نمضي بعض الوقت سويا بيري واليوم عيد الميلاد والجميع أجازه ولا أشغال، دعينا نمضيه سويا"
ظلت تحدق به وهي لا تعرف ماذا تفعل، هي بالفعل لا تريد البقاء وحيدة فالخوف يرحل بوجوده ومع ذلك تخشى من قربه أيضا، عندما لاحظ صمتها وترددها برمادية عيونها قال "أوقفي كل هذا الخوف والغضب بريهان، أنا لن أعيد ما كان فقد انتهى"
هزت رأسها بالإيجاب ولكنها قالت "ربما ولكن لدي سؤال زهير"
أبعد وجهه وقال "سنتجمد هنا بريهان لتفعلي ما تشائين بالداخل ووقتما تريدين رحيلي سأفعل وسأحاول ألا أتجاوز كالمرة السابقة"
وعاد لوجهها فظلت صامتة لحظة حتى قالت "حسنا" ثم فتحت الباب ونزلت فنزل هو الآخر وتبعها لداخل البيت وكلاهم لا يعلم ما نتيجة كل هذا؟




تعليقات



<>