رواية نيران الغجرية الفصل الحادي عشر11والثاني عشر12بقلم فاطمة أحمد


 رواية نيران الغجرية الفصل الحادي عشر11والثاني عشر12بقلم فاطمة أحمد
الفصل الحادي عشر : هوس قاتل.

" لقد كنت أحترق ،بينما جئت أنت تلومني على رائحة الرماد "

شعرت و كأن الكون يطبق عليها فيخنقها ، أو أن هناك من يقبض على روحها فيهشمها دون رحمة ، بالنسبة لها كانت رؤيتها له وهو واقف أمامها يناظرها بتصلب كأقسى كابوس عاشته لحد الآن فإختض قلبها بين ضلوعها و إرتعشت مفاصلها في محاولة بائسة للثبات مكانها و عدم الإندثار أرضا !!

دمعت عيني مريم و حادت برأسها الى عثمان الذي يطالعهما بتسلية مريضة ثم بررت فخرج صوتها متقطعا :
- انا ...انا ك ... كنت .... 

- في ايه مالك ؟
قاطعتها نبرته اللينة وقد حدجها بهدوء غريب لترفع وجهها إليه بتعجب و إضطراب أكثر ، لم يكن هذا السؤال الذي تنتظره منه أبدا توقعت أن يصرخ و يسب أو حتى يضربها - مع أنه لم يفعلها يوما - لكن يبدو أنه لم يستمع لحديثهما أبدا ، إذا لماذا ينظر لها بهذه الطريقة ؟؟ 

عاد عمار يسأل وقد لمحت عيناه وجود ذلك الشاب الذي لا يستلطفه :
- و كنتو واقفين بتعملو ايه ؟ 

أحست مريم بالجفاف يكتسح جسدها بأكمله و بشفتيها و قد سحب لونهما الإعتيادي لذلك قررت البوح بما كانت تسمعه من إهانات لكن عثمان قاطعها مبتسما :
- كنت بدور على أمي تعملي شاي بس ملقيتهاش فأصريت على بنت عمي عشان تعملهولي مش كده يا مريم ؟ 

نطق بآخر جملة رامقا إياها بخبث خبأ خلفه تحديا واضحا " لن يصدقك أحد إن تكلمت و زوجك سيلومك أنتِ على ما إقترفته أنا بحقك " ، فتمالكت الأخرى أنفاسها المتسارعة و تلعثمت بيأس :
- اه ... ايوة صح. 

هتفت بها محاولة عدم التطلع الى وجه عمار فإنقباض فكه الواضح و عينيه المحتدتين يزيد خوفها أضعافا الآن ، بينما تابع عثمان بسماجة :
- الصراحة الشاي اللي بتعمله مريم بيجنن و أكيد انت جربته قبل كده و عارف السبب اللي مخليني متشوق ... ادوقه من ايديها. 

أطلق عمار ضحكة صغيرة قبل أن يغلغل أصابعه مع أصابع يد زوجته هاتفا ببرود :
- و للأسف هتفضل مشتاق ليه ومش هتشربه لأني واخد مراتي تقعد معايا معلش. 

سحبها بتريث و مريم تحدق فيه بذهول ... كل ما يفعله يوضح أنه لم يسمع شيئا اذا لماذا عليها الخوف فهي لم ترتكب إثما بل الوغد من فعل لذلك فلتكف عن التفكير لا داعي للإنشغال فهما سيغادران بعد قليل فقط. 

 ***بعد مرور نصف ساعة. 
إستقام عثمان واقفا و قال :
- انا هستأذن امشي عشان رايح اودي مراتي لبيت أهلها ، اتشرفت بمعرفتك يا استاذ عمار. 

مد يده يصافحه ليفعل الآخر المثل وهو يبتسم بدبلوماسية ثم إستدار الى مريم يحادثها :
- مع السلامة يا بنت عمي ابقي زورينا تاني و متطوليش علينا. 
- ان شاء الله.

ودع والديه و غادر تاركا إياها تطالع فراغه ببغض و تلعنه في سرها ، لتسمع الأخير يردد بهدوء :
- انا رايح الأوضة اعمل مكالمة شغل ولما اخلص هنمشي فورا و اهي فرصة تقعدي مع أهلك و تودعيهم. 

** بينما كان عثمان متجها إلى شقته شعر و كأن هناك من يلحقه إلتفت خلفه بتوجس لكنه لم يجد شيئا مريبا الجميع يتمشى و كل شخص يذهب لأشغاله كالعادة في هذا الوقت من الصباح ، هز كتفاه بغرابة و أكمل المشي مفكرا في مريم ، تلك الفتاة الذليلة التي يجد متعة كبيرة في إخافتها و تلمس جسدها بطريقة فظة بغية إثارة الإشمئزاز من نفسها.

لا يزال يتذكر حتى الآن كيف كانت تتصبب عرقا عندما يتحرش بها و يحذرها من البوح بشيء و إلا سيضربها و يجعل والده يطردها و الغبية كانت تصدقه و تترجاه لكي لا يفعل بها هذا.
 تزوجت من ذلك الشاب الغني معتقدة أنها ستتخلص من تحرشاته لكنها وقعت في مأزق أكبر فالمسكينة رغم الوضع المادي الممتاز الخاص بزوجها من حيث غلاء ما ترتديه و ما تضعه في يدها إلا أن عمار يرميها في منطقة نائية و يزورها كلما إحتاج جسده التمتع بها و هذا هو مقامها في الأساس. 

ابتسم بإستحقار و إتجه الى الزقاق المظلم قليلا و الذي تقبع شقته خلفه تماما و أثناء سيره عاوده نفس الإحساس فتوقف هذه المرة محاولا عدم إظهار خوفه و الهجوم على من يلحق به لكن قبل ان يفعل شيئا فوجئ بضربة عنيفة على ظهره كأن أحدا ركله فسقط على الأرض المليئة بالأتربة و الأشواك و الحجر. 

صرخ عثمان بألم و الرعب يتملكه و قبل الدفاع عن نفسه شعر بخيط رفيع يلتف حول عنقه و يخنقه بعنف فجحظت عيناه و إحتقن وجهه.
حاول تحرير نفسه إلا أن ركبة الآخر ضغطت على مؤخرة رقبته بشدة تمنعه من المقاومة ، أحس بإنقطاع أنفاسه فأدرك أنه سيموت الآن لا محالة لكن فجأة تخلص من الخيط الملتف حوله عندما حرره المهاجم و ألقاه على الأرضية مجددا. 

شهق و بدأ يسعل بقوة ساحبا أكبر قدر من الهواء حتى إنتظمت أنفاسه و قبل إستيعابه للهجوم أمسكه الآخر من رأسه و دفعه على إحدى الصخور المرمية ليتأوه عثمان بضعف و يفقد وعيه سريعا .... 

****
بعد  ساعة إلا ربع دخلت مريم الى غرفتها مبتسمة :
- طولت في المكالمة اوي يا عمار. 

نظر لها مغمغما بصلابة :
- المكالمة بتخص السفرية اللي كان لازم اعملها صحيح انا مسافرتش بس الصفقة كلها واقفة عليا ... قوليلي ودعتي أهلك خلاص نقدر نمشي ؟ 

اومأت بإيجاب و بعد دقائق كانت تركب السيارة بجانبه إنطلق بها و كعادته كان صامتا طوال الطريق و لكن لا تدري مريم لماذا تشعر بالإرتياب منه عيناه حمراوتان كمدمن يحتاج لجرعته و يبتسم من حين لآخر يا إلهي مالذي يحدث له !!

زاد من سرعة السيارة فجأة و أصبح يقود بشكل أخافها فتلعثمت بفزع :
- ااا انت زودت السرعة ليه بالراحة لو سمحت. 

لم يلقي لها عمار بالا و تابع القيادة حتى سمعها تشهق بكتوم جز على أسنانه و بعد نصف دقيقة كانت تصرخ بأعلى صوتها عندما ضغط على الفرامل و توقف على حين غرة فإرتدت للأمام و إصطدم رأسها بتابلوه السيارة ، توقف أخيرا و إلتفت إليها يسألها :
- انتي كويسة ! 

نزلت دموعها و همهمت من بين شهقاتها وهي تتلمس جبينها الذي ينزف :
- كويسة ايه انت مش شايف راسي بتجيب دم ... قولتلك سوق بالراحة ليه مسمعتش كلامي. 

راقبها عمار وهي تنتفض من الألم و زاد بكاؤها عندما رأت الدماء على يدها الممسكة بجبينها ، كتم رغبته في الصراخ و تابع القيادة حتى توقف أمام عيادة صغيرة.
 أدخل مريم الى الممرضة هناك فضمدت جرحها و عند إنتهائها جلست الأخيرة مستندة على نافذة السيارة الزجاجية تكتم شهقاتها فسمعته يقول بهدوء :
- معلش انا كنت بسوق بسرعة عشان الحق اوصل و اروح للشركة و مكنتش واخد بالي من انك مش حاطة الحزام لما دوست على الفرامل. 

حاد عمار بعينيه نحوها وهو يحدث نفسه " هل حقا لم تفعل ذلك قصدا ؟ " رأى دموعها تنزل بصمت فزفر و عاد يراقب الطريق أمامه متذكرا ما حدث اليوم صباحا.

 لقد رأى كل شيء حدث في المطبخ فبعدما جلس مع عمها منتظرا عودتها طويلا قرر الذهاب إليها و هناك رأى الوغد يحاصر زوجته بين ذراعيه و يخبرها كم كانت تحبه وهي لم تعترض بل بقيت صامتة و عندما سألها كذبت عليه بكل وقاحة ، لا يعلم كيف إكتسب قوة للتحمل و عدم الدخول و قتله ثم إسترق السمع ليجد عثمان يقول لمريم وهو شبه محتضن إياها أنها أحضرت زوجها لمنزل حبيبها السابق. 

" متعصبة مني لأني قولت الحقيقة ما هو فعلا احنا الاتنين كنا بنحب بعض وانتي جايبة جوزك لبيت حبيبك و منيماه على ودانه " ، ضغط بأصابع يده على المقود و الكلمات ترتمي عليه كسهام نارية تصيبه فتدميه بشدة لا يصدق أنه جلس على طاولة واحدة مع من كانت تعشقه زوجته و ربما حدثت ملامسات بينهما أو .... أو ....

ضيق عمار عيناه و الغضب بعتريه أكثر فأكثر خاصة عندما تذكر " ازاي قدرتي تغفليه و تلعبي عليه لدرجة يبقى موفرلك اللي عمرك ما اتجرأتي تحلمي بيه لعبتي عليه دور الشريفة صح يا حرام جوزك مش عارف انك كنتي ميتة عليا و اتجوزتيه طمعا في الفلوس مش كده ".

اللعنة كيف وقع في هذا الموقف المخزي و المهين له كيف وضعته المرأة التي تزوجها موضع الغبي يسخرون منه خفية ، هل تغامزا و تكلما مع بعضهما بالإشارات دون أن ينتبه ؟ هل تلمسها خفية و طبخت له البارحة الأطباق التي يحبها حتما قد فعلت هذا يا الهي كيف أوقع نفسه في هذه الورطة.

رمقها عمار بطرف عينه بشر و ذكريات الماضي تتوافد واحدة تلوى الأخرى ، بلل شفتيه وقد بدأ يتعرق و صداع رأسه يزداد و أنفاسه تتقطع و الرعشة تسري في جسده أدرك أنه يتعرض لنوبة مجددا و إن لم يأخذ الدواء سريعا سيغمى عليه أو يفقد السيطرة على نفسه و يفتعل حادثا و الأسوء أنه من الممكن أن يؤذي مريم !!

أخذ شهيقا و زفره ببطء محاولا قدر الإمكان تهدئة نفسه ظل هكذا لبعض الوقت بينما مريم تراقبه دون أن ينتبه و تخاف أكثر من تصرفاته هذه ، الآن أصبحت شبه متأكدة من أنه سمع حديثها مع عثمان لكن لماذا يصمت لماذا لا يواجهها هل سمع الحديث كاملا و عرف أن إبن عمها مجرد متحرش أم عقله برمج له كلاما آخر ؟ 

مرت الساعات بطيئة للغاية حتى وصلا أخيرا توقفت السيارة أمام العمارة فهرعت مريم تترجل شبه راكضة فرحة بإنفكاكها عنه لكن داخلها خائف من أن يصعد معها الآن و يفتعل شيئا ، و عكس توقعاتها وجدت عمار يتحرك مجددا و يبتعد مغادرا المكان فعقدت هي حاجبيها بغرابة ثم استطردت :
- المهم انه معمليش حاجة الحمد لله يارب انا كنت خايفة أوي. 

زفرت بقوة و ركبت في المصعد مفكرة في كل الأحداث بتدقيق .... ربما عمار ينتظر أن تخبره هي بنفسها عما جرى بينها و بين عثمان و يختبرها إن كانت ستسكت عن الحقيقة أم تعترف. 

دلكت مريم رأسها بألم تزامنا مع الوصول الى طابق شقتها خرجت من المصعد فتقابلت مع رجل يبدو من ملابسه أنه عامل صيانة و بجانبه البواب ليبادرها الأخير بالقول :
- أهلا وسهلا يا هانم الاستاذ لسه مخلص شغله زي ما عمار بيه طلب. 

تذكرت مريم أن زوجها أمر البواب البارحة بجلب عامل صيانة ليجري بعض التعديلات 
في حوض المطبخ و أن يرافقه بعمله حتى ينتهي فإبتسمت بوهن :
- الله يسلم إيديكو يارب ... عن إذنكو. 

دخلت و رمت بجسدها على الفراش مباشرة تحاول طرد الأفكار السيئة و إراحة عقلها ولو لفترة مؤقتة ، الرعب الذي عاشته صباحا و الإحساس بالدونية بسبب تلقيها للإهانة دمرها و جعلها تشعر و كأنها مجرد حثالة لا يهتم أحد بشأنها ، إبن عمها يتحرش بها و والدته تتستر عليه و مجتمع لا يرحم المرأة بل يضغط بالسكين على المكان الذي جرحت منه ...
 لماذا هي ضعيفة هكذا ؟ لماذا ليست قوية مثل صديقتها هالة التي تدعس على كل من يحاول أذيتها هل لأن ضهرها في الأساس مكسور بفقدان والديها و حتى زواجها ليس طبيعيا بل حرمت فيه من أصغر حقوقها كزوجة ؟ 

انتفضت مريم جالسة تتحسس رأسها الملفوف بشاش طبي ثم أجرت مع هالة مكالمة فيديو حتى جاء صوتها المرح :
- أهلا باللي عملت خروجه مع جوزها و نسيت.... ايه ده مالك ايه اللي حصلك ؟ 

شهقت بتفاجؤ فأجابت مريم متنفسة بعمق :
- متقلقيش انا بس خبطت راسي على تابلوه العربية و احنا جايين. 
- لا والله ؟ اتخبطتي ازاي ديه اول مرة تحصلك قوليلي الطاووس هو السبب طيب وشك مخطوف وباين عليكي قلقانة فهميني ايه اللي حصل ؟ 

أغمضت عينيها بإستسلام و إعترفت لها بكل ما حدث منذ مساء البارحة حتى هذه اللحظة و أكملت بغضب طفيف :
- انا كان نفسي اقتل الواطي ده يا هالة صدقيني لو مش خايفة من الفضايح كنت قطعت ايده اللي لمستني بس ...

ضربت هالة جبينها بغيظ و علقت :
- ياريت لو كنت معاكي اقسم بالله كنت علقته من رجليه الندل ده .... المهم اللي فهمته ان عمار شافكم وانتو واقفين سوا بس انتي مش عارفة اذا كان سمعكو ولا لأ صح.

هزت رأسها بتأكيد :
- ايوة ، انا لقيته واقف بيبصلي بطريقة تخوف عيونه ان و وشه مشدود كأنه بيمنع نفسه من إنفجار حتى لما سألني كنت بعمل ايه حسيته بيستجوبني وانا ... انا كدبت عليه. 

- يعني حسيتي أنه سمعك و اتعصب ومع ذلك كدبتي انتي مجنونة ؟ 

دمعت عينا مريم بخزي و أجابت :
- خوفت والله العظيم خوفت كنت مرعوبة جدا و كل الأفكار الوحشة جتلي مرة واحدة و معرفتش ارد عليه غير كده.

تابعت بعدما صمتت قليلا لتلتقط أنفاسها :
- المشكلة أن عمار شكله بقى بيرعبني جدا عينيه و ايده و صوته حركاته ده انا حسيت ... حسيته داس على الفرامل فجأة قصدا عشان انا اتخبط و اتأذى ولو شوفتي شكله اللي انا شوفته كنتي هتقوليلي نفس الكلام. 

لوت هالة شفتيها بحنق ثم أردفت :
- قصدك ان الطاووس ده اتعمد تتأذي لأنه سمعك او شك فوجود علاقة بينك وبين ابن عمك صح .... و طبعا لو واجهتيه هيعمل نفسه مش فاهم ويقولك ايه اللي يخليني اعمل كده ساعتها انتي هتتجبري تقوليله انك خايفة سكون سمع حديثك مع عثمان يعني دلوقتي عمار بيستدرجك و بيحاول يوقعك في الكلام عشان تعترفيله بنفسك. 

اومأت مريم بشدة وقد استطاعت رفيقتها قراءة أفكارها :
- أو يكون مسمعش بس شك بسبب توتري لما شوفته واقف قدامي لكن ده ميعنيش انه اتقصد يؤذيني ممكن صح ميكونش خد باله وهو سايق بسبب تفكيره. 

تجاهلت هالة الشطر الثاني من جملة صديقتها لعلمها أنه لن ينتج شيء من مجادلتها و محاولة إقناعها بشخصية عمار الغامضة و - المؤذية - فركزت على الفكرة الأساسية :
- في الحالتين انتي محطوطة فنقطة ما بين السيء و الأسوء بينه لا قادرة تعترفي بالتحرش فيتعصب لأنك خليتيه ينام فبيت اللي كنتي بتحبيه و اتجرأ عليكي ، ولا عندك الشجاعة تفتحي الموضوع معاه لأنه ممكن يكون مسمعش و في الحالة ديه هتكوني جبتي المشاكل بنفسك لنفسك.  

- اه ده تماما اللي انا بفكر فيه خايفة اجازف و اكلمه على حاجة هو مش بيفكر فيها اصلا و خايفة يكون سمعني و يعتبر سكوتي خيانة. 

تمتمت الأخرى بحزم وهي تضغط على كل حرف من جملتها :
- يبقى قرري تجازفي و اعترفيله بكل حاجة من الأول فهميه حياتك كانت ماشية ازاي في بيت عمك و الظلم اللي اتعرضتيله ولو كان راجل بجد هيقف معاكي و ميلومكيش اعترفي و اخلصي من العبء اللي شايلاه وانتي مش مذنبة .... فاهماني يا مريم !! 

_______________________
في قصر البحيري. 

اجتمعت نساء العائلة في قاعة الإستقبال يتكلمن في عدة مواضيع حتى تكلمت ندى بتلقائية وهي تعبث بهاتفها :
- هو عمار لسه متصلش بيكي يا انطي. 

ردت عليها سعاد بضيق :
- لا ومحدش عارف هو فين أساسا. 

نظرت لها فريال بإستنكار متحدثة بداخلها :
- و عاملة نفسها أمه و بتقلق عليه وهي مش عارفة مكانه فين هه أكيد بيصيع مع حبيبته و بيصرف عليها فلوسه و رامي شغله على غيره. 

في هذه اللحظة دخل رأفت و ألقى التحية بجفاء و صعد الى جناحه لاحظت الجدة و سعاد الأمر فحمحمت الأخيرة وهي تنهض :
- عن إذنكو يا جماعة. 

غادرت فورا فوقفت فريال أيضا :
- و أنا هطلع اعمل مكالمة مع أختك يا ندى أصلها وحشتني اوي. 
- اوك سلميلي عليها يا مامي. 

بقيت الجدة بمفردها مع ندى فسألتها بنبرة يشوبها القلق :
- كأن رأفت جاي وهو مضايق شكله بيدور على عمار ومش ملاقيه ربنا يستر و متكونش حصلتله حاجة. 

إنتقل الشعور بالقلق تدريجيا إلى حفيدتها التي هتفت بمرح زائف :
- في ايه يا نانا هي ديه اول مرة يغيب فيها عمار تلاقيه قاعد في أي حته على النيل بيعاكس المزز اللي هناك و ناسي عيلته و بنت عمه اللطيفة الغلبانة. 

إنفلتت ضحكة صغيرة من الجدة فأضافت ندى وهي تنهض و تلتف حول الكرسي المتحرك لتدفعه :
- أنا بقول نسيبنا من قصص الكبار ديه و خليني أوريكي صور المكياج اللي نزل جديد ده عشان تختاري معايا أجيب ايه. 

*** دخلت سعاد إلى زوجها و سألته بتوجس :
- في ايه يا رأفت باين عليك قلقان حصلت حاجة لعمار ؟ 

أجابها بسخرية واضحة عليه :
- لا من الناحية ديه اطمني إبنك كويس و جدا كمان. 
- قصدك ايه. 

أخرج رأفت من جيب سترته ظرفا و أعطاه لها فتحته الأخيرة و عيناها تتوسعان بصدمة عندما رأت صورا لعمار في سيارته رفقة إحداهن كانت الصور ملتقطة من الخلف فلم تتبين وجه الفتاة جيدا لكن يده الموضوعة على شعرها المموج كان واضحة فأدركت أن إبن زوجها لديه حبيبة فعلا و يتسكع معها في الوقت الذي يجب عليه أن يهتم بأعماله كمدير لشركة والده. 

 تنهدت بينما تستمع لصراخ رأفت الساخط :
- البيه غفلنا و مراحش على دبي عشان يصيع مع البنت **** ديه فاكر نفسه ذكي و بيؤذيني أنا و مش عارف أنه بيؤذي نفسه و سمعته بين الناس اتخيلي أنه جازف بمشروع كبير بسبب الست ديه ده غبي عمري ماشوفت أغبى منه. 

إرتعدت سعاد من صوته وخشت أن يصل الى مسامع أفراد العائلة فهتفت بتريث :
- طيب اهدى و متعصبش نفسك كده و قولي الصور ديه وصلت لإيدك ازاي مش انت قولت لعمار أنك مبقتش تراقبه مش يمكن هو عمل كده عن قصد عشان ينتقم منك لأنك كدبت عليه و لسه بتلحقه. 

توقف عن اللف حول نفيه و حدجها بغضب :
- انا فعلا كنت بطلت اراقبه لفترة بس رجعت بعت ناس وراه المرة ديه لما قالي أنه شاف عربية بتلحقه المشكلة أن كل اللي بعمله ده ملوش فايدة عمار عنده قدرة مش طبيعية على الهروب فلحظة بيختفي من قدامك و مبتقدريش تلاقيه. 

صمت قليلا و أضاف :
- اللي قالقني أن في حد تاني غيري بيراقب تحركاته الراجل بتاعي قالي شاف عربية سودا ماشية وراه و اختفو الاتنين سوا في نفس الوقت انا خايف الناس ديه تكون ناوية تضره و ابو دماغ ناشفة مش واخد باله .... لازم أحط حد للوضع ده عمار لازم يتجوز في أسرع وقت عشان يعقل و يركز في شغله كفاية صياعة و قلة أدب ده مش شغل إبن عيلة محترمة. 

وجدت سعاد الفكرة صائبة فعلقت :
- معاك حق بس انا كلمته في الموضوع ده من قبل و رفضه معتقدش هنقدر نجبره وبعدين حتى لو وافق هيتجوز حبيبته ديه ولا ....

قاطعها بحدة صارمة :
- مستحيل إبني أنا يتجوز واحدة شحاتة زي البنت اللي ماشي معاها ما هي لو كانت محترمة كان اتجوزها و حطها فبيته ، خليه يجي بس وانا هعرف شغلي معاه. 

*** في الخارج وضعت فريال يدها على فمها بذهول مما سمعته و داخلها يلعن عمار و أفعاله ، من كان يظن ان الرجل الهادئ الرزين والذي يبدو عليه الإتزان يفعل تصرفات كهذه المشكلة ليست في أن له حبيبة فمعظم الشباب يفعلون هذا لكن الخوف الحقيقي من أن يكون عمار يحب تلك الفتاة حقا و إلا لما ضحى بعمله في سبيله قضاء وقت معها ، حتى زوجها عادل عندما تحدثه عن هذا الأمر يتجاهلها و يخبرها أنه لا يهتم إذا ماذا ستفعل و كيف ستجعل عمار يتزوج إبنتها ؟! 

تركت المكان و توجهت نحو غرفتها وجدت عادل يعبث بجهاز الابتوب الخاص به واضعا سماعات الأذن و عندما رآها وضع ما بيده مرددا :
- خير مالك قالبة وشك كده ليه. 

- هتهتم لو قولتلك. 

- يبقى نفس الموضوع اللي صرعتيني بيه صح. 

زفرت فريال و جلست بجانبه قائلة بجدية :
- سمعت أخوك بيقول لمراته أنه شاف عمار راكب عربيته مع واحدة و يمكن هي نفس البنت اللي انا شوفت صورها على تلفونه من شهر ، رأفت بيقول أنه هيقنع إبنه يتجوز احنا هنعمل ايه صور عمار قرر يتجوز حبيبته ديه ؟ 

أجابها عادل بإستنكار :
- مش انتي قولتي ان عمار كان مصور البنت دبه وهي بالملاية على السرير يبقى اطمني مفيش راجل شرقي بيتجوز واحدة كان عامل معاها علاقة من النوع ده.

بررت فريال موقفها :
- و مفيش راجل بيضحي بأعماله خاصة لو كانت صفقة كبيرة عشان واحدة هي بالنسباله متعة و تضيعة وقت مش أكتر .... يا عادل الوضع مبقاش يستحمل هزار عمار لو متجوزش ندى هتضيع و احنا هنضيع معاها اعمل أي حاجة عشان تبعده عن حبيبته .... بص انا معايا رقمها جبته المرة اللي فاتت لما فتحت تلفونه و شوفت صورها لو.... 

لم يدعها تكمل وهي يهتف بحزم :
- خلاص بقى يا فريال كفاية انا عندي شغل لفوق دماغي ومش ملحق عليه خليني اركز وبعدين لو عمار حب يتجوز حبيبته ف أخويا رأفت مش هيوافق مستحيل يسيب بنت **** زيها تدخل بيته و تبقى زوجة إبنه و أم لأحفاده و انا وانتي عارفين ان لما رأفت يقول حاجة محدش بيقدر يعترض حتى عمار نفسه سيبيني بقى من القصة ديه. 

________________________

ترجل من سيارته و رفع رأسه يطالع من الخارج المنزل المظلم في تلك المنطقة النائية ، المنزل الذي رأى فيه مالا يجب على طفل رؤيته و سمِع مالا يجب عليه سماعه ، لاحقه في كوابيسه و في كل لحظة من حياته مخلفا آثارا لن تزول طوال ما بقلبه نبض. 

تقدم بخطوات بطيئة ثم فتح باب المنزل مصدرا صريرا قطع ذلك الصمت الموحش المحيط به ، أشعل القداحة ليظهر وجهه و لف أنظاره في المكان متذكرا كل لحظة عايشها هنا ، هنا كانت والدته تحضره ثم تدخل الغرفة مع رجل غريب ولا تخرج إلا بعد ساعات ، هنا كانت تنبهه على عدم فضح الأمر و إلا سيقتلها رأفت ثم تهدده بالعقاب الشديد لو فعل ،  فيجيبها الصغير ببلاهة " متخفيش يا مامي مش هقول حاجة بس بطلي تجي هنا تاني انا بخاف اقعد لوحدي 

غير أن عمار في كل مرة يأتي الى هذه الشقة يحاول ألا يتعدى مسافة المترين من الباب ، محاولة منه أن يبقى بعيدا عن تلك الغرفة قدر الإمكان جعلته لا يتجاوز المساحة التي حددها لنفسه و إلا سيقع منهارا !

لوى عمار شفته مبتسما بسخرية وضع خلفها إنكساره المحرج فهاهو يتلقى نفس مصير والده الذي عشق أمه بجنون ، الاختلاف هنا في أن السيد رأفت ربما لم يلتقي مع حبيب إمرأته أبدا أما هو فقد جعلته زوجته يذهب معها إلى منزل حبيبها ..... نفس الغدر و نفس الموقف و نفس الخيانة ! 

أرخى جسده ليجلس على الكرسي المتهالك و تذكر صباح اليوم عندما إدعى إجراء مكالمة مهمة فدخل الى غرفة مريم و قفز من الشباك الخلفي ليلحق بعثمان وهو ينوي له شرا ثم و بدون تردد هاجمه و خنقه برباط وجده في خزانتها ، لقد ترصد له و صمم على قتله فعلا لكن في آخر لحظة تراجع و دفعه على صخرة مكتفيا بفقدان وعيه فقط ، لا يزال هناك الكثير على قتله إن وغدا مثله لا يستحق الموت بسهولة هكذا يكفي أنه سيعيش حالة من الرعب قبل التخلص منه نهائيا ! 

زاغت عيناه بدوار و منظر مريم الباكِ صباحا بعدما تعمد أذيتها بقي معلقا في مخيلته ، سيطرت عليه حالته المرضية و أراد قتلها لكنه لسبب ما لم يستطع فعلها ولو لم يأخذ دواءه قبل بضع ساعات ربما كان سيصدم عن قصد سيارته في إحدى الشاحنات و يقتل كلاهما !! .... تلك الخائنة مدعية العفة مثلت عليه الضعف و الإنكسار سنتين كاملتين و في النهاية إتضح أنها كالبقية يستحيل أن يؤتمن لها رغم حبسه لها و وضع حصار على حياتها إلا أن ذلك لم يمنعها من غدره .... كيف إستطاعت فعل ذلك به !!! 

و في لحظة إختفى السكون و ظهرت صورة والدته فيروز وهي تضحك بعلو صوتها مع عشيقها مرددة أنها غافلت رأفت و جلبت إبنها كورقة ضمان لها .... ثم التفتت إليه و قالت بإستهزاء :
- ايه يا عمار انت مصدوم من اللي شوفته صح فكرت انك لو اتجوزت بنت غلبانة و حبستها و قيدتها بشروطك هتقدر تسيطر عليها زي ما انت عايز و تخليها خاتم في إيدك ؟ 

أشاح عمار وجهه عنها بسرعة و انتفض عندما رآها مقابلة إياه :
- بس للأسف حتى هي خدعتك و خلتك رخيص في نظر نفسك قولي بقى انت هتشوف مين لما تبص في المرايا ؟ 

لم يجبها و بدأ العرق يتصبب منه و تنفسه يضيق فإستطردت بقوة :
- بقايا راجل مريض مراته زهقت من تحكماته فخانته انت فاكر نفسك تقدر تخبي ضعفك ورا قناع القوة اللي جبتها من فلوس أبوك ؟ تبقى غلطان. 

- أسكتي .... أسكتي. 
همس بها وهو يقف و يتراجع الى الخلف مرتجفا بهستيرية لكنها ضغطت على وجهه ضاحكة :
- معاها حق مراتك تخونك انت راجل مريض و عايش بالأدوية بتتخيل حاجات مش موجودة و بتبني حياتك عليها قولي مريم هتعمل ايه مع واحد مجنون و ساكت علطول و بيتكلم بالعافية هتعمل ايه مع واحد بيعاملها معاملة الجواري لأنه خايف يحبها فتخدعه و يبقى زي أبوه .... بس اللي كنت بتخاف منه حصل و انت بقيت بقايا راجل مراته مش مكتفية بيه و راحت شافت غيره.  

وضع عمار يديه على رأسه صارخا : 
- أنا مش زيه و مريم مش زيك مريم .... مريم بريئة و مستحيل .... 

قاطعته مقهقهة بجنون و صوتها ينتشر في كل أرجاء المنزل :
- ههههه عشان كده انت حاولت تقتلها و مرتحتش غير لما شوفت راسها بيجيب دم يا مجنون فاكر انك كده جبت حقك و انتقمت لرجولتك بس انت غلطان مريم هتفضل تخونك و مين عارف يمكن في المستقبل تاخد ابنك معاها و تروح لشقة راجل تاني يعوضها على وجودك الفاضي فحياتها .... هههه هتبقى رجل كرسي مراتك مغفلاك و الناس بتجيب سيرتك ماهو مريض زيك مبيستحقش غير أنه يتهان و يتخان انت مريض يا عمار مريض و ملكش لازمة فحياة أي حد !!!

صاح بأعلى صوته و قد بدأ يضرب رأسه على الحائط :
- انا مش مريض ومش زي أبويا انا مش هسمحلك تلعبي فحياتي ولا تخليني زيه مستحيل اعيش مع واحدة خاينة مستحيل ابعدي عني امشي من هنا !!! 

أغمض عيناه بقوة مهمهما بهوس و دموعه تأخذ مجراها على وجنتيه لن يكون مثل والده أبدا لن يدع زوجته تخدعه أكثر من هذا إنها مثل أمه ولن تتوانى لحظة عن الغدر به لذلك يجب عليه التخلص منها .... لن يكون نسخة من رأفت البحيري أبدا !!!

بعد دقائق كان يركب سيارته و يقودها بأعلى سرعة عنده حاول التخلص من التشويش و التركيز على طريقه لكنه لم يستطع فأخذت السيارة تنحدر يمينا و شمالا و من حسن حظه أن الطريق كان فارغا و إلا كان سيفتعل حادثة لن ينجوا منها أبدا. 

وصل إلى شقته و فتح الباب ببطء و عيناه لا تستبشران خيرا بدى وجهه مظلما و زيتونيتاه إختفى لمعانها ملابسة غير مرتبة و شعره أشعث و رائحة السجائر تفوح بقوة منه حتى أصبح يبدو كقاتل متسلسل مهووس يحتاج لرؤية الدماء أمامه حتى يهدأ. 

أغمض عيناه مجددا شاعرا بالدوار يداهمه و بضعف في سائر أضلاعه ازدرد ريقه و صوت بداخله يخبره ... " لا تكن مثل والدك .... لا تمنحها الفرصة للسخرية منك ... تخلص منها .... تخلص منها ...".

- عمار !! 
إخترقت نبرتها الرقيقة تلك الأصوات المتداخلة بعقله ففتح عيناه و حدق في مريم التي وقفت تطالعه بتوجس من هيأته.

دنى منها ببضع خطوات حتى وقف أمامها مباشرة فسألته بحذر :
- في ايه مالك .... انت كويس. 

إبتسم عمار و رفع يده يمررها على طول ذراعها من الأسفل بروية حتى وصل إلى عنقها فتلمسه بأصابعه هامسا بداخله :
- كم مرة وضع رجل غيره يده على بشرتها هذه ؟ 

و بنفس الهدوء ضغط بأنامله على رقبتها و عيناه مركزتان على وجهه الذي بدأ ينقبض فهمست معتقدة أنه لا يقصد الضغط عليها هكذا : 
- ع ... عمار ... انت بتوجعني. 

تراءت لها نفس الإبتسامة التي رأتها صباحا عندما دعس فجأة على الفرامل و إصطدم رأسها بعنف على تابلوه السيارة فإتسعت عيناها برعب و حاولت إبعاد يده عنها ليضحك الأخير بخفوت خانقا إياها بقصد قطع نفسها نهائيا ... غير أنه في لحظة كان يرخي يده و جسده بأكمله وهو يغمض عيناه و يسقط على الأرض فاقدا وعيه !



الفصل الثاني عشر : إعترافات. 


" في لحظة خاطفة حينما نواجه إنعكاس صورتنا على قطعة ملساء ، يرى كل منا أحلك مخاوفه ...
ذلك الجانب الذي يخشى أن يطلق سراحه ...
ذاك الذي تطمسه خلف قناع الكماليات ...
فيغدو سرا بينك و بين المرآة ! "

أنين متحشرج و شهقات حارقة عجزت عن الوصول إلى مسامعه فإرتدت غارقة في الفراغ ، حاضر ملطخ بالماضي و مستقبل غامض بلا أمان ، ظلال تتراقص من أسفل فرجة الباب الذي يمنعه عن الخارج فينكمش رعبا عند معرفة صاحبها جيدا .....

و مجددا يزداد الطنين داخل رأسه فيعتصره بيديه يحاول إسكاته و تخفيف آلامه حتى نجح أخيرا فعاد من الخيال إلى الواقع ....

إرتعشت رموش عينيه و إنفرجت جفونها ببطء محاولا إزالة الغشاوة عنها ، و بعد ثوان توضحت الرؤية له فوجد السقف يقابله و شعر بشيء يجثم عليه ليقاوم صداعه و يلتفت بوجهه في وهن ، فرآها جالسة على الأرض يد تمسك بيده و الأخرى تضع بها قطنة معطرة أسفل أنفه ، و عندما وقع نظرها عليه إنكمشت ملامحها و إنتحرت اللآلىء من عينيها الكحيلتين دمعة تلو الأخرى دون توقف ، وبينما هو يطالعها مرت خاطرة سخيفة على ذهنه لم تناسب موقفه البتة " أي نوع من الكحل تستخدم مريم يجعله لا يندثر مع دموعها السخية ؟ "

و عندما سمع صوتها المتلهف يسأله عن حالته إنتبه عمار إلى إستلقائه على الأريكة في الردهة فهمس بتشتت :
- في ايه ... ايه اللي حصل ... وانتي قاعدة بتعيطي كده ليه ؟

تذكرت مريم فقدانه الوعي منذ قليل بعد تصرفات غريبة قام بها فإنطلقت صرخاتها الخائفة و كادت تخرج طلبا المساعدة لكن عز عليها تركه ملقيا على الأرضية هكذا فآثرت حمله أولا وقد عانت الويلات حتى إستطاعت سحب جسده الثقيل و حمله على الأريكة ، جلبت قطعة من القطن و عطرتها لتضعها تحت أنفه و حين كادت تغادر لتخبر البواب بطلب طبيب باغتها عمار وهو يمسك يدها في حالة الاوعي هاتفا بضعف " ماما لأ ... بابا متسبنيش ... بابا ... ".

فظلت مريم جالسة تفترش الأرض تحاول إيقاظه وهو يئن و يهمهم بكلمات غير مفهومة حتى فتح عيناه و هاهو يننظر إجابتها على سؤاله.

مسحت دموعها و أجابت بصوت مبحوح :
- أغمى عليك فجأة و انا معرفتش أعمل ايه فجبتك هنا و حاولت أفوقك لحد ما فتحت .... عمار انت كويس تحب أطلبلك الدكتور ؟

و مع كل كلمة منها كانت ذاكرة عمار تستعيد آخر لحظات عاشها قبل إغمائه فزفر ماسحا وجهه بكف يده :
- أنا بخير متقلقيش مجرد إرهاق لأن بقالي يومين مبنامش كويس و كمان انا مكلتش حاجة من الصبح علشان كده .... مفيش داعي لدكتور.

إنتفضت مريم واقفة بسرعة : 
- اسفة نسيت أنك مكلتش حاجة من الصبح بص أنا أساسا لسه عاملة الأكل ثواني و أحط السفرة.

رآها عمار تركض إلى المطبخ و نظراته تتبعها حتى إختفت ، أغمض عيناه يمسح على وجهه متذكرا ما عاشه قبل ثوان من إغمائه اللعنة لقد فقد السيطرة على نفسه و إنعكس الأمر على تخيلاته فكاد يقتلها !!

حمدا لله أنه أخذ بعض المهدئات بكمية مضاعفة قبل مجيئه إلى هنا لكي يستطيع إخماد الهلوسات فقد نتج عن تجرع الأدوية تفاعل زائد و هذا تسبب بإغمائه ، إنها ليست أول مرة يتعرض لموقف مشابه لكنها أول مرة تصيبه نوبته بهذه القوة فيوشك على خنقها !!
المسكينة مريم لا تعلم أنها كادت تموت بين يديه اليوم لو فقط تأخر عن إغمائه دقيقة واحد لم تكن لتنجو ، إذا كيف تعامله بلهفة هكذا ألم تنتبه لأفعاله أم لم تستطع التركيز بسبب خوفها عليه ؟

زفر عمار بإرهاق و نهض بترنح متجها نحو حمام غرفته يغتسل و يبلل وجهه بالماء البارد ليطرد الخمول عنه ، ثم غير ملابسه وهو يفكر كيف سيستطيع جعل مريم تنسى هذه الحادثة ولا تركز فيها فإذا أخبرت صديقتها هالة بما حدث مؤكد أن هذه الأخيرة لن تترك الأمر يمر مرور الكرام خاصة إذا علمت أنه ضغط بيده على عنق زوجته وليس ببعيد أن تجعل الشكوك تجتاح دواخلها فتلك البغيضة تكرهه حقا !!
لكن قبل ذلك سيفكر بما يجب فعله مع مريم بعد الذي رآه صباحا.

أفاق من شروده على دخول زوجته مرددة :
- عمار انت لسه تعبان هجبلك الأكل لحد هنا إيه رأيك.

نفى عمار برأسه مغمغما في جدية :
- قولتلك انا كويس و مفيش داعي للخوف ده كله هناكل عادي زي كل مرة.

اومأت على مضض فذهب معها و وجدها أعدت المعكرونة بالصلصة مع كرات اللحم و رغم أن عمار لم يكن يريد تناول شيء لكن رائحة الطعام الشهية خاصة بالأعشاب الغريبة التي تضعها على أطباقه تجعله يغير رأيه كل مرة .... إن زوجته لها قدرة على تحويل طبق عادي إلى آخر مميز و كل هذا بفضل لمساتها السحرية عليه !

بعد دقائق رفع عمار وجهه عن صحنه متنحنحا :
- انتي مطلبتيش المساعدة ليه لما أغمى عليا ؟

ردت عليه مريم بخفوت : 
- كنت هعمل كده بس أنت كنت ماسك إيديا فخوفت أسيبك لوحدك و كمان انت سبق و نبهت عليا مدخلش حد من غير ما اطلب إذنك و كنت عارفة انك هتضايق لو عرفت اني دخلت واحد للشقة من غير ما اسألك علشان كده يعني.

رفع الأخير حاجباه بذهول و كاد يضحك بسبب إلتزامها الهائل بشروطه و فجأة عاد له الشعور بالرضا عند رؤيتها قطة مطيعة تجيد تنفيذ أوامره فقط ، دلك عنقه و أردف بنبرة جاهد ليجعلها تلقائية :
- كده أحسن وضعي كويس و الدكتور ملهوش لازمة .... مع إني حسيت بدوخة قوية و وانا حاطط ايدي على رقبتك حاولت اتمسك بأي حاجة عشان مقعش ومن غير قصد ضغطت عليكي.

تركت مريم الشوكة من يدها و تأملته بتوجس متذكرة ضغطه على مجرى تنفسها لكنها طردت أفكارها و همست : 
- أيوة حسيت .... و خوفت عليك اوي لما لقيتك واقع.

لم يعلق عليها متعمدا لكي ينهي النقاش و بعدما أنهيا طعامهما ذهب إلى غرفته و تبعته مريم تعطيه دواء لصداع رأسه .... حدقت فيه بإضطراب ثم هتفت :
- أنا .... أنا عايزة أقولك على حاجة مهمة بس مش عارفة اذا الوقت مناسب يعني انت تعبان ووو ...

رفع عمار عينيه إليها :
- خير ؟

بللت مريم شفتيها مركزة في نصيحة رفيقتها بوجوب إخباره بعلاقتها مع عثمان لتطلق جملها دفعة واحدة :
- ابن عمي مجاش المطبخ عشان يطلب مني اعمله شاي لا هو كان بيضايقني و ديه مش أول مرة يعملها .... عثمان من زمان بيتحرش بيا !

راقبت ردود فعله و تفاجأت عندما وجدته ساكنا كأنه لم يتأثر بما فجرته للتو ، ولم تنتبه إلى يده المرتعشة بإنفعال بينما تحدث بهدوء :
- كملي .... ولا أقولك احكيلي من الأول.

قضمت شفتيها بتوتر و جلس بجانبه تخبره بعلاقتها مع إبن عمها ، أنها كانت معجبة بشخصيته و وسامته و قدرته على جذب الآخرين له فوقعت في حبه و إدعى هو حبها أيضا و أوهمها أنه يطلب يدها للزواج حينما تكبر فإنخدعت به حقا حتى أدركت نواياه الحقيقية.

أخفضت رأسها تتمتم بضعف :
- كان وقتها عندي 16 سنة لما بدأ يحاول يقربلي جسديا كان بيمسك ايدي و أحيانا يحط ايده على جسمي و يعمل نفسه مش واخد باله لحد ما بقى يقولي أن اللي بيحصل ده عادي و كل اللي بيحبو بعض بيعملو كده بس أنا فضلت رافضة و مسمحتلوش يقرب مني و لما كبرت و بدأت أستوعب البيئة حواليا و أفهم الدنيا عاملة أزاي و ايه اللي لازم على البنت تعمله عشان تحافظ على نفسها عرفت معنى التحرش و تلقائيا بدأت أنفر من عثمان و اكرهه ، مشاعري ليه كانت كذبة بتقدر تقول عليها تعود لأني كنت عايشة معاه في نفس البيت ...
و ساعتها بعدت عنه حذرته ميتعاملش معايا تاني بأي شكل من الأشكال بس هو ....

صمتت مريم سامحة لدموعها بالهطول فغمغم عمار بجمود ظاهري :
- بس ايه ؟ اتكلمي.

- مرضيش يبعد عني و بقى يلمسني قصدا وهو بيبص في عينيا بيتعمد يقعد معايا لوحدينا و يضايقني بالكلام و اللمس و بيهددني لو نطقت بكلمة هيخلي عمي يرميني في الشارع لأن محدش هيصدق أنه بيتحرش بيا .... و انا كنت خايفة اوي يا عمار و سكت وهو بيتمادى لدرجة أنه كان بيدخل أوضتي لما أهله ينامو و يقعد يخوفني و يشتمني و يذلني ....
حسسني اني واحدة مبتسواش عثمان كان بيرتاح لما يشوفني خايفة و بعيط بسببه أنا عشت في رعب لسنين طويلة و ماصدقت امتى اخلص ثانويتي و أدخل جامعة القاهرة عشان أبعد عنه قولت هستقر هنا بعد ما اتخرج و اخلص منه بس هو أقنع عمي يرجعني لبيتهم تاني و ....

أنهت مريم حديثها بدموع وهي تحيط جسدها بحركة تلقائية متذكرة كل ما قاسته من ذلك الوغد الذي إستسهل شرفها بدلا من حمايته ، لا تعلم كيف امتلكت كل هذه الشجاعة لتخبر عمار لكنها حقا إرتاحت رغم " صعوبة المواجهة " و خوفها الوحيد الآن هو ردة فعله ، ماذا سيقول زوجها حيال هذا الأمر ؟؟

أما هو فكان في عالم آخر تماما ، ضاقت أنفاسه وهو يتخيل كل لمسة حطت على جسدها ، كل نظرة رغبة صدرت من رجل غيره عليها ، و كل نظرة حب منها كانت تكنه إلى إبن عمها !
لقد ظن أن مريم كانت على علاقة عابرة فقط مع عثمان و هذا جعله ينوي قتله و قتلها ، لكن الآن إكتشف أنها كانت تتعرض للتحرش و الذل ، و كان هو في منزل ذاك المتحرش و اللعنة !

همهم أخيرا بصوت قاتم دون التطلع إليها :
- يعني انتي خبيتي عليا و خليتيني اقعد في بيت الراجل اللي كنتي معجبة بيه .... الراجل اللي اتحرش بيكي أنا سلمت عليه و كلمته و شربت و أكلت من نفس أكله زي الغبي إستهزأتي بيا لدرجة خلته يقرب عليكي و أنا موجود صح ..... إتكلمي !!!

صرخ بعنف فشهقت و إرتدت للخلف بسرعة بينما تابع عمار بجنون :
- انتي خوفتي من إيه بالضبط ؟ خوفتي مصدقكيش ولا خوفتي من كلام الناس ولا خوفك كله كان على الراجل اللي حبيتيه فيوم من الأيام ؟! معقول مش واثقة فيا للدرجة ديه يا مريم انتي ايه فهميني ازاي تحطي جوزك في موقف زي ده ازاي مبتتكلميش و تدافعي عن نفسك ازاي سبتيه يعمل فيكي اللي عايزه ردي عليا !!

وضعت مريم يدها على وجهها تبكي بدون إجابه فزفر عمار بقوة و أردف :
- تعرفي ايه اللي بفكر فيه أنا دلوقتي ؟ كام مرة بعد جوازنا حاول يتصل بيكي و كان بيعمل ايه لما تزوريهم لوحدك انا بفكر بكام مرة بصلك بطريقة زبالة و لمسك وهو متأكد أن مفيش حد هيوقفه عند حده مفيش راجل يدافع عنك و ده طبعا لأن حضرتك خايفة تتكلمي و خليتيني ابقى مش راجل فنظر ال ***** ده !!!

أنهى كلامه وهو يرمي فازة زجاجية موضوعة على طاولة صغيرة فتتهشم على الحائط مصدرة صوتا واكب صوت صرخة مريم المذعورة وهي تراه غاضبا هكذا لأول مرة ، و لوهلة تخيلت أنه سيضربها ، سيهينها و يرميها بعدما يقول أنه لا يتشرف بإمرأة مثلها كزوجة له ، هذا ما سيقوله بالطبع !!

في حين ضغط عمار على رأسه وقد إرتفعت حرارته بنسق مجنون إنعكس على تقاسيم وجهه التي بدت إجرامية كاد يصرخ عليها مجددا لكن فجأة إنطفأت ثورته بهمستها الواهنة :
- عمار ..... أنا خايفة.

حينها فقط إنتبه إليها وهي تلتصق بالحائط منكمشة على نفسها تحمي وجهها بيديها كمن يخاف من تلقي ضربة غادرة و تحاول كتم شهقاتها ، مسح على وجهه يلعن بداخله على تعنيفها بهذه الطريقة ثم تقدم منها و أخفض يديها متمتما :
- مريم خلاص إهدي.

أجابت بنفي سريعا فأطلق سبابا لم يصل لمسامعها و وضع رأسها على صدره يداعب شعرها لتنفجر في البكاء الصارخ :
- انا خفت منه و خفت من كلام الناس و خفت منك .... خفت لأني مبقيتش أحس بالأمان من لما أهلي اتوفو يا عمار من صغري فهمت أن مليش غير بيت عمي لو قولتله مكنش هيصدقني مراته أساسا كانت بتعرف و سكتت عشان إبنها عشان تحميه بس أنا مكنش في حد يحميني و لما اتجوزتك صح حسيت بأمان معاك بس فضلت خايفة متصدقنيش و ده مش بإيدي ...
انا كل مرة بيبقى نفسي أقتل الحيوان اللي اتجرأ عليا كان نفسي اعترفلك من أول يوم اتجوزتك فيه بس .... انا .... انا ....

قاطعها عمار هامسا بلوعة :
- هشش متعيطيش كفاية انا جمبك حقك عليا مكنش ينفع اتنرفز عليكي انتي ملكيش ذنب و المفروض كنت أقدر وضعك بس غصب عني فكرت بالطريقة ديه .... إهدي و بطلي عياط.

ضغط على جسدها يحتضنه أكثر متذكرا نظراتها المرتعبة من لمساته في أول أيام زواجهما ... كان وجهها يشحب بدرجة كبيرة عندما يحط بيده عليها لكنها تتحامل على نفسها و تخبره أنها خجلة لا أكثر .... حتى فزعها عندما يلمسها فجأة و إنتفاضتها التي تدل على الكثير .... كيف غاب هذا عن باله ولم يفكر به مطلقا ؟

دفنت مريم رأسها بصدره أكثر كأنها تود إختراق ضلوعه و تمسكت بقيمصه هاتفة من بين شهقات بكائها :
- كل مرة ... كل مرة كان نفسي اتكلم بس بسكت عشان خايفة و مكسوفه .... والله العظيم أنا مفكرتش فيك على انك ضعيف او مبتقدرش تحميني بس خوفت تفكر بيا بطريقة وحشة انت مش عارف قد ايه كنت بحس بالقرف لما يحط ايده عليا ازاي روحي اتوجعت وهو بيذلني اتحملت كتير بس لحد النهارده الصبح قررت مسكتش تاني .... عمار انا شوفت الشك في عيونك لما لقيتني واقفة معاه معرفش اذا سمعت كلامنا احنا الاتنين بس قدرت أفهم من نظرتك انك شكيت فيا ساعتها قررت اعترفلك بكل حاجة حتى لو هتلومني و تقول عليا كنت بغريه عشان كده اتحرش بيا يمكن علشان لبسي ااا....

قاطعها عمار بحدة وهو يضم وجهها بين كفيه يقربها منه :
- اوعى ... اوعى تفكري بالطريقة ديه تاني التحرش ملوش مبرر و مفيش ست في الدنيا تستحق حد يقرب منها خطوة واحدة غصب عنها مهما كانت طبيعتها و لبسها فاهماني اللي بيتعدى على حرمة بنت بيبقى مش راجل ولازم يتحاسب.

حينها تشدقت بصوت مكسور كاد يحطم فؤاده :
- بس المجتمع اللي انا اتربيت فيه بيقول غير كده ... طول عمري بشوف الست هي الغلطانة و الراجل صح مهما عمل ... لو البنت ضايقوها في الشارع هيقولو عليها هي الغلطانة بسبب لبسها ... لو لمسوها غصب هيقولولها اسكتي عشان متفضحيش نفسك لو اغتصبوها هيقولو هي ليه طلعت في الوقت ده اكيد كانت لابسة كذا اكيد بتعرفه اكيد غلطت معاه و جاية تفتري عليه ...
ومجتش على التحرش بس ديه البنت بقت تتقتل قدام بيتها و في الشارع ووسط الناس و قدام باب الجامعة بكل غل و ضمير معدوم و مع ذلك بتعتبر هي الغلطانة و مبتسلمش من لسان الناس ... قولي بقى انا هعمل ايه و هتكلم ازاي وسط المجتمع ده ؟!

و اللعنة ألف مرة كلامها صحيح ، أصبحت المرأة تخاف ن أن تصرخ و تستنجد فتصبح هي الجاني و هاهي مريم واحدة من تلك النساء المعرضات للأذى الجسدي و النفسي ، ولكنه لن يكون رجلا اذا لم يحاسب من كان السبب في إيذائها. 
حاوط عمار رأس مريم بين يديه و جذبها نحوه مغمغما بجدية حادة :
- اسمعيني كويس صحيح مجتمعنا ده بيرمي اللوم على الست دايما لو متجوزتش بتبقى معيوبة لو جوزها ضربها او اطلقت بتبقى هي الغلطانة ولو اتعرضت للتحرش او الاغتصاب بتبقى هي اللي أغرته و خلته يقرب عليها بس مع ذلك مينفعش الست تخاف من كلامكم و تتكسف لأنها مغلطتش ..... انتي شرفك غالي و اللي يحاول يقرب عليه اقتليه ..... اقتليه من غير ما تترددي يا مريم !!

ترى ما حال قلبها الذي يدق بجنون الآن حتى كاد يخرج من مكانه ؟ و ما حال عينيها وهما تتأملانه بعشق و إحترام و طمأنينة ؟ لم تتوقع أبدا أن يكون هذا موقفه منها ، ظنت أنه سيلقي اللوم عليها و يسبها و يتهمها بالخيانة لكنها كانت مخطئة ...
زوجها الذي أحبته سابقا رغم غموضه و تصرفاته الغير مفهومة أصبحت تكن له إحتراما و تقديرا عظيمين الآن و الأمان الذي تعيشه حاليا بين ذراعيه ربما لم تعشه سابقا ، عمار إستطاع و بجدارة تملك روحها !!

جلسا على الفراش وهي لا تزال تحتضنه حتى همست :
- انا كنت فاكرة انك اتعمدت تخليني اخبط دماغي في تابلوه العربية عشان اتأذى و افتكرتك حاولت تخنقني قبل ما يغمى عليك بس عرفت دلوقتي اني كنت غبية لما فكرت بالشكل ده .... راجل چنتل و محترم زيك مستحيل يبقى ليه تصرفات عدوانية كده و يحاول يأذي واحدة ست و انا النهارده اتأكدت من الكلام ده. 
" و حبيتك أكتر " إبتلعت جملتها الأخيرة بداخلها.

و الحال أنه كان ينوي أذيتها حقا ، تعمد صباح اليوم عدم تنبيهها على حزام الأمان و الإسراع في القيادة ليشعر بقليل من الراحة عند رؤية دماء رأسها الملفوف حاليا بشاش ، و حاول قتلها منذ ساعتين و كان سيفعلها حقا لو لم يفقد وعيه ، صحيح أنه لا يقبل بالتعرض لأي إمرأة و لومها على حقارة ذكر لكنه في نفس الوقت قادر على قتلها ، إن عمار البحيري رجل منافق بإمتياز !!!

إبتسم ساخرا بينما سألته مريم بتوجس :
- هو انت .... انت هتعمل ايه بعد اللي قولتهولك ؟

- هقتله. 
أجابها عمار ببساطة فشهقت بذعر هاتفة :
- لالا بلاش أرجوك متعملش كده بالله عليك.

رفع حاجبيه بإستهزاء :
- مش معنى متعصبتش كتير و اتصرفت معاكي بتحضر يبقى هسكت للشخص اللي اتعرض لمراتي معلش أنا راجل مش حاجة تانية.

نفت مريم موضحة :
- مش قصدي بس أنا مش عايزاك تورط نفسك علشان واحد زيه كفاية عليا اني قولتلك على اللي فقلبي و انت صدقتني مش هعوز حاجة تانية أساسا عثمان خد عقابه النهاره الصبح لما اتهجمو عليه.

انتبه عمار إليهم و حمحم مدعيا الإستغراب :
- قصدك ايه مين اتهجم عليه ؟

ردت عليه بنبرة تحمل الكره و الشماتة :
- في حد غدر بيه و ضربه لما كان رايح لبيته .... رفسه و لف حاجة على رقبته خلته يختنق بعدين ضربه على دماغه و اهو قاعد بيتعالج في المستشفى دلوقتي. 
- و انتي عرفتي منين ؟

- اول ما وصلنا اتصلت بعمي أطمنه عليا زي ما وصاني اعمل و قالي على اللي حصل صراحة صعب عليا لأنه أبوه في الاخر بس أنا فرحت فيه يعني أكيد عثمان أذى حد زي عوايده و التاني حب ينتقم منه بالطريقة ديه.

أردفت بوجوم غير منتبهة إلى عمار الذي التمعت عيناه بوميض مخيف و ابتسامة شبه ساخرة على شفتيه عند إدراكه بأن مريم لن تتصور أنه هو من قام بالتهجم على ذلك الوغد ...
لقد تحجج بمكالمة تخص عمله فدخل الى غرفتها و قفز من الشرفة التي أخبرته عنها مريم سابقا أنها كانت تهرب من المنزل بواسطة التسلل منها ، ثم لحق بعثمان وهو ينوي قتله حتى ضربه و لف شريطا رفيعا من أشرطة مريم حول عنقه قاصدا قتله ، ولكنه تراجع في آخر لحظة وهو يعاهد نفسه بأن يقتل ذلك الوغد بأقسى طريقة ممكنة ، فرجل بحقارة عثمان لا يستحق الموت بهذه السهولة ! 
أما مريم المسكينة فهي تعتقد أنه رجل متحضر و لا ضرر من إدعائه ذلك !

إستطردت مريم بعد قليل :
- علشان خاطري متعملوش حاجة هو كان صفحة سودا فحياتي و اتحرقت بلاش توسخ إيدك بيه.

زفر عمار بقلة حيلة مصطنعة :
- معاكي حق هو طلع من حياتنا و ملوش لازمة نجيب سيرته او أعمله حاجة تضره ... علشان خاطرك بس ها.

إبتسمت و إحتضنته بفرحة :
- متشكرة اوي يا عمار على وقفتك جمبي صدقني أنا بح...

توقفت فجأة وقد أدركت زلة لسانها و نظرت بسرعة له تستشف ملامحه و لحسن حظها كان شاردا و لم يلحظ عندما كادت تعترف له بحبها ، تنهدت براحة و قالت :
- انت هتنام هنا ولا هتمشي ؟

رد عليها بعدما خلع تيشرته و إستلقى على الفراش يتثاءب :
- انا تعبان ومش هقدر أسوق بالحالة ديه.

أغمض عمار عيناه فورا و بعد دقائق قصيرة غرق في النوم من شدة تعبه ، ذهبت مريم تلملم زجاج الفازة التي كسرها ثم إستلقت بجانبه تفكر بحيرة في طبيعة شخصية زوجها.

أحيانا يبدو هادئا و باردا أو غامضا لا ينبس بكلمة ، و أحيانا يكون منطلقا في ضحكاته و يمازحها حتى أنه يبدأ في مغازلتها و سريعا ما يعود إلى صمته ، و منذ قليل كان غاضبا بشدة لدرجة اعتقدته سيرتكب جريمة لكنه هدأ فورا و نام ، حسنا من الواضح أن زوجها عمار البحيري لن يهدأ حتى يفقدها صوابها !!

**** 
إخترق سباته صوت غريب جعله يتململ بإنزعاج ثم يفتح عينيه ليداعبه ضوء شمس الصباح ، حرك رأسه لجانبه ووجد مكانها فارغا فإعتدل في جلسته و حاد بنظره إلى ستائر الشرفة الهفهافة ليظهر له جسد من خلفها و الصوت يصدر من عندها إضافة إلى دندنة رقيقة يعرف صاحبتها جيدا. 
أخذ نفسا عميقا و قفز من السرير مستجيبا لطاقة عجيبة إكتنفته و جعلته يزيح الستائر ليهتز قلبه بين ضلوعه وهو يشاهدها ....

كانت مريم مفترشة أرضية الشرفة تضع بين قدميها عجلة لصنع الفخار و أصابعها تعبث في مرونة بكتلة طينية تشكِّلها كيفما أرادت بسهولة شديدة و كأنها خلقت فقط لتصنع هذا النوع من التحف ... 
ترتدي ثوبا أحمر ذو حمالات إرتخت فسقطت تكشف عن كتفيها بسخاء ، يصل إلى ما فوق ركبتيها مظهرا ساقيها التي تنتهي إحداها بخلخال أبيض يطلق رنة كلما تتحرك و شعرها الغجري الكثيف مسدول على ظهرها بفوضوية محببة إلى قلبه ، الكحل يزين وجهها الناعس و قد لونت شفتيها باللون الأحمر القاتم ..... لون لا تتخلى عنه في أي وقت !

كاد عمار يهوي صريعا و إحتشدت أنفاسه بكبت عندما سمعها تغني بإغراء :
- أنا الغجرية بنت الوادي و الصحرا ... 
أنا المولودة تحت السما الحرة ... 
حكاوي السحر عني كتير يحكوها ... 
أنا الفرس اللي قلبه عنيد كما الصخرة ... 
أوعى يدوب قلبك و تعشق بنت الغجر ...
تسهر و تموت عطشان في عز المطر ... 
لو كنت يوم خيال و عايش بقلب عشر رجال ....
هيلين على يدي و يعيش ضعيف الحال ... 
انا الغجرية .... بنت الوادي و الصحرا ... 
و بينما هي تغني تحركت يده بتلقائية نحو هاتفه و إلتقط لها بعضا من الصور ثم كبس على علامة تشغيل الفيديو يمنح لنفسه حق سماع صوتها العذب متى أراد و كل هذا دون أن تنتبه تلك الجالسة على الأرض ..... و دون أن ينتبه هو على قلبه الذي غادر صدره فاقدا الأحقية في إمتلاكه من بعد الآن و أمسكته الأخرى بين يديها كما تمسك تلك بالملعقة الصغيرة تدسها داخل صحن حبات الرمان الحمراء و تضعها بفمها مستلذة !!

________________________
بعد مرور 3 أيام.
دخل إلى غرفته في المساء بعد مشاجرة مع والده و عمه الذي أبدى إستياءه الشديد بسبب إلغاء سفره في اللحظة الأخيرة و دون إنذار مسبق ، و كل العيون كانت ملقاة عليه تحمل عدة تساؤلات أهمها " ما سبب إختفائك بعد إلغاء سفريتك و أين كنت ؟ "

دخل للحمام و إغتسل سريعا ثم خرج إلى الشرفة عاري الصدر غير مكترث بنسمات الهواء الباردة ثم وضع سجارة بفمه يدخنها ممررا على ذاكرته كل ما عاشه في الأيام الأخيرة مع زوجته السرية ، لقد أصبحت مريم ملجأه الوحيد بعدما تشتد عواصفه الداخلية صوتها و نظراتها و تصرفاتها كل هذا يمثل له ما تمثله جرعة مخدرات لمدمن يائس لكن سؤاله الذي بات يطرح على نفسه كثيرا هو " ماذا لو كان زواجهما طبيعيا ؟ "

زفر عمار بخنق وهو يمسح على وجهه متابعا تدخينه حتى طرق باب غرفته أذن بالدخول لتدلف ندى و تهرع الى الشرفة نحوه ، وقفت أمامه وهي تلف حول نفسها هاتفة بسعادة :
- What do you think of this dress ? ( ما رأيك بهذا الفستان ؟ )

القى عمار نظرة سريعة عليها ثم عاد يطالع الفراغ مغمغما :
- حلو ... بس قصير شويا.

قلبت ندى عينيها بإعتراض :
- ده الفستان الأحمر اللي انت اخترتهولي !

- لأ اللي اخترته أنا كان لونه أغمق من كده و عليه فيونكه من ورا و طويل وواسع بس اللي انتي لابساه ده فاتح و أقصر و ضيق متحاوليش تكدبي.

فغرت ندى فاهها بذهول من ملاحظته لتفاصيل ثوبها بنظرة لم تدم سوى ثواني قليلة لكنها قالت بمراوغة :
- اللي انت اخترتهولي هبقى البسه لما اطلع فخروجه مع صحابي بس الفستان ده مناسب اكتر عشان الفرح اللي هحضره.

حاول عمار تفادي النقاش معها بهذا الموضوع فهي ليست سوى إبنة عمه و من غير المناسب ان يتحكم بها في وجود عائلتها .... كيف سيفعل ووالدها نفسه لا يكترث لتصرفات صغيرته !

نفث دخان السيجارة من فمه بهدوء مستمتع لتهتف الأخرى بشيء من الإنزعاج :
- انا مش فاهمة ايه لازمة كل السجاير ديه مش على اساس انت بتلعب رياضة ازاي بتشرب الكمية ديه كلها.

- عشان جسمي محتاج نيكوتين.
أجابها عمار ببرود وهو يسحب أكبر كمية منها فهتفت الأخرى مبررة :
- اصل السجاير بتتعب اضافة للريحة بتاعتها .... مع ان ريحتها عليك مع ريحة البرفان بتبقى بتجنن بس بتفضل مضرة للصحة.

لم ينتبه عمار إلى غزلها الخفي أو - تغاضى عنه متعمدا - ثم قال :
- بفكر أبطلها. 
- طيب ما تبطلها. 
- لا أنا بفكر بس.

إندلعت ضحكاتهما تغزو الشرفة و تحدثا في أمور عديدة بالنسبة إلى عمار فإن عائلته بكفة و ندى في كفة أخرى بطفولتها و مرحها خاصة أنها تتعمد ألا تسأله عن شيء يزعجه و هذا أفضل ما فيها ... ندى تعرف تماما ما يريد التكلم فيه و مالا يريد !!

طرق باب الغرفة و دخلت سعاد ، وقعت عيناها عليهما وهما شبه ملتصقان ببعض ندى ترتدي ثوبا قصيرا و عمار عاري الصدر ، مشهد كفيل بجعل من يراهما يطلق حكما مسبقا و لو جاء عادل او رأفت رأى هذا المنظر لكانت ستحدث مشكلة كبيرة.

تنحنحت و قالت بجدية :
- العشا جهز انزلو عشان تاكلو.

نظر عمار لإبنة عمه :
- انزلي وانا هلبس و اجي.

اومأت بإبتسامة و غادرت ليطالع الأخير زوجة والده و يغمغم متسائلا :
- ايه سبب النظرات ديه ؟

- المنظر اللي شوفته من شويا غلط انا عارفة ان ندى بتحب تقضي معاك وقت كتير وانت كمان بس مينفعش تقعد قدامها بالشكل ده وانتو في أوضة لوحدكم بليل.

اطفأ سيجارته في المطفأة مرددا بدون إكتراث :
- انا متعود اقعد كده من غير تيشرت و لما ندى جت نسيت البس صح غلطت لما خليتها جمبي في الوقت ده بس حضرتك عارفة اني مبقصدش حاجة وحشة .... هبقى اخد بالي بعد كده.

قالها منهيا النقاش و تحرك يرتدي قميصه الثقيل لتباغته بالسؤال :
- أنت كنت فين يا عمار ؟ و مع مين ؟

إلتفت إليها ببرود :
- مادام سألتيني أنا كنت مع مين يبقى عرفتي حاجة .... قوليلي حضرتك ايه اخر المستجدات اللي عرفها رأفت البحيري ؟

تضايقت سعاد من بروده و قالت :
- عمار ! أبوك شاف صور ليك و انت راكب في عربيتك مع واحدة ست و اتعصب اوي خاصة أنك سبت شغلك و روحت معاها ، انا مش فاهمة انت بتعمل كده ليه و مادام ماشي مع واحدة ليه مبتعرفناش عليها على الأقل أشوف مين ديه اللي بتحبها كده و ممكن أخطبهالك كمان لو عايز.

انتي شوفتي صور البنت ؟ 
سألها بترقب لترد عليه :
- لا الصور جايباكو من ورا بس شعرها كان باين يعني متحاولش تنكر.

أشاح وجهه عنها متجهما و همهم بإيجاز :
- لما أحب اتجوز هقول لحضرتك أول واحدة.

إرتدى عمار القميص و نزل إلى الأسفل وسط نظرات أفراد العائلة المتلصصة و الأخرى الغاضبة ، تجاهلهم و تناول عشاءه و عند الإنتهاء دلف إلى غرفة المكتب و لحق به رأفت الذي جلس على كرسيه بصمت يراجع ملفاته.

حدجه عمار بطرف عينه وقد تعجب من سكونه فلقد توقع أن يصرخ عليه و تبدأ مشاجرة جديدة من سلسلة شجاراتهما الانهائية إلا أنه هادئ تماما !

تنحنح عمار هاتفا :
- وليد اتصل بيا و قالي انه بكره هيعمل أول ميتينج مع العملا عشان يتفقو على ال Project المفروض تكونو عارفين.
- أيوة عارف.

طرق الباب و دخلت سعاد محضرة معها دواء الضغط الخاص برأفت لكنه رفضه معللا أنه بخير ، و بعدها دلفت الخادمة ووضعت صحن مكسرات على سطح المكتب و بعض المملحات و خرجت ليبدأ رأفت بتناولها متجاهلا عمار الذي تعجب من تصرفه فقال مدعيا البرود :
- الدكتور وصفلك دوا تاني غير ده ؟
- لأ أبدا. 
- امال مرضتش تاخده ليه. 
- عادي.

كتم عمار غيظه و حاول تمثيل عدم الإهتمام لكن عند تذوقه لبعض من تلك المأكولات وجدها مالحة بشدة لماذا هو يتناولها رغم أنه يعاني من إرتفاع في ضغط الدم ؟
 زفر بخنق و حاد بعينيه إلى الورق لكن و على حين غرة انتصب واقفا و انحنى ليأخذ شيئا ما فإصطدم بالصحن متعمدا ذلك فسقط على الأرض متهشما.

انتفض رأفت بخضة و نظر إلى الأسفل :
- انت عملت ايه ؟

هز كتفه بتأسف مصطنع :
- ياه معلش مخدتش بالي.

نادى عمار الخادمة و طلب منها لملمة ما وقع ثم جلس على كرسيه كمن لم يفعل شيء ...
مرت ساعة و هما يتناقشان حول العمل و فجأة توقف رأفت عن الحديث عندما شعر بصداع شديد يتملكه و الرؤية أمامه تتشوش فرمى القلم من يده و تأوه بقوة.

انتفض عمار من مكانه و توجه إليه بسرعة :
- خير حضرتك كويس ايه اللي حصلك ؟

رد عليه بوهن :
- صداع جامد و مش شايف كويس.

هلع الآخر و أدرك أن ضغطه إرتفع وقبل أن يفعل عمار شيئا وجد والده يعود بظهره للخلف فاقدا وعيه !!

تعليقات