رواية لعنة الخطيئة الفصل الثاني والثلاثون32 بقلم فاطمة أحمد
صدمة موجعة.
فتح باب سيارته وجلس أمام عجلة القيادة وجلست هي بجواره ثم استدارت نسبيا ورأت أكياس التسوق متكومة في المقاعد الخلفية فقالت ببهجة :
- الله انت نقلت الحاجات اللي جبتها لعربيتك.
- ايوة شوفي لو في حاجة ناقصة ممكن تكون وقعت مني من غير ما اخد بالي.
أجابها بهدوء وهو يراها تتفحصهم بإهتمام كبير ثم أردف :
- شكله اللف في الشوارع كان واحشك اوي ده انتي مسبتيش حاجة الا وجبتيها ... ومش عايز اسألك صرفتي قد ايه عشان متصدمش.
همهمت نيجار وعقبت عليه ببساطة :
- عادي انت بتكسب وأنا بصرف يا جوزي.
تقلصت ملامحه باِزدراء ثم انطلق بالسيارة وبعد فترة أوصلها للسيارة وعاد لعمله أما الأخرى فاِستقبلتها حكمت وهي جالسة في منتصف الفناء بوجوم مما جعل نيجار تأخذ ابتسامة واسعة مستفزة وتمشي بتفاخر لتصعد بعدما ألقت التحية عليها ...
ولجت لغرفتها ورتبت الأغراض التي اشترتها ثم جلست على السرير وغامت شاردة في حديثها معه على البحيرة.
لقد كان رفضه قاسيا وحتى أنه كذَّب حبها وأخبرها بيقين أن شعورها هذا مستوحى من الندم لخسارتها رجلا يحبها، واجهها بشكل مباشر وأكَّد لها أنه لن ينسى خداعها وكيف اوقعته في فخها.
ورغم أن نيجار لم تظهر له يأسها بل أصرت على جعله ينسى ألمه ويعود ليحبها لكن في الحقيقة هي خائفة جدا ومتوترة حيث أنها لم ترَ أي نظرة حب أو تصديق في عينيه كل ما لمحته هو الجفاء وبعدما قبَّلته نهض فورا وأخبرها بوجوب مغادرتهما لكي لا يتأخر عن عمله أكثر.
تأففت وقضمت أظافرها بتوتر منفعل مفكرة بصوت خافت :
- واضح أنه مش مصدقني ولا واخد كلامي بجدية ومعندوش ذرة ثقة فيا خالص ومع الأسف عنده حق ... مع اني المذنبة بس قلبي كان بيتقطع من الوجع وهو بيحكيلي لأول مرة عن احساسه لما طعنته مابالك بالوجع اللي عاشه وهو الضحية.
تنهدت بِهمٍّ جسيم ثم رفعت رأسها لفوق مبرطمة :
- يارب ساعدني علشان اخليه يرجع يثق فيا ع الاقل والله أنا ندمت وحبيته لدرجة كبيرة مش هقدر استحمل ألم الانفصال ومبقتش مستحملة كمان نظرة الغضب واللوم اللي بشوفها كل لما ابصله.
** بعد وقت عاد آدم ووجد نيجار قد غفت على طرف الفراش فرفع حاجبه بسخرية وتمتم :
- معقوله كل التعب ده عشان قضت كام ساعة وهي برا !
قابله الصمت فتحركت قدماه بلا وعي منه ليجد نفسه بقربها يشرف عليها من علوّ، ثم قرفص بجانبها بحذر وطفق يتأمل سكونها النادر.
ورغما عنه تساءل، أي نوع من المشاعر يُكِنُّها إليها الآن ؟
أطرق آدم قليلا وفكر، ربما كرهها في السابق وحقد عليها لدرجة أنه لم يشعر بذرة تردد أو ندم حينما تركها مع ابن عمها المصاب في بيت الهضبة وأمر رجاله بإشعال النار ليموتا إحتراقا وكرهها أيضا عندما تزوجها ولولا رغبته بكسرها لما اقترب منها ليلة الزواج بل لكان طعنها بنفس الخنجر ثم جلس يطالعها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة.
ولكن الآن هو لا يعلم بالضبط ما يشعر به ناحيتها إلا أنه عند بعض التفكير يجد أنه ربما نفور وفقدان شغف سواء بالإنتقام منها أو برغبته في وجودها، لا يثق بها نهائيا ولا يتوقع منها أن تكون امرأة صالحة أيضا لكن ذلك الألم اللعين والإحساس بالغدر والاستغباء مازالا يلاحقانه !!
اهتز آدم داخله وأغمض عيناه هاربا من تخبطاته المعقدة وفجأة تململت نيجار في مكانها بنصف وعي فنهض سريعا ووضع ما كان بيده على المنضدة مدعيا انشغاله في تبديل ملابسه.
تمطعت الأخرى بكسل واعتدلت جالسة لتراه أمامها فاِنتصبت واقفة بترنح وشعر أشعث لتهدر بصوت مبحوح :
- انت جيت امتى ومصحتنيش ليه المفروض اكون تحت دلوقتي عشان اجهز سفرة العشا.
هرعت تغسل وجهها ونزلت إلى الأسفل كي تنقل الأطباق من المطبخ لقاعة تناول الطعام وبعد انتهائها غادرت فقالت حليمة بهدوء :
- هي مراتك هتفضل تاكل لوحدها في المطبخ.
توقفت يد آدم الممسكة بكأس الماء وصمت لتتابع هي :
- مش حلوة في حقنا اننا نخلي كنة العيلة الوحيدة تاكل وتشرب لوحدها عطول كده ونعاملها معاملة الخدم.
كتمت حكمت غضبها وضيقها من ذكر سيرة تلك الفتاة ثم أجابتها بهدوء مماثل :
- محدش هنا معتبرها كنة للعيلة أصلا وكلنا بنعرف ايه طينة البت ديه وانهي ظروف جابتها لبيتنا فـ معتقدش ان لقب الكنة بيخصها.
سكتت بضع ثوانٍ ثم نظرت لحليمة وأردفت مبتسمة :
- بس قلبك طيب اوي كل مرة بتتعاطفي معاها وبتدافعي عنها لدرجة اني احيانا بسأل نفسي ياترى انتي ولائك لعيلة الصاوي ولا لعيلة الشرقاوي.
كادت ترد عليها لكن آدم قاطعهما وهو يغمغم بصلابة :
- لو سمحتو كفاية كلام في الموضوع ده مش وقته !!
عاد لتناول طعامه أو بالأحرى ادَّعى ذلك لأنه سرعان ما تحجج برغبته في النوم وغادر وتبعته ليلى بعد قليل لتبقى الاِثنتان بمفردهما.
وضعت حكمت الملعقة على سطح المائدة وهتفت من دون النظر إليها :
- مع انك كبرتي بس لسه بتلعبي زي العيال الصغيرة ... تلعبي معايا أنا.
اصطنعت حليمة البسمة مستمعة للأخرى وهي تضيف :
- بس أنا آخر واحدة هتحبي تلعبي معاها وتضايقيها عشان كده بنصحك انك تبطلي محاولاتك ديه وتلزمي حدودك.
- ليه أنا عملت ايه بالضبط مانا قاعدة وساكتة اهو.
- عماله تحاولي تضايقيني وتغيري نظامي وتبقى ليكي كلمة في البيت ده بس الحركات ديه مبتأكلش عيش وعلشان كده اهمدي وبلاش ترمي نفسك في النار لأنك مش قدي ومش هتبقي مبسوطة وانتي بتتعاملي معايا ... وبعتقد انك اكتر واحدة عارفة أنا ممكن اعمل ايه.
تلبدت عيناها بالتحدي ومالت ناحيتها قليلا وهي تستند على سطح الطاولة هاسَّة :
- شكلك نسيتي ان ده بيتي كمان يا ست حكمت اينعم اتجوزت زمان وبعدت عن هنا قد ما اقدر عشان مفضلش اتعامل معاكي بس أنا لسه بنت عيلة الصاوي، والظلم اللي كنتي بتعمليه عليا وعلى والدتي ربنا يرحمها هتدفعي تمنه وانتي بتشوفي أحفادك بيعرفو حقيقتك وبيبعدو عنك ساعتها هنشوف اذا عندك القدرة تحافظي على سلطتك ولا لا.
أنهت جملتها وهي تنهض عن الطاولة وتغادر القاعة تاركة حكمت تتلضى بنار الغضب من المرأة التي كانت مجرد طفلة باكية في الماضي، وظلت تفكر في سبب ثقة حليمة الزائدة بنفسها مؤكد بأنها لن تهددها بهذه الشجاعة إلا لو كان لديها ورقة رابحة بيديها ولكن ماهي ؟
وهل توجد لديها نقطة ضعف أساسا حتى تأتِ حليمة وتستغلها ؟!
" أنا عايز اسألك يا ستي حضرتك بتعرفي واحدة اسمها فردوس ... فردوس سليمان ؟"
طرأت ذكرى سؤال حفيدها ببالها بغتة فاِتسعت عيناها بتحفز وتساءلت، هل يعقل أن حليمة علمت بخصوص تساؤله عن هوية هذا الاسم وتنوي إخباره عن زوجة والده الثانية ! كيف غفلت هي عن ذلك الموضوع ولم تبحث وراءه.
حسنا لقد شكَّت حكمت يومها في كيفية حصول آدم على اسم تلك المرأة وكانت ستبحث خلفه لولا انشغالها في أمور عدة حالت دون ذلك ثم أرجحت في الأخير أن تعرف حفيدها على الاسم محض صدفة مروان عليه
اذا هل حقا تريد حليمة أن تكشف لحفيديها قصة زواج سلطان في الماضي ولكن ماذا ستستفيد.
قبضت حكمت على عكازها وهي تزفر أنفاسها ثم همست :
- أنا لسه مش متأكدة من الموضوع ده بس لو كان حقيقي يبقى حليمة عندها حاجة تانية غير قصة الجواز ناوية تستغلها.
**
من الناحية الأخرى صعدت نيجار إلى الغرفة ودلفت بهدوء فوجدت آدم واقفا ويتحدث مع أحد ما حول شيء يخص العمل وحين رآها تراجع عن المتابعة وأخره أنهما سيواصلان النقاش في الغد ثم أغلق الخط.
انزعجت قليلا لأنه دائما ما يتجنب التكلم عن أشياء خاصة أمامها كالعمل وغيره وكأنها ستركض لتنقل أخباره إلى العامة لكنها آثرت تجاهل فعلته وذهبت للخزانة لتخرج غرضا ما وأظهرته له مبتسمة :
- بص انا جبتلك ايه معايا.
نظر آدم لها وهي تحمل قميصا باللون النبيتي بينما تتابع :
- شوفته في محل وحسيته هيليق عليك اوي.
- انا مطلبتش منك تجيبيلي حاجة.
- ايوة عارفة أنا اللي فكرت لوحدي خد جربه.
هتفت نيجار بحماس وهي تقترب لتجعله يقيس القميص فأوقفها الآخر والتقطه من يدها مغمغما :
- شكرا هبقى اقيسه بعدين.
وضعه في الخزانة فاِنقلبت ملامح نيجار إلى غيظ وعبوس ووصفته بالجلافة بداخلها لأنه أبدى رفضا واضحا لهديتها أما آدم فحمحم وأشار للكيس الموضوع على المنضدة ثم قال :
- وأنا كمان جبتلك حاجة معايا.
- ليا أنا ؟
سألته بدهشة وهرعت للكيس تقلب مافيه ببهجة طفلة صغيرة وسرعان ماشهقت وهي تخرج علبة هاتف مرددة :
- ايه ده ! بجد ده ليا.
هرش ذقنه مومئا بإيجاب ففتحت فمها بعدم تصديق ثم شرعت تفتح العلبة وتخرج منها الهاتف لتهتف :
- بس ليه اقصد انت بنفسك كسرتلي تلفوني ازاي جبتلي واحد جديد.
- عشان متقعديش تتصلي بيا من تلفونات الناس كل ما تحتاجيني مرة من عند عمتي ومرة من عند الشغالة وكمان علشان لو حصل ظرف معين اقدر اتواصل معاكي.
أجابها ببساطة مطالعا ذهولها البائن وأضاف :
- مالك عامله زي كده محبيتهوش ؟
أفاقت نيجار وضحكت بفرحة موضحة :
- طبعا حبيته بس مكنتش متوقعة علشان كده تفاجأت شويا متشكرة على الهدية.
- ديه مش هدية انا جبته للزوم بس.
سارع آدم شمبرطما كمن ينفي عن نفسه تهمة شائنة ثم تابع بحزم :
- وكمان أنا جبت خط جديد ورقمي بس اللي هيتسجل عليه يعني مش عايز اشوف اي رقم تاني او تتواصلي مع حد غيري مفهوم !
هزت نيجار رأسها بموافقة وعادت تنظر للهاتف الجديد بمزاج رائق جعله يعلق عليها ساخرا :
- بتتصرفي كأن عمرك ماشوفتي واحد زيه.
- متنساس انه بقالي خمس شهور من غير موبايل كنوع من العقاب اللي بيطبقوه على تلاميذ المدارس يعني معايا حق.
ردَّت بامتعاض ثم ابتسمت بمكر مكملة :
- بس اهو النهارده كسبت تلفون جديد وبكره هرجع اكسب قلبك.
حدّجها باِستهجان من ثقتها الزائدة ووقاحتها لكنه لم يحبذ التعليق حتى لا تعيد طرح نفس الموضوع مجددا وهذا ماجعله يصمت.
_______________
بعد مرور يومين.
كانت واقفة في شرفة الطابق الثاني تنظر إلى الأسفل بشرود حتى رن هاتفها ففتحت الخط وقالت بغموض :
- ايه الاخبار ؟
أجابها الطرف الآخر :
- احنا عملنا زي حضرتك ما طلبتي ودورنا على اسم فردوس سليمان وعرفنا انها نقلت للبلد ده من حوالي سنتين.
- نقلت للبلد هنا ؟ انت متأكد !!
- أيوة يا ست هانم احنا لقينا سجلات بـ اسمها في مشفى **** بس في حاجة تانية أهم وهتصدم حضرتك ... فردوس سليمان اتوفت من فترة.
ذُهلت حكمت لوهلة وهي تدرك بأن المرأة التي سعت لإبعادها عن ابنها منذ سنوات عادت إلى القرية وهي مريضة وماتت أيضا ! تلجلجت قليلا لكنها صمتت مستمعة لمساعدها الذي صدمها مجددا مخبرا إياها بأن فردوس لها ابن شاب كان يعتني بها طوال هذه المدة لكنهم مازالوا لم يستطيعوا الوصول إلى اسمه الكامل فأنهت حكمت المكالمة وتشدقت بخفوت :
- أنا مش مستوعبة يعني فردوس كان عندها ولد طيب مين ابوه هي اتجوزت تاني من بعد ابني ؟
وليه رجعت للقرية أصلا ايه اللي هيخليها ترجع وأنا مسمعتش بوجودها من قبل ليه !!
في نفس الوقت كانت حليمة تحاول التواصل مع مراد الذي يستمر في رفض اتصالاتها وحين كادت تستسلم اليوم أيضا تفاجأت بفتح الخط وصوت رجولي خشن يردد :
- مين معايا ؟
ابتسمت بلهفة وعرفته عن نفسها فورا :
- أنا عمتك حليمة ... وصلت لرقمك وبقالي فترة بحاول اكلمك بس مكنتش بترد عليا وأنا قلقت عليك.
زفر بنفور عند إدراكه لهويتها وقال :
- نعم حضرتك عايزة ايه.
- قولتلك اني قلقت وكنت عاوزة اطمن عليك بردو ... وعلى مامتك.
وكأنها صبّت الملح على جرحه المتقرح !
ارتجفت شفتي مراد بحدة واِنفعال وطفقت آلامه تستعر في داخله ليهدر بخشونة :
- سؤالك جه متأخر اوي ياريتك سألتي قبل كام سنة من دلوقتي.
- مش فاهمة قصدك ايه.
- قصدي ان أمي اتوفت يا حليمة هانم ومبقاش في داعي للقلق علينا خالص ... فـلو سمحتِ ممترجعيش تتصلي بيا تاني عشان تستغليني في حربك مع مرات أبوكِ كفاية انكم خدتو كل حاجة من ايديا.
برطم بجرح وقهر وأنهى المكالمة لتبقى حليمة واقفة بصدمة وسرعان ما التمعت عيناها بالدموع مستوعبة بأن هذا الشاب المسكين الذي خاض الكثير من أجل والدته هاقد خسرها هي أيضا وأصبح وحيدا يتجرع مرارة اليُتم.
عضت على باطن شفتها بدموع قهر تحولت إلى غضب فانتفضت واقفة وهرعت لتلك العجوز سيدة الشر وحين رأتها صاحت مجلجلة :
- كام قلب لسه هتحرقيه يا حكمت كام واحد لسه هتأذيه !!
استرعى صراخها انتباه نيجار وأم محمود اللتين وقفتا في منتصف الفناء تنظران للأعلى بتوجس، أما حكمت فمالت شفتها بسخرية ونظرت اليها بشماتة معقبة :
- خير في ايه مالك عامله زي اللي كان مخطط لحاجة وخطته فشلت ولا اللي بفكر فيه طلع صحيح وانهيارك ده عنده علاقة مع ... فردوس ؟!
________________
انتهى دوامها الجامعي فغادرت المدرج هي وصديقاتها لتقول إحداهن مقترحة :
- بقالنا زمان مشغولين بالدراسة ومطلعناش مع بعض فَ ايه رايكم نروح النهارده ونتغدا سوا.
أومأت الفتيات بموافقة إلا واحدة منهن التزمت الصمت فنظرت لها رفيقتها بامتعاض :
- استني يا ليلى انا بعرف الوش ده كويس هتقوليلنا مش جاية معاكو صح.
ابتسمت بخفوت وأجابتها وهُنَّ يتجهن لخارج الحرم الجامعي :
- معلش ياجماعة بس انتو عارفين ان الامتحانات النهائية قربت ولازم اذاكرلها كويس.
- ع أساس احنا معندناش امتحانات يا دحيحة الدفعة ... ولا صحيح مش كلنا عندنا أخ زي اللي عندك بيذاكرلك ويساعدك في الواجبات وبياخد باله عليكي طبعا هتحبي الدراسة غصب عنك.
- عندك حق انتو فاكرين لما جه مرة عشان ياخدها واحنا شوفناه يالهوي بيجنن أنا كنت هعمل أي حاجة لو عندي زيه أصلا كنت حاطة عينيا عليه بس خسارة انه اتجوز.
امتعضت صديقة أخرى ثم ضحكت مع البقية لتشاركهن ليلى الضحك وهي تفكر بِما ستفعله نيجار إذا سمعت الفتيات تغازلن زوجها ربما ستشهد الجامعة على أول حادثة قصِّ ألسنة ارتكبتها امرأة مجنونة في حق الطالبات.
وصلت للخارج ولفَّت بعينيها في المكان حتى رأت محمد جالسا داخل السيارة وينتظرها وبمجرد وقوع نظره عليها سارع في النزول وهنا سمعت همسة من الصديقة وهي تقول بخفوت :
- بصو يابنات حتى السواق مش بطال والله ليلى دايما بتقع وهي واقفة.
اختفت ابتسامتها وحلَّ مكانها التجهم فودعتهن وذهبت لتركب متجاهلة النظر لوجه محمد الذي استغرب من حالتها لكنه تجاهل الأمر وانطلق يسوق بسرعة متوسطة، جزت على أسنانها بغيظ من بروده وتأففت بصوت عالٍ فطالعها من خلال المرآة الأمامية وسألها بصوت جاد :
- في حاجة يا هانم ؟
تهكمت بحنق منه بشكل أقرب للسخرية :
- مفيش أنا كويسة.
كتفت يديها ونظرت من زجاج النافذة معتقدة بأنه سوف يُلح عليها بالسؤال لكن على العكس تماما فإن محمد هز كتفاه ببساطة وعاد للتركيز في الطريق أمامه فرمقته ليلى باِستنكار من بروده وجلافته وقبضت على ظهر المقعد الجالس عليه هادرة بغيظ :
- عندك مناسبة ولا موعد هتروحله النهارده ؟
- نعم ؟
- أنا شايفاك متأنق وحالق دقنك فقولت يمكن رايح تقابل حد مهم.
أجابته بضيق وغيرة لم تكن مقتنعة من كونها مخفية عنه.
اقتحمت بسمة دخيلة وجه محمد وشعر بالإطراء من مديحها غير المباشر ولسبب ما أسعده أن يكون في مظهر جميل أمامها ثم حمحم مستعيدا جديته وتشدق بعملية :
- مدير المكتب اللي بشتغل فيه هيزورنا النهارده ومظهرنا لازم يكون أنيق ومناسب عشان سمعة المكان.
لانت ليلى قليلا بعد ردِّه وهمهمت بتفهم متسائلة :
- طب مش المفروض تبقى قاعد في المكتب دلوقتي امتى هتلحق توصلني للبيت وترجع لشغلك ياريت لو خدت اجازة من ابيه آدم.
- متقلقيش المكتب اللي بشتغل فيه قريب من سرايا الصاوي مش هاخد وقت طويل على ما اوصل واقابله ... والله أعلم بس احتمال كمان اني اخد ترقية واترفع.
- ايه ده بجد يبقى أنا هدعي عشان تاخدها لأنك اكتر واحد بيستاهلها كفاية اخلاصك وجهودك الكبيرة ديه.
دعت له ليلى بصدق محدقة فيه ببسمة جعلت محمد يبادلها إياها وهو ينظر إليها من المرآة فتقابلت أعينهما للحظات قصيرة شغوفة قبل أن يعود كل واحد منهما لمكانه ويلتزما الصمت.
بعد فترة أوقفها أمام بوابة السرايا الخارجية فنزلت بعدما همست له برقة :
- بالتوفيق.
بادلها تحية ليِّنة وانطلق مسرعا بينما توقفت ليلى مطالعة السيارة الأخرى التي تقدمت منها وترجل آدم الذي سألها وهو يراها واقفة :
- انتي خلصتي دوامك بسرعة كده ؟
- ها ايوة لأن المحاضرة الأخيرة اتلغت.
اجابته حامدو ربها في سرها لأن شقيقها لم يرها وهي تبتسم لمحمد ثم دلفا سويا وسمعا جلبة من الأعلى ليتوجس آدم ويصعد سريها فتتبعه ليلى كي تعرف ما الذي يجري وحين وصلا إلى مكان العمة والجدة سألهما هذا الأخير بخشونة :
- في ايه النهارده كمان ؟
أجفلت حكمت من وجوده وحذرتها بعينيه من البوح بشيء لكن الأخرى رمقتها بتحدي ثم أجابت سؤاله بسؤال ثانٍ :
- كويس انكم جيتو في الوقت المناسب عشان تعرفو ايه اللي بيحصل ... مش انت بقالك فترة بتحاول تعرف مين فردوس سليمان وموصلتش لنتيجة ؟
تأهَّب بذهول ونقل نظراته بينهما بينما كزت حكمت على اسنانها محذرة :
- حليمة !
لم تكترث لها وتابعت بتصميم :
- أنا هقولك مين ديه ... بقصد هقولكم انتو الاتنين.
كانت تقصد بجملتها ليلى التي وقفت تستمع لهم من دون فهم ولم تجد سوى أن تتبعهم وهي تأخذهما إلى غرفتها لتقتحم حكمت الغرفة أيضا فاِستهزأت بها حليمة وقالت :
- تعالي انتي كمان لان في حاجة تانية مبتعرفيهاش.
تأفف آدم بصبر نافذ وصاح بصلابة :
- ممكن تبطلو ألغاز وتتكلمي في ايه حضرتك ازاي عرفتي اني بدور على هوية فردوس سليمان وبتعرفي الست ديه منين أصلا !
- انا هبدأ احكيلكم من الاول وعارفة انكم هتنصدمو بس هي ديه الحقيقة اللي الكل مخبيها عنكو ومتعلقة بوالدكم الله يرحمه ... وقت انت كنت لسه طفل صغير يا آدم ومن قبل ما ليلى تنولد اخويا سلطان اتجوز على والدتكم.
انتفض الإثنان ونضى اللون من وجه ليلى التي عجزت عن النطق لثوانٍ قبل أن تصرخ بكلمات مرتجفة :
- انتي بتقولي ايه بابا مين اللي اتجوز على ماما ده مش حقيقي.
رمقتها بتعاطف مرير ونقلت نظراتها إلى آدم الذي وقف بتصلُّب مستقبلا الصدمة برد فعل أقل انفعالا لتتابع هي :
- مع الأسف ده حقيقي ... اتجوز واحدة من المدينة في السر وعاش معاها كام شهر من غير ما حد يعرف لحد ما الموضوع اتكشف ع ايد جدتكم.
هزت رأسها نافية ودموعها تهبط مثل الشلال، كانت بالكاد تستطيع الوقوف بعد كمِّ المفاجأت النازلة عليها ومعرفة أن والدها العزيز قد أحبَّ امرأة غير والدتها وتزوجها أيضا.
تنهدت حليمة وتشدقت بصوت متهدج :
- ولما أمكم عرفت بمسألة الجواز كانت هتطلق بس حكمت منعتها وقالتلها ان الست ديه مجرد نزوة وهتخلصهم منها وفعلا هي خلت ابوكم يطلق مراته التانية عشان ميخربش بيته لكن في الحقيقة حكمت هانم فضتها لأنها مش من مستوانا وسألتش هتروح فين ولا هتعمل ايه وهي لوحدها.
بس القصة مخلصتش لحد هنا لأن اللي محدش كان بيعرفه حتى ابوكم وجدتكم هي أن الست ديه بعد طلاقها عرفت أنها حامل.
هذه المرة الصدمة قد نالتهم ثلاثتهم وليس اثنان فقط !!
انتفضت حكمت مصعوقة وهدرت نافية :
- مفيش منه الكلام ده انتي بتكدبي هي مكنتش حامل.
مسح آدم على وجهه من هول الصدمة وأحس بالكون يدور به إلا أنه زفر بعضا من أجيج أنفاسه مذكرا نفسه بضرورة التماسك واستمع لعمته وهي تناطحها بغضب :
- لا كانت حامل وخبت علينا لأنها خافت ع الواد اللي في بطنها وأنا لسه عارفة الموضوع ده من كام يوم بس واتصدمت بنفس صدمتكم دلوقتي لما عرفت أن طول المدة ديه كان عندنا 3 أحفاد مش اتنين وواحد منهم اتربى زي اليتيم في الفقر والتعب والمرض وكبر وهو حاقد على عيلته اللي دمرت حياة أمه.
عجزت قدما ليلى عن الوقوف أكثر فوقعت جالسة على الأريكة خلفها أما آدم فقد تسمـُر كالمنوم يزدجر لهول الحقيقة ويرزح تحت وطأة الصدمة والإدراك وربط عدة أحداث ببعضها قبل أن يستعيد لسانه قدرته على النطق ويقترب من حليمة هامسا بتحشرج :
- الست اللي كان متجوزها ديه ... يعني مرات أبونا ... اسمها فردوس سليمان ؟
هطلت الدموع من عينيها وأماءت بنعم فتأوه بألم واحتشدت أنفاسه بداخله من التلبد الذي ألمَّ به عقله بغتة واستطرد بخفوت كمن يخاف من سماع الاجابة :
- والولد ده يبقى ...
عجز عن إكمال السؤال إلا أنها فهمته فهمت رأسها تقتله بالحقيقة الأشد قسوة :
- ايوة هو نفسه اللي بتفكر فيه ... مراد بيبقى ابن فردوس وأخوك انت !!