رواية نيران الغجرية الفصل الحادي والثلاثون31والثاني والثلاثون32بقلم فاطمة أحمد


 رواية نيران الغجرية الفصل الحادي والثلاثون31والثاني والثلاثون32بقلم فاطمة أحمد


الفصل الواحد والثلاثون : غيرة ليست في محلها.
____________
يقولون إحذر من عدوك مرة ، و إحذر من صديقك ألف مرة.
نعم إنك لن تتألم ، ولن تتأثر لو هاجمك الأعداء، بل لو تآمروا عليك، لو خانوك، لو تحالفوا مع من هم أشد عداوة لك !! كل ذلك لن يخرج عن حيز التوقعات، والاستقراءات، والتصورات، لنتائج مثل تلك الحالات !!

لكن الأدهى، والأمّر، بل الأكثر فاجعة، والأشد ألماً، والأدوم أثراً ، هو خيانة القريب، وغدر المؤتمن !! ولذلك يقول المثل ( حرّص ولا تخوّن) !!

و كان عادل هو أكثر عدو خان و تخفى في هيأة إبن ،أخ صالح ، و عم !
لقد مثل لسنوات دور إبن العائلة الطيب ، الذي يقف مع أقربائه ولا يفكر بأذيتهم ، بل ومن ليس مهتما بالثروة و السلطة لأن أخاه الأكبر مستكلف بكل شيء.

غير أنه لا أحد يعلم بما كانت تضمره روحه منذ سنوات ، بالتحديد منذ إستيلاء رأفت على معظم أسهم الشركة و أخذ عمار منصب المدير التنفيذي.
حينها بدأ يفكر بشكل جدي بخطورة عدم إمتلاكه لولد ذكر يقف معه و يسانده و يكون وريثا لملكه.

وجد عادل نفسه ضعيفا لأنه حتى إبنتاه الإثنتان لم تكونا مهتمتان بمجال عمله فكلتاهما درستا في مجال الموضة و الأزياء ولا تفكران بنشاط الصناعة ، ليس مثل رأفت الذي لديه ولد بطول الحائط يسهر على تحقيق النجاح في عمله فيعلو بذلك مركز والده.

كما أن اكبر حصة من الأرباح كانت تنتقل لإبن أخيه كل مرة بصفته مدير تنفيذي و أكبر مستثمر فبفي المشاريع ، و مازاد الطين بلة أنه عندما تم فتح وصية الأب الأكبر كان مكتوبا فيها أن نسبة عالية من الميراث ستنتقل إلى حفيد العائلة و زوجته المستقبلية إضافة لأراض و شقق سيحصل عليها إبن عمار اذا تزوج إبنة من العائلة.

حينها بدأ يفكر جديا في كلام فريال التي صمت أذنيه وهي تتلو عليه فوائد زواج إحدى إبنتيهما من عمار.
و بما أن منال كانت مرتبطة برجل آخر كما أنها لا تتفاهم مع إبن عمها ، وقع نظره على طفلته الصغرى ندى و التي كانت مقربة من عمار بشكل مفرط حتى ظنه يحبها ، و كبرت في عينيه فكرة زواجهما من أجل الحصول على كل تلك الثروة.

إلا أنه كتم رغبته بداخله ولم يفصح عنها لأي أحد خاصة زوجته التي لا تستطيع التوقف عن الثرثرة فوق رأسه ، و إدعى رفضه لهذا الارتباط قائلا بأنه لن يزوج إبنته لرجل لا يرغب بها.
في ذلك الوقت نجح في زرع رجل مخلص له داخل رجال عمار العاملين على خدمته كما وضع جهاز تتبع أسفل سيارته في جزء يصعب الوصول إليه.

و كلف بعض الأشخاص بملاحقة عمار أينما كان بكل حرية لأنه حتى لو أدرك الأخير ان هناك من يلحق فسيتهم والده رأفت مباشرة.
لقد تحرك عادل و نفذ خططه بكل ذكاء و مهارة ، عندما علم بأنه تزوج من امرأة غجرية ثارت أعصابه و أقسم على جعلهما ينفصلان.

فبدأ بجمع المعلومات عن خصوصياتهما و نجح في إقتحام شقتهما عبر الرجل الذي أرسله في هيأة عامل صيانة ، و وضع جهاز تنصت صوتي كما أنه أدرك من تتبع مكالمات هاتف عمار بأنه يضع كاميرات مراقبة يرى بها مريم و أيضا جهاز تتبع و تصنت على هاتفها موصول بهاتفه هو.

فحصل على هاتف عمار الذي تركه يوما على سطح مكتبه في الشركة ، و خرب جميع الأجهزة التي يستطيع بها معرفة نفس مريم الذي تتنفسه.
ثم بدأ بالتجسس عليهما و علم بأسرارهما و مشاجراتهما ، و حينما وصله خبر أن مريم حامل سمم الشكولاطة التي أرسلها عمار مع سليم.

 و بعد فقدان مريم الوعي ذلك اليوم كان يعلم أن سيده سيستعين به ليساعده في نقلها إلى المستشفى فركب السيارة و قال له مدعيا القلق بأنه سيسلك طريقا مختصرا ليصل إلى أقرب مشفى من أجل إنقاذ زوجته.
لم يكن عمار في حالة تسمح له بالجدال فهتف بالإيجاب ، و بالفعل أخذهما سليم إلى المكان الذي خطط له سابقا ...

flash back

( كان عمار ووليد بجوار باب الغرفة التي تقبع فيها مريم وهو يقف أمامهم بحجة تلبية طلباتهم إن احتاجوا لشيء ما.
نظر الى سيده الذي كان جالسا على المقعد يسند مرفقيه إلى ركبتيه وقد جمع يديه معا مغمضا عيناه ويهز قدماه بوتيرة سريعة.
و للصدق لم يبدو على عمار أنه بخير بتاتا ، حالته كانت غريبة خاصة عندما ارتفع نسق أنفاسه و بدأ يهمس بكلمات لم تصل إليه.

لذلك قرر إستغلال الوضع فطلب بأدب من السيد وليد بأن يخرج صديقه ليستنشق بعض الهواء وهو سيظل ينتظر هنا خروج أحدهم من الغرفة ليستفسر عن حالة سيدته. 
وبعد محاولات عدة من وليد رضي الآخر بالخروج لبضع دقائق ، و بقي سليم واقفا يتذكر إتفاقه مع الطبيب الفاسق الذي يملك سوابق و فضائح خلال مسيرته المهنية.

حيث كان الإتفاق بأن يخفي عن عمار سبب الإجهاض الحقيقي ، و بالتالي ستخسر مريم طفلها و تنفر زوجها الذي رفض حملها.
حينها حتى عندما تعود لشقتها برفقته سوف تبقى حاملة البغض إتجاهه ، وهو سيفتعل ما يزيد الفجوة بينهما حتى ينفصلا نهائيا.

فتح باب الغرفة أخيرا و خرج الطبيب الذي سرعان ما اكفهر وجهه و تمتم بحنق :
- ايه ده يا استاذ سليم احنا اتفقنا تجيبلي مريضة تسقط البيبي مش تموت تحت ايدي ، جرعة السم اللي خدتها كانت عالية جدا ولولا تدخلنا في اخر لحظة كانت هتروح من ايدينا و ساعتها مكناش هنعرف نخبي الحقيقة عن جوزها.

تشنج سليم متسائلا بلهفة :
- و هي عامله ايه دلوقتي ؟ زي ما اتفقنا يا دكتور عمار بيه مش هيعرف حاجة عن اللي حصل.

- حالتها مستقرة بس و حصل اللي اتفقنا عليه البيبي اتوفى و الطقم الطبي اللي معايا كلهم تحت سيطرتي من غير ممرضة او اتنين بس متقلقش مش اول مرة اشتغل الشغلانة ديه.

في نفس الوقت ظهر عمار قادما من بعيد يسرع في خطواته على عجل بعد تصرفيه لصديقه الذي لم يرد أن يراه وهو بهذه الحال..
 اقترب من الطبيب مسرعا :
- دكتور انت خلصت طمني مريم عامله ايه هي كويسة ؟

تنحنح الأخير و أخفض رأسه مدعيا شخصية رجل شريف لا يحنث بقسمه الذي قطعه عند بدئه العمل ، ثم تنهد بإستياء مزيف و أخبره بأن زوجته بخير و لكنها أجهضت لعدة أسباب طرحها عليه الطبيب بشكل مقنع لتبدو و كأنها حالة إجهاض طبيعية.

و للأسف لم يكن عمار على علم كبير بالحالات الطبية ليعلم بكذب الآخر ، ولم تكن قوته تكفي للإستفسار أكثر خاصة بعد إصابته بالإرهاق النفسي قبل الجسدي.
فأغمض عيناه زافرا بحدة و اختل توازنه قليلا بعدما استقبل هذا الخبر القاسي بصمت ... ) 

back

أفاق عادل من سكرة شروده و قال مبتسما :
- يومها احنا كنا مخططين نقتل ابن عمار وبس و كفاية مريم اللي هتكره جوزها و تبوظ علاقتها معاه اكتر.
بس اللي مكناش متوقعينه ان الممرضة اللي مبتقدرش تكتم كلمة واحدة في بوقها تروح تعزي مريم و تقعد تمدح في عمار ماهي الغبية كانت فاكرة ان جوز مريضتها عارف بكل حاجة فهي فضلت تمدح وتقولها ازاي هو ماسك نفسه رغم اللي حصل معاهم.

افترت شفتي سليم عن إبتسامة بغيظة وهو يعلق على كلامه :
- الصدفة ديه كانت لمصلحتنا احنا لأن مريم هانم فجأة اتقلبت و بقت تشك في عمار قامت طلعت من الاوضة و هربت ... وانا كنت شايفها ومع ذلك عملت نفسي مش واخد بالي.

همهم و تجعدت ملامحه فجأة هامسا بنقمة :
- انا كنت فاكرها اختفت نهائي ، بس مريم ديه طلعت أقوى من اللي كنا متخيلينه لو اعرف انها هتفضح بنتي ليلة فرحها كنت زودت الجرعة و قتلتها من سنة ونص. 

- يا فندم مع الاسف احنا مبنقدرش نعمل اي خطوة ضدها حاليا لان الناس عيونهم علينا و كمان رأفت بيه عرف ان حضرتك كنت مخطط يحصل تسرب غاز في شقتها عشان تموت و كويس افتكر تصرفك ده رد فعل عشوائي و حل المشكلة ع الساكت.
لو عملنا حاجة تانية هيشك في نيتنا.

جز عادل على أسنانه و أحكم قبضته على سطح المكتب الموضوع عليه عدة أجهزة للتنصت ، لقد كان هو من نال أكبر حصة من الصدمة ليلة ظهورها أمام الجميع ، لم يكن يتخيل حتى في أحلامه أن تقتحم المرأة التي قتل إبنها زفاف صغيرته و تفسده و تفضحهم.

هو لا ينكر أن غضبه و صدمته ذلك اليوم كانا حقيقيان ، صحيح أنه يعلم بزواج عمار مسبقا و يعلم أن رأفت و سعاد اشتركا معه في حفظ السر.
و لكن العصبية و الصراخ عليهم كان بسبب الحال الذي وقعت به العائلة و أيضا لأن خطته أفسدت بالكامل عندما قارب على إتمامها.
غير أنه لم يستطع الإفصاح عن هذا بالطبع لذلك خرجت كلماته على شكل إتهام.

 منذ يوم ظهورها و عادل غاضب و متخوف في نفس الوقت من أن يعرف عمار بما حدث لمريم فيشرع في البحث عن القاتل ، ثم يتصالح معها و يعودا الى بعضهما.
هو لا يعلم لماذا لحد الآن لم تصارحه بشأن حادثة التسمم ، إعتقد في بادئ الأمر أنها ليست متأكدة من هوية المجرم لذلك هي لا تتكلم.

و لكن بعدما استمع إلى حديثها مع صديقتها تأكد من أن مريم تظن في زوجها السوء ، الغبية تقول أنه يدعي البراءة لذلك لن تتكلم بل ستجعله يعترف بنفسه أمامها.

و لماذا سيعترف عمار بشيء لم يقم به أساسا ؟ 

- طيب و بالنسبة لعلاقته مع بنت حضرتك دلوقتي ؟ جوازه منها فرصة كبيرة ليكم.
طرح عليه سليم هذه الفكرة فهمهم عادل بموافقة له ولكنه و نظر بعينيه إلى وجه مساعده مجيبا بهدوء :
- ايوة هو فرصة كبيرة لينا و انا لحد من اسبوع بس كنت مخطط اكمل في جوازة ندى و عمار مهما كان بس بعد اللي حصل لبنتي فهمت اني ضغطت عليها و انها مش عايزاه عشان كده قررت اشيل الفكرة ديه من دماغي.

قضب الآخر حاجبيه بإستفهام :
- و ده مش هيرجع عليك بخسارة ؟ مكتوب في الوصية ان الاراضي و الشقق لعمار و مراته خاصة لو اتجوز واحدة من العيلة. 

ضحك عادل بإستمتاع ثم أدار شاشة الحاسوب إلى مساعده يريه نسخة بالأبيض و الأسود من وصية والده الأب الأكبر لعائلة البحيري. ، و هتف مشيرا إلى سطر لم يكن يأخذه بالحسبان لفترة طويلة :
- اقرا الجملة ديه و الشرط ده بالذات.

أمعن في مطالعتها جيدا و شرع بتهجئة الكلمات التي مفادها ... أن هذه الحصص ستنتقل إلى حفيد العائلة و زوجته في حالة كان رجلا كفؤا ، قياديا يدرك كيف يُسَيِّر أعمال الشركة و له سمعة جيدة في محيط العائلات العريقة.
و أنه إن لم يمتلك هذه الصفات فلن يحصل إلا على ما قسمه القانون بالعدل عليهم ، سواء اذا تزوج من إبنة العائلة أم من غيرها. 

أصدر سليم صوتا يدل على فهمه مقصد سيده بينما حدد عادل خطته الآتية :
- دلوقتي احنا نركز على هدفنا الجاي ... احنا هنبعد مريم عن اي طريقة للتفاهم مع عمار و هنساعدها بشكل غير مباشر عشان تأذيه و فنفس الوقت وجودها جمبه وهي بتخطط ضده هتخلي عمار مش مركز في شغله و انت عارف يا سليم ان مجلس الادارة مبيرحمش اي حد بيقصر في شغله حتى لو كان المدير التنفيذي اللي تعب و سهر ع مشاريع ضخمة و اداهم ارباح ضخمة ... يعني عمار لازم ينطرد من كرسي المدير و اخد انا مكانه.

و هذا ما سوف يسعى إليه في الأيام القادمة ، سيستغل كره مريم لصالحه و ينتزع من عمار ما له حق هو فيه ، يكفيه ما أخذه رأفت منه لن يسمح لولده بفعل نفس الشيء ، ولن يمنعه أي سبب عن فعل ذلك.
حتى لو ، كان عادل يحب عمار و يعتبره بمثابة إبن له !

_______________
بعد يومين.

كانت قابعة في غرفتها تطالع نفسها في المرآة وهي جالسة على المقعد مقابلة إياها ، في جو صامت لا يقطعه سوى صوت والدتها الجالسة على الاريكة وهي تدردش من حين لآخر.
تنهدت بإرهاق تساير خبيرة العناية بالشعر التي طلبتها منال رفقة خبيرة التجميل على أساس أنها أحضرتهما من أجلها هي بما أنها ستستعد لسهرة ليلية مع نساء الطبقة المخملية. 

لتقترح والدتها على ندى أن تخضع هي أيضا لجلسة مع الخبيرة لعل مزاجها يتحسن قليلا.
فلم تجد سببا للرفض لذلك جلست بإستسلام تراقب محاولات أمها و شقيقتها و هما تحاولان بشتى الطرق إظهار لطفهما كوسيلة لتعويضها على ضغطهما عليها طوال الفترة الماضية. 

ابتسمت بفتور وهي تسمع فريال تهتف بتساؤل :
- انتي متأكدة انك مش عايزة تروحي مع منال تحضري سهرتهم هتغيري جو.

نفت ندى وهي تشم خصلة من شعرها المغذى بمستحضرات تم إستورادها من أجل نساء عائلة البحيري :
- لا يا مامي أنا حاسة بتعب ومش عايزة اخرج من البيت.

تنهدت الأخيرة بيأس منها و نهضت مغادرة غرفتها ، و بمجرد فتحها الباب تصادمت مع عمار الذي كان يرفع يده إستعدادا للطرق ، فحملقت به فريال و قالت بفتور :
- عمار خير في ايه.

انتفضت ندى الجالسة بالداخل تزامنا مع سماع إسمه فتوقفت عما كانت تفعله و أرهفت السمع له وهو يردد بصوته الرخيم :
- عايز اتكلم مع ندى شويا لو سمحتي.

اكفهرت ملامحها بإمتعاض و قبل انا تناديها قامت إبنتها بنفسها و خرجت إليه ، نظرت له بهدوء فبادر هو بالسؤال :
- عاملة ايه دلوقتي. 

هزت كتفيها مجيبة ببساطة :
- Like what you see with your eyes ( مثل ما تراه بعينيك ).

 عمار يود الإطمئنان عليها و التحدث معها بخصوص موضوع معين ، و لكنه أدرك أن التكلم هنا غير ممكن بوجود كل هذه الأعين المتطفلة فتنحنح و رسم إبتسامة لطيفة على وجهه مقترحا  :
- ايه رايك نخرج برا منه نغير جو و منه نقدر نتكلم اكتر براحتنا. 

أشرقت ملامحها التعيسة و لمعت عيناها بسرور ولكنها طمست هذا الوجه المبتسم ببلاهة ، و إدعت الحمحمة بقصد إظهار نبرة مبحوحة :
- الصراحة انا حاسة نفسي تعبانة شويا.

هز رأسه بتفهم و استدار ليغادر لكنها توقفت مستطردة :
- تعبانة بس فنفس الوقت حاسة بالزهق و عايزة اخرج ... و مفيش غيرك اقترح عليا اروح معاه لمكان غيرك ف مش هعرف افوت الفرصة ديه من ايدي. 

حدجتها فريال بذهول و استنكار وهي ترى إبنتها تدعي عدم إهتمام أحد بها غيره ، لقد نبت الشعر على لسانها محاولة إقناعها بالخروج مع شقيقتها و لكنها رفضت بإستمامة معللة التعب و الإرهاق أما الآن فقد أشرق وجهها مرحبة بفكرة التسكع مع عمار. 

زفرت بعدم رضا و لكن ندى لم تهتم وهي تستمع إلى عمار الذي إقترب منها مقترحا :
- متأكدة انك بتقدري تجي معايا لو مش قادرة عادي.

نفت برأسها مجيبة عليه  :
- It's okay ... انت موجود عشان تاخد بالك مني. 

افترت شفتاه عن ابتسامة لبقة و أخبرها بأنه سينتظرها لحين تتجهز ، و بمجرد ذهابه التفتت ندى إلى الخادمة التي كانت واقفة على الجانب منذ البداية ثم أخبرتها بأن تنادي منال.
و عندما جاءت شقيقتها و دلفت لحجرة تبديل الملابس الواسعة ،  تفاجأت بها تبعثر في فساتينها و أحذيتها وقد ذهب خمولها بالكامل و استعادت نشاطها المعروف.

رفعت حاجبيها بتعجب و تساءلت :
- في ايه يا ندى ايه سر الحماس ده مش كنتي رافضة تروحي معايا.

- انا مش جاية معاكي.
هتفت بهذا ثم حملقت بها غامزة :
- عمار عرض عليا اطلع معاه.

تفاجأت منال بها و انزعجت و لكن ندى لم تبالي بل أخرجت كل أثوابها الجديدة و عرضتهم عليهم هاتفة :
- عايزة لبس مناسب يطلعني حلوة و جميلة بس في نفس الوقت مش Over و لسه كمان هعمل شعري و الميكاب هياخد وقتي.

تضايقت الأخرى اكثر وكادت تعترض إلا أن والدتها دلفت و أشارت لها بعينيها أن تصمت ، فندى ليست في حالة جيدة هذه الفترة لذلك ليس من المناسب أن تجادلها خاصة وقد أخرجها عمار من حالتها الكئيبة بعرضه هذا بعدما كانت معتكفة في غرفتها ترفض التجاوب معهم. 

بعد ساعة نزلت ندى وهي ترتدي فستانا قصيرا ذو أكمام باللون الزهري ، قصير يبرز ساقيها البيضاويتان و متسع من جهة الصدر مع انتفاخ طفيف من الأسفل ، و اختارت معه حذاء ابيض ذو كعب غير مبالغ به و لم تنسَ تسريحة شعرها مع زينة خفيفة. 

توقفت أمام عمار الذي وصلته رسالة تفيد بأنه تم قبول مريم في الشركة و ستعين كمتدربة في قسم الترجمة الذي يقبع تحت رئاسة يوسف.
تنحنح عندما انتبه لوجودها و ابتسم بود قطعته سعاد التي حضرت و سألتهما بتجهم :
- انتو خارجين مع بعض ولا ايه.

تجاهلتها ندى التي لم تتكلم معها منذ تلك الليلة بعدما كشفت أنها كانت تعرف بزواج عمار و التزمت الصمت.
فإستكلف الآخر بإجابتها لتشهق ندى بخفة متمتمة :
- انا نسيت تلفوني في الاوضة هطلع اجيبه. 

راقبتها سعاد وهي تبتعد ثم التفت الى إبن زوجها هامسة بإنزعاج :
- انت واخدها ورايحين فين يا عمار مش شايف الجو بينكم متوتر ازاي و هتقول ايه ل ابوها لما يعرف.

- انا بعت ميسيج لعمي و قولتله محتاج اكلمها و اعتذر منها يعني احنا طالعين نصفي حساباتنا و نقفل موضوعنا نهائي مش اكتر يا سعاد هانم. 

تنهدت بإمتعاض ثم نظرت له و استطردت :
- طيب انت كويس ... شايفاك مضايق في ايه. 

اكفهرت ملامحه و تخضبت بتهكم ليرد عليها :
- طول ما جوزك بيعمل حاجات من ورا ظهري و بيتحكم في حياتي و الناس اللي تخصني مش هبقى كويس.
- ليه كده.
- مش هو شغل مريم عندنا في الشركة اهي اتقبلت و هتجي تنورنا قريبا. 

انقلبت أسارير سعاد بخنق وقد عجزت هي أيضا عن فهم تصرفات زوجها ، تحول فجأة من كاره لتلك الفتاة إلى آخر يدبر لها عملا عنده و يمنع أي محاولات لثنيه.
حتى عادل الذي من المفترض أن يكون أكبر معترض لهذا الأمر وافق بل و شجع أخاه على ذلك ! 

لمحت ندى آتية فربتت على كتف عمار و ابتسمت له بحنان :
- كل حاجة هتتحسن يا حبيبي متتعبش نفسك بالتفكير. 

رد لها إبتسامة ثم اتجه الى ندى التي سارعت تغلغل يدها ممسكة بذراعه و غادرا القصر ...

_______________

بعد تلقيها لرسالة عبر بريدها الالكتروني من شركة البحيري تعلن على أنه تم قبولها كمتدربة في قسم الترجمة ، شرعت في البحث عن المعلومات العامة للشركة و القسم الذي انضمت إليه بالذات.
و لم تنكر انبهارها وهي تقرأ المقالات الإيجابية و المادحة من طرف شركات كثيرة قد تعاملت معها من قبل.
و كان اسم عمار رأفت البحيري مع المتصدرين في قائمة أكثر المدراء التنفيذيين نجاحا وقد حصل على جوائز كثيرة في عدة احتفالات مؤكدا بذلك على أن شركة البحيري للصناعة نتعد من أضخم المؤسسات.

لمعت عينا مريم وهي تتخيل أن يدخل اسمها هذه القائمة ذات يوم ، أن تكون ناجحة و يمدح الجميع عملها و يحترمها غير مبال بالطبقة المنتمية لها أو بأصولها الغجرية.
لم تتح لها الحياة تلك الفرصة سابقا ، فلقد منعها عمها من العمل وثم تزوجت عمار الذي حبسها بين جدران شقته ، و لكنها الآن لن تفشل و تستسلم ، بل ستسعى للنجاح في كل ما تريده ، مهما كان الثمن غاليا.

أغلقت مريم الصفحة التي كانت تتابعها و بقيت تتصفح المواقع الأخرى بدون تركيز حتى لمحت عيناها شيئا صدمها.
اعتدلت في جلستها بسرعة وانكبت على الشاشة تطالع صورا حديثة لعمار و ندى منشورة على إحدى الصفحات.
حيث كان الاثنان في قمة أناقتهما و ندى تتأبط ذراعه و تمشي بجواره ، و صورة اخرى توضح جلوسهم في مطعم فاخر ثم أخرى وهي تركب سيارته.

كانا منسجمان للغاية ، عمار بهيأته الراقية دائما و تلك الفتاة بطلة ساحرة تخطف الأنفاس لدرجة أن التعليقات كلها أصبحت تمدحهما و تتنبأ بعودتهما لبعض و إكمال زواجهما ، وفي الحقيقة حتى مريم أُثير الشك بداخلها ! 

تضايقت أنفاسها و اعتصر قلبها و هي تتمعن في صور ندى جيدا ، رباه إنها فاتنة الجمال بل من أكثر النساء جمالا في العالم ، بعيون ملونة بديعة و بشرة بيضاء و شعر حريري أشقر إضافة لمقتنياتها الثمينة من ملابس و اكسسوارات تجعل المرء ينبهر بذوقها في اختيار ما يناسبها.
و ما أحرق روح مريم أكثر ، هو حقيقة أنه ليس بغريب أن يكون عمار قد فُتن بجمال إبنة عمه التي تعيش معه تحت نفس السقف و تقضي أوقاتها معه ..

و لكن كان ثمن هذا الإفتتان غاليا ، فلقد خانها مع ندى في الوقت الذي كانت فيه مريم تتلضى على نيران اللوعة متوسلة حبه ، و يبدو أن ما فعلته لم يجدي نفعا فها هو عمار يكرر جولاته مع الأميرة المدللة بينما يرفض منحها الطلاق ، و هي لا تفهم هل يرفض تطليقها فقط لكي لا يمنحها التعويضات المالية التي تريدها أم أن هناك شيئا آخر !!

و في دواخل نقطة صغيرة جدا من قلب مريم ، وبينما كانت غارقة في غمرة شرودها ، لم تتبين أن الضيق الذي أصابها لم يكن سوى بسبب الغيرة و ليس الحقد بعد الخيانة ...
و حتى أنها لم تلاحظ بأنها كانت تتمنى لو تحصل على نصف اهتمامه الذي يمنحه لندى بدون حساب
و أن يكون رفضه للطلاق ليس فقط لكي لا يمنحها التعويضات المالية التي تريدها ، بل بسبب شيء آخر ، حب مثلا ! 


الفصل الثاني والثلاثون : بين الحب و الهوس.
________________ 
أسدل الليل ستاره ... وارتمى القمر في أحضان السماء يبثها حديث الشوق والحنين ...

وتلألأت نجوم السماء تباهي ساكني الأرض وتحملهم على مجاراتها في العلو واللمعان..

خيم الظلام وبدأت الأفكار تلو الأفكار و تعلو في رؤوس البشر .. حياتهم رتبة يملؤها التزمت .. يحملون الغد والمستقبل وهو لم يأت بعد !!

و منهم تلك التي وقفت على ضفة نهر النيل تراقب بعينيها الخضراوتين أضواء المدينة المنعكسة على مياهه ، بعد تجولها مع ابن عمها الذي أخذها لأحب الأماكن لديها و أدخلها إلى مطعمها المفضل رغم أنه لم يحبه يوما.
 تسربل برموشها و ترسم مشاهد في مخيلتها لعمار وهو يطلب الصفح منها ، ثم يعرض عليها الزواج و السفر بعدها الى مكان بعيد ...
حيث لا وجود للغجرية و قصصها ، حينها يمكن أن تختفي تلك اللمعة التي تظهر في عيني عمار المتوهجتين كلما تم ذكر سيرتها ، فتعيش برفقته ، و تعود ندى البحيري التي تجعل نساء و فتيات طبقتها تشتعلن حقدا و غيرة كلما مرت من جانبهن بخيلائها المعتاد.

تنهدت ندى بحسرة بددها حضور عمار الذي ذهب ليركن سيارته و يعود إليها ، ابتسم لها فبادلته بأخرى منطفئة و عادت تنظر إلى المياه منتظرة ما كان سيقوله لها صباح اليوم.
جاء ببالها عدة تصورات للحديث القادم ، غير أنها لم تكن تتوقع ماهيته حينما بدأ بالكلام في هدوء :
- كنا لسه راجعين انا و انتي من ايطاليا ، يومها اتصل بيا مدير جامعة **** اللي بيبقى صاحب أبويا و عزمني ل graduation party ( حفل التخرج ) ، و هناك انا شوفتها.

ضغطت بأصابعها على باطن يدها بعنف حتى كادت تدمي نفسها ، و رغم شعورها بالعصبية من التكلم عنها إلا أنها لم تستطع منع فضولها من رغبته في اكتشاف تفاصيل تعرف ابن عمها على تلك تلك الغجرية التي دمرت حياتها ، فصمتت و انتظرته أن يكمل.

انتشل عمار نفسه من نشوة الذكرى التي غرق بها حينما زارت خياله بهيأتها البربرية ليتابع :
- مش هكدب عليكي ، أنا اعجبت بمريم و بكل تفصيلة منها و اتجوزتها ، مكنش ينفع العيلة تعرف بجوازي لانها مستحيل تتقبلها علشان كده انا خبيت علاقتنا ، و بعدين عرفت انها حامل. 

نجح في الحياز على كامل انتباهها لتنظر اليه بدهشة لم تخفيها و تشدقت بتفاجؤ :
- حامل ! 

- في اليوم اللي انتي قربتي مني فيه و بوسنا بعض.
تمتم بهدوء وهو يلاحظ شحوبها فأكمل قبل أن تظن بأنه يلومها :
- مريم اتصلت بيا بعدها بفترة وانا مردتش عليها و رجع البواب اتصل بيا و قال انه سمع مراتي بتصوت و تعيط ، روحتلها جري عشان اعرف ايه اللي حصل و في الاخر لقيتها غرقانة في دمها ، مريم سقطت.

شهقت ندى بخفة و وضعت يدها على فمها بمجرد تخيل ما حدث ، رغم كرهها الكبير للمرأة إلا أن لا أحد يستحق أن يعيش ألم موت طفله.
خاصة عمار الذي وجدته يغلق عيناه بقوة و أنفاسه تتسارع كمن يعيش ذلك الألم مرة أخرى ، و صمتت بينما يردف بصوت متهدج :
- لما وديتها للمستشفى و عرفتها باللي حصل اتفاجأت بأنها اختفت ... قلبت المكان و انا بدور عليها بس ملقتهاش كلفت رجالتي يدورو عليها و للصدفة كل طريق بيوصلني لمكان كان بيتقفل فجأة في وشي لحد ما استسلمت و اتقبلت غيابها ، و غيبتها استمرت سنة ونص و رجعت ظهرت تاني و الباقي انتي عارفاه كويس.

ها هي اللمعة التي تتوهج في زيتونيته كلما تكلم عنها تظهر مجددا الآن ، إستطاعت ملاحظتها ببراعة رغم أن عمار يحاول إخفاء تأثره بذكرها ، ترى مالذي فعلته تلك البربرية لتجعل رجلا مثل عمار يقع في شباكها هكذا.
رغم أنها فضحته ، افترت عليه و أطلقت الإشاعات و شوهت سمعته هو و عائلته ، و لكنه ما زال يغرق في نشوة إسمها حتى ! 

عضت ندى على شفتيها و ظهر البريق هذه المرة في عينيها هي ، إلا أنه كان بعيدا عن الحب تماما فالشعور الذي تعيشه الآن هو الحقد و الكره فقط.
 لذلك وجهت نظرتها إلى مياه النيل منطلقة لبث كلماتها الساخرة :
- مفيش واحدة عندها عزة نفس تقبل تتجوز واحد في السر بس طبعا مريم طمعت في فلوسك و شهرتك علشان كده وافقت ، و رجعت هربت منك بعدين ظهرت و فضحتك و فضحتني ، و يا عالم مع مين كانت عشان ترجع بالقوة ديه كلها.

كان مقصدها واضحا لعديم العقل حتى ، فهي تلمح لهروب مريم مع رجل ما أعاد صقلها و تدريبها لكي تعوة راغبة في الأموال.
لذلك أغمض عمار عيناه محاولا السيطرة على أعصابه التي يفقدها كلما مرت هذه الخاطرة على باله ، و لم يعلق على ندى لأنه يعلم بالعواقب الوخيمة اذا ما تعمق معها في هذا الموضوع. 

نفثت ندى أنفاسها ثم تشدقت بروية :
- طيب انت ليه جت و طلبت ايدي. 

- بعد مريم ماهربت و انا اتقبلت غيابها ، بدأت سعاد هانم تزن عليا عشان انساها و اكمل حياتي مع ست تليق بيا ، و رشحتك انتي بما انك كنتي أقرب واحدة ليا و حتى تيتا ربنا يرحمها قالتلي نفس الكلام ، ساعتها انا بدأت افكر في الموضوع لأنك بالفعل بتناسبيني من ناحية كل حاجة.
و  بعد اللي حصل بيننا كنت حاسس بالذنب اتجاهك و كمان مريم كده كده مش مبينة ... عشان كده طلبت ايدك للجواز.

تأوهت ندى بألم و انسابت دموعها المعبرة عن حالتها المؤسفة ، لتهمس بتحشرح وهي تتمنى لو ينكر ما ستقوله :
- يعني انت محبتنيش و اتجوزتني واجب وخلاص ... معقول مقدرتش تحبني ولو شويا.

انتفض عمار و اقترب منها يضم وجهها بين كفيه هاتفا بصدق :
- انا بحبك يا ندى ... غنتي من أعز الناس لقلبي اكتر واحدة بتفهميني و بتخففي عني بس انا مش هقدر أحبك غير كصديقة وبس.

شهقت بلوعة و همهمت غارقة في بكائها :
- مادام ديه كانت مشاعرك ليا ليه خدعتني و خبيت عني الحقيقة ، ليه حطيتني في موضع الغبية و لعبت بمشاعري انا بسببك و بسبب مراتك اتفضحت ومبقتش قادرة ابص في وش الناس ليه.
عمار You ruined my life ( أنت دمرت حياتي ) انت مستوعب ! 

هز رأسه بأسف و الندم يقطر منه :
- صدقيني مكنتش عايز الوضع يوصل بيننا لكده كل حاجة حصلت غصب عني مكنتش اتمنى تنزل دمعة من عنيكي بسببي يا ندى ...
انا حاولت اكتر من مرة احكيلك على مريم بس رأفت بيه و سعاد بيه كانو بيمنعوني في كل مرة حتى يوم الفرح كنت هوقف كل حاجة عشان مش هقدر اعيشك في كدبة بس رجع أبويا منعني ... متوقعتش يحصل اللي حصل انا اسف. 

نفضت ندى يديه و ضربته بقبضتها على صدره بغضب مرير :
- و هيفيدني ب ايه Your apology يا عمار ! انت ضحكت عليا و الحقيقة ديه مش هتتغير دلوقتي حياة كل واحد منكم هتتصلح و انا هفضل العروس الغبية اللي اتفضحت ليلة فرحها محدش هيرضى بيا ولا حد هيحترمني زي الاول و انت ...
انت بعد كام يوم هسمع انك رجعت لمريم بعد ما فضحتك و فضحت عيلتك هتسامحها ع اللي عملته في بنت عمك ياللي بتقول انها اعز الناس لقلبك و انا شايفة ده كويس لان رغم كل عمايلها انت لسه ساكت و معملتش حاجة !

زفر عمار الهواء بعصبية حادة و بدأ وجهه في التعرق بشكل جعلها ترتاب قليلا إلا أنها ظلت تتابعه وهو يدلك عنقه بيده المرتجفة حتى استدار اليها و هتف بحرارة :
- مش هقدر اعمل حاجة لمريم وانا مش فاهم اصلا سبب اللي بتعمله ده ، في اسرار مخبية عني وكل لما اوصل لباب يفهمني بيرجع يتقفل في وشي مباشرة.

ندى انا مش هتخلى عنك هفضل معاكي بس بصفتي ابن عمك وبس ، عارف اني غلطت في حقك كتير و دمرت اللي كان بيننا بس والله العظيم لو عرفت ان ده اللي هيحصل صدقيني مكنتش هخبي عليكي قصة مريم ابدا ، حقك متسامحنيش بس على الاقل لازم تعرفي انك ... انك مميزة جدا في حياتي.
- مميزة بس انت مبتحبنيش. 

رطب عمار شفتاه و عاد يمسك وجهها بين يديه هامسا بصوته الرجولي الرخيم :
- انتي بتستاهلي واحد احسن مني ، راجل بيحبك  لنفسك ومستعد يعمل كل حاجة علشانك و يحققلك اللي تتمنيه ، راجل طيب زيك و معندوش مشاكل في حياته و في ماض ...

قطع كلماته التي انجرفت بغير وعي منه و استعاد نفسه سريعا مستطردا :
- بتستحقي راجل مفيش في قلبه و عقله غيرك و متأكد هتلاقيه. 

ختم جملته بإبتسامة باهتة ثم جذب رأسها لصدره و لف ذراعه حولها يضمها وقد شعر بحمل ثقيل ينزاح من على ظهره بعد شرح كل ما كان يعتريه اتجاهها.
و في قرارة نفسه يدرك أنه جرحها و لكن هذا الجرح سيعيدها إلى رشدها ، و كم تمنى أن تفهم كلامه و تستمر في حياتها ...

غير أن ندى لم تكن لديها نية للفهم أبدا !!

________________
بعد إنتهاء مشوارهما و إيصالها إلى القصر ، بقي جالسا في سيارته مع سجائره يدخن و زيتونيتاه تنظران إلى الزجاج الأمامي بشرود.
فكرة أن مريم ستدخل لمكان عمله بعد يومين ، و تعمل بجانبه مثل أي موظف عادي و كأن شيئا لم يحدث تصيبه بالجنون.

لو يعرف فقط سبب قوتها هذه و كيف أرضخت والده و عمه سيكون ممتنا حقا ، خير له من الوقوف مثل الأحمق يشاهد حركاتها المستفزة دون أن يكون قادرا على فعل شيء ! 

جز عمار على أسنانه بغيظ ليشغل سيارته و ينطلق نحو وجهة معينة ، وصل بعد فترة إلى البناية فترجل منها و صعد على لشقته.
فتح الباب وولج بخطوات هادئة وهو يمرر بصره في المكان. 

و للغرابة كانت أبواب جميع الغرف مفتوحة على مصراعيها ، و الأضواء مشتعلة و النوافذ مواربة رغم البرد الذي يتسلل منها.
ثم وجدها مستلقية على أريكة واسعة في المكتبة خاصتها ، تحتضن كتابا بيد و اليد الأخرى تمسك بهاتفها ، و عيناها مغمضتين بسلام. 

ابتسم عمار بيأس عليها ، من يراها الآن نائمة في هدوء بقميصها الأحمر و شعرها المجعد المنسدل حولها ، لا يصدق كونها أكثر امرأة مخادعة و مفترية في العالم كله ، ولا أنها هي نفسها من تتحدى عائلة كبيرة و تهددها بالإنتقام ، مريم عبد الرحمن ، إبنة الغجر اللعينة. 
أفاق من شروده و أطل عليها من فوق ليلمح اسم الكتاب الذي بحوزتها ، ليسحبه بطرف أصابعه بحذر ثم وضع الكتاب جانبا و نهض يغلق النافذة.
 و عندما رفع الغطاء و كاد يضعه على مريم وقعت يده على ذراع الأخيرة ففتحت عينيها و انتفضت شاهقة بقوة لتعود الى الخلف و تضع يدها على صدرها ...

طالعها عمار بذهول تبدد عندما تذكر أن مريم لديها رهاب من اللمس وهي نائمة ، حيث أنها لا تستيقظ على أي صوت مهما كان علوه ولكنها بمجرد لمسة طفيفة عليها وهي نائمة بمفردها ، يجف الدم في عروقها فتنهض مرتعبة. 
ضغط على أسنانه بضيق من نفسه و هدأ من روعها هاتفا :
- اهدي متخافيش ده انا. 

رمقته بشزر من خلف خصلات شعرها المشعثة و لفت بصرها في المكان محاولة كسب الوقت لإخفاء الرجفة من صوتها ، ثم تمتمت بنزق :
- انت ايه اللي جابك هنا. 

رفع حاجباه ساخرا من سؤال الفتاة التي كانت في الماضي تقفز عليه محتضنة إياه بجنون عندما تراه ، ثم حك ذقنه و أجابها ببرود :
- جت اشوف اذا في افتراء جديد ناوية تطلعيه عليا ... على الاقل ابقى عارف يعني لما ادخل للسوشيال ميديا و الاقي الدنيا مقلوبة عليا. 

كانت سخريته واضحة لمريم فعضت على شفتها بغيظ ثم التقطت هاتفها و عبثت به قليلا لتضعه أمام وجهه مبتسمة :
- والله مفيش داعي اعمل اي حاجة انت قايم بالواجب وزيادة. 

نظر عمار إلى حيث تشير و تفاجأ لرؤية صوره مع ندى من توجلهما اليوم ، في الحقيقة هو لم يكن متفاجئا من الصور نفسها لأنه تعود على إهتمام الإعلام بعائلته منذ القدم و لكن ما سبب دهشته هو الكلام المكتوب أعلى صورهما.
فالبعض يقول أن عمار و ندى البحيري تصالحا و سيعودان لإكمال زواجهما بعد تخطيهما للفضيحة و البعض يتساءل عن سبب وجودهما سويا و الأخر يكتب كلماته بكل ثقة عن تحديد تاريخ زواجهما القادم بعدما فشلت خطط الأعداء في إفساد علاقتهما.

و كانت الدهشة العظمى من نصيب مريم التي أدارت شاشة الهاتف لعينيها ف اتضحت لها عن طريق الصدفة صورا جديدة تم نشرها منذ قليل ، عمار و ندى على ضفة النيل يعانقان بعضهما بلوعة تحت ضوء القمر في مشهد رومانسي بحت.
ضغطت أصابعها على شاشة الهاتف تنظر للصور بعفرتة وهي تشعر بشياطينيها تحوم حولها ، تلبسها الجنون و فارت دماؤها وهي ترى أن كل ما تفعله لم يكن ذو جدوى فهاهو الوغد لا يتأذى بما تفعله بل يستمر في حب تلك المدللة و قضاء الوقت معها ، سحقا !

و لكن رغم كل ما يعتريها الآن ، لم توضح مريم ماهية مشاعرها ، و اختارت رسم الجمود على وجهها لكي لا يعلم بأنها تضايقت.
إلا أن عمار إدعى عدم الاهتمام مرددا :
- الكلام اللي زي ده احنا اتعودنا عليه خلاص و مبقاش يهمنا ، يومين تلاتة و الناس هتتشغل في قصة غيرنا.

" تقصد انك اتعودت على خيانتك و قذارتك " ، ابتلعت مريم كلماتها في داخلها و لم تحبذ نطقها ليصل إلى مسامعه ، فهي تعلم وهو أيضا يعلم جيدا بأن هذه الصور خير دليل على علاقته العاطفية مع ندى.
ليس حاليا فقط بل منذ سنين عندما كانا سويا و كانت مريم ترى صوره معها فتكذب نفسها وهي تقول بأنهما مجرد صديقان ، حتى اكتشفت الحقيقة ذلك اليوم ...

شهقت للهواء عندما أدركت بأنها بدأت تنجرف في سيل ذكرياتها المريرة ثم حمحمت و رفعت رأسها إليه ، حدقت فيه و هتفت مغيرة الموضوع :
- مقولتليش سبب الزيارة الكريمة ؟ 

لمعت عيناه بمكر حينما طرأت له فكرة نسبية عن إحتمال شعورها بالغيرة عليه ، و لكنه رد بهدوء :
- انا عرفت انك اتقبلتي كمتدربة في Translation Department ( قسم الترجمة ) في شركتنا ... جت اباركلك و اتمنالك الحظ السعيد.

لم تعلق عليه فأقبل عليها عمار بقامته و شرع يركز عيناه على خاصتها ، ثم انتقلت إلى شفتيها و بعدها شعرها ، و انتهى الأمر به يطالع جسدها الملتحف في قميص نوم خفيف فتوجست مريم منه و تراجعت إلى الخلف بنفور تلقائي. 

تنهد الأخير و عاد يركز في عينيها يستطرد بصوته المتهدج :
- بصي انا مش عارف ازاي نجحتي في انك تدخلي شركة البحيري ... و صحيح لسه مش عارف انتي كنتي فين و مع مين وليه بتعملي كده.
بس عايز اقولك مادام قدرتي تبقي متدربة في شركتنا من غير واسطة ... و مادام المسؤولين شافو ال  C.V بتاعك و قبلوه يبقى انتي فعلا عندك قدرات و فرص توديكي للنجاح.
علشان كده انا بنصحك تشيلي اي نوايا سيئة من دماغك و تستغلي الفرصة ديه عشان تنجحي و تحققي مرادك.

كل سنة بيتم اختيار 10 متدربين من أصل 80 و كلهم ملفاتهم بتشرف يعني اعتبري نفسك محظوظة عشان اتقبلتي و تعملي كل اللي تقدري عليه عشان تبقي موظفة رسمية في الشركة ، بمعنى لو عندك نية غير الشغل شيليها دلوقتي يا اما اسحبي ملفك لاني انا اول واحد هيقفلك لو فكرتي تعملي غلط واحد بس ... انتي فاهمة !

أنهى كلماته وهو يطرق بأصابعه على وجنتها بخفة مبتسما لها فإحتدت عيناها بغضب منه ولكن قبل أن يتسنى لها الصراخ عليه وجدته يتحرك و يغادر الشقة ، لهثت مريم أنفاسها بحنق و قالت :
- طبعا انا دخلت الشركة علشان اشتغل و انجح ... بس كمان عشان اخليك تخسر في نفس الوقت ! 

________________
صباح اليوم التالي.
نزل عمار إلى طاولة الإفطار و وجد العائلة متجمعة ، ألقى تحية الصباح و جلس بهدوء بعدما لاحظ أن وجوههم مكفهرة بضيق فإستطاع توقع السبب ليتنهد و هو قول :
- بما انكم مضايقين و ساكتين كده يبقى احتمال تكونو سمعتو بصوري انا و ندى اللي نزلت امبارح بليل و قريتو الاشاعات علينا. 

وضعت منال الشوكة جانب الصحن و نظرت له مجيبة :
- ايوة شوفنا و سمعنا و الاتصالات مش راضية توقف من الصبح و الكل بيسأل اذا كلام رجوعك انت و ندى صح ولا لأ ... احنا لينا حق نضايق يا عمار ، Isn't that right  ؟

ارتكزت العيون عليهما منتظرين تعليقه على كلامها و معرفة إن كانت تلك الإشاعات صحيحة أم كاذبة. 
فرطب عمار شفتاه و إحساس الدوار يعاوده ، ثم زفر ووضع كوب العصير لينظر إليهم متشدقا بصوت مرتفع وواثق :
-انا عارف ان الصور و الكلام ده ازعجكم جدا و مش بلومكم لان حقكم بس انا و ندى امبارح خرجنا عشان نقدر نتكلم براحتنا و نحل المشاكل اللي بيننا. 
و فعلا انا شرحتلها كل اللي حصل و اعتذرتلها و اتمنيتلها حياة سعيدة مع راجل يستاهلها و هي وافقت على كلامي و اتفهمته و الموضوع اتقفل ع كده.
و الصور اللي نزلت ديه اخدوها من وقت ماكنت بتكلم معاها بس الكلام اللي عليها مش حقيقي يا جماعة و انا حضنتها بحسن نية مش اكتر. 

ضيق عادل على قبضته و رفع رأسه يحدجه بلهجة حادة :
- حسن النية ديه كانت قبل ما تخبي علينا جوازك و تخطبها بس بعد اللي حصل بينكم مبقاش ينفع تقربو من بعض كده.
انا وافقت امبارح على خروجتكم يمكن حالة ندى تتحسن بس ده مش معناه ترجع تلعب ببنتي تاني خلاص انت رفضت تكمل الجوازة و هي كمان يبقى خلاص مش عايزكم تحتكو ببعض تاني.

و مع الأسف لم يستطع رأفت معارضة كلمات أخيه المحقة في كل شيء فهز رأسه بتأييد مضيفا :
- اللي بتقوله صحيح مفيش داعي تظهرو مع بعض تاني لان كلام الناس هيكتر عليكم.

استمر النقاش حول هذا الأمر و ندى تلتزم الصمت كعادتها في الآونة الأخيرة ، من يراها يظنها مستسلمة حزينة بسبب الأخبار التي انتشرت عنها و لكن شخص وحيد لم تستطع خداعه.
فبعدما أنهت فطورها و استأذنت تصعد إلى غرفتها ، فاجأتها منال تطرق الباب و تدلف بملامح منزعجة لتسألها بتعجب :
- في ايه ؟ 

ردت عليها مباشرة :
- انتي اللي عملتي كده صح ، انتي خليتيهم يصوروكي مع عمار و يطلعو الاشاعات ديه.

تفاجأت ندى ف إستدارت تدعي الانشغال بهاتفها متحدثة بإضطراب طفيف :
- مفيش الكلام ده ، This is nonsense.

- متنكريش لاني سمعت امبارح قبل ما تخرجي مع عمار و انتي بتكلمي صحفي من جريدة *** و بتتفقي معاه ع موضوع معين وبعدها بكام ساعة تطلع شائعات عليكي انتي و عمار .... و للمفاجأة اللي عمل كده هو نفسه ال Journalist اللي حضرتك كنتي بتكلميه !

لم تعلق عليها ندى و اكتفت بالضغط على أصابعها في توتر و عصبية ، فدنت منال منها  و وضعت يدها على كتفها تلفها إليها ، متحدثة بنبرة حاولت جعلها لينة قدر الإمكان :
-  حبيبتي ... يا روحي انتي ليه عملتي كده مش قولتي مش عايزاه في حياتك طيب ليه عملتي الحركة ديه. 

سالت دمعة من عينها مسحتها سريعا وهي تتشدق بصوت متحشرج :
- انا عملت اللي كان لازم يتعمل من زمان يا منال ... مستحيل اسمح لعمار يرجع لمريم تاني عشان كده هعمل كل حاجة تسبب سوء تفاهم بينهم.

تصاعدت وتيرة أنفاسها بغضب من أفكارها تلك فوبختها بحدة :
- و انتي مالك بيه يا ندى مش كنتي بتقولي عمار خدعني و كدب عليا ومش عايزاه اومال لما اخيرا ماما و بابا اقتنعو اشمعنا اتعلقتي بيه تاني .... هو مش ليكي افهمي ابن عمك بيحب المتخلفة اللي اسمها مريم وده واضح جدا و الا ....

قاطعتها الأخيرة بصراخ مجنون وهي تدفع شقيقتها و تكلمها بهذه الطريقة لأول مرة :
- مش بيهمني عمار بيحب مين المهم انا بحبه يا منال و صدقيني هخليه يرجعلي ... هرجعه ليا تاني لانه من حقي أنا وبس !
________________
في شركة البحيري للصناعة.
كان في مكتبه يتحدث مع مساعده بخصوص التحديثات التي طرأت على نظام العمل حتى سأل:
- التجهيزات خلصت في Translation Department ( قسم الترجمة ) ؟ 
- أيوة يا يوسف بيه فاضل بس نستقبل المتدربين الجدد.

اومأ برضا و شدد عليه بحرص :
- انا مش عايز تفصيل صغير ناقص لازم تبقى كل حاجة كاملة عشان نقدر نشتغل كويس معاهم مفهوم. 

هز رأسه بإحترام :
- ايوة يا فندم متقلقش. 

إبتسم يوسف و نظر إلى ملفات المتدربين ليسمع طرق الباب ثم دلف وليد. 
ف التف إلى مساعده و سمح له بالخروج قائلا :
 - you can leave.

بعد خروجه اقترب منه وليد و هتف بتساؤل :
- ال preparations خلصت ولا لسه.

- فاضل حاجة بسيطة. 

ابتسم وليد و ربت على كتفه مدمدما :
- انا شايف ان القسم ردت فيه الروح من لما استلمته انت و بدأت الشغل فيه برافو عليك يا چو.

شكره بلباقة ثم استدرك :
- عمار فين انا مشفتوش من يومين مجاش للشغل النهارده ؟
- لا هو هنا احنا لسه مخلصين الميتنج بس فضل قاعد مع عمي رأفت و عمي عادل عشان المراجعة ... صحيح انت سمعت اخر الاخبار ولا لسه.

تجهم يوسف و اكفهرت ملامحه :
- ايوة سمعت ... و شوفت صور عمار و ندى.

ألقى بطرف عينه على صورة مريم في ملفها المرصوص مع بقية الملفات ليجد نفسه يهمس بإستياء :
- اكيد هي زعلت.

******

دلف عادل إلى غرفة مكتبه و جلس بضيق و انزعاج من نتيجة الإجتماع ، لقد جاء عملاء جدد و قدموا عرضا كبيرا للشركة سيزيد من أرباحها اذا نجح.
بالطبع هو لم يغضب من هذا فعادل أكثر من يود النجاح ، و لكنه وجد نفسه غير مرئي للجميع.

كل الأعضاء كانوا مهتمين بالتعاقد مع عمار نفسه و مدحه بعمله و تفانيه ، لقد توقع بعدما انخفضت أسهم الشركة و بدأ مجلس الإدارة بالشكوى من انخفاض أداء المدير التنفيذي بأن سمعته و مركزه لن يعود كما في السابق.
إلا أن عمار أحرز هدفا في المرمى مجددا و استطاع بشكل ما إعادة إعتباره.
لذلك يجب على مريم الدخول الى الشركة في أسرع وقت و استغلال كرهها ضد إبن أخيه جيدا حتى يتسنى له الوصول لهدفه.

أفاق من تفكيره على رنين هاتفه فإعتدل في جلسته و أجاب بحذر :
- ايوة يا سليم في ايه.

رد عليه الطرف الاخر :
- اسف يا فندم على ازعاج حضرتك بس الموضوع ضروري ... انا عرفت ان عمار بيه اتفق مع ناس يركبو كاميرات مراقبة في شقته تاني ... و كمان يركب  GPS في تلفون مراته علشان يقدر يتجسس عليها و يعرف اللي مخبياه ... و ده مش فمصلحتنا يا عادل بيه.

همهم عادل بهدوء و رفع رأسه لفوق مفكرا لثوان قبل أن يبتسم بمكر و يهتف :
- مادام عايز يتجسس على مراته و احنا عارفين التجسس عيب يبقى لازم نوقفه.

صمت قليلا ثم استطرد بتهكم :
- جه وقت مريم تعرف ان جوزها كان بيتجسس عليها في الشقة بتاعتها.

تعليقات