رواية نيران الغجرية الفصل السابع والعشرون27 والثامن والعشرون28بقلم فاطمة أحمد


 رواية نيران الغجرية الفصل السابع والعشرون27 والثامن والعشرون28بقلم فاطمة أحمد
الفصل السابع والعشرون : صفقة للحفاظ على السر.
_____________________
" قالت لي أمي ذات مرة : كل إمرأة تخسر الحياة لأجل رجل ، تستحق أن تموت وحيدة "  ليتني إمراة عادية

داخل قاعة الإجتماعات التابعة للشركة. 
أنهى توقيع آخر ورقة و أعطاها إلى مساعدته التي كانت تسجل ملاحظاته ثم إستأذنته بإحترام و غادرت ، ثم أدار رأسه ناحية رفيقه هاتفا :
- انت سرحت في ايه تاني يا يوسف.

إستفاق من شروده اللحظي على تساؤل وليد فإبتسم بإقتضاب مجيبا :
- ، No thing , انا صدعت شويا بس. 

اومأ بتفهم ثم استدرك قائلا :
- احنا لازم نضاعف مجهوداتنا الفترة ديه انت شوفت ازاي الفضيحة أثرت على الشغل و تعامل الزباين معانا ، المسؤولية زادت علينا خاصة ان بابا سافر و بقى مدير لفرع تاني و مع الاسف عمار و عمي رأفت وعادل بيه مشغولين في مشاكلهم وانا مش هقدر اضغط عليهم اكتر. 

همهم يوسف بخفوت ثم بلل شفته يجهز نفسه لطرح سؤال لطالما شغل باله :
- هي مرات عمار ليه عملت كل ده و ليه عيلة البحيري ساكتة و معملتش اي رد فعل. 

جفل وليد و ناظره بحيرة مشابهة فحتى هو لم يستفق بعد من صدمة تلك الليلة ، أن يتحول الزفاف إلى مأتم في غضون دقائق و تتحول الفرحة لفضيحة فذلك لم يتخيله حتى في أحلامه. 
ولكنه هز كتفاه مردفا بواقعية :
- معرفش السبب بالضبط بس انا شوفت حالة عمار وهو بيدور على مريم كان عامل زي المجنون دخل في قوقعة و قفل ع نفسه لشهور طويلة.
و اللي قدرت افهمه من خلال حالته و مريم غايبة ... انه كان بيحبها او على الاقل مهتم بيها ، ف انه تظهر مريم يوم فرحه و تفتري عليه ده بيخليني افكر انها جاية تنتقم عشان قرر يتجوز او عايزة فلوس منه و اول ما يديها اللي عايزاه هتمشي.

و بالنسبة لعيلة البحيري لو كنت بعرفها ولو شويا فهي أكيد مش ساكتة عشان خايفة من بنت قادرين يقضو عليها في دقيقة ، بس بظن رأفت بيه ماسك الطرف الحيادي و قرر يدي الفرصة لمريم تطلع تفتري و تكدب وتعمل اللي عايزاه و لما تخلص كل الأسلحة اللي في ايدها يتحرك هو.

- يعني ممكن يؤذوها ؟ 
هتف يوسف بلهفة مفاجئة استرعت حفيظة وليد و جعلته يستغرب منه لكن الأخير بادر بتصليح الوضع بعدما أدرك ردة فعله المبالغ بها :
- لو مريم اتأذت او حصلها اي حاجة اول واحد هيشكو فيه هو عمار صح ، و ده هيخلي الناس تصدق الكلام اللي بيطلع عليه فده مش من مصلحتهم اساسا.

ثم بلل يوسف شفتيه و أضاف مدعيا الحيادية :
- و كمان البنت ديه مش هي اللي افترت عليه بالعكس هي ساكتة من ساعة اللي حصل بس الاعلام و الناس في السوشيال ميديا شغالين يضخمو في الأمور مش كده. 

- والله سواء هي اللي بتطلع الافتراءات او لأ بس هي السبب الرئيسي فيها يعني في الحالتين مش هتنفذ من عيلة البحيري و من السيد عادل على وجه الخصوص.
هتف وليد ببساطة وهو يقلب في إحدى الملفات ثم إستطرد :
- سيبك من سيرتها و خلينا مع الورق اللي قدامنا ده ... مجلس الادارة قدم شكاوي بسبب غياب المدير التنفيذي بيقولو انهم متضايقين لان الصفقة اللي كان بيشتغل عليها عمار التغت و ده أثر عليهم كلهم خصوصا انه غايب بقاله فترة. 

إنتبه يوسف و أولى كل تركيزه إلى حديث الآخر فقال :
- بس هما عارفين باللي حصل و ان عمار عنده Difficult conditions منعته من انه يتواصل معاهم وبعدين دول اسبوعين بس و ديه اول مرة عمار يغيب ايه اللي خلاهم يشتكو كده. 

إبتسم ساخرا و علق بنبرة أقرب للتهكم :
- عايزين يستغلو الوضع و يوقعوه عشان تجي فرصة لواحد منهم يتولى منصب المدير التنفيذي مكانه ... ما صدقو مسكو غلط على عمار رغم انه مقصرش في شغله ابدا قبل كده. 
- احنا لازم نلاقي حل بسرعة للمشكلة ديه لان لو الوضع استمر كده هنخسر اكتر. 
___________________

توقفت سيارته الحديثة أمام المبنى المقصود ، هرع السائق ليفتح له الباب ثم إنزاح جانبا تاركا سيد عمله يطالع العمارة و بتعبير أدق كان يحيد بمقلتيه نحو طابق معين دون سواه. 
حدج الأخير السائق و قال بلهجة متصلبة :
- انت خليك هنا ، و انتو تعالو ورايا. 

خاطب حارسَيْهِ ثم عدل ياقة سترته و خطى بقدميه بإتجاه المبنى بعدما أبعدا البواب عن الطريق ، و بعد دقائق قصيرة كان يخرج من المصعد الكهربائي قاصدا الشقة إلا أن الحارس الذي يربص أمام عتبة الباب إعترضه هاتفا :
- ممكن اعرف مين حضرتك يا فندم ممنوع ... 

قاطعه بهدوء حاد :
- انا اللي الباشا بتاعك معيشك بفلوسي ولو مبعدتش عن طريقي حالا هخرب بيتك. 

تلجلج الحارس قليلا و أنبأته حواسه أن الذي يقف أمامه شخص ذو مركز مهم ، و على الأغلب هو فرد من عائلة البحيري و لكنه رغم ذلك رد بصوت هادئ : 
- يا فندم عمار بيه مانع ...

أوقفه عن كلامه صوت فتح باب الشقة لتخرج مريم منه ، تحولت الأبصار ناحيتها بينما رفعت هي حاجبها بإستخفاف بعدما سيطرت على ملامح الدهشة المرسومة على وجهها ، مطالعة الزائر الجديد :
- رأفت بيه ؟ أهلا وسهلا.

نظرت إلى الحارس قائلة باِبتسامة :
- ده والد عمار بيه و بيقدر يدخل اكيد ابنه اللي باعته اصلا .... اتفضل.

مط رأفت شفته وهو يحدجها بإزدراء قاصدا التقليل منها إلا أن الأخيرة ظلت على برودها ، بل و أفسحت الطريق له ليدخل.
تمتمت مريم وقد دعته للجلوس :
- اتفضل حضرتك تشرب ايه.
- انا مش جاي اشرب حاجة من عندك.

رفعت حاجبيها مستمتعة بهذا الموقف فقالت :
- امم يبقى اكيد انت جعان بص انا عاملة غدا بيجنن هتتبسط لما تدوقه ... عمار كان بيموت على طبخي. 

إحتشد رأفت أنفاسه الغاضبة بداخله و أدرك أنها تحاول أن تتسلى على حساب أعصابه و لكنه لم يكن لديه وقت لألعابها السخيفة فهتف دون مراوغة :
- انتي عايزة ايه ؟

برطمت مريم بإبتسامة سوداء وهي تجلس على الأريكة الواسعة :
- بتقول ادخلي في الموضوع مباشرة يعني. 

- تماما. 
أجابها رأفت وهو يجلس على الأريكة المقابلة لها و تابع :
- اختفيتي لمدة سنة ونص و رجعتي ظهرتي يوم فرح ابني و بوظتيه ، ومكفاكيش اللي عملتيه لأ عماله تنشري انتي و صحابك كلام كاذب عليه و على العيلة و مش راضية توقفي تصرفات الشوارع ديه فقوليلي انتي عايزة كام من الاخر عشان اديهولك و تطلعي من حياة ابني ، انا مستعد اديكي المرادي شيك على بياض تكتبي فيه المبلغ اللي انتي عايزاه. 

إختفى الهزل من وجه مريم و ظهر مكانه إنكماش نتج عن جرح قديم ، جرح جلد قلبها منذ زمن بسياط من نار ولم يندمل بعد.
رشقته بنظرات جليدية حملت بداخلها الغضب و الحقد و الشعور بالإهانة ، ثم مالت برأسها نحوه هامسة بنبرة تلميحية :
- اممم عرضك ده عجبني ... كويس و أحسن من الأولاني ... بس قولي العرض ده انت قدمتهولي عشان اخرج من حياة ابنك نفسه ولا ... علشان ميعرفش ان ديه تاني مقابلة لينا بعد اول مرة شوفتك فيها من سنة ونص.

تشجنت قبضة يد رأفت الضاغطة على ساقه وهو يشعر بأعصابه تنفلت ، أصعب شيء كان يتعرض له في هذه اللحظة هو قدرته على تمالك نفسه و عدم إظهار نفسه كشخص خائف من إنكشاف سره ...
و من سوء حظه أن هذا السر لو عرف به ولده عمار الآن و كشف الحقيقة فسيفقده نهائيا ولن ينال فرصة كسبه مدى الحياة ، حقيقة أنه في الوقت الذي كان فيه عمار يبحث فيه عن زوجته كالمجانين كان رأفت يعلم مكانها و أخفى ذلك عنه بكل أنانية !!

و في نفس اللحظة كانا الإثنان يتشاركان نفس الذكرى التي تمتد منذ حوالي سنة ونصف ، و بالضبط بعد شهر من هروب مريم من المستشفى ...

 Flash Back

( في صباح ذلك اليوم المشمس بعد ليلة ممطرة زادتها اِختناقا بجوها البارد و الموحش ، لفت وشاحا حول كتفيها و غادرت المنزل الذي تقطن فيه قبل أن يستيقظ أصحابه ، لتمشي في الشوارع بدون وجهة محددة ...

كانت هيأتها بائسة ، جسدها نحف بشكل ملحوظ و وجهها غادرته علامات الحياة ، وقد توضح ذلك من الهالات السوداء أسفل عينيها و بشرتها الشاحبة و عيناها اللتان تجولان في محجريها بتشتت. 

من يراها يظن أن روحها غادرتها منذ زمن و ماهي سوى جثة لم تُدفن بعد ، و الحال أن مريم كانت كذلك بالفعل ولكن الفرق بينها وبين الأموات انهم مدفونون تحت التراب أما هي فلاتزال فوق الأرض ! 

اِنكمشت مريم حول نفسها تتمسك بوشاحها قبل أن تكمل طريقها وهي تفكر ، مر شهر على هروبها ولا شك أن عمار بحث عنها كالمجنون ...
لم يكن سيبحث عنها كزوجة بالطبع بل كان بصفتها جارية له كما اعتادها دائما ، و بصفتها المرأة التي خانها مع ابنة عمه على سريره و أم الطفل الذي قتله في بطنها دون رحمة ! 

طوال الثلاثون يوما الماضية كانت تتصرف مثل المجانين ، اِنهارت و صرخت و حطمت و نزفت و حاولت الإنتحار مرتين لو لم يتم إنقاذها ، في كل مرة تذكرت أن الرجل الذي عشقته لم يكن سوى خائن وقاتل أرادت إزهاق روحها إلا أنها لم تنجح. 

ورغم كل هذا يبقى جزء صغير من قلبها يخبرها أنه ربما يكون عمار مظلوما ، ربما هو بريء مما إتهمته به ، حسنا من الممكن أن يكون قد ضعف للحظات اتجاه ابنة عمه أو ندى نفسها من تقربت منه لأنها هي من كانت في غرفته وليس العكس ، و لكن كيف يستطيع قتل طفله ؟ 

في الفترة التي عاشت فيها مع عمار لم تعهده بهذا القدر من اِنعدام الشفقة ، كان صريحا معها ولم يلتجئ يوما إلى الألاعيب و المؤامرات اذا هل يعقل أن هناك من أرسل لها باِسمه تلك الشوكولا قاصدا تسميمها و قتل جنينها ؟ 
لكن إذا كان هذا حقيقيا فكيف عرف المجرم نوع الشوكولا التي تحبها و من أين عرف شقتها و السؤال الأهم ما مصلحته من أذيتها ! 

شعرت مريم بإختناق أنفاسها فتوقفت عن المشي ووضعت يدها على صدرها موضع قلبها هامسة بيأس :
- عمار ممكن يبقى مظلوم و معملش حاجة ... انا غلطت لما هربت لازم ارجع و اسأله اذا كان عارف باللي حصلي وهو اكيد هيجاوبني ... لا أنا لازم أكلمه دلوقتي.

انتشلت هاتفها الجديد المتواضع من جيبها و شرعت تكتب بأصابع مرتجفة رقم هاتفه الذي تحفظه عن ظهر قلب و قبل أن تضغط على زر الإتصال أحست بحركة خلفها ، ثم بدنو شخص منها حتى أصبحت انفاسه مسموعة بالقرب من أذنها ... 

و كعادتها في آخر فترة فقد تجمدت دماؤها بجسمها و شحب وجهها متخيلة الأسوء ولكنها التفت على أي حال و سرعان ما تراجعت خطوتين إلى الوراء عندما رأت رجلا مألوف الملامح يقف أمامها بملامح خشنة و بجواره رجال ذوي بنيات ضخمة تعادل قسوة وجوههم.

ارتجفت مريم كطير جريح و كادت تفر إلا أن ذلك الشخص أوقفها بكلامه الذي جعل الصدمة تنتشر على محياها :
- متخافيش ... أنا رأفت البحيري والد عمار و جاي اتكلم معاكي بس. 

بعد دقائق كانت تجلس داخل سيارته بملامح متجمدة و أعصاب متشنجة ، وجود أي شخص من طرفه فقط يجعلها على حافة الإنهيار ، و الأهم أنها لا تعلم كيف وجدها هذا الرجل الذي تبدو عليه الهيبة و الوقار ولا ماذا يريد منها بالضبط.
أفاقت من تفكيرها على نبرته الهادئة :
- طبعا انتي اكيد مستغربة انا لقيتك ازاي وجيت ليه.

لم تعلق مريم عليه فتابع رأفت :
- انا عرفت بموضوعك من شهر ... و ان ابني بقاله سنتين متجوزك و هربتي من المشفى بعد ما سقطتي ... و صراحة عمار هو اللي طلب مني ادور معاه على مكانك.

شهقت للهواء و أحست بثقل غريب يطبق على صدرها فيخنقها ، و بيديها ترتعشان وهي تدمدم :
- عمار ... ب ب بيدور عليا ؟
- ايوة ... بصفته راجل خسر ابنه اللي في بطن واحدة ست غلط معاها وانا مضطر دلوقتي اصلح غلطه ف ايوة هو بيدور عليكي.

انتفضت مريم من إهانته لها فإلتفتت اليه تهدر بحدة :
- انا و عمار متجوزين على سنة الله و رسوله هو جه لبيتي و اتقدملي يعني مكنش جايبني من الشارع ! 

ظل رأفت على هدوئه و لم ترمش عيناه حتى ، و في داخله كان يجول بنظره عليها ربما يجد الشيء الذي سحر عمار و جعله يقدم على تصرف أهوج و يخاطر بسمعته و سمعة عائلته.
و صدقا هو لم يجد شيئا مميزا بها و في نفس الوقت لم يرى تفصيلا مشتركا بينها و بين النساء اللواتي صادفهن عمار في حياته. 

بنات الطبقة الراقية كُنَّ ذوات جمال ملفت و ملابس أنيقة تواكب صيحات الموضة و تصرفات راقية تدل على نسبهن ، لم تكن اي واحدة منهن جاهلة بل درسن في مدارس و جامعات خاصة و تعلمن أصول الاتيكيت الذي يناسب طبقات المجتمع الراقي ، و ندى أكبر مثال على ذلك ! 

بينما هذه الفتاة من طبقة متوسطة ترعرعت في قرية غير معروفة ، ذات جمال نوري و شعر طويل مجعد يعبر تماما عن أصولها الغجرية البربربة ، و رغم أن لا ملابسها ولا اكسسواراتها ولا تصرفاتها او عاداتها شبيهة باللواتي يعرفهن ... إلا أن هذه المدعوة مريم كانت تلفت الأنظار بشكل ما ... و لكنها لا تناسبهم !

ولذلك يجب على رأفت فعل ما بوسعه من أجل أن يزيحها عن سكة إبنه غريب الذوق في النساء ، سيصلح خطأ ولده و يجد الأحسن له.
بينما كانت مريم ترمق رأفت بحدة اجتاحتها الغرابة بعدما أدركت انه شارد في شيء يخصها حتما.
 فتنهدت بضيق مضيفة :
- انا عارفة انك مضايق من علاقتي بعمار بس حضرتك كان لازم تكلم ابنك مش تكلمني انا لاني مبقدرش اساعدك في حاجة و بالمناسبة هتبسط اكتر لو مكررتش كلمة غلط معايا ديه عشان كل حاجة بيننا كانت شرعية ... بعد اذنك. 

تحركت تفتح الباب لتخرج بعنفوان وأده رأفت ببرطمته التي أصابتها في مقتل :
- انتي مش اول واحدة دخل معاها عمار في علاقة زي ديه.

تجمدت يدها على مقبض الباب دون اِصدار أي حركة إضافية فأردف بلهجة قاسية و حروف أقسى كادت تسبب لها انشقاقا في قلبها :
- في كتير بنات قبلك و حتى وقت انتي كنتي موجودة في حياته كان عمار بيقضي وقته مع غيرك.

أحست أن قلبها سيخرج من مكانه ، و لفحتها برودة هوجاء جعلت وجهها الشاحب يجمد و صدرها يضيق بشكل خُيِّل للآخر أنها تنازع الموت ، و لكن لم تكن لديه طريقة أخرى لجعلها تبتعد عن عمار الذي لا يدرك حتى الآن مدى فداحة خطئه بالإرتباط منها ، حتى لو كان بالكذب و إطلاق افتراءات لا أساس لها من الصحة على ابنه الوحيد ! 

لذلك استعاد ملامحه القاسية عند تمتمتها بعجز أنه يكذب ، و قال بلهجة شديدة :
- انا مش محتاج اكدب عليكي لو حبيتي تقدري ترجعي و تسألي عمار اذا كلامي صح ولا غلط ... قولتلك انك مش اول بنت في حياته ولو شغلتي دماغك شويا هتفهمي اني بقول الحقيقة ...
عمار زيه زي أي شاب تاني عنده نفس المقومات هو عرف كتير قبلك و بعدك  بس كانو للتسلية و حتى انتي زيهم لكن الفرق الوحيد انك كنتي صعبة المنال شويا علشان كده اضطر يكدب عليكي و اشتراكي من عمك بفلوسه. 

كلمة بعد كلمة رددها رأفت بدون مراعاة أن من تقف أمامه امرأة عاشت طعم الخيانة و الغدر و وجع خسارة الإبن ، و قبل كل شيء كانت انسانة من دم و لحم و ليست آلة بلا مشاعر ! 

راح يلقي عليها اهانته على شكل السرد لها كيف أن ابنه أخبره بأن يبحث عن مريم و يجدها ليس لأنه يحبها بل لأن عشيقته هذه المرة خسرت ابنها في حادثة بشعة و لم تجري عملية اجهاض كما فعن اللواتي دخلن حياته ! 

ثم أخبرها أن عمار لم يهتم أبدا بأن يؤسس عائلة معها فهو يمرح و يتمتع و عندما يمل سيختار واحدة من مجتمعهم ذات نسب عريقة و عائلة معروفة .... و ليس مثلها من الغجر !

و في هذه الأثناء كانت الدموع الصامتة تهطل من عينيها واحدة تلوى الأخرى ، و قلبها ينزف دما بعد أن مزقته أنياب وحوش الخداع و الخيانة و الكذب و الغدر ...
و الحال أن رأفت حطم بكلامه آخر فُتات أمل لها بأن عمار ليس هو من سمَّمها و قتل جنينها بداخل أحشائها ! فذئب بشري مثله لن يتوانى عن القضاء على أي فرصة تسمح بتعكير حياته المدنسة ! 

رمشت بعينيها عندما شعرت بشيء يوضع على كف يدها فهزت حدقتيها و سقطتا على ظرف ثقيل أدركت بمرارة ماهيته.
ثم صوته وهو يهتف :
- ده مبلغ ****** جنيه لو اشتغلتي طول عمرك مش هتعرفي تجمعي مبلغ زيه و انا بوعدك اني هبعتلك كل شهر مبلغ زي ده و اكتر بس بشرط عمار ابني ميعرفش حاجة عن الاتفاق ده انا عايزه بفى ينسى كل اللي عرفهم عشان يتجوز بنت مناسبة ليه ... يعني من الاخر عايزك متدخليش حياتنا تاني. ) 
 Back 

انتفض بحدة ووقف يشرف عليها بغضب :
- انا و انتي اتفقنا كويس على انك متظهريش تاني و خدتي مني ثروة كبيرة مقابل الاتفاق يبقى ليه بوظتي الصفقة اللي كانت بيننا ؟ لو عايزة فلوس اكتر قوليلي وانا اديكي اللي عايزاه بس تبعدي عن ابني. 

ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجه مريم أخفت دمعة احتجزتها بصعوبة بين عينيها بعد مرور شريط ذلك اليوم على ذاكرتها ، ثم وقفت مقابلة له و أردفت بدهاء :
- انت خايف عمار يعرف انك وصلتلي بس سكت و فضلت مخبي عليه صح ... خايف يعرف انك فضحت اسراره قدامي و انك السبب الرئيسي فإني ابعد سنة ونص عنه و بعدها ارجع وانا وناوية انتقم منه. 

جن جنونه و تطايرت الشياطين حوله فقبض رأفت على ذراعي مريم صارخا بعنف :
- و انتي مين علشان تنتقمي اصلا مش شايفة نفسك ولا ايه انتي حته بنت ولا تسوى اكبر غلطة عملها عمار هو انه عمل قيمة لواحدة زيك و بصلك و عشان كده انا بعدتك عنه تعرفي ليه عشان ابني بيستاهل الأحسن منك مش مجرد واحدة بربرية همجية زيك انتي فاهمة ! 

تجمدت مريم مكانها بسبب تهجمه المفاجئ و كلماته المهينة التي ألقاها عليها ، تألمت كرامتها و نزف قلبها ولكنها للمرة التي لا تدري عددها إدعت البرود لتزيح يديه عنها مستطردة :
- كلمة كمان و هخلي ابنك يقف قدامي و احكيله كل حالجة و اتوقع هيصدقني فورا مش عشان بيثق فيا لأ بس علشان هو مبيثقش فيك و بيكرهك .... ده عمار مستخسر يقولك بابا حتى ف اتخيل لما يعرف باللي عملته فيه  هيعمل ايه.

أفلتها رأفت أخيرا و تراجع للخلف وقد انعقد لسانه و عجز عن مجابهتها فلقد اتضح أن هذه المرأة خطيرة حقا و غير متوازنة عقليا لذلك من غير الواضح ما يمكن أن تفعله.
لوهلة أراد لو يخنقها الآن أو يدبر لها حادث سير يقضي عليها نهائيا و لكن الإعلام و الجميع مركزون على عائلته هذه الفترة و فعل شيء مثل هذا من الممكن أن يقضي عليهم حتما.

و من أجل ذلك قرر رأفت أن يسايرها و يعلم ما تخطط له فقال بصلابة :
- الواضح انك عايزة حاجة غير الفلوس قصاد انك تسكتي فقولي من الاخر ايه اللي بتطمحيله .... عايزة عمار ؟ 

تهكمت مريم من تفكيره و كم سخرت من حقيقة أنها في الماضي ذلت نفسها و تنازلت كثيرا حتى جعلت عديم الضمير هذا يظن أنها مازالت تطمح للحصول على الرجل الذي غدر بها أشد الغدر.
و عندما لاحظت ملامح وجه رأفت المنقبضة بإنزعاج من استهزائها تنحنحت و قالت :
- صدقني عمار اخر راجل هفكر فيه انا مش مهتمة بيه ولا بمين هيتجوز ولا أي حاجة لاني على قد ما حبيته زمان بقيت اكرهه و انفر منه ... اللي عايزاه حاجة تانية خالص. 

- ايوة انطقي.
هتف بصبر نافذ وقد بدأ يعتقد أن مريم تسعى لتضييع وقته فقط ولن تقول شيئا مهما غير تراهاتها ، و لكنه خاب عندما تخلت الأخيرة عن هزلها و رسمت الجدية على وجهها ببراعة منقطعة النظير مردفة :
- عايزة الحاجة اللي خدها عمار مني لما اتجوزني و حبسني بين اربع حيطان ... انا نفسي يبقى ليا منصب اقدر اعتمد بيه على نفسي و استغل دراستي فيه ... عايزة اشتغل. 

- تشتغلي ؟ ماشي تمام انا هدبرلك شغل في مكان كويس و ...

قاطعت كلامه وهي تبتسم و تهز اصبعها يمينا وشمالا كدلالة على رفضها لما يقوله :
- تؤ مش في شغل في مكان كويس وخلاص ... عايزة اشتغل في شركتكم ! 

_________________
في نفس الوقت.
كان جالسا في شرفة غرفته يدخن سجارته ببال مشغول حتى أنهاها و دسها بإهمال بين باقي السجائر المستهلكة ، كتم عمار تأوها جراء الألم الذي شعر به في رأسه الآن ثم حاول تجاهله و التركيز في أشياء أخرى ربما ينسى الألم و يتجنب شرب الأدوية لثالث مرة في هذا اليوم.

و فعلا لم يجد شيئا يشتت انتباهه أفضل منها ، تلك الغجرية التي فقدت عقلها و تجاوزت حدود المعقول بتصرفاتها حتى باتت تظن أنها الأقوى و الأذكى ولا أحد يستطيع مجابهتها !! 
فتح جهاز الآيباد و تصفح المواقع التي لم تتوقف عن ذكر عائلته في الأيام الماضية فلاحظ أن هذه الصفحات لم تعد تتحدث عن آل البحيري مثل قبل بل اتجهت الى قضايا أخرى ظهرت و أصبحت " تريند " يتهافت الجميع للثرثرة عنه و مشاركته و الضحك عليه !

و مثلما كان عمار يتوقع فإن الإعلام جدد مواضيعه و انتقل من فضيحة زفافه الى عائلة أخرى عاشت فضيحة سيتحدث الأخير عنها لأيام لا تضيف شيئا لرصيده المهني ، و الناشطون على هذه الصفحات لم يدخروا جهدا بل ساهموا في تضخيم الأمور التافهة التي لا تنفعهم مقدار ذرة مثل العادة.
لكن هذا لا ينكر جهود والده و عمه في سعيهم لإغلاق قضيتهم و عدم الخوض في سيرتهم مما أكد له بأن مريم ستفتعل أي شيء قريبا لإعادة لفت الإنتباه. 

تأفف عمار بخنق وهو يضع الجهاز على المنضدة أمامه مدلكا صدغيه بتعب ، ثم نهض و ارتدى ملابسه و غادر الغرفة ليصطدم بندى بشكل عرضي جعلها تعود الى الخلف بوهن. 
فتقدم منها و رفع يديه يلمسها ولكنه توقف مكانه و اكتفى بالكلام :
- اسف مخدتش بالي ... انتي كويسة. 

ظن أنها ستعبس في وجهه و تلومه بصمت ككل مرة أو تتجاهله و تذهب إلا أن ندى ابتسمت برقة :
- ولا يهمك انا اللي كنت مستعجلة و مخدتش بالي. 

همهم بخفوت ثم تنحنح بتردد قبل أن يحسم أمره و يقول :
- ندى انتي كويسة ... يعني انا كنت عايز اطمن عليكي بس مقدرتش عشان حالتك اخر مرة. 

تذكرت ندى عندما واجهها بعد فضيحة تلك الليلة فإنهارت و صرخت و اتهمته بالكذب و الخداع حتى فقدت وعيها ، أحست بمرارة في حلقها و غصة مؤلمة بقلبها فكادت تجيبه بأنها تعيش أصعب أيام حياتها ... و أنها لن تسامحه على خذلانه لها.
ولكن مر عليها حديث والدتها و أختها عندما أخبرتاها بأنها يجب أن تتصرف بتحضر و تحاول أن تكسب عمار مجددا و تتزوجه ، حتى ان لم يصفى قلبها اتجاهه و لكن يكفيها أن تربط اسمها بإسمه من أجل أن تكسب الحرب التي أشعلتها تلك الغجرية البربرية ...
و من أجل أن تكسب احترامها بين الناس مجددا و يتوقفوا عن السخرية منها !! 

لمعت عيناها و ابتسمت وهي تحدق به :
- انا بخير يعني بحاول ابقى كويسة على الأقل عشان مقلقش عيلتي عليها هي مش ناقصة ... و انت فيك اللي مكفيك. 

تطايرت قسمات الإستغراب على وجه عمار الذي تفاجأ بهدوئها و تفهمها المريب و بذلك القدر أعجبه فهو لم يكن ليتحمل ذنب نظراتها المعاتبة الآن ، تنهد و مد يده يمسك خاصتها برفق متمتما :
- انا عارف انك لسه زعلانة مني و حقك لاني خبيت عليكي موضوع جوازي بس صدقيني انا حاولت اقولك اكتر من مرة بس ...

قطع كلماته عاجزا عن تبرير خطئه في حقها فهو لن ينصفها مهما تعددت كلماته ، ولكنه بلل شفتيه مستطردا بصدق :
- ندى انتي من الأشخاص القليلين اللي قلبي بيعزهم مش عارفة قد ايه انا بحبك و بهتم بوجودك في حياتي ... صدقيني مكنتش عايز الأمور توصل بيننا للنقطة ديه بس في لحظة واحدة كل حاجة طلعت عن سيطرتي و لقيت نفسي كسرت قلبك. 

 أحست ندى بحشرجة في حنجرتها و امتلأت عيناها بالدموع وهي تسترجع قسوة ما عاشته ، إلا أنها لم تتكلم فلو فعلت ذلك لكانت ستحرج عندما تنطق فتظهر الغصة المتحجرة في حلقها.
 أشاحت بوجهها عنه تذرف دموعها فزفر عمار بضيق من نفسه لأنه حطم قلبها الجميل ، و حنق من مريم التي دهست الجميع وهي في طريقها للإنتقام منه. 

رفع أصابعه ليدلك جانبي رأسه و يفكر في كلمات مناسبة يقولها لها ولكن ندى خففت العبء عنه عندما هتفت من تلقاء نفسها :
- بص انا صحيح مصدومة فيك و مقهورة عشان خبيت عليا حقيقة كبيرة زي ديه و ...

كادت تقول " و خنت ثقتي وخسرت حبي " ، ولكنها تراجعت مستطردة :
- بس انا عارفة انك مكنتش قاصد تعيشني الاحساس ده يعني انت طول عمرك بتحاول تسعدني و اكيد مكنتش هترضى تكسر قلبي ... صح ؟ 

هز عمار رأسه بإيجاب فإبتسمت ندى متابعة بكره تسلل الى نبرتها بشكل واضح :
- الست اللي انت متجوزها ... هي اللي قصدت تهينني و تضحك عليا الناس لما جت في يوم فرحي و فضحت قصة جوازك منها ... و هي اللي خططت تدمر عيلتنا مش ذنبك انك اتخدعت فيها و اتجوزت واحدة مش مناسبة ليك.  

و مع الأسف لم يستطع هو الإنكار فكل كلامها صحيح ، مريم قصدت تخريب زفافه على حساب مشاعر العروس و لم تهتم بما ستعانيه جراء تلك الفضيحة ، لم تهتم لأي أحد و اعتبرت الجميع عدوا لها.
لقد ظن عمار أن التي تزوجها هي امرأة رقيقة و بريئة لا تفهم من الخبث شيئا إلا أنه اتضح أنه كان مخطئا في حكمه عليها ...
مريم مثل والدته ما إن تجد بعض الحرية ستسعى للخيانة و الغدر و حياكة المؤامرات !

تنحنح و همهم بكلمات مقتضبة مفادها أنه لديه عمل مهم الآن و سيعاود التكلم معها لاحقا ، ثم غادر وهو مندهش من هدوء ندى فهو لم يتوقعها بهذا القدر من الإتزان ابدا ! 
أفاقه من غمرة تفكيره صوت رنين الهاتف و كان المتصل هو حارس مريم فأجاب فورا :
- ألو.

- استاذ عمار رأفت بيه جه هو و رجالته للعمارة و دخل شقة مريم هانم.

انتفض بصدمة كمن تعرض لصعقة كهربائة :
- مين ! انتدت بتقول رأفت بيه دخل لمريم ازاي و امتى ؟! 

رد عليه الحارس بعملية كانت مستفزة للغاية بالنسبة إلى الآخر في هذه اللحظات بالذات :
- لسه جاي من دقيقتين يا فندم ... انا مكنتش هسمحله يدخل بس رجالته بعدوني و كمان مريم هانم استضافته بنفسها مقدرتش اعمل حاجة. 

صدمة وراء الأخرى حتى كاد عمار يفقد توازنه ، تلجلج و سارع للتفكير في حل للمأزق فأمر الحارس ألا يبعد ناظريه عن الشقة في حالة سماع صراخ او استنجاد ما بينما يصل اليهم.

ثم أغلق الخط و سيل من الأفكار السلبية تتدفق على دماغه في هذه اللحظة ، مثل لماذا ذهب والده بنفسه الى شقة مريم و لم يخبر أحدا عن ذلك ، و ماذا إن حاول إيذاءها انتقاما لما فعلته ليلة الزفاف.
أو أنه سيجري معها إتفاقا وديا يعطيها فيه ما تريده مقابل مغادرة المدينة نهائيا. 

و في جميع الحالات كان يجب على عمار الذهاب إليهم في الحال لمعرفة ما بينهما ، ولذلك وبدون تفكير ركب سيارته و انطلق بها نحو شقة الزوجية السابقة ! 



الفصل الثامن و العشرون : حادثة إنتحار.
_____________
"لا تنخدعوا بالمظاهر ، ليس كل الأقوياء أقوياء حقا ! لأن هناك قشرة صلبة نغطي بها أنفسنا لنحمي هشاشتنا من الداخل ، و يحدث في لحظة ما أن تنكسر تلك القشرة ! " مقتبس

أنا عايزة اشتغل في شركتكم. 

مرت دقيقة كاملة على نطقها لتلك الجملة ليبلم رأفت وهو يناظرها بخبل و كأنها مختلة عقلية ، انتظر ان تضحك بسخرية و تقول أنها مجرد مزحة سخيفة لكي تستفزه إلا أن ملامحها الجدية رسمت عليه الذهول وهو يسأل نفسه إن كانت قد جُنت ! 

هل حقا طلبت منه هذه البربرية عديمة المستوى أن يدبر لها عملا في شركة البحيري ، الشركة التي أصغر حمام بها مساحته أكبر من منزلها في القرية !
كيف تجرأت أساسا على نطق هذه الكلمات الغبية ؟! 

دلك رأفت عنقه وهو يضحك بخفوت قبل أن يحدق بمريم هامسا :
- انتي اكيد اتجننتي ، مفيش تفسير تاني لسبب طلبك ده. 

ازدرد ريقه ثم تابع بأكثر أسلوب مهين على الإطلاق :
- شكل سكوتنا مقوي قلبك و مخليكي تفتكري انك نفسك حاجة مهمة ، انتي مين عشان تعتبي باب شركتي أصلا ؟ 
بفض النظر عن انك البنت اللي عملت فضيحة تليق بمستواها المنعدم بس انتي مش شايفة نفسك عاملة ازاي شكلك و لبسك و طريقة كلامك
 ده انا كل لما افكر ان ابني ربط اسمه بإسم واحدة زيك و انه لمسك بيبقى نفسي امسكه من ايده و اوديه لأقرب مخبر اعمله تحاليل عشان اتأكد انه متعداش منك بأي مرض تقومي تفكري ممكن تجي تشتغلي عندي ! 
ولا انتي فاكرة عشان بتعرفي كام لغة بقيتي تستاهلي تشتغلي عندي ؟ فوقي يا هانم ده صاحب أصغر وظيفة عندي درس برا و عنده اكتر من شهادة.

كانت ردة فعله كما توقعتها مريم ، فالأخير لا يراها لائقة بهم أبدا سواء كزوجة لعمار أو موظفة في شركته.
لكن إهاناته إستطاعت جرح كبريائها و ضربها في مقتل ، هذا الأشيب عديم الإحترام يستهزئ بها و يخبرها بكل وقاحة أنها فتاة وسخة تحمل أمراضا نقلتها لإبنه ، يهين طبيعتها و بيئتها و يسخر من مؤهلاتها التعليمية.

لم تستغرب مريم ولم تتفاجأ بقوله ، فلقد عانت طوال حياتها من العنصرية خاصة عند دخولها للجامعة الخاصة بالقاهرة ، حين كان جميع الطلاب ينتمون إلى الطبقة الغنية أما هي فكانت من القلة القلائل الذين دخلوا بواسطة المنحة ...
 لذلك رأت السخرية و الإستهزاء و الإستحقار ممن يصرفون في اليوم الواحد أكثر مما تحصل عليه هي في الشهر الواحد لقاء العمل في المطاعم و المكتبات لكي تستطيع تحمل مصاريف دراستها و إقامتها ، خاصة و ان أصولها تنتمي لقبائل الغجر البربر من وجهة نظرهم.

و رغم أن هالة لم تكن من الطالبات شديدات الثراء إلا أنها كانت ميسورة الحال و ذات مستوى مادي جيد ، فتعرضت هي بدورها إلى التنمر بسبب مرافقتها لفتاة غجرية حالفها الحظ بمخالطة الأغنياء.
لذلك توقعت مسبقا إستحقار السيد رأفت لها ، و لم يجرحها كلامه بقدر ما زاد شعور الحقد بداخلها إتجاهه هو و إبنه و عائلته و المجتمع بأكمله.
و هذا ما سيجعلها تعمل على أن تكون نِدًّا لهم في الأيام القادمة.

إبتسمت مريم ببرود كان كفيلا بجعله يود لو يخنقها ويتخلص منها ، ثم تنهدت وهي تضم يديها أمام صدرها بأريحية :
- بس الست اللي انت بتستحقرها ديه هي نفسها اللي جننت ابنك و خلته يتجوزها رغم ان شاب زيه مش مضطر يتجوز عشان يتسلى ،و هي نفسها اللي خاطر بنفسه و حطها في بيته سنين طويلة وانتو مش عارفين عنها حاجة. 
و هي نفسها اللي بتهدد دلوقتي علاقة الأب بإبنه ده لو كان في علاقة اصلا لأن اللي فهمته من عيشي مع عمار انه مبيطيقش حتى يقولك بابا. 

- متتجاوزيش حدودك !
غمغم بها رأفت في حدة و استطرد :
- يلا قولي انتي عايزة كام خلينا نخلص. 

تهكمت منه بنظراتها ثم أعطته ظهرها وهي تجيبه ببرودة أعصاب :
- وانا لسه عند شرطي يا اما تشغلني عندك و بالمقابل اوعدك اني مش هقول لعمار حاجة يا إما ترفض وبكده هفضحك قدام ابنك و الصحافة. 

- وانتي ايه اللي بيخليكي واثقة كده من قوة السر بتاعك لدرجة تستفزيني بيه ماهو ممكن انا مهتمش بيكي و اقولك اعملي اللي تحبيه. 

رفعت مريم حاجبيها بتسلية مريضة ثم التفتت له هامسة بإستفزاز :
- اللي بيخليني واثقة هو ان السيد رأفت البحيري بنفسه جه لشقتي عشان يساومني ، لو السر ده مش مخوفك صدقني حضرتك مكنتش هتتعب نفسك و تجي تعرض عليا فلوس. 
و بالنسبة لعمار فاللي انا متأكدة منه انك انت اخر شخص ممكن هو يثق فيه و يصدقه. 

إستشاط رأفت غضبا و انهمرت أنفاسه بحدة جعلته يقترب منها بسرعة و يجذبها من كتفها صارخا :
- انتي ايه محدش مالي عينك ماشية تهددي في الناس مش عارفة انا ممكن اعمل فيكي ايه و اخويا عادل اللي انا ماسكه بالعافية ده ممكن في دقيقتين يخلص عليكي انتي و أهلك وكل اللي معاكي ! 

حسنا هي لا تنكر أنها باتت ترعب من فكرة تعرض أهلها للأذى ، عمها و صديقتها و أكثر من ساعدها على التخفي في السنة الماضية.
ولكن لا معنى من إظهار خوفها عليهم لأنهم سيستغلون هذا ضدها و تصبح هي في موقف ضعف.

لذلك ارتسمت نفس تلك الإبتسامة البغيضة على محياها متمتمة :
- و ان كان على قرايبيني فلو انت كنت فاكر انك بتقدر تهددني بيهم هتبقى بتغلط عشان انا مبقاش حد يهمني غير نفسي.
و نفسي ديه مفيش حاجة بقت تهمها. 

حرك رأسه بإنفعال و ذهول من جنون هذه المرأة المريضة ثم حدق فيها هامسا :
- انتي مش طبيعية ... لازم تتعالجي عند دكتور نفسي. 

رافق جملته الأخيرة صوت ضجة في الخارج لتهمهم مريم بإستمتاع :
- ابنك العزيز جه المسريحة بدأت تحلو.

بهت رأفت و جفت الدماء في عروقه وهو يرى برعب عمار يقتحم الشقة بهدوء لينظر إليهما و يركز بالتحديد على موضع يده التي يضغط بها على ذراع مريم.
أفلتها ببطء و كان من السهل عليه أن يخفي ملامح ذعره فهو رجل الأعمال الناجح لن يرضى بأن يظهر خوفه أمام بربرية فاقدة لأصول التحضر. 

غير أن الحقيقة التي سببت له مرارة في حلقه ... و بغض النظر عن إن كان بريئا أم لأ ... فإنه في الأخير عمار لن يتردد بتصديق كل شيء من كل شخص ضد والده ! 
لذلك كان رأفت متأكدا من أن إبنه سيصدق مريم و بدون دليل حتى.  

كان الآخر يطالعهما وهما يقفان بجانب بعضهما البعض و ينظران إليه ، والده يقف بجمود يناسب هيبته و الأخرى تبدو على وجهها علامات السخرية فتعجب و زادت حيرته حول ماهية النقاش الذي جمعهما.

حسنا لقد توتر هو عندما علم أن السيد رأفت جاء إلى شقة مريم و للحظة خشي أن تحصل مشادة بينهما و ربما تنطق بكلمات تفقده صوابه فيعمد إلى إيذائها أو حتى إهانتها ... و لسبب ما لم يكن عمار ليتقبل هذا ! 

تنحنح و تقدم بخطوات متزنة حتى اصبح مقابلا لهما ، ثم نظر إلى أبيه هاتفا :
- مكنتش اعرف ان حضرتك جاي لهنا. 

تصلب رأفت وهو يرد عليه بثبات :
- وانا مكنتش اعرف اني لازم اخد اذنك قبل ما اروح لأي مكان. 

قلبت مريم عينيها بملل منهما فتابع الأخير وهو يشير إليها بإزدراء :
- حبيت اشوف البنت اللي سببتلنا الفضحية و اتكلم معاها يمكن الاقي فيها حاجة تجذب و تخلي الواحد يلعب بسمعة عيلته علشانها بس للأسف ملقتش حاجة مهمة ... لو قارنتها بالبنات اللي انت اختلطت بيهم في المجتمع بتاعنا هتطلع بصفر. 

شددت مريم على يديها بغيظ و حقد أهوج ولوهلة تراءت لها نظرة عمار الغير راضية عن كلام والده ، و رغم ذلك لم يعلق على إهانته بل غمغم بجلافة :
- عندك حق تحب تشوفها ... أول لقاء بينكم طبعا. 

أخذ رأفت نفسا هادئا في ظاهره ثم ألقى نظرة على مريم التي إتسعت إبتسامتها اللعوب عند سماع آخر جملة لعمار ، عدل سترته و رفع رأسه لفوق قائلا بصلابة :
- انا همشي دلوقتي و انت لما تخلص حصلني للمكتب عندنا شغل مهم. 

طالع مريم بتحذير قابلته هي ببرود قبل أن تتمتم :
- كان الشرف ليا اني اقابل حضرتك ... يا رأفت بيه. 

لم يلق لتحيتها إكتراثا و همَّ بالمغادرة ، فإزدرأته الأخيرة وهي تفكر أنها ستجعله يصنع لها قريبا الف حساب !
تحركت عيناها ناحية عمار الذي يطالعها بدقة و كأنه يقوم بتعرية دواخلها فحاولت كبح إختلاجاتها و أفكارها الداخلية وهي تتشدق برفعة حاجب :
- انا كنت بفكر انت طالع لمين جلف و بارد كده و دلوقتي عرفت ... انت نسخة طبق الأصل عن والدك في الحجم و الطول و نبرة الصوت بعيدا عن ملامح وشك اللي مش شبهه خالص. 

علق عليها مباشرة و بدون مواربة :
- انتو كنتو بتتكلمو في ايه ؟ 

هزت مريم كتفها تصطنع عدم الإكتراث :
- متكلمناش في حاجة مهمة يعني جه و انتقدني شويا و قلل مني عشان انا مش زيكم و قال ازاي اتجرأت افضحكم و هددني لو مبطلتش اللي بعمله هيندمني. 

وهو يعلم جيدا أساليب تهديد والده و يدرك جيدا أنه قادر على تنفيذ كل كلمة طرحها لسانه ... هكذا فكر عمار وهو يتنهد بأريحية بعدما اطمأن بأن النقاش لم يحتد بينهما.
بينما تابعت الأخرى مستدركة :
- بس الصراحة انا كنت فاكرة أن رأفت بيه هيتجرأ و يعمل اكتر من كده ... ممكن يغريني بفلوس أو يحاول يقتلني مش بعيد عنكو يعني.

حينها إهتاج عمار من حديثها عن والده فشد ذراعها بغلظة قاصدا إيلامها ثم غمغم من بين أسنانه :
- متجيبيش سيرة والدي ... و متفكريش انك مهمة لدرجة يتعب عليكي و يحاول يقتلك انتي ولا تسوي أصلا. 

تلجلجت مريم لوهلة عندما ألقى عليها كلماته المهينة ، لا تدري لماذا و لكنها كانت تتوقع منه الصمت و تقبل جميع كلامتها برحابة صدر مثلما كان يفعل مؤخرا.
لذلك تفاجأت من إهانته فإرتفعت غشاوة دموعها لتغطي حدقتيها و تمنعها عن رؤيته بشكل جيد ، و عندما أدركت أنها تنجرف خلف مشاعرها أجبرت عقلها على التيقظ.
لا تدري لما مازالت تتأثر بكلماته و تنزعج من إستهزائه بها ، و لكنها لطالما كافحت من أجل تقوية نفسها ولن تجعله يكسبها. 

- بما اني مبسواش حاجة ايه رايك تطلقني و ننهي القصة.
همست ببرود تحسد عليه دارسة معالم وجهه التي إنقبضت فجأة و سرعان ما درأها قائلا بتسلية :
- لا انا مش هطلق مادام انتي عايزة الطلاق يبقى ارفعي عليها قضية خلع. 

جزت على أسنانها بغيظ وحدة وهي تشتمه في سرها ، إن خطتها الأساسية تقضي على فضحه معنويا إلى جانبه إفلاسه ماديا ، تتوق لجعل القانون يأمر بمنحها تعويضات مالية ضخمة عند حكم الطلاق و هذا ما لن يحدث إذا رفعت هي قضية الخلع.
و الوغد الخبيث يعلم ذلك جيدا فتعمد التلاعب بها ، حسنا اذا ستجبره عاجلا أم آجلا برفع دعوى طلاق من طرفه حينها ستفعل الازم لكي تملك ثروته.

رشقته مريم بنظرات مبهمة و صامتة ، تحدق في كل إنش منه و تتذكر كم كانت تعشق ملامحه سابقا ،  تسعد بسماع نبرة صوته الخشنة وهو يكلمها. 
و لكن الآن كل شيء تغير ، لم يعد عمار فارسها كما إعتقدته ، ولم تعد هي تلك الفتاة الساذجة. 

- انت ليه بتتعامل ببرود كده ؟ 
هتفت بهذا السؤال الذي انبلج من شفتيها بنفاذ صبر فعقد الآخر حاجبيه متهكما :
- هو انتي عرفتيني وانا wild man  ( رجل جامح ) و بتاع مغامرات مانا طول عمري بارد كده ايه اللي اتغير. 

تجاهلت سخريته منها وحتى هي تخلت عن عبثها متسائلة بنبرة مشروخة ، عكست مقدار صراع روحها :
- ازاي قادر تفضل هادي كده بعد اللي حصل ، و ازاي قادر تبصلي بعد اللي عملته معايا ؟ 

حينها أولى عمار كل إنتباهه إليها و تحفز على أمل أن تخبره ما الدافع لتصرفاتها هاته :
- قصدك عليا لما رفضت اعلن جوازنا و رفضت كمان ... البيبي. 

شهقت مريم بداخلها عند ذكر كلمته الأخيرة و جاهدت للحفاظ على تصلب وجهها ، ثم أولته ظهرها و تقدمت بضع خطوات للأمام ليتبعها بصمت.
مشت في الصالة لتتوقف عند نقطة معينة و تركز عليها ، إنقبض صدرها ينبه لغصة مؤلمة بقلبها تأوهت لها وهي تهمس :
- في المكان ده ... من سنة ونص انا وقعت في المكان ده و سقطت ... خسرت ابني هنا. 

أغمض عمار عيناه و احتشدت انفاسه عندما دخلا في هذا الموضوع دون إستعداد منه ، بينما تابعت الأخرى وقد إستعادت نبرتها القوية التي كانت عكس عينيها الحمراوتين المتقدتين بالنيران :
- كنت لوحدي بتوجع و بعيط اتصلت بيك لأول مرة في حياتي بس انت ... 

- خلاص كفاية ! 
قاطعها بعنف وهو يتنفس بسرعة ، العرق يسيل منه و غصة القلب إنتقلت إليه.
لكنه كان يشعر بالإختناق ، عجز عن التنفس عندما حدثته عن ذلك اليوم الذي غير مسار حياتهما ، هو ليس مستعدا بعد للمواجهة.

لن يستطيع تحمل سرد تفاصيل ذلك اليوم المشؤوم ، عندما تجاهل ذلك الإتصال بدون أن يعرف إسم المتصل ثم هرع الى الشقة بخوف عليها فوجدها ملقية على الأرض و تنزف.
يومها خسر طفله ، و خسر زوجته ، و خسر براءة علاقته مع إبنة عمه التي قبلته. 

جف حلق عمار حتى آلمه فإزدرد ريقه بإضطراب واضح و فتح اول زرين من قميصه يناشد الهواء ، كان ألم رأسه في تلك اللحظة لا يحتمل فأدرك أن نوبته المرضية أصابته مجددا لذلك استدار مغادرا الشقة بدون حرف واحد قبل أن يفقد زمام السيطرة و يتسبب في أذيتها.

راقبته مريم بقهر وهو يخرج ، كان من الواضح أنه لم يتحمل سماع تفاصيل ذلك اليوم إذا كيف بها وهي من عاشته كل ثانية.
رأت مقطع فيديو له وهو يخونها مع إبنة عمه ، ثم أصابها ألم مميت و أدركت أنها تخسر طفلها ، أتصلت به و كلها أمل أن يأت وينقذهما ، ثم أجهضت و أدركت أنه هو من ... هو من ...

شهقت مريم بتعجب من نفسها حينما عجزت عن قول أن عمار من قتل طفلها لما أرسل لها تلك الشوكولا المسمومة ، لا تدري لماذا ولكنها عندما قصدت ذكر ذلك اليوم حدقت بتركيز في عينيه لكي ترى لمعة الخوف أو الذنب.
و لكنها لم تجدها ...

 كل ما رأته كان الألم و الضيق ، و كأنه حزين على إبنه الذي توفي قبل أن يرى النور ، لقد جاهدت مريم لسحب الكلام منه إلا أنه ظل صامتا ، وجهه مصبوغ بكل التعبيرات إلا تعبير الأب القاتل لإبنه ، كيف يستطيع التمثيل بهذه البراعة إلى هذه الدرجة ! 

إنتفضت عندما سمعت صوت الباب يفتح مجددا و يدخل عمار منه ، تأهبت مريم للجدال منه قائلة :
- كأنك استحليت البيت زيادة عن اللزوم ! بحب افكرك اننا مش وضع يسمحلك تجيلي امتى ما تحب.

تجاهلها الأخير و كأنها هواء ثم توجه إلى غرفة النوم و منه إلى قسم تبديل الملابس.
فتح الخزانة و أخرج منها صندوقا صغيرا ، مرر أصابعه عليه ثم إنتشل خاتم الأوبال و خلخالها المفضل و خبأه في جيب سترته قبل أن تدخل مريم و تهتف بضيق :
- انا بكلمك على فكرة انت رجعت ليه و بتعمل ايه ؟!

و للمرة الثانية يتجاهلها و يغادر الغرفة ليقف بمنتصف الصالة ، وزع بصره في ارجاء الشقة و فكر بأنه عليه تصليح نظام كاميرات المراقبة لكي يقدر على رؤية ما تفعله بدون المجيء إلى هنا أو إستجواب ذلك الحارس.
فالنظام معطل منذ سنة ونصف و بالطبع تراجع عن فكرة تصليحه بعد إختفاء مريم.

و حتى هاتفها الجديد هذا يجب عليه إيجاد فرصة مناسبة ليضع جهاز التنصت عليه ، هو متأكد بأن مريم ستكون أكثر حذرا هذه المرة لذلك وجب عليه عدم لفت الإنتباه. 

- عمار ! 
صرخت مريم بجنون وقد بدأت تفكر بجدية بأنه عليها ضربه بأي شيء صلب على رأسه لعلها ترتاح منه ، اللعنة إنه يتجاهلها رسميا و يتعمد إغاظتها !

كادت تتكلم و لكنه قاطعها ببرود :
- انا همشي دلوقتي ، لو حبيتي تطلعي لأي مكان براحتك بس اوعى تفكري تقربي من فرد يخص عيلتي و بالمناسبة جو الاعلام و السوشيال ميديا مبقاش نافع شوفيلك طريقة غير عشان تشوهي سمعتي. 

و فور إنهاء جملته تحرك مغادرا ، و للمفاجأة إلتقى عند باب الشقة بأكثر شخص يكرهه في العالم ، صديقته زوجته المتبجحة هالة ! 

شهقت هالة برعب عند تصادم جسدهما ثم تمالكت نفسها و هتفت من بين أسنانها :
- أهلا وسهلا أستاذ عمار ... متوقعتش الاقيك هنا. 

رد عليها الآخر بإستهزاء :
- البيت ده بيتي و المفروض انا اللي اقولك الكلام ده مش العكس. 

رشقها بنظرة مستحقرة بادلته إياها هالة بنظرة مغتاظة قبل أن يتجاوزها هامسا بنبرة غير مسموعة :
- أفعى. 

وفي نفس الوقت همست هي :
- طاووس ! 

______________

طالت الدقائق وهو على نفس وضعيته ، مستند على كرسي مكتبه و يده تعبث بقلم ما و لكن نظراته الشاردة مسلطة على الاشيء.
بينما الآخر يجلس على الكرسي المقابل له تماما و يضيق حاجبيه بحنق و تحفز حتى قال :
- يعني ايه ؟ هتدخل بنت الشوارع ديه لشركتنا و تخليها قريبة مننا رغم اللي عملته في بنتي يا رأفت !

زفر بوجوم مغمغما :
- معنديش حل غير ده يا عادل ، اللي اسمها مريم جاية و مصممة تنتقم ولو عمار عرف اني افتريت عليه و قليت منه في نظرها هيقطع علاقته بيا نهائيا ! مريم بتهددني وهي عارفة نقطة ضعفي.

انتفض عادل بعصبية و هتف بعصبية :
- و تطلع مين ديه علشان تهدد عيلة البحيري في ايه يا رأفت ديه واحدة لا راحت ولا جت مجرد غجرية ملهاش لازمة و اخرها يتمتعو بيها في السرير انت عاملها قيمة كده ليه !

تبلم رأفت وهو يستمع لحديث أخيه و يعلم جيدا أنه محق في غضبه ، فليس من السهل أن يقبل بدخول من دمرت حياة إبنته إلى الشركة و لكن بعد تفكيره وجد أن هذا هو أنسب حل.

فعادل لم يشهد على كيف كان عمار أقرب للجنون وهو يبحث عن زوجته الضائعة ، ولم يرى كيف كان ينظر إليها اليوم و يتأكد من سلامتها عندما جاء يركض خوفا من أن يصيبها والده بمكروه.
لم ينتبه في غمرة غضبه يوم الزفاف إلى عمار الذي أبعد مريم عن الصحافة و الحضور و أدخلها لغرفته ليس لكي يصرخ عليها و يسبها بل لأنه خاف عليها من عائلته حتى أنه امر الحراس تلك الليلة بأن يتبعوها ولا يتركوها بمفردها. 

إن عمار وقع في فخ تلك الهمجية و الشيء الذي يمنعه عنها الآن هو غضبه منها و عدم معرفته اين كانت مختفية طوال هذه المدة ، و على رأفت أن يبقي الوضع هكذا ! 
كما يجب عليه تصليح ما فعلته و إنقاذ سمعة عائلته و هذا لن يتم إلا إذا كانت قريبة منهم.

رفع يده يدلك رقبته المتشنجة ثم نظر إلى عادل مبررا :
- انا مش عاملها قيمة بس منكرش ان بسبب الفضيحة اللي عملتها البنت ديه مكانتنا اتضررت و سمعتنا بقت في الاراضي و الحل منش اننا نقتلها زي ما انت كنت بتخطط. 

تجهم عادل وقد جفت الحروف في لسانه فتابع رأفت :
- انت فاكر انك لما تخطط يحصل تسرب غاز في شقتها و تختنق و تموت المشكلة كده هتتحل ؟ لو ده حصل و مريم اتوفت كله هيقدر يعرف بسهولة انه احنا اللي عملنا كده متنساش ان سيرتها لسه الناس منستهاش كليا و عمار كمان هيشك فينا. 

احتدت عينا و طحن ضروسه متمتما بكبت :
- و احنا مالنا و مال الناس محدش هيقدر يثبت علينا حاجة و عمار هيزعل شويا و ينسى و يرجع يتجوز بنتي و القصة تخلص ع كده ...
 اسمعني يا رأفت انا لسه لحد دلوقتي واخد بعين الاعتبار انه عمار يبقى ابن اخويا و خطيب بنتي علشان كده مقولتش ليه حرف واحد بس ده ميعنيش اني هكست و منتقمش من عديمة النسب ديه انت فاهم ! 

- تنتقم ماشي و انا كمان هنتقم بس بالعقلا ومن غير تسرع احنا لو دخلنا مريم للشركة و شغلناها معانا هندي طابع كويس للناس أنه الكلام اللي طلع علينا كدب و اننا مقللناش منها و احترمناها و الدليل اهو دبرنا شغل ليها لما عرفنا انها اتظلمت. 

سكت عادل بجمود يستمع لها بينما أردف رأفت بمنطقية :
- من ساعة الفضيحة عيلتنا و حتى شغلنا اتضرر المستثمرين سحبو الأسهم بتاعتهم و السعملاء بيضغطو علينا الوضع معقد اوي و مجلس الإدارة رافع شكاوي على عمار لأنه مقصر في الشغل ك Executive Director  ( مديرر تنفيذي ) وهما عارفين كويس انه مش هيعرف يركز في حالته ديه.

- و المشكلة هتتحل لو شغلناها عندنا ؟

إعتدل رأفت في جلسته و انحنى بإتجاه عادل قليلا وقد بدأ يستشف إقتناعه ، ثم هز رأسه وهو يتشدق بتأكيد :
- زي ما قولتلك لو احنا شغلنا مريم هنحسن صورتنا قدام الناس بإعتبارنا ادينا فرصة لواحدة معندهاش مكانة انها تثبت نفسها و هنوضحلهم اننا متسامحين و رغم الفضايح اللي عملتها الا ان عيلة زينا مرضتش تنزل لمستواها ده اوللا
و ثانيا احنا بالطريقة ديه هنخليها قدام عنينا و كل خطوة منها هتبقى معروفة .... طول ما هي تحت مراقبتنا هنقدر نعرف نقط قوتها و نقط ضعفها.
مريم مع الوقت هتشوف فرق المستوى بيننا و بينها ومش هتقدر تستحمل ده بس احنا مش هنرحمها ... هنضربها من الجانب اللي بيوجع ومش هتلاقي اللي يسندها وهي شايفة عمار و ندى متجوزين و مبسوطين ... ساعتها احنا هنخلص عليها.

كل حرف خرج منه وهو يقطر عزما على تدميرها و طردها من حياة إبنه عمار ، يعلم رأفت جيدا أنه يستطيع إنهاء حياتها بمجرد كلمة منه ، أو إيذاء أحبابها و جعلها معدمة لا تملك قطعة نقدية واحدة.
لكن حينئذ سيظهر عمار لكي ينقذها ، وسيخسره اذا نطقت بحرف واحد على حقيقة ماضيه التي لا تدرك انها كانت مجرد إفتراءات مفتعلة من رأفت.

أما اذا اراد ألا يخسر إبنه ، فيسعى لتدميرها تدريجيا و بدون أن تشعر ، سيحسن صورته و يظهرها ككاذبة للجميع ، سيبعد عمار عنها و  ينسيه فيها سواء بتزويجه من ندى او من امرأة أخرى.
سيجعل ولده يشمئز من تلك الغجرية و يكرهها حينها هي لن تتحمل ذلك القدر من الخسارة و عاجلا او آجلا ستطلب هي الطلاق بما أن عمار لا يريد ذلك.
و حينها لن تحصل على فلس واحدة منهم ، و عندما تنوي إخبار عمار بإفتراءات والده ، لن يصدقها و سيتهمها بأنها تكذب ثأرا لخسارتها.

______________
وافق عادل على كلام شقيقه ، فجمعا أفراد العائلة بما فيهم ندى أما عمار فكان لا يزال بالخارج ، ثم حدثوهم عن قرار تشغيل مريم في الشركة.

ثارت ثائرة الجميع بالطبع ، ولم يتقبل احد هذه الفكرة ، فكيف سيرضخون لتلك الغجرية معدومة القيمة و يجعلونها مقربة إليهم لهذه الدرجة بدلا من إذلالها و طردها.

شرح رأفت وجهة نظره و ساعده عادل ، وقد بدا حديثهما مقنعا نوعا ما إلا أن فريال ظلت معترضة بتصميم و هاجمت رأفت بقولها :
- انا مش موافقة على الكلام ده ، انت ازاي عايز تشغلها عندنا وهي خربت حياة بنتي و فضحتنا ولا عشان هي مرات ابنك عايزها تفضل قريبة منه مش كفاية للي حصل لندى بسبب عمار ده كمان عايز تخلي معدومة الاصل ديه قدام عينيه ! 

هنا تدخلت سعاد التي أغلقت هاتفها بعدما راسلت عمار و نظرت اليها بتحذير هاتفة :
- فريال اعرفي انتي بتكلمي مين و بتقولي ايه متنسيش نفسك و تتسرعي ، اهو رأفت بيقول ده عشان مصلحتنا و اكيد خد القرار مع اخوه بعد تفكير طويل. 

غمغم رأفت مجددا بحزم :
- احنا لازم علينا نعمل كده على الاقل في الفترة ديه ولما يتصلح الوضع هنرجعها للمكان اللي جت منه ، بس مع ذلك لازم نسأل عن رأي ندى. 

التف الجميع إليها وهي واقفة في الزاوية بصمت لا تستوعب ما تقوله العائلة ، ثم رفعت وجهها إلى عمها و دمعت عيناها بألم وسخرية كأنها تقول " هل تذكرتم للتو ان تسألوا عن رأيي "
و قبل أن تجيب هدر عادل مقاطعا اياها :
- هي مش هتقول كلام غير اللي انا قولته ديه بنتي و بتعرف انها لازم توافق عشان المياه ترجع لمجاريها و تتجوز ابن عمها.

في هذه اللحظة سمعوا صوت احتكاك عجلات سيارة في الاسفلت و بعد دقائق ولج عمار و على وجهه أمارات الغضب و الذهول ، اقترب من التجمع و نظر لوالده متشدقا من بين أسنانه :
- اتمنى اللي سمعته عن قرارك يكون مجرد هزار او فكرة اتقالت من غير تفكير من حضرتك او مثلا استعجلتو يوم April Fool عشان نرخم على بعض و نتسلى يا رأفت بيه.

تغاضى الأخير عن الجزء الثاني من جملة عمار الوقحة و أجابه بجدية متناهية :
- لا مش هزار ولا كدبة ابريل انا فعلا قررت اشغل مريم عندنا.

انفلتت زمام عمار و فتح فمه ينوي القاء كلمات حادة ولكنه تمالك نفسه و طلب منه التكلم على انفراد إلا أن رافت رفض متشبثا بقراره القاطع :
- مفيش كلام تاني هنقوله غير اللي قولته قدام الكل هنا القرار ده لمصلحتنا يا عمار عشان نرجع سمعتنا. 

تطايرت الشياطين في عيني عمار و خُيِّل له رؤية النيران تشتعل حوله مسببة الحرارة التي يشعر بها جسده الآن ، مرر نظره على جميع أفراد العائلة و على ندى بصورة خاصة لكي يرى ردة فعلها على ما يقال فوجدها واقفة جوار أختها بصمت و استسلام مستفزين.
نفث أنفاسه بقوة و هتف بهدوء محاولا ثني رأفت عن قراره :
- اولا مريم مش عايزة غير انها تفضحنا و تخسرنا ماديا لما اطلقها يبقى خطة الشغل ديه مش هتمشي معاها لانها هتفيدنا احنا مش هي.
و ثانيا حتى لو وافقت على كلامك هي هتشتغل ف ايه يا رأفت بيه ولو مثلا خدت اي شغلانة هي هتستفاد من ايه فكل ده عشان تجي لشركتنا ؟ و بعدين منين جتلك الفكرة ديه اصلا ! 

- مريم بعقلها الصغير هتفتكر انها بتقدر تستغل فرصة الشغل و تعمل لنفسها قيمة بس لما تدخل لشركتنا هتلاقي ان الوضع هناك مختلف عن البيئة اللي اتربت وسطيها و هتعرف انها ولا تسوا حاجة قدامنا وهي من نفسها هتطلب الطلاق و تمشي.
ولو على الشغل ف انا عارف انها دارسة لغات و هحطها في اي مكان يناسبها و زي ما قولتلك لما هي تفشل هتستسلم و تمشي.
و ثانيا انا كنت بفكر في الموضوع ده من كام يوم ولما روحت قابلتها النهارده و سمعت تهديداتها الغبية اتأكدت اني لازم اعمل كده عشان تفضل تحت مراقبتنا و منها هنستفاد و صورتنا تتحسن قدام الناس و الشغل يرجع لطبيعته ... انت فاهمني ؟ 

حرك عمار رأسه بإنكار وهو يكاد يجن غير مستوعب لما يحدث ، مريم تعمل كموظفة في شركته و تبقى تحت اعينه طوال اليوم ؟ 
من أين أتت هذه الفكرة و كيف خطرت على بال والده من الأساس ! 
رأفت الذي يعرفه كان سيفعل كل شيء من أجل أن يرسلها من المدينة و حتى من اجل أن يمحي وجودها من الحياة لكنه الآن متفق مع عمه على هذه الفكرة الغريبة ، و الأغرب حقا أنه يجب عليه تقبل هذا الشيء ! 

تنحنح ينظف حنجرته ثم تمتم بإقتضاب وهو يطالعه بقوة :
- بما انكم مصممين ماشي انا موافق ، بس على فكرة الحجج ديه انا مقتنعتش بيها اوي و هبقى ادور على السبب الحقيقي ورا اللي بيحصل ده.

إن عرف السبب الحقيقي حينها سيخسر إبنه  للأبد ... فكر رأفت بهذا الشكل وهو يدرس إحتمالية وصول عمار إلى الحقيقة ولكنه طمأن نفسه بأن مريم ليس من مصلحتها البوح بالسر حاليا و كذلك هو حريص على تعطيل رجال عمار عن معرفة مكان إختبائها الفترة الماضية و بذلك ولده لن يعرف أين اختفت مريم ومن ساعدها في ذلك و كيف ان اباه نفسه أبعدها عنه.

تحرك عمار ليذهب و لكن اوقفته فريال التي ظلت معترضة بعض الشيء  :
- ماشي انا هتفهم انكم هتشغلوها عشان مصلحة العيلة و سمعتها بس انتو ايه عرفكو ان البنت ديه هتفضل واقفة مكانها ماهي اكيد هتحاول تأذينا تاني و ترجع تقرب من عمار ساعتها ازاي هيتجوز ندى ؟ 

انتبهت العيون عليها وهي تلقي عليهم هذا الإحتمال و خاصة ندى التي ضغطت بأظافر يدها اليمنى على باطن يدها اليسرى بقوة آلمتها إلا أنها ليست بقدر ألم كرامتها وهي واقفة بين عائلتها الآن تسمعهم وهو يتناقشون حولها و يخططون مكانها وكأنها هواء لا تراه العين المجردة.

لو كانت سلعة لتمتعت بقيمة أكبر من التي منحتها عائلتها لها بعد ليلة الزفاف المشؤومة ، و لكن لا ، أولا قرروا جلب عدوتها إلى شركتهم تنعم بالرخاء قربا من خطيبها.
ثم يحرجونها الآن وهم يضعون أمام عمار احتمالية هروبه منها و رفضه الزواج إن تأثر مجددا بتلك الهمجية ، لو انشقت الأرض الآن و ابتلعتها لكان أكرم لها ! 

قاطع عادل الصمت الذي ساد في الوسط :
- لا مش هيحصل ومش هيتأثر بيها تاني لان بعد ما تخلص المشكلة ديه عمار هيتجوز ندى في فرح كبير ينسي الكل في الفضيحة. 

أكد رأفت كلامه بإبتسامة :
- طبعا و ساعتها المياه هترجع لمجاريها و هنتخيل اننا معشناش الحاجات ديه قبل كده. 

وافقه الجميع إلا ان الطامة الكبرى كانت عندما زلزل عمار كلماته التي ألقاها بجمود :
- عن اي جواز انتو بتتكلمو هو لسه في خطوبة اصلا بيني و بين ندى مش كل حاجة انتهت خلاص ؟ 

انتفض عادل بصدمة سيطر عليها الغضب سريعا فزمجر بخشونة وهو يهتف :
- عيد الكلام ده تاني ! خطوبة ايه اللي انتهت انت هتستعبط.

أوقفه رأفت الذي ذُهل أصلا من إنكاره لعلاقته مع خطيبته و استدار اليه منبها اياه بالصمت غير أن عمار تجاهله و تابع مضيقا حاجبيه بإستنكار :
- هو مش حصلت فضيحة كبيرة يوم الفرح و انا طلعت مخبي سر كبير عن ندى و عن العيلة كلها ازاي هتأمنوني عليها تاني ده بدل ما تقول بنفسك يا عمي ان اللي كان بيني و بين بنتك انتهى لما كشفت كدبي عليكم.
و بعدين انا و ندى اتكلمنا النهارده الصبح و مجبناش سيرة الفرح و معتقدش انها هتبقى عايزة تتجوزني تاني ... ندى بتستاهل أحسن مني و انا متأكد ان ده نفس تفكيرها دلوقتي.

تعالت الأصوات ثانية فصرخت ندى وهي تتدخل أخيرا منهية النقاش الحاد بغية الحفاظ على ما تبقى من كرامتها المسلوبة :
- عمار عنده حق في كل كلمة قالها ، هو غلط معايا لما خبى عليا جوازه عشان كده علاقتنا انتهت و انا ... مبقتش عايزاه !

هتفت بصوت مختنق غالبه البكاء ثم اتجهت ناحية المصعد الكهربائي لتركبه و تصعد إلى غرفتها الموجودة في الطابق الثاني من القصر ، رمت نفسها على فراشها تضع يديها على أذنيها تحمي نفسها مما ستسمعه بعد قليل و بالفعل لم تمر الدقائق حتى اقتحمت فريال حجرتها صائحة بغضب :
- مبسوطة انتي باللي عملتيه ايه الغباء اللي قولتيه تحت ده مش احنا كنا متفقين تحاولي ترجعي عمار ليكي عشان يتجوزك.

دلفت منال خلفها و هتفت محاولة تهدئة والدتها :
- calm down mom خلينا نفهم سبب الكلام اللي قالته الاول اكيد ندى اتضايقت من عمار لما انكر علاقته بيها و ليها حق الصراحة ... مع ان من بعد دلوقتي مفيش حاجة هتنظف سمعتها بعد اللي حصل.

توالت الإتهامات ، و الكلمات عديمة الرحمة التي سمعتها من والدتها و شقيقتها ، و كأنها ليست نفس العائلة التي كانت تدللها و تحرص على راحتها.
فجأة أصبحت عبءً عليهم و نقطة سوداء لطخت صورتهم البيضاء ، لم يهتم أحد بها ، لم يسألها عن مشاعرها.
فقط حديث عن السمعة و الشرف ، و كم تمنت ندى في هذه اللحظة أن تموت !
________________

صباح يوم جديد ، تستقبله وهي تقف على شرفة الصالة ككل مرة ، بيدها كوب من القهوة الساخنة ترتشف منها بتريث وهي تطالع المنظر أمامها مستسلمة لتلك النسمة الباردة  الخاصة بأول أيام فصل الخريف.

و أفكارها غارقة مثل العادة ، في ما حدث و مالذي سيحدث ، و بين هذا و ذاك سافرت بها ذاكرتها إلى ليلة البارحة ، عندما تلقت إتصالا من رأفت البحيري يخبرها فيه أنها ستتقدم لطلب العمل الأسبوع القادم في الشركة.
و ستخضع لمقابلة مع المسؤول المختص ليرى ملفها و يطرح عليها بعض الأسئلة كإجراء روتيني يطبق على الجميع.
حيث أكد لها أنه لن يتدخل أو يحاول إفشالها في المقابلة فهي ستعمل لديه بكل الأحوال و لكن اللقاء سيحدد ماهية وظيفتها.

إبتسمت مريم بدهاء وهي تأخذ آخر رشفة من كوب القهوة ، مفكرة في أنها نجحت في تحقيق الكثيرة خلال فترة وجيزة.
 هي تعلم أن موافقة رأفت و شقيقه ليست هدنة للسلام كما زعما ، بل هما يخططان لأذيتها و سحقها بعد تحسين صورتهم الإجتماعية على حسابها.
ولكنها لا تلومهما ، فحتى هي لا تسعى للعمل من أجل بناء شخصيتها و مكانتها فقط ، هي تخطط للكثير و لن تتوانى عن التنفيذ من أجل الحصول على ما تريد ، لن تترك فرصتها للحظ مرة أخرى.

سرحت أفكار مريم في دوامتها مجددا ، و مر الوقت وهي على هذه الحال حتى رأت سيارة عمار الفاخرة تدلف ساحة المبنى ، فإبتسمت و نظرت إلى ساعة يدها فوجدتها العاشرة صباحا لتهمس :
- توقيت مثالي ، طاقة الانسان بتبقى في أعلى مستوياتها في الساعة ديه.

بعد دقائق سمعت صوته وهو يتحدث مع الحارس بكلمات مبهمة لم تتضح لأذنيها جيدا ، ثم فتح الباب و دخل بخطوات هادئة.
كان يبحث بعينيه عنها في الشقة بحدة تناقض برود ملامحه حتى رآها على الشرفة ةهي توليه ظهرها ، فقبض على فكه و إتجه نحوها ليمسك ذراعها و يسحبها نحوه على حين غرة.

شهقت مريم بخفة وهي تجد نفسها ملتصقة بصدره و عيناها تقابلان مروج حدقتيه الزيتونيتان المشتعلتان بالغضب.
إهتز قلبها من مكانه لثوان تأثرا بهذا القرب المفاجئ فدرأته سريعا وهي تتمتم :
- خير جاي و انت متعصب النهارده.
- وصلني خبر انك هتشتغلي عندنا في الشركة.

- اه يبقى اكيد جيت تباركلي.
همهمت ساخرة فشد عمار عليها بقوة آلمتها ثم غمغم بقتامة :
- لا أنا جاي عشان اعرف السبب اللي خلا رأفت البحيري يرضى يشغل واحدة فضحته و أهانت عيلته ، والدي اللي بعرفه كان هيبعتك في اول فرصة للعالم التاني او على الاقل يرجعك للقرية بتاعتك بس اللي حصل كان عكس كده تماما.

رفعت مريم حاجبيها هامسة :
- طالما مستغرب اسأل أبوك بنفسك.

- مريم !
هس بإسمها بتحذير فتأففت بينما تفلت ذراعها من يده و تهتف :
- تمام والدك جه امبارح و عرض عليا فلوس عشان امشي و انا رفضت و قولتله مش ناوية اسيب القاهرة ومش هبطل اللي بعمله فعرض عليا اشتغل عنده شرط انكر كل الاتهامات و الافتراءات اللي اتعرضت ليها عيلتك و الباقي انت عارفه كويس.

ألقى عليها نظرة تأكدت من خلالها انه لم يصدقها بينما عمار يكاد يجن ليعرف ما تخفيه ، لقد قضى ليلة أمس ساهرا وهو يحاول حزر ما حدث بين مريم و والده حتى اقترح فكرة العمل بل و كيف وافق عمه عادل عليها ولم يبد اعتراضا.
ما هذا السر الذي بينهم حتى يتفقوا على تنفيذ قرارات عجيبة يبقى هو وسطها مثل الأصم الأعمى الذي لا يفقه شيئا بما يدور حوله.

نفث عمار أنفاسه المتسارعة بعصبية و هدر بنزق بينما يجذبها من ذراعها مجددا متجاهلا رنين هاتفه :
- انتي فاكرة نفسك ذكية و عرفتي توقعيني انا و عيلتي صح ؟ فوقي يا غبية و بطلي تخيلاتك مهما عملتي ومهما قولتي مستحيل تضغطي على رأفت البحيري و تجبريه يعمل حاجة مش عايزها إلا لو هو بنفسه عايز كده ... انتي بتأذي نفسك يا مريم !  

تملك السخط منها و تخلت عن برودها المزيف فأبعدته عنها هاتفة بإنفعال :
- انا عارفة و فاهمة انا بعمل ايه كويس ومش محتاجة نصايحك ولا قلقك الكداب عليا اساسا انت اكتر حد أذاني فحياتي لما ..

تعالى صوت رنين هاتف للمرة الثالثة و تجاهله بينما يحدق بها منتظرا أن تكمل حديثها لعله يعلم سبب حقدها عليه إلى هذه الدرجة إلى أن مريم عادت إلى رشدها و أشاحت وجهها عنه مردفة بخنق :
- تلفونك بيرن اظاهر في مكالمة مهمة.

في خضم جدالهم و ضيق عمار من الإتصالات المتكررة غفل الإثنان عن جملة مريم المشبعة بالغيرة وهي تتخيل أن تلك الأميرة المدللة هي من تطلبه بإصرار هكذا مثلما كانت تفعل سابقا.
ليتنهد الأخير و يفتح الخط يهتف بهدوء :
- أيوة يا سعاد هانم. 
أتاه صوتها غير واضح بسبب ضجة غريبة حولها فعقد حاجبيه و ابتعد خطوتين عن مريم مرددا بنبرة أعلى :
- سعاد هانم انا مش سامع حضرتك كويس ايه اللي بيحصل عندك ؟ 

- عمار انت فين ؟ لازم تجي بسرعة.
تحفزت حواسه بتأهب عند سماع نبرتها المنفعلة و قبل أن يستفسر تابعت سعاد بما أطاح بصوابه :
- ندى حاولت تنتحر ... احنا لقيناها مقطعة شرايينها وغرقانة في دمها !

تعليقات



<>