رواية لن اكون بريئه يوما بنظرك الفصل الاول1والثاني2 بقلم داليا السيد


 رواية لن اكون بريئه يوما بنظرك الفصل الاول1والثاني2 بقلم داليا السيد 

انتقام

تحركت ملاك بدون وعي خارجة من المشفى الحكومي متهالكة تكاد تسقط على الأرض وساقيها الهزيلتين الخاويتين ترفضان حملها لأكثر من ذلك

تساقطت الدموع على وجنتيها الشاحبتين ومنعتها من الرؤيا وهي تعيد المشهد الذي كان بالأمس بل بفجر اليوم بالتحديد، وقتها كان الجميع يهرول لإخراجها من السيارة المحطمة على جانب الطريق وهي تكاد تفقد الوعي نتيجة الحادث وعندما خرجت بمساعدة من لا تعرفهم وقتها استوعبت أن رفقائها بالسيارة لم يحالفهم مثل حظها وابتلعهم الموت بدون موانع.. 

مسحت الدموع التي تمنع عنها الرؤيا وشدت الجاكيت الصوف عليها من البرد وتحركت لموقف الباص وركبت لتعود لمكان عملها قبل أن تذهب لبيتها بالأصح شقة أخيها الذي ترك بيت العائلة وجاء هنا بحثا عن المال

أبواق السيارات جعلتها تستيقظ من الغيبوبة التي كانت تأخذها فوجدت نفسها وسط الطريق العام والسيارات تحاول أن تتفادى الاصطدام بها فأسرعت حتى وصلت للرصيف والتقطت أنفاسها وعادت تسير حتى وصلت لموقف الباص، ركبت واحد وصارعت الازدحام حتى فازت بمقعد بجوار النافذة، دفعت الأجرة وأسندت رأسها الذي تعب من الصداع على زجاج النافذة وتأملت الطريق من حولها وهي تفكر بحياتها بعد اليوم، بالكاد يمكنها تحمل مصاريف دفن أخيها الذي مات بنفس الحادث هو وحياة تلك الفتاة التي ماتت هي الأخرى معه، لم تعرف كيف تصل لأهلها فعائلتها تعيش بالقاهرة وهي تعيش هنا بشقة مع زميلة لها يدرسون سويا بالجامعة 

سمعت السائق يناديها لتفسح لأحد الركاب للمرور فاستوعبت أنها وصلت للفندق الفاخر الذي تعمل به فنزلت من الباص وتحركت لباب الفندق دون أن تمنح تحيتها البريئة لأي أحد من العاملين، كانت شاحبة ومشتتة لذا أسرعت لباب العاملين بالمطعم ودخلت ليقابلها الأستاذ فهمي المسؤول الأول بعيون قلقة وهو يتقدم تجاهها ويقول "ماذا حدث يا ملاك؟ لم أفهم شيء من محادثتك بالهاتف كان الهلع يملأ صوتك"

كانت شبه ترتجف والضعف يتملكها من التعب والخوف والحيرة عندما شعر بها الرجل فقال "أنت ترتجفين، هيا تعالي لمكتبي"

تقدمت معه لمكتبه وغاصت بالمقعد الجلدي وشعرت بالدفء ينتشر بجسدها ورأته يمد لها كوب من الشاي ويقول "هيا اشربيه سيجعلك أفضل"

نظرت إليه وبدت عيونها الزيتونية قاتمة تحت الرموش السوداء وبدى وجهها نحيفا بشكل غريب ولم تكن شفاهها تحمل أي لون سوى الأبيض، تناولت بعض الشاي فجرى السائل الدافئ بعروقها وقد شعرت به وكأنه يحرقها ولكنها لم تتألم بل شعرت بالراحة

جلس فهمي أمامها وعيونه كلها قلق وقال "والآن هل تمنحيني أي حوار؟"

أغمضت عيونها وقالت "حمزة أخي، مات"

لم تزرف دمعة واحدة فهو لا يستحق أمام العالم لكن هي كانت تؤنب نفسها لأنها لا تبكي فهو آخر من تبقى لها من أهلها فكيف لا تبكيه؟ 

مسح فهمي جبهته العريضة نتيجة صلع رأسه وتراجع بالمقعد وقال "لا، كيف؟ ومتى؟" فتحت عيونها وقد تمنت ألا تتذكر ولكنها نظرت لفهمي وبدأت تحكي له ما حدث

****

شحب وجه يوسف السمنودي ابن أحمد السمنودي وهو يقف أمام جسد هامد فاقد للحياة، بشرة زرقاء وشفاه أكثر قتامة وعيون خامدة تذكر كم كانت تنظر له مبتسمة وتلك الشفاه التي كانت تنادي اسمه، كانت الجروح السطحية على وجهها قد جمدت وظل ينظر لملامحها وقد زاد الألم بقلبه وقد ظل يبحث عن أخته لثلاثة أيام متواصلة حتى وصل لذلك المكان البارد

لمسة على ذراعه أعادته للرجل الواقف بجواره وهو يقول "هل هي أختك؟"

هز رأسه وقال "نعم هي"

ابتعد للخارج ودفع المسؤول الجثة لمكانها وما أن خرج حتى قابل مسؤول الشرطة الذي قال "هل تعرفت عليها؟"

هز رأسه وقد بدا الثبات على ملامحه الحادة فقال الرجل "حسنا يمكنك التوقيع هنا حتى تستلم الجثة"

وقع على الأوراق واستوقف الرجل وهو يدس مبلغ من المال بجيبه وقال "كيف أحصل على معلومات عن الفتاة التي كانت معهم؟"

تلفت الرجل حوله خشية أن يراه أحد وهو يقول بصوت منخفض "سأمنحك العنوان هي تركت عنوان العمل الخاص بها قبل أن تستلم جثة أخيها"

هز رأسه والرجل يطلعه على العنوان والغضب يرتسم على ملامحه وهو يتذكر أن تلك الفتاة نجت من الحادث وأخته حياة سقطت ضحية لها ولذلك الشاب النصاب الذي كاد يقنع حياة بالزواج سرا ثم يطالب بحقوقها المالية وهو يعلم أن لها رصيد بالبنك ستحصل عليها بمجرد بلوغها الحادية والعشرين وقد كان بنهاية الشهر

خرج من المشفى ليتلقاه السائق فركب بالخلف وأجرى اتصالاته كي يتم استلام جثة أخته بالصباح ويتم ترحيلها للقاهرة حيث مراسم الدفن ولكنه ذاهب من أجل تلك الفتاة لن يتركها تهنأ بحياتها وسيسقيها من المرار ما لن تكتفي منه أبدا

****

بعد ثلاثة أيام من الحادث تمت مراسم الدفن الخاصة بحمزة بأحد مقابر الصدقة فهي لا تملك أكثر من ذلك ولم يكن هناك سوى القليل من الرجال الذين يعرفون حمزة ويشبهونه كثيرا بالأخلاق إلا ذلك الرجل وحيد بسيوني، رجل أعمال كان حمزة يعمل معه مثل شريك له بكل أعماله القذرة، هذا ما كانت تعرفه ولكنها تعرف أيضا عيونه الجائعة لها وكلماته التي كان يلقيها عليها كلما رآها بشقة حمزة حيث كان يقيم حمزة سهرات لا تلذ لها ولكن له هو كانت المتعة ولم تكن هي سوى خادمة تقوم بخدمته وخدمة الجميع مقابل أن تقيم بتلك الغرفة بشقته 

بالمساء دخلت مع فهمي للمكتب الخاص به وجلست بملابس العمل الخاصة بها على نفس المقعد الوثير وهي تشعر بإجهاد بكل جسدها وقد بدت آثار الحادث تصرخ من جسدها دون أن تحصل على أي راحة فأصحاب العمل رفضوا أي أجازه ولكنها قدمت استقالتها اليوم وقد قررت العودة للإسكندرية بلدها الرئيسي سمعت فهمي يقول

"ألا تتراجعين عن قرارك ملاك؟ لا يمكنك الرحيل من هنا، لمن ستعودين؟"

نظرت له بعيون مجهدة خالية من أي رغبة بالبقاء هنا وقالت "لبلدي عم فهمي، أنا لم أحب التواجد هنا، هذا المكان أكبر مما يمكنني البقاء به، لا يليق بي ولا أتناسب معه"

ابتسم بحنان وقال "أنت تناسبين أي مكان ملاك فقط لو تثقين بنفسك وجمالك"

أبعدت عيونها عنه وهي لا تكاد تسمع لكلماته فحمزة كان دائما يخبرها أنها فتاة قبيحة المظهر ولو كانت جميلة لاستطاع أن يكسب الكثير من وراءها وهو ما حمدت الله عليه لأنه ابتعد عنها واكتفى بجعلها خادمة له، أما هي فلم تفكر يوما بأن تكون جميلة وتركت نفسها للطبيعة تجملها كيف تشاء 

قالت "أنا أشعر بالراحة ببلدي عم فهمي وربما أحصل على شقة بجوار بيتنا القديم فجيراننا هناك مثلك يحبون بعضهم البعض"

نهض وتأرجح كرشه الكبير أمامه وهو يبتسم وتحرك لمكتبه وقال "لو لن تعتبريني فظا ولكني أشكر الله أن رحل هو ونجوت أنت فهو يستحق مصيره"

لم تتبدل ملامحها وهي تبعد نظراتها عنه تدرك صحة أقواله خاصة وأن فهمي ونعمة زوجته أكثر اثنان كانا يشاركنها مأساتها مع أخ انتهازي محتال لا مكان للحب والرأفة بقلبه بل لا قلب له أصلا

دق الباب ودخل حسن الطباخ وقال "نحتاج ملاك بصالة المشروبات عم فهمي، زهير زوجته بالمشفى فذهب والرئيس يطلب ملاك لتأخذ مكانه بآخر يوم لها معنا"

نهضت وتبعها فهمي قائلا "حسنا وأنا قادم لمتابعة العمل"

خرجت هي لقاعة المشروبات حيث تعتبر ملهى ليلي فاخر بالطبع لابد أن يكون حيث كان الفندق مكان يدخله فقط الأثرياء وكم كانت ترى المشاهير به ولكنها لم تنجذب لتلك الأجواء لم يكن وقتها يمنحها الكثير لتلتفت لهم فالعمل هنا تحت رؤساء صارمة والخطأ يكلف الكثير فلم تخطئ لتوفر لنفسها مصروفها الشخصي..

كان منتصف الليل عندما انتهى دوامها واستلم زميلها فترة الليل فخلعت المريلة وودعته وتحركت بعيدا عن مكان عملها إلى حيث يجلس الزبائن عندما ناداها فهمي فارتدت لتجده يقول "إلى أين؟"

قالت بتعب واضح "البيت عم فهمي لأكمل حزم حقيبتي سأرحل بالصباح"

جلس على المقعد العالي وقال "اجلسي ما زال الوقت مبكر والمكان لم يعج بالزبائن، الشتاء بالخارج يوقف الجميع عن الخروج، كيف سأصل لك فيما بعد؟"

ابتسمت ابتسامة شاحبة وقالت "لا أعلم، الهاتف بيننا أكيد سأهاتفكم"

ابتسم الرجل وأخرج ظرف صغير ودسه بيدها وقال "حسنا وهذا من أجل عودتك"

أبعدت يدها وهي تتراجع وتقول "لا عم فهمي لا تفعل أرجوك أنا لا أحتاج لشيء"

تراجع الرجل وقال "أعلم ملاك، هو قرض بسيط ويمكنك سداده من أول راتب لك"

دارت بالمقعد لتستند على المائدة الطويلة التي يجلس عليها الزبائن لتناول المشروبات وقالت بوجه محترق من الحمرة الباهتة "لا تنقصني قروض عم فهمي يكفي تلك الديون التي تركها حمزة لي وذلك الرجل وحيد يطالبني بها وكأني أنا من تسبب بها"

تحرك فهمي ليقترب منها وقال "ماذا أخبرته؟"

قالت "لا شيء"

لم تنظر له وإنما حدقت بالمرايا التي أمامها والتي تجعلها ترى باب المقهى الذي سد تماما بجسد رجولي، لم تستطع أن تنزع عيونها عن وجهه الطويل وشعره الأسود الممشط للخلف بطريقة ملفتة وبدا قوامه الممشوق ملفتا للنظر داخل حلته التي بدت قاتمة بالأضواء الخافتة للمكان والبالطو الثمين الذي يرتديه فوقها زاده ضخامة

تجمد جسدها وهي تشعر أن ذلك الرجل جعل نبضها يتسارع وقلبها يدق بطريقة مختلفة لم تعهدها من قبل تمنت لو ترتد أنظاره وتلتقى بعيونها لتظل تنظر له دون ندم وانصدمت عندما توقفت عيونه عليها وكأنه سمع نداءها الصامت، التفتت لفهمي عندما لمس ذراعها وهو يقول "ملاك أنا لابد أن أذهب، علي سيمنحك راتبك بعد أن تبدلي ملابسك"

هزت رأسها بابتسامة باهتة وكل رغبتها بأن تعود للمرآة لترى ذلك الرجل الذي هيمن على تركيزها وكأنها لأول مرة ترى رجلا ولكن الصدف لم تحرمها شيء عندما سمعت صوت عميق يقول من خلفها "هل لي بكوكتيل من فضلك؟"

رفعت رموشها السوداء للمرآة مرة أخرى لتراه يقف بجوارها بقامته التي أدركت أنها لم تقدرها جيدا وتسربت رائحة فاخرة لأنفها، سمعت فهمي يقول "ملاك، أنا أخاطبك"

ارتبكت وهي تنظر له وقالت "نعم آسفة إلى اللقاء"

ابتسم لها الرجل وكان من المفترض أن تذهب ولكنها التصقت بالمقعد دون أن تدرك السبب وظلت ساكنة لا تعرف ماذا تفعل فقط كان عليها أن تستدير بالمقعد لتواجه ذلك الرجل ولكنها لم تملك القوة لتفعل فكما وكأن وجوده سلبها القدرة على الحركة، خدر برائحته كل أجزاء جسدها، أوقف بنظراته عقلها عن العمل فقط قلبها هو من كان يعمل بكفاءة عالية لدرجة أنها تألمت من دقاته

صوته العميق ضرب أذنها وهو يقول "ملاك اسم جميل"

لم تنتبه لخطأها الذي أقدمت عليه إلا بعد أن وقعت به فقد جعلها صوته تستدير بمقعدها لتجد نفسها مواجهه له وقد جلس بجوارها ولأن جسده العملاق احتل مكانا كبيرا فقد كان قريبا جدا منها وبدت عصفورة ضالة بجواره انكسر جناها من تلك الصاعقة التي ضربته فوقفت هزيلة أمام مصدر الصاعقة غير قادرة على الطيران والفرار من الخطر الذي يهددها

حدقت بعيونه الرمادية كما أدركت تحت رموش سوداء كثيفة وحواجب سوداء أكثر كثافة، وجه طويل بعظام حادة بارزة منحت صاحبها قوة واضحة تناسبت مع قوة بدنه العريض وانتهى وجهه بذقن مدبب به طابع حسن أكد على جمال هذا الوجه ووسامته وقد اكتشفت أنه نزع البالطو ووضعه على ظهر المقعد فظهر قميصه الأبيض وربطة عنق سوداء، أفاقت عندما رفع الكأس لفمه وتناول بعضه بأصابع طويلة ليست سمينة ولا نحيفة 

حاولت أن تتذكر كلماته وهي تقول "ماما أصيبت بحادث صغير أثناء حملها بي ولكنها نجت وظنت أن الملائكة كانت تحرسها من أجلي فقررت أن تطلق اسم ملاك على جنينها ولم تكن تعلم ما إذا كنت ولد أم بنت"

لم تصدق أنها حكت له تلك القصة وهي أصلا لا تعرفه ولكن عندما ضاقت عيونه التي تحدق بها دون أن تفهم ما تنطق به فأخفضت وجهها لتسقط خصلات حمراء من شعرها المميز بلونه النادر على جبينها ليداعب عيونها الزيتونية وقالت بصوت مرتبك "آسفة لا تشغل بالك بقصة تافهة كهذه اسمح لي"

لفت المقعد لتذهب ولكن المقعد لم يستجيب وقد تسمر مكانه فرفعت وجهها لترى يده تمسك بظهر المقعد بقوة فعادت لعيونه التي انفرج عنها الضيق وبدت بطبيعتها وصوته العميق يندفع لعقلها وينبض له مرة أخرى قلبها وكأنه لا يسمع سواه وهو يقول "الاسم يناسب الفتى والفتاة، هل أدعوك لكوب من كوكتيل الفواكه؟"

لمعت عيونها الزيتونية لتجذبه أكثر لبريقها وجعلته يعيد الدعوة عليها بينما ظلت تحدق به لحظة قبل أن تقول "أنا لا أعرفك سيد"

لمحت شبه ابتسامة على شفتيه التي رسمت فم كبير وهو يقول "يوسف، يوسف أحمد"

اللعنة عليك أيها الرجل ماذا تفعل بي؟ ما الذي أصابني؟ وكأني سقط بهرم الفراعنة فأصبت بلعنة فرعونها الوسيم لأصبح مليكته التي أصبحت له هو وحده ولعنته تجمدها وتوقفها عن الحياة

هزت رأسها فطلب لها كوكتيل منحه لها زميلها فأحاطته بيديها الرفيعة ذات الأصابع الخمرية كبشرة صاحبتها الجميلة عندما قالت "شكرا لك سيد يوسف، لم يكن عليك أن تفعل"

تناول عصيره وقال بعيون تتفحصها بدقة بالجيب الأسود القصير والقميص الأزرق الذي سكن داخل الجيب محتضنا صدرها البارز من خلفه مظهرا جمالها الواضح، أما ذراعيها الطويلتين فظهرتا من خلال القميص الذي لم تكن له أكمام، قال بصوته العميق الذي يبث الحرارة بجسدها بجوار حرارته التي تنطلق من جسده لتصعقها بقوة 

"بل هو لطف منك قبول دعوتي يعجبني لون عيونك لو أنها تبدو حزينة فلماذا؟"

ظلت تحدق به وكأنه يعيدها من بعد التحليق بالسماء إلى الأرض، أبعدت عيونها وقالت "بالصباح كانت جنازة أخي"

أعادتها الأحداث إلى واقعها فابتلعت جزء كبير من العصير وتركها حتى تنفست بعمق وقال "تعازي الحارة آنسة ملاك"

هزت رأسها وعادت تتناول بعض العصير مرة أخرى ولكنه لم يوقف حرارة جسدها عندما مال عليها وقال "ألا يوجد من يشاركك أحزانك؟ أم أنك تنتظرين أحد؟"

رفعت عيونها إليه وليتها لم تفعل فقد كانت تجذبه لطريق مظلم لا يرى منه شيء فقط نقطتان زيتونيتان يتوسطان الظلام ويرسلان قوة جاذبة لكل جزء بجسده إليها، قوة جعلته يتمنى لو لمس وجنتها الشاحبة أو مرر يده على قوامها النحيل ليتلمس ليونته، وسقطت عيونه على شفاهها الرائعة ممتلئة ومرتسمة كالقلب تمنح الناظر لها دعوة لتقبيلها بقوة حتى تتورم فتزداد جمالا 

سمعها توقظه من رغباته التي فاجأته فتناول آخر قطرة من العصير وهي تقول بصوت رقيق بريء جعله يتعجب "لا أنتظر أحد، بالحقيقة كنت راحلة قبل وصولك بلحظات والآن أنا"

نظراته جعلتها تفقد السيطرة الكاملة على كل أعصابها، ما الجنون الذي يصيبها؟ استدارت بالمقعد ونهضت فنهض هو الآخر بنظرات حائرة متسائلة فقالت بعيون هاربة من مواجهته وبكلمات متعثرة "أحتاج الحمام"

ولم تنتظر وهي تنطلق خارجة إلى الحمام وأسرعت إلى واحد منهم ودخلته وأغلقت الباب على نفسها ولم تتحرك وهي تحاول أن تتنفس بانتظام ليتوقف قلبها عن الدق، قلبها الخائن يضعفها يبعثر أفكارها ويوقف عقلها بقوة عن التفكير بالصواب فهو يريد ذلك الرجل فقد سقط بهواه من نظرة واحدة وتمنى لو يكون ملكه، أغمضت عيونها وهي تضرب الباب برفق بقبضتها وتقول بهمس

"مجنونة، لا تجعلي ضعفك يقودك، أنت لن تمري حتى على مخيلته، ذلك الثري المرفه لن يرى بعوضة مثلك"

التفتت واستندت على الباب ونظرت للسقف المضاء بجودة عالية ومن داخلها صوت يقول "العقل طالما ساندك فلن تفقديه الآن"

لكن من داخل صدرها نبض صوت آخر يهمس "لو أرادك لن يرحل وسيعود من أجلك"

لكن عقلها يكسب وهو ينهرها بقوة "استيقظي من الأحلام يا ابنة الخياط وأخت المحتال، لن يمر طيفك حتى على رجل مثله"

نعم لن تمر على رجل مثله، ابتعدت عن الباب وفتحته بيد مهزوزة وخرجت لتصطدم بمظهرها بالمرآة، عيون متعبة ووجه شاحب، بشرة خمرية صافية كصفاء السماء بمنتصف أغسطس، ذقن مدبب جذاب، أما شعرها الذي جذبته للخلف كذيل حصان فقد تبعثرت خصلاته بدون تنظيم ومدت أصابعها المرتجفة في محاولة فاشلة لضبط أي شيء به ولكنها فشلت فنفخت وخرجت وهي تستسلم إلى أن الرجل فر هاربا قبل أن تتعلق به تلك المتشردة

عادت للقاعة فلم تجده بالفعل واختفى معطفه الثمين ولم تستطع أن تمنع شعورها بالحزن وانقبض قلبها وهي تتجول بعيونها بحثا عنه وتمنت لو تجده ولكن للأسف رحل، طعنة حادة أصابتها بقلبها فأوجعته، لامت نفسها على مشاعر واهنة تملكتها بلحظة عابرة لرجل مر بحياتها كالطيف واختفى باللحظة التالية، تحركت لمكانها وأخذت حقيبة يدها والجاكيت الصوف الأسود وارتدته وودعت زميلها وتحركت للخارج حيث قررت الذهاب وقد أصبحت الواحدة صباحا كادت تصل للباب عندما رن هاتفها فتوقفت لتخرجه من الحقيبة لتجد اسم وحيد فنفخت بضيق وأغلقت الصوت وأعادت الهاتف لحقيبتها وكادت تتحرك مرة أخرى عندما سمعت الصوت الذي أعادها للحياة وأعاد الأمل لها يقول

"هل أصحبك لمكان؟"

التفتت لتراه وقد حمل البالطو على ذراع واستقرت ذراعه الأخرى بجواره وانتبهت لعيونه الرمادية وقد بدت لامعة تقارب الأزرق القاتم وقالت بارتباك من موجة الحرارة التي هاجمتها بقوة "أي مكان؟"

انحنى تجاهها ولفحتها نسمة دافئة معطرة برائحة عطره جعلتها ترتجف وهو يقول "فندقي مثلا؟"

ارتج جسدها من عرضه السافر وشعرت بأن الدماء تنسحب منها بل الحياة ترحل عنها وجف حلقها ونست ما يمكن أن يقال بموقف كهذا ولم تجد أفضل من أن تتحرك بقوة كاذبة تجاه الباب وتخرج ليصفعها الهواء البارد بقوة يكاد يلصقها بزجاج الباب مرة أخرى فتمالكت نفسها وجذبت أطراف الجاكيت حول نفسها وتحركت والرياح تشتد ولكن يد قبضت على ذراعها لتوقفها فجأة وحائط طويل وعريض يصد الريح عن ضربها وصوت تعرفه يقول 

"أعتذر"

كانت تحدق به بغضب ممتزج بدموع الإهانة وهي ترى نبض حي ينبض بعيونه تجاهها، ربما تنتابه نفس مشاعرها، ربما انجذب لها كما فعلت هي ولكن ليس كعاهرة أو فتاة ليل لم ولن تكون، ليس لأنها تعمل بملهى ليلي بفندق ستكون ملك لأي رجل

أبعدت يده وقالت "قبلت اعتذارك اسمح لي"

كادت تتحرك ولكنه سد طريقها مرة أخرى وقال "حسنا دعيني أوصلك إلى حيث تريدين الجو ليس مثالي لتتحركي على قدمك"

هزت رأسها بالنفي وقالت "أشكرك، لا داعي لتعطيل نفسك"

وتحركت وتركها تفلت من أمامه ولم يتابعها وهاتفه يرن فأخرجه من جيب الجاكيت وهو يعود إلى باب الفندق بينما تحركت هي وفتاتين يراقبانها وواحدة تقول "هل تجرؤ على أن تفعل معه ذلك؟ ألا تنظر لجماله ووسامته بينما هي"

وضحكت الفتاتان وهي تحاول ألا تلوم نفسها لأنها رفضت دعوته لتوصيلها بهذا الجو الصعب توقفت والتفتت لتعبر الطريق بانتظار الإشارة وقد هطلت الأمطار بطيئة معلنة عن أخرى أقوى منها عندما توقفت سيارة سوداء حديثة سبور أمامها وفتح زجاج السائق لترى عيونه الجريئة تواجهها وهو يقول بقوة "اركبي، المطر سيهبط بغزارة، اركبي"

لم يمكنها أن ترفض الدعوة تلك المرة وقد أدركت أنه على حق وربما كلمات البنات أثرت بها أو لأنها لم ترغب في رحيله دون أن تعرفه أكثر

منحها مناديل ورقية جففت المياه من على وجهها وعندما انتهت اكتشفت أنها لم تعد تشعر بالبرد والتفتت لتواجه ملامحه الجامدة وقد كان يشعر بها بكل جزء من كيانه عندما قال "تعلمين أني معجب بك"

فتحت عيونها عن آخرها لتعبر عن الدهشة التي صرعتها، لم يواجها وهو يقول "وأعلم أنك تبادليني المشاعر"

لم ترد وقد اكتسى وجهها بالأحمر فأكمل "وأنت لست فتاة ليل كما أظن، ولا أنا برجل زواج فما الحل؟"

ارتجفت فجأة رغم المكيف وتعالت أنفاسها فتأرجح صدرها مع الشهيق والزفير المتسابقين داخل ضلوعها ووضعت يدها على قلبها لتوقف الألم الصارخ من قوة ضرباته ولم تتمكن من النطق عندما شتتت الماسحات على الزجاج تركيزها وهي لا تجد ما ترد به عليه ولكنه نظر إليها فارتدت وكأنها تخشاه فضاقت عيونه من رد فعلها ولكنه أعرض عنه وقال "ما رأيك بالزواج العرفي؟"

احتدت نظراتها وصدمها عرضه أكثر فأبعدت وجهها وقالت "أوقف السيارة من فضلك طريقنا ليس واحد"

كانت تبدو هادئة رغم الجحيم الذي يشتعل داخلها، لم تلاحظ أصابعه التي ابيضت من قوة ضغطه على عجلة القيادة ولكن نبرة صوته لانت وهو يقول "بل هو واحد ملاك، وبدلا من أن يكون الحرام سبيلنا فالعرفي حل وسط، لا أنا سأتزوجك بطريقتك ولا أنت ستسمحين لي بأن أصحبك لغرفتي بالفندق دون عقد لذا دعينا نحصل على اثنين من الشهود ونوقع تلك الورقة ونمضي وقت سعيد سويا ثم يرحل كلا منا لطريقه"

كادت تفتح الباب والسيارة تتحرك لولا أن انحنى وأمسك يدها بقوة وهو يهتف "توقفي يا مجنونة"

أبعد يدها وأغلق القفل الالكتروني للأبواب فصرخت به "أوقف السيارة وأنزلني الآن هل تسمع؟ سأصرخ وأجلب العالم كله ليقتلعك من جانبي انزلني أيها الجبان"

احتل الخوف والفزع مكان مشاعرها السابقة ورحلت مشاعرها التي سكنت فؤادها منذ وقعت عيونها عليه ولكنه بلحظة تبدل مرة أخرى وقال "حسنا لقد صدقت أنك لست فتاة الليل ولا الفتاة العابثة دعينا نوقظ أي مأذون مجنون مثلنا ليمنحنا زواج شرعي يمكنني من بعده أن آخذك لفراشي بأسرع وقت"

فقدت القدرة على الحركة وهو يقود بالمدينة التي قل بها الزحام بسبب الأمطار المعتادة على المدينة الساحلية وتلجم لسانها وهي تحدق به وهو لا ينظر لها ولكنها تزرعت بآخر قوة لديها وهي تقول بصوت واهن "لماذا؟"

واجهها بنظرة صدقت ما بها من عاطفة مختلطة بالرغبة وهو يقول "لأني منذ وقعت عيوني عليك شعرت أنك لن تكوني إلا لي وما أريده أحصل عليه"

قالت وما زالت الدهشة تتملكها "أنت تعي ما تريد أن نفعله؟ الزواج ليس بلعبة سيد يوسف نحن لا نعرف بعضنا البعض"

ذابت قوتها عندما قبض على يدها ونظر بعيونها بتلك النظرة وقال "نعرف أننا نريد بعضنا البعض بنفس القوة ونفس المشاعر وهذا يكفي ملاك"

هزت رأسها بالنفي ولكنه لم يمهلها أي وقت للتفكير وهو يتوقف بالسيارة أمام أحد البيوت دون أي كلمات منه أو مقاومة منها

****

كانت تتأمل المبني الشاهق الذي تحركت سيارته لتدخل الجراج الخاص به والصمت يلفهم ولكن عندما دخلا المصعد بدأت تستعيد وعيها من الغيبوبة التي لفتها باللحظات السابقة وكأنها فقدت الوعي واستيقظت لتجده يجذبها من ذراعها لسيارته ويقود بصمت وها هو يدفعها للمصعد برفق ويقف شامخا بجوارها وهي تعي جيدا ما يفعله وجوده بها وما هي ذاهبة لتفعله، هل حقا تزوجته وأتت معه لشقته الفندقية وستمضي الليل بفراشه؟ وماذا بعد ذلك؟ ألم تفكر ماذا سيحدث لها بعد ذلك؟ هل سيلقيها بعدما ينتهي منها؟ بالتأكيد لن تكون زوجة لرجل مثله باقي حياته وماذا؟ أي جنون هذا الذي سقطت فيه؟

فتح الباب بصافرة جعلتها تنتفض فالتفت لها مدركا ما يحدث لها فأمسك يدها وجذبها للخارج بنفس الصمت ولم تنظر حتى للمكان الفاخر الذي كان يمر حولها حتى فتح باب ودفعها للداخل وأغلق خلفه ووضع معطفه على المقعد وظلت واقفة تتأمل الشقة الفاخرة المفروشة بكل ما يدل على الثراء الفاحش والجمال الزائد لم يتوقف وهو يمسك يدها مرة أخرى ويجذبها لممر جانبي وبثاني باب فتحه بيده الأخرى ودفعها للداخل وأضاء النور وهي تكتشف أنها غرفة نوم وردية، انتفضت عندما وضع يده على كتفها وابتعدت فقال بنظرة مثيرة 

"اخترت تلك الغرفة الوردية فهي أفضل لليلة الزفاف، الحمام هناك سأبدل ملابسي حتى تنتهي"

ابتعد مختفيا وراء باب جانبي وظلت متجمدة بمكانها لا تصدق ما يحدث لها ولكن عقلها حاول أن يتحدث ويأمرها أن ترحل من هنا فورا ولكن قلبها انتصب واقفا وهتف داخلها بأنه أصبح زوجها وهي زوجته ووجودها هنا أمر شرعي لا خطأ به، أما لماذا وكيف وما النتائج فلا مجال لها الآن كلاهم يريد الآخر وينهار عند قربه هي تدرك أنها كانت لتستسلم له لو ضغط أكثر فالضعف والجبن مشاعر زرعها حمزة داخلها منذ الصغر يكفي أن يحدق بها بتلك النظرة حتى تسقط تحت قدميه كالفأر الجبان

تركت جاكيتها البالي وحقيبتها وتحركت للحمام، كل ما تراه عرفته بالفندق الذي كانت تعمل به ولم يكن يثيرها بأي شكل، ترف لا يعني إلا فراغ لمن يهواه فقط القراءة هي التي تمنحها شعور بالحياة القراءة هي ما تلفها بكل أوجه الثراء. لم تأخذ وقت كبير بالاستحمام ورأت الروب المعلق فأخذته وارتدته وتركت شعرها المبلل على كتفها بدون اهتمام ثم خرجت لتراه يقف أمام النافذة ويرتدي نفس الروب وشعره مبلل مثلها ورائحة عطره تملأ الغرفة

التفت لها وتألقت عيونه ببريق دافئ خطف قلبها، نظراته تعني عاطفة دافئة جعلتها تنقاد وراء قلبها أكثر وترغب به أكثر، تحرك تجاهها وهي لا تخطو خطوة واحدة، كان يعلم أن المبادرة لابد أن تكون منه فذلك الجمال الأخاذ يسحره يأخذ لبه يوقف الصح من مخيلته ويدفعه وراء الرغبة بها، يريدها بقوة يتذوق طعمها يلمس نعومة بشرتها ويقبل كل جزء بها وقد نسى ما كان بطريقه ليفعله معها قبل أن يصطدم بعيونها الجذابة

ما أن وصل لها حتى تخللت يده خصرها وانقض على فمها بقوة جعلتها تنثني للخلف من قوة قبلته ولم تدرك ماذا تفعل؟ لأول مرة يقبلها رجل واتسعت عيونها ويداها متصلبة بجوارها وما زال يقبض على شفاهها المغلقة بقوة وكأنها تشنجت وفقدت الحياة ورغم ذلك لم يتوقف ولكنه همس وشفاهه على فمها "قبليني ملاك، أنا زوجك"

قلبها كاد يتوقف من كثرة الدماء التي يضخها لجسدها كي تتحمل ما يواجها، قبلها مرة أخرى وهي تحاول أن تهدأ من الفزع الذي تملكها ولكن يده التي تسربت لعنقها جعلتها تنتفض أكثر وعاد يهمس "هيا ملاك فأنا لن أتوقف"

ترك شفاهها ونثر قبلات رقيقة على وجنتيها جعلت جسدها يعود للحياة وتسرب لعنقها حيث نبض عرق به فقبله لتشعر بمشاعر لم تعرفها من قبل، حاولت أن تدفعه عنها بأي قوة متبقية ولكنه كان أقوى ولمساته كالنار تذيب الجليد، كانت تسمع وتقرأ عن الحب والرغبة، رغبة مدمرة تأخذ الحياة من الأجساد وتجعلها تنصهر بين جسدين ليتحدا معا بلحظة تجعل الطرفان في سعادة لا مثيل لها وهي الآن تنسلخ من الخوف الذي كان يأسرها وتنجذب للرغبة نعم هي ترغب بذلك الرجل الذي فرض سيطرته عليها بطريقة جعلتها تصبح كالصلصال بيده يشكلها كما يشاء، لم تدري متى سقط روب الحمام ولكنها تدرك قبلته المتملكة وهو يرتد لها وقد ظلت يداها صامتة بجوارها ولكن بلحظة كان يحملها بسهولة فدارت بها الدنيا ونظرت له فواجه نظراتها وهو يضعها بالفراش وقال 

"أنت فراشة متمردة ولكني سأروضك"

ابتعد ونزع روبه فأبعدت وجهها عن جسده العاري بخجل لكنه لم يهتم وهو يعود لها بقوة ليعيدها لها حتى بدأت تستجيب لرغبتها وكلماته وأدركت أنها كامرأة تستطيع أن تتجاوب معه بليونه زادته رغبة بها ولم ينتبه للحظة التي تألمت فيها وإنما أطلق لرغباته العنان دون توقف

ارتد على ظهره محدقا بسقف الغرفة مبعدا ذراعه عن جسدها النحيل الذي ينام باسترخاء على ذراعه الأخرى، أخيرا عاد لوعيه ولكن بعد ماذا؟ عاد لها وبمنتهى الحرص جذب ذراعه من تحت جسدها الناعم الذي استسلم له بوقت كان مميز حقا

نهض دون ازعاج وارتدى روبه وتحرك إلى النافذة وقد هدأت ثورته الجسدية بذلك اللقاء الحار والذي لم يجربه من قبل رغم مغامراته المعروفة، التفت للجسد المستلقي باسترخاء هناك على فراشه وتساءل، كيف فعلت به ذلك تلك الفتاة؟ كيف من نظرة أشعلت به كل نيران الرغبة وجعلته بنظرة واحدة يهرع للمأذون ويتزوجها لينال ليلته معها، لم يكن هذا ما خطط له، كان يريد أن يذلها يأخذها دون زواج ثم يلقيها ذليلة بالشارع ولكنه بدلا من ذلك تزوجها، يوسف السمنودي الأعزب الأول بالعاصمة يسقط مهزوما أمام فتاة محتالة مثلها

ثار الغضب داخله على نفسه ومما فعل، لن يمكنه التراجع بما وقع ولكن لديه حل ولابد أن ينتهي منه قبل أن يرحل لدفن أخته غدا ولن يرتد للماضي مرة أخرى كفاه ما ناله سيجعلها تتألم عندما تدرك حقيقة ما فعل بها ووقتها ستندم لأنها ظهرت بحياة أخته وتآمرت مع أخيها عليها

أخذ حمام وارتدى بدلته وأرسل حقيبته للسيارة وقد أعلن النهار عن نفسه بأشعته الباهتة بعد ليلة شتاء قارصة وارتفعت أمواج البحر أمامه تقلب ماضيه على حاضره، رجل الأعمال الناجح الذي لم يخسر صفقة واحدة منذ سنوات كثيرة، لم ينتظر والده منه الزواج والأسرة، كان يعلم أنه لن يفعل ولكنه اليوم فقد عقله وكل ما آمن به منذ أربعة وعشرين عاما اليوم هزمته فتاة مجرد فتاة حقيرة أسقطته أرضا وثبتت أكتافه وصرعته مهزوما، اللعنة

تحرك جسدها الصغير بالفراش، تأوهت بصوت عذب كالملاك وعندما فتحت عيونها من بين شعرها النحاسي الأحمر صدمها ضوء النهار فأغلقت عيونها حتى تعتاد ولكنها فتحتها مرة أخرى بفزع وهي تستوعب أين هي وماذا يحدث لها وكيف تنام هكذا بدون ملابسها ثم استوعبت نفسها وهي تلتف بالغطاء وتذكرت ما حدث بالليل وزواجها و..

التفتت باحثة عنه، ذلك العملاق الذي هيمن عليها بقوة ورقة بذات الوقت جعلها امرأته بعذوبة وانسيابية، ليلة جعلتها ترفرف كاليمامة من شجرة لأخرى بسعادة، ابتسمت عندما أدركت أنها كانت له وهو همس لها أنه يتمتع معها، مدت يدها لتبحث عن جسده فلم تجده، كان الضوء واهن فلم يضيء الغرفة كلها، نهضت فلم تجد سوى روبها فارتدته وتحركت حافية إلى النافذة الزجاجية لتنبهر بمنظر البحر الرائع أمامها يمنح الراحة والسكينة

تأملها بنظراته تلك الصغيرة الواقفة هناك بالروب الأبيض وشعرها الناري يتساقط بلا انتظام بدت كالملاك كاسمها وساقيها الملفوفة تأخذه من تحت الروب، عاد الغضب يحرق كل جسده ناقما على نفسه استسلامه لنزواته الرخيصة وهو الذي لم تأخذه امرأة من قبل ولم تتحكم به نزواته كما فعلت هي به فغضب من نفسه ونفخ بقوة جعلتها تنتفض لتستدير وتراه يجلس أمامها ويسقط الضوء عليه فبدا كالعملاق خارجا من الظلام محطما كل الموانع بقوته ومن بعيد رأت نظرة غير مريحة بعيونه لم تفهمها ربما من الضوء الباهت حولهم ولكن قلبها انقبض من مظهره وجلسته هكذا أمام الفراش

نهض وتحرك بخطى ثقيلة حتى وصل أمامها فرسمت ابتسامة رقيقة على وجهها وتوردت وجنتيها من ذكرى الأمس حتى رأته يتضح أكثر عندما سطع النهار أكثر داخل الغرفة ليسقط جسده بدائرة الضوء ويواجها من مكانه فحدقت به وقالت "صباح الخير"

نظراته جمدت الابتسامة على شفتيها والبريق القوي الذي خرج من عيونه جعلها تفقد لونها الوردي وعاد للشحوب الذي لازمها مؤخرا، وارتجفت أقدامها فجأة وهي تشعر بأن ذلك الوجه الخشبي الذي اختفت منه معالم العاطفة الجياشة التي أخذتهم بالليل وتبدلت بأخرى باردة أثارت قشعريرة بكل جسدها جعلتها تشعر وكأنها بانتظار عاصفة ثلجية ستهدمها بلا رحمة، عندما نطق كان صوته العميق مخيف وكأنه يأتي من بعيد يحمل نبرة لم تفهمها وهو يقول

"لا أظن أنه صباح محمل بأي خير أيتها الملاك الزائف"

بدون وعي ارتفعت يداها لتضم روبها حول جسدها بقوة وخوف وهي تنطق بصعوبة "زائف، أنا"

قاطعها بقوة أرعبتها "نعم، زائفة ونصابة ومحتالة وقاتلة"

تراجعت وكأن كلماته تدفع جسدها بقوة للخلف لتلصقها بالزجاج السميك وهي تحدق به وتقول بكلمات لا تقوى على الخروج متناسقة من الصدمة "أنا، نصابة! لا! أرجوك"

بخطوة منه كان يقف أمامها ويقبض على ذراعها ويحدق بوجهها الشاحب وعيونها التي فقدت لونها ورفعت وجهها لتصل لملامحه المرعبة وهو يقول "لن يوقفني رجائك عن الانتقام لما فعلته أنت وأخيك بأختي، قتلها كلاكم بدون رحمة وانتزع الموت أخيك من يدي لكن ما زلت أملكك"

عيونها لم تتسع بيوم مثل الآن، أما قلبها فكاد يتوقف وهي تحبس أنفاسها من الخوف الذي بثه ذلك الرجل بها وهي تردد بدموع تحرق عيونها "أختك!؟"

هز رأسه وهو يضغط على ذراعها بقوة غضبه وقال من بين أسنانه "أنت لم تهتمي لمعرفة اسمي بالكامل، رغبتك بإيقاع ذلك الثري الذي سيأخذك لناطحة السحاب ويسكنك بشقة لم تعرفيها من قبل وتنامين معه بفراشه وتمنحيه نفسك جعلتك لا تهتمين بمعرفة الرجل الذي تزوجته"

تساقطت الدموع غزيرة على وجهها وضربتها الإهانة بشكل موجع وكأنه لم يكن زوجها الذي نامت معه بالليل ومنحته جسدها برضائها، شعرت الآن وكأنها تريد إقامة سد بينها وبينه ولكن يا له من سد واهن لا معنى له مع ذلك العملاق الثائر وبصعوبة قالت "ليس صحيح"

هزها بقوة وهو يقول "كاذبة، ماذا كنت تفعلين بذلك الملهى إذن؟"

لم تجد سوى إجابة صريحة "أعيش به أعتبره أكثر من بيتي ولكن.."

لم يدعها تكمل وهو يقول "بالتأكيد فهو مصدر رزقك ومنه تتصيدين الرجال الأثرياء وتتلاعبين بهم تماما مثلما يصطاد أخيك الفتيات الأثرياء أيضا وينال أموالهم ثم يتركهم محطمين ولكن أختي كانت أسوأهم حظا فقد فقدت حياتها بسببه ورحمه الموت مني ولكن أنت، أنت خرجت من الحادث بلا خدش واحد وكأن القدر يمنحني الجائزة"

ارتجفت وهي تحاول استيعاب ما يقول وهتفت من بين دموعها "من أنت؟"

قربها من وجهه بدرجة مخيفة وهو يقول "يوسف أحمد السمنودي، حياة أحمد السمنودي هل يذكرك الاسم بشيء"

تخاذلت ساقيها عن حملها وكادت تسقط ولكنه لم يفلتها وهي تلصق جسدها بالزجاج الذي خلفها ولا تصدق أنه أخو حياة تلك الفتاة الجميلة التي اتخذها أخيها صديقة له مؤخرا وأراد أن يتزوجها وقد ظنت أنه يحبها بصدق حتى قبل الحادث بيوم عندما سمعته يتحدث بالهاتف ويخبر أحدهم أنه سيتزوجها من أجل أن يحصل على أموالها ويسدد ديونه التي صدمت بها بعد وفاته وهي لم تكن تعرف تلك الفتيات اللاتي كان حمزة يعرفهن من قبل فقط حياة هي من عرفتها وأحبتها

عاد يكمل "والآن أنا انتقمت، نلت منك ودمرتك كما أراد أن يدمر أختي، فوجودك هنا بشقتي وبفراشي يمثل انتصار عظيم لي"

وضعت يدها الحرة على فمها وهي لا تريد تصديق ظنونها وهي تقول بصعوبة "زواجنا"

ضحك بطريقة جعلتها تزداد رعبا وألما وقال "كذب، ليس هناك زواج، خدعة، غش واحتيال تماما نفس طريقة أخيك كي أجذبك لفراشي وتمثيل بالضبط كما كنت تمثلين دور الشريفة وأنا أعلم جيدا أي امرأة رجال أنت"

ودفع ذراعها بعيدا عنه لتفقد اتزانها وتترك جسدها يسقط على الأرض والصدمة تقتلع كل البراءة التي كانت داخلها، هل فعل بها ذلك حقا، أخذها لفراشة بالحرام دون زواج؟

ظلت تحدق بالأرض والصدمة تنال منها وقد ابتعد هو وقال "من الجميل رؤيتك هكذا فهو يطفئ نيراني المشتعلة على وفاة أختي، شكرا لأنك سهلت انتقامي، الشقة مدفوعة الأجر حتى نهاية الشهر يمكنك التمتع بها نظير تلك الليلة الحمراء"

سقطت كلماته على قلبها كماء النار يذيب كل جميل يسقط عليه، هي الآن فتاة ليل، عاهرة، امرأة لأي رجل وبسعر مرتفع حقا، لا! هي ليست كذلك، لم تكن أبدا إلا تلك البنت العفيفة الخجولة التي حافظت على نفسها للرجل الذي كانت تحلم به أما اليوم؟ اليوم ضاع كل شيء وهي تدفع ثمن أنانية أخيها وسوء أخلاقه وما فعله مع أي فتاة نالت هي جزاؤه وهي بريئة من ذنوبهم ولكن هي أيضا تستحق ما حدث لها فكيف تتزوج رجل لا تعرفه من أول لقاء وترضخ لرغباتها دون أي عقل؟ هي من أخطأ وهي من عليها تحمل خطأها

سمعت صوت الباب يغلق بقوة فشعرت بالبرد يجتاحها فضمت ركبتيها إليها بذراعيها وانهارت بالبكاء بقوة لم يمكنها أن توقفه لوقت لم تدرك كم طال..

الفصل الثاني

مواجهة

أصبح الجو خانقا ببداية الربيع وملاك تتحرك عائدة لتلك الغرفة التي استأجرتها بالحي الشعبي بعد عودتها منذ شهرين للإسكندرية وها هي تدخل لأول مرة لذلك الشارع الكبير الممتلئ بالمحلات الفاخرة لأن الشارع الآخر قد توقف السير به بسبب تفجر مياه البالوعات لتمنع حركة السير به فاضطرت لدخول ذلك الشارع الذي لم تجرؤ على المرور به من قبل فهي أصبحت منطوية منذ تلك الليلة وكرهت كل ما يبعث على الترف وظلت تبحث عن عمل بأي شركة كسكرتيرة أو حتى معلمة بمدرسة ولكنها لم تنجح حتى الآن، شهرين من البحث المتواصل منذ الصباح وحتى المساء حتى هلكت من التعب ولم يعد لديها ما يكفيها من المال لدفع إيجار الغرفة للشهر القادم وبالكاد تجد ما تأكله

الأضواء التي ملأت المكان جعلتها ترفع عيونها الذابلة والمتحلقة بهالات سوداء من التعب إلى ذلك المول الجديد الذي يبدو أنه بطريقه للافتتاح قريبا ولكنها توقفت عندما رأت الاسم "مول الحياة، سلسلة السمنودي"

ذلك الدوار جعلها تغمض عيونها وقد أخبرها الطبيب بالمستوصف الخيري أنه سيظل معها خاصة بالشهور الأولى، الحمل ذلك الخبر الوحيد الذي أدخل سعادة غير متوقعة إلى حياتها التعيسة، سعادة لا تعلم كيف كانت وهي لا تدرك كيف ستخبر الناس عن والده أو كيف ستمنحه صفة شرعية ومع ذلك كانت سعيدة بأن هناك من سيشاركها حياة الوحدة التي كتبها القدر عليها..

عادت لشارعها واشترت كارت لشحن هاتفها لتحصل على شبكة انترنت وما أن دخلت البيت حتى أسرعت للحمام ولم تجد ما تلقيه إلا عصارة معدتها فهي لم تتناول إلا كوب شاي بحليب وقطع بسكويت لا تذكر منذ الصباح أحيانا كثيرة فكرت بقتل نفسها ولكنها تعود وتستغفر ربها فلن تموت كافرة فرحمة الله واسعة وبالتأكيد هو الذي سيحل لها مشاكلها فليس لها سواه أما تلك الروح الصغيرة فالله أيضا من أنشأها داخلها وهو الذي سيمنحها الحياة لذا هو أيضا من سيجعلها أم قوية قادرة على خوض المشاكل من أجل جنينها

هدأت واغتسلت وبدلت ملابسها ثم أعدت بيض مقلي وتناولته بدون شهية وكل ذهنها باسم السمنودي، هي تعلم أن عائلة حياة تقيم بالقاهرة فما الذي أتى بهم هنا؟ الإسكندرية ليست بلد تناطح العاصمة وهل ترك كل المدينة واتخذ من الشارع الخلفي لبيتها مقر للمول الخاص به؟

تركت الطعام بدون رغبة بإكماله، أمسكت الهاتف وفتحت الصفحة الخاصة بمحلات السمنودي، كثيرا ما تحدث حمزة عن مدى ثراء تلك العائلة واتساع محلاتهم بكل مدينة بمصر وربما تمتد لخارجها وها هو يمد ذراع جديدة لمدينتها، رأت صور كثير للعملاق الذي احتل قلبها بتلك الليلة وسرق عذريتها واغتصب شرفها 

تمنت لو كرهته واحتقرته لم فعل بها ولكن عندما تذكر أخته وما كان حمزة ينوي أن يفعله بها حتى يهدأ قلبها الملتاع ويسقط مهزوما أمام انجذابه وضعفه تجاه ذلك الرجل الذي أوقعها دون رحمة

قرأت بالصفحة عنوان فوق صورة رجلها الوسيم مع رجل أعمال سكندري وكلاهم يبتسم للكاميرا ابتسامة تكاد لا تذكر وكتب "اتحاد جديد للسمنودي مع الشرقاوي، محلات السمنودي تقتحم الاسكندرية مرحبا بالجودة العالمية لمنتجات السمنودي الفاخرة تحت رئاسة ألأعزب الأبدي يوسف السمنودي"

سقط الهاتف على المائدة من بين أصابعها وشعرت بأن جسدها ينهار تحت ثقل ما تحمل، فجأة رفعت رأسها وهي تذكر جنينها، جنينه، ابنه الذي لابد أن يدرك بوجوده، لن تكتم الأمر عنه، لن تدفن رأسها بالرمال لأنها خائفة من عملاق قاسي بلا مشاعر، عليه أن يعرف أن فعلته الشنيعة أنجبت طفلا، طفلا لا ذنب له سوى أن والده أراد الانتقام من فتاة بريئة لا ذنب لها بأي شيء، نعم لابد أن يحمل وزر ما صنع وليس هي وحدها، المول أصبح قريبا والافتتاح الليلة وبالتأكيد سيكون موجود وليس هناك أفضل من تلك الليلة لتصفعه بقوة كما صفعها من قبل..

****

بدا الزحام شديد والسائق يجاهد ليدخل بالسيارة ليصل إلى باب المول حتى نجح أخيرا وما أن توقف حتى نزل وفتح لسيده الذي ترجل من السيارة وانتصب واقفا وهو يغلق جاكته بغرور واضح وأضواء الكاميرات تحيطه والصحافة لا تتراجع وهو يخترق بساقيه الطويلة والواثقة من خطواتها بين الزحام إلى الداخل حيث الحفل الكبير الذي أقامه شريكه الشرقاوي، محمود زين الشرقاوي رجل الأعمال الناجح أعد الحفل بمناسبة الافتتاح ورغم انشغال يوسف بالكثير وبخاصة مرض والده الذي سقط به منذ وفاة حياة إلا أنه لم يقصر بأي جهة من الاثنين سواء والده أو عمله

لم يجب على أي أسئلة وهو يدخل ليتلقاه الشرقاوي بابتسامة رائعة ويعرفه على مجموعة العاملين الإداريين ويأخذه بجولة بالمول بمحلاته الرائعة حديثة البناء وبالنهاية وصلوا إلى قاعة أفراح أقيم بها حفل الافتتاح وبالداخل تلقى الترحيب من كثيرين كان يعرفهم حتى رأى هدير زوجة الشرقاوي صديقه الوحيد ولكنه أيضا يعلم هدير صديقة لامرأة لا يريد أن يذكرها

ابتسمت له هدير وقالت "وأخيرا يوسف، مر الكثير منذ آخر لقاء لنا"

لم تتبدل ملامحه الجامدة وقال "آسف هدير أعلم تقصيري ولكنك تعلمين الظروف والعمل وحالة الوالد"

ذهبت ابتسامة الجميع وردت هدير "نعم، مسكينة حياة كانت فتاة رائعة، البقاء لله يوسف"

تبدلت ملامحه لتزداد بشرته قتامة وتنطفأ لمعة عيونه وقد مر طيف الشعر الأحمر بذهنه كما لم يفارقه بالشهرين الماضيين، لم تؤثر به امرأة مثلما هزته تلك الفتاة وجعلته يغضب من نفسه لتصرفه الطائش معها واحتقر كل امرأة حاولت دخول حياته من بعدها فلم يفعل

انتبه لكلمات محمود فقال "بابا يدمر نفسه بانغلاقه على نفسه ولا يسعى للخروج للحياة مرة أخرى"

قال محمود "كان يدللها كثيرا وأنت أيضا يوسف، كلاكم فعل"

هز رأسه بالفعل ولكن محمود أبعد الحديث عن حياة وقال "ألن تأتي لرؤية سارة؟ ما زالت أربعة أشهر لديها عيون زيتونية رائعة"

للحظة فقد الاتصال بمن حوله فهو لا ينسى تلك العيون التي أجادت تمثيل البراءة أمامه لدرجة أنه كاد يصدق نظراتها البريئة وشعر أن كل شيء بمجرد دخوله الاسكندرية تفكره بها وكأن كل ذلك يحدث عن عمد، استمع لكلمات محمود وهدير عن طفلتهم الوحيدة بسعادة والرجل يضم زوجته له بسعادة حتى توقف الرجل فجأة عن الحديث وتركزت نظراته خلف كتف يوسف، كما فعلت هدير هي الأخرى وقد تملكهم الصمت وامتلأت عيونهم بالدهشة والتساؤل فشعر فجأة بأن هناك شيء خلفه ولا يعلم لماذا اشتم فجأة عبير الزهور ليذكره أيضا بها 

هتفت بحيرة "ماذا؟"

نظرات الزوجين كانت واضحة وأجاب محمود "هل تعرف الآنسة؟ يبدو أنها تريدك"

لم ينتظر أكثر فلف رأسه من فوق جسده فلم يقع نظره على شيء وكاد يعود برأسه ولكنه أخفض نظراته فجأة لتهوي على الشعر الأحمر مشدود للخلف بلا أي خصلات هاربة والعيون الزيتونية الغاضبة تحدق به بقوة وتدارك الأمر وهو يلف جسده ليواجها ومحمود يعيد سؤاله "هل تعرف ذات الشعر الأحمر يوسف؟"

تلوت معدته فجأة من نظراتها وتساقطت ذكرياته مرة أخرى بنفس الوقت أمامه فتملكه غضب عارم جعله يهز رأسه بقوة بالنفي ويقول "لا، أنا أعرف تلك الأشكال"

وكاد يلتفت مانحا ظهره لها ولكنه تفاجأ بها تمسكه من ذراعه بقوة لم تعرف من أين أتتها وهي تجعله يواجها وقالت بصوت غاضب لولا الموسيقى المنسابة لسمعها الجميع "بل تعرفني جيدا سيد يوسف وإن لم تأتي معي الآن لتسمعني وحدك فسيسمعني كل الحاضرين"

لمس محمود ذراعه وقال "يوسف لا داعي للجلبة الآن مكتبي على يمين القاعة"

حدق بها ونفض يدها من ذراعه وعكس الأمر وهو يقبض على ذراعها ويدفعها بقوة وسط الموجودين وخرج من القاعة دافعا إياها حيث مكتب محمود ولكنها أوقفته فجأة قبل أن يصلا منتزعة ذراعها منه وقالت "والآن اتركني لن أذهب معك لأي مكان فقط سأخبرك ما أتيت لأجله وسأرحل مرة أخرى"

التفت حوله وقد انتبه الزبائن لصوتها الغاضب ولكنهم استمروا بالحركة فاقترب منها وقال بقوة لم تخيفها "توقفي عن هذا الجنون وابتعدي عني أيتها الحقيرة"

قالت وهي ترتجف داخليا دون أن يدرك هو ذلك "حقيرة لأني وثقت بك وصدقتك، صدقت أن زواجنا حقيقي وسلمتك زمام حياتي لتصدمني بنذالتك التي أثمرت وأنا جئت لأخبرك نتيجة فعلتك الحقيرة وزواجنا الكاذب"

نسى ما حوله وهو يسمعها وردد "أي نتيجة؟ أنت مجنونة"

قالت بإصرار "لا، أنا لست مجنونة أنا حامل، حامل منك وما أحمله هو طفلك وهذا فقط ما أردت قوله لك"

وكادت تتحرك وقد سقطت كلماتها عليه كالسوط الغليظ يلسع ويؤلم ويجرح بقوة وتذكر للحظة كلمات محمود وهدير عن طفلتهم و، توقفت الأفكار برأسه عندما سطعت الأضواء فجأة بقوة بعيونه وعيونها فرفعت يديها لحماية عيونها بينما جذبها هو من ذراعها ليقتحم بها الجمع الذي أصبح كالنمل الجائع حول قطعة سكر مثيرة للعاب وخبر كهذا بالطبع يثير كل الصحافة خاصة التي تتصيد فضائح المشاهير

اخترق الجميع للخارج وسط أسئلة من هنا وأضواء من هناك حتى وصل للسيارة ودفعها بالخلف وأفسحت له وهو يصعد بجوارها ويقول بغضب "اخرج بنا من هنا يا عماد فورا"

تحرك السائق بصعوبة وقد عزل زجاج السيارة الليموزين الصوت بالخارج ورفع هو الزجاج الفاصل عن السائق والتفت لها وصرخ بها بقوة "أي جنون هذا الذي فعلته هناك؟ هل ظننت أنك بذلك تردين لي الصفعة؟ إذن أنت لا تعرفين من أنا"

قالت بغضب مماثل اكتسبته مما فعله بها "أنا لا أرد أي شيء، من حق ابنك أن يعرف والده كما من حقك أن تعرف بوجوده وأنت والده"

قبض على شعرها بقوة من الخلف وجذب رأسها تجاهه فأمسكت يده وهي تتألم وتطلب أن يتركها ولكنه قال "أي ابن أيتها الفاجرة؟ هل تظنين أني سأصدق هذه التخاريف؟ اذهبي لمن نمت معه غيري واخبريه قصتك وأنا واثق أنك تحتارين بمن تبدئي"

يدها الحرة سقطت على وجهه فجأة مما جعله يتفاجأ من فعلتها وخفت قبضته على شعرها وهي تهتف "اخرس، أنا ليس بحياتي رجال سواك ولست تلك الفتاة"

عادت قبضته على شعرها أقوى وهو يقرب وجهه منها وتجاهل صفعتها وكأنها لم تكن وهو يقول "تمثيلية جديدة"

دمعت عيونها من الألم وهي تحاول أن تبعد يده دون جدوي وصرخت "أنا لا أمثل، اتركني أنا لم يمسني رجل من بعدك أو من قبلك أنت والده"

ارتخت قبضته وهو يقول محاولا منع نفسه من تصديقها "وماذا؟"

أبعدت رأسها بل وجسدها كله عنه وقالت وهي تمسح دموعها "لا شيء فقط أوقف السيارة ودعني أرحل، أنا لا أريد أكثر مما قلت"

احتار من كلماتها وقال "هل تعنين أن الفضيحة التي حدثت هناك لا تعنيك وأنك لست من خطط لها؟ هل تجديني رجل أبله؟"

أخفضت وجهها وقالت بصدق "لم أعرف شيء عن وجودهم"

صرخ بها "كاذبة لعينة كأخيك"

رفعت وجهها له وقالت "لست كذلك"

للحظة كاد يصدق نظراتها وبراءة صوتها ولكنه أبعد عيونه عنها وكأنه يحاول إيقاف تأثيرها عليه وقال "وكأني سأصدق، تقيمين بشقته وتستقبلين الرجال الذين يعمل معهم وتشاركينه حتى سيارته وتتواجدين بنفس الفندق الذي يمارس به ألاعيبه، كل هذا يعني الكثير أيتها الملاك الزائف"

لم توقف دموعها وهي تقول "ليس كل ما تراه صحيح"

أطلق ضحكة ساخرة وقال "حقا؟ أصدق ماذا إذن، خروجك معي وأنا رجل غريب عنك ولأول مرة تقابليه وقبول دعوتي لك وزواجنا وأنت لا تعرفين حتى من أنا، ماذا أصدق من وراء كل ذلك؟ أنك بريئة ولم تسعي لرجل مثلي لتنالي من وراءه ما كان أخيك يفعله بالضبط؟ من تظنين نفسك تخدعين؟"

أبعدت وجهها وهي تعلم أنه على صواب ولم ترد، رن هاتفه فأخرجه ليجد محمود يقول "الصحافة وجدت وجبة دسمة يوسف، زواج وحمل؟ الشعر الأحمر يثير اللعاب يا رجل"

قبض على الهاتف بأصابع قوية وقال "لن أعود الليلة تعامل مع الأمر بحكمة"

وافقه محمود فأغلق بينما صمتت وهي تشعر بأنها أخطأت بم فعلت وما كان عليها أن تعيد ذلك الرجل لحياتها فماذا ظنت وقت أن فكرت أن تخبره؟ بالتأكيد لن يصدقها ولن يقول أقل مما قاله عنها وهي تستحق، توقفت السيارة بإشارة ضوئية على الكورنيش فلم تتردد وهي تفتح الباب وتنزل من السيارة وتسرع مبتعدة بأقصى قوة لها بعيدا عن ذلك الرجل وما فعله بحياتها

يتبع 

                الفصل الثالث من هنا

لقراءة باقي الفصول من هنا




تعليقات



<>