
رواية وبها متيم انا الفصل الثلاثون30والحادي والثلاثون31 بقلم امل نصر
منكفئة على بعض الحسابات والأوراق الهامة التي تعمل عليها؛ كانت تجاهد وبصعوبة في التركيز لأنهائهم، فنظراته المصوبة نحوها بهذا القرب، وقد كان جالسًا مقابلًا لها على الطرف الآخر من المكتب، مستندًا بمرفقه يطالعها برأس مائل يشاكسها بتلاعب حاحبيه حتى لم تعد قادرة على كبت الضحك أكثر من ذلك لتهتف به محتجة:
- ما كفاية بقى يا عم، هو انت حد مسلطك عليا؟
بنظرة البريء المتهم بالظلم اشار بسبابته على صدره قائلًا:
- أنااا، أنا يا شهد متسلط عليكي؟ طب ليه؟ دا انا حتى قاعد بريء ومؤدب.
- أووي
قالتها ساخرة لتتابع مرددة بضحك مكشوف:
- مؤدب اوي بصراحة يعني، أموت واعرف، هي لو مكنتش أبلة مجيدة شديدة وصعبة في تربيتك على حسب كلامك، ساعتها كانت اخلاقك هتبقى ازاي يا حسن؟
رد مضيقًا عينيه يقارعها بمناكفة:
- يعني انتي شايفاني مش متربي؟ ليه يا شهد واخدة عني الفكرة الوحشة دي؟ ايه اللي أوحالك بكدة؟
ضربت بكفيها ضاحكة بملأ فمها مرددة خلفه بسخرية:
- إيه اللي أوحالي؟ انت كمان بتسأل وعايز إجابة؟ يا حسن اعقل عايزة اخلص الحسبة المنيلة دي، بقالي ساعة بعيد وازيد على نفس البند من أفعالك.
- تاني برضوا هتقولي أفعالك؟
دمدم بها ليباغتها فجأة بخطف المستند قائلًا بعملية:
- طب هاتي بقى وخلينا نشوف الحسبة دي، حتى عشان نروح بقى كفاية.
ردت معترضة بعند محبب:
- طيب ما تروح انت يا سيدي حد ماسكك؟
رد غامزًا بعينيه:
- الهوى هو اللي ماسكني ومثبتني، اعمل ايه بقى في قلبي؟
- سلامة قلبك.
قالتها بدلال الأنثى، وقد ابهجتها كلماته ومزاحه اللطيف الذي ينزل على قلبها كنسمة رقيقة مرطبة في عز حر الصيف القاسي، أو كغيث يسقط على الأرض القاحلة، لتُزهر وتخضر بالوان مخلتفة للورود.
وجاء رده بزوق لا يخلو من المداعبة:
- شالله يسلمك يارب ويحفظك، وينولك اللي في بالك، وتتجوزيني.
- وايه؟
تفوهت بها لتنطلق بموجة أخرى من الضحك المتواصل، حتى تخضب وجهها بالحمرة التي كانت تجعلها شهية في عينيه كقطعة فروالة طازجة، لتعلق اخيرًا:
- إنت مشكلة يا حسن، أقسم بالله ملكش حل.
- لا والله في حل، اتجوزيني وانا اقولك الحل فين.
قالها متابعًا لمزاحه الذي لا ينتهي، وقبل أن تتمكن شهد من الرد عليه، تفاجأت بالصوت القبيح:
- بسم الله ما شاء، منورييين.
توقفت عن الضحك والتفت رأسها نحوه لتفاجأ به ساحبًا معه همها الثقيل شقيقتها، والتي القت تحيتها بابتسامة ماكرة:
- مساء الخير عليكم يا جماعة؟
ردد حسن خلفها التحية، ولكن شهد انتفضت تسألها بقلق:
- خير يا أمنية في حاجة؟
تولى ابراهيم الرد وهو يقترب مصافحًا حسن بمودة كاذبة:
- هيكون في إيه بس يا شهد؟ عامل ايه يا بشمهندس؟ كويس؟
بادله حسن المصافحة بابتسامة صفراء:
- كويس ولله الحمد، أزيك انت؟
- وانا كمان اشطة
قالها ليتجه نحو شهد التي كانت تطالعهم بتوجس، وشعور بعدم الارتياح يكتنفها بمجيئهم، فقالت امنية مخاطبة لها:
- احنا كنا بنتفسح قريب من هنا، طأت في دماغي اجي اشوف مكتب ابويا الله يرحمه، انتي بتشتغلي فيه لوحدك يا شهد؟
قالتها بنظرة خاطفة نحو حسن أيضًا لتثير حفيظتها،
فهمت شهد على خبث تلميحها المبطن، وحدجتها بنظرة محذرة تقول مشددة على أحرف الكلمات:
- احنا في مكتب شغل، يعني الباب مفتوح لأي حد يدخل، زي ما دخلتي كدة انتي وخطيبك، من غير احم ولا دستور حتى، هو انتوا كنتوا فين بالظبط؟
رد ابراهيم وعينيه تتجول في انحاء المكتب ، لتقف على الصورة المؤطرة الكبيرة على أحد الحوائط لوالد شهد:
- ما قالتلك كنا قريبين من هنا يا شهد، الله يرحمك يا عمي ويبشبش الطوبة اللي تحت راسك، كنت طيب وأمير، وبتموت فيا.
قال الأخيرة موجهًا أنظاره نحو حسن الذي ردد خلفه هو الاَخر:
- كان بيموت فيك! ...... طب كويس.
قالها بعدم اكتراث ليزيد من احتقان الاَخر، وعلقت شهد وهي تنهض لتلملم الملفات والأوراق الهامة من فوق سطح المكتب:
- معلش هنقطع عليك حبل ذكرياتك مع الوالد الله يرحمه ويحسن إليه، عشان يدوب عشان ميعاد المرواح أزف.
تدخلت أمنية قائلة:
- كدة على طول ماشين، هو احنا لحقنا نقعد عشان تمشوا وتسيبونا؟
صاحت بها شهد وقد كانت على حافة الإنفجار:
- تقعدوا فين، احنا هنمشي كلنا، بقولك ميعاد المرواح أزف.
قالتها وهي تضع الملفات في أحد ادراح المكتب، لتغلقها جيدًا بالقفل، قبل أن ترفع رأسها على قول الأخرى:
- ربنا يعينك يا أختي، بكرة بقى لما اساعدك، هشيل عنك كتير اوي.
- نعم؟
تفوهت بها شهد كسؤال، وقد ظنت أنها سمعت خطأ، لتردف لها بتأكيد:
- بقولك هساعدك يا حبيبتي، يعني تتشطري كدة وتجبيلي مكتب في الأوضة الصغيرة اللي جوا دي، أو حتى جمبك هنا، عشان امسكلك الحسابات، واشيل عنك بقى.
افتر فاهها في محاولة لاستيعاب ما تقوهت به، وحركت رأسها باستنكار يقارب السخرية لتردد:
- نعم يا ختي؟ سمعيني تاني؟
❈-❈-❈
- باباااا
هتف بها الأطفال بلسان واحد وهم يركضون نحو مدخل باب القصر الذي ولج منه بغتةً، ليرفعهم إليه ويقبلهم.
ميسون التي تفاجأت بحضوره تسمرت على أريكتها باضطراب افقدها توزانها، فبرغم غضبها والقهر الذي يشق قلبها منه، إلا أنها لا تنكر هذا الصخب الدائر بصدرها الاَن، لوعة الإشتياق التي فاقت ألم الفراق، تجاهد لضبط انفاسها المتلاحقة حتى لا تفضحها، وهو يقترب منها بحضوره الطاغي والأطفال، حتى بلغ منها الإرتباك أن تشعر ببرودة طفيفة بأطرافها ترقبًا لتحيته، أو ربما عودته، أو ربما مصالحتها.
- هاي ميسون .
قالها بإماءة خفيفة برأسه نحوها، أصابتها بخيبة أمل بدلت بها كل المشاعر التي داعبت خيالها منذ قليل، انه حتى لم يكلف نفسه عناء مصافحتها، أن تعانق كفه كفها، أن تشعر ولو لثواني قليلة بدفء قربه الذي حرمها منه منذ شهور، جلس أمامها على أحد المقاعد وهو ما زال يحتضن طفلها الأصغر، واليد الأخرى تناكف الاَخر بالتمرير على شعر رأسه الكستنائي القصير، يتجاهلها عن عمد وكأنها جماد كالأريكة التي تجلس عليها، جاف وقاسي معها، ومع ذلك يمارس دور الأب الحنون مستغلًا عدم نضج الأطفال في السؤال عن بعده.
ابتلعت غصتها وقد تصلب جسدها، لترتدي هذا القناع الصقيعي في ادعاء عدم الأكتراث ردًا لكرامتها المهدرة، لتهتف بتجهم:
- إياد ، زياد، روحوا انتوا الاتنين على اوضكم وكفاية لعب
بدا على وجه الأول الاعتراض ولكن الأصغر كان أكثر جرأة في التعبير عن احتجاجه:
- انا عايز أفضل مع بابي، مش عاور اروح اوضتي.
زادت بحدة وشراسة يحركها العند:
- أنا قولت روحوا دلوقتي...... عايزة اكلم بابا في موضوع مهم.
سمع الاَخير لينزل بطفله على الأرض، يهادنه ويطالب الاَخر لاتباع الأمر:
- اطلعوا دلوقتي على أؤضكم واجهزوا، عشان نص ساعة كدة وهنخرج نتفسح.
هلل الإثنين بكلمات المرح، قبل أن يركضا سريعًا لتبديل ملابسهم في انتظاره، وحين خلى المكان عليهما سألها:
- نعم يا ميسون عايزة إيه؟
اردف بسهولة زادت من سخطها لترد بانفعال متخلية عن واجهة القوة التي تتصنعها:
- عايزة اعرف ايه أخرتها؟ اخرة الهجران دا إيه يا عدي؟
مط بشفتيه يضع قدمًا فوق الأخرى ليجيبها ببرود:
- السؤال ده تجاوبي عليه انتي يا ميسون.
سألته بخفوت وقد توجست من إجابة تُحزنها:
- يعني إيه؟ وضح أكتر.
بلهجة المسيطر الواثق نهض فجأة عن مقعده يصعقها بقوله:
- لا انتي فاهمة كويس يا ميسون، حددي انتي عايزة ايه وانا تحت أمرك في كل اللي تطلبيه، عن أذنك بقى اروح اشوف والدتي في جناحها.
بصق كلماته وتحرك ذاهبًا نحو مقصده، غير عابئًا بأثر القرار عليها، وقد توقف النفس بصدرها، أو هو مفعول الصدمة التي أصابت قلبها فنسي أن يعمل.
بهذه السهولة يخيرها على الفراق! بهذه السهولة يلفظها من حياته، وكأن ما بينهم لم يكن شيء ذا قيمة يستدعي المحاولة لإصلاحه، وان كان هو كذلك فكيف سيكون وضع الأطفال؟
❈-❈-❈
وفي داخل مقر عمله بقسم الشرطة، وبعد أن عاد من مأمورية سريعة لم تستغرق منه وقتًا كبيرًا أو جهد مضاعف، في القبض على أحد المجرمين المبلغ عنهم في أحدى المدن الساحلية، وكأن مزاجه الرائق بهت أيضًا على حظه اليوم حتى في العمل، جلس بأريحية على مكتبه ليتناول الهاتف لإجراء المكالمة التي يؤجلها منذ الصباح،، فجاء الرد بعد فترة وليس على الفور كالمرة السابقة:
- ألوو مين معايا؟
- ألوو أنا أمين يا لينا، عاملة ايه بقى؟
صمتت لبرهة قبل أن يصله ردها:
- اَه.... هو انت اتصلت بيا قبل كدة من الرقم ده، عشان حاسة ان الأرقام دي مش غريبة عني.
أبعد الهاتف عنه قليلًا، ليغمغم بصوت خفيض لم يصل إليها:
- من مرة واحدة وحفظتي الأرقام، دا انتي اروبة وحقنة كمان.
- ألوو يا حضرة الظابط، روحت فين؟
هتفت بها من الناحية الأخرى حينما طال صمته، ورد يجيبها على الفور:
- أيوة يا لينا أنا معاكي،، ااه انا كنت بتصل بخصوص السلسلة اللي قولتي عليها.
ردت بلهفة:
- أيه ده بجد؟ لقيتها يا أمين.
تبسم بمكر يجيبها:
- انا لقيت واحدة، بس انتي لازم تقولي عن المواصفات عشان اتأكد.
- مواصفات ايه؟ هي لدرجادي العربية عندك سداح مداح، ولا هما كتير أوي كدة.
فهم مقصدها فتابع بخبث دون أن يصحح لها الخطأ:
- الله يا لينا، كتير ولا قليلين بقى، مش تقولي عن مواصفات سلستلك عشان لو مش مطابقة ادور بقى على صاحبة النصيب.
زفرت بصوت عالي كاد أن يثقب أذنه، لتردف بحنق:
- السلسلة دهب واحد وعشرين، وو....
- خلاص يا لينا انا واثق فيكي، خلي بقية المواصفات لما اقابلك وتشوفيها بنفسك.
- تقابلني فين؟
- هبلغلك ع المكان بس قوليلي انتي بتخرجي امتى من الشغل؟
❈-❈-❈
-- جيتي لوحدك يعني المرة دي يا نور، دا حتى قبل ميعاد الجلسة.
تفوهت بها الطبيبة التي كانت جالسة أمامها، تطالعها بتمعن، وقلمها الذي تدون به الملاحظات داخل دفترها تتلاعب به، شاعرة بأن بها شيئًا ما متغير.
لترد الأخرى بعد أن ارتفعت أنظارها إليها، بنبرة خاوية:
- يمكن عشان اختصر واخلص بقى، بدال ما احنا بندور في دايرة مفرغة كدة، مفيهاش أي نتيجة.
تبسمت المرأة ترد عن قناعة:
- انتي بتقولي مفيش، بس انا متأكدة ان في نتيجة بدليل قعدتك قدامي دلوقت.
بسخط لم تقوى على كبته وشراسة المضطر لفعل شيئًا ما مرغمًا، هتفت بها:
- عشان انا اللي قررت اتكلم بعد ما تعبت وفاض بيا، هتكلم عشان تعرفي اني على حق.
حافظت الطبيبة على هدوئها وزادت في اللطف كي تمتص غضب الأخرى:
- طيب براحة على نفسك، لو انتي حاسة إن الكلام هيتعبك، بلاها منه.
صاحت بها معترضة:
- لأ مش بلاها، ومتكررهاش تاني عشان ممكن اخرج دلوقتي وساعتها مفيش رجوع عن قراري.
بكل سهولة قارعتها الطبيبة:
- براحتك يا نور للمرة الألف بقوهالك، أنتي حرة .
- لأ مش حرة.
قالتها لتصمت برهة تبتلع الغصة التي تشق حلقها من الألم ، ثم أردفت رافعة راية الاستسلام، مسبلة أهدابها بتوتر جعل ارتعاش طفيفًا يغلف صوتها:
‐ أنا عمري ما كنت حرة، ولا عمري كنت الشخصية اللي انا عايزاها، أنا واحدة بائسة ابتدت حياتها بحلم جميل كنت عايزة أحققه، لكن للأسف تمن تحقيق الحلم دا كان غالي غالي أوي، تمنه كان اللعنة اللي هتفضل مرافقاني وتمنع عني أجمل أمنية تتمناها واحدة، وهي إنجاب طفل....
توقفت وكأن الكلمات اختنقت بجوفها، شعرت بمعاناتها الطبيبة، ولكنها ظلت صامتة تعطيها المجال كاملا دون تشوش لتخرج ما في صدرها، فخرج صوتها بعد فترة من الشرود جعلتها تبدوا وكأنها داخل الذكرى:
- أنا هحكي من البداية.
❈-❈-❈
بداخل السيارة التي كان يقودها حسن، تجاوره شهد على المقعد الأمامي، وقد احتلت شقيقتها وخطيبها ابراهيم المقعد الخلفي، بعد أن تطوع حسن بدعوتهم ليُقلهم للمنزل، وياليته ما فعل.
- عارفة يا شهد، ابراهيم النهاردة خدني على أحلى كازينو ع الكورنيش، دا غير الهدية الغالية اللي جبهالي، بوكس كبيرة مليان بكل حاجة بحبها.
هتفت بها أمنية في رغبة لإظهار نفسها، وبثرثرة لم تكف عنها من وقت دلوفها السيارة بصحبة المذكور والذي انتفش ريشه يوزع الأنظار بين من يحتلان الكرسين الأماميين، ليضيف بزهو لا يليق به:
- تعيشي وتدلعي احبيبتي، انتي اؤمري بس وكل اللي تشاوري عليه يا نونتي يُجاب.
رددت شهد خلفه بعدم استثاغة لدلاله السمج.
- نونتي؟
بانتشاء مستفز ردت أمنية:
- اه نونتو، ما انا صغيرة ومن حقي ادلع ولا انت ايه رأيك يا بشمهندس؟
تفاجأ حسن بخطابها له في شيء خاص كهذا ، فقال بحرج:
- اه طبعًا من حقكم، ربنا يهنيكم ببعض.
قالها ليزفر بسأم، يشعر بانسحاب الهواء من السيارة، فهذه الفتاة تملك موهبة غير عادية في السماجة وثقل الدم، بالإضافة لخطيبها صاحب سابقة الشجار معه قبل ذلك يشعر أن به شيء غريب لا يعلمه، وقد تدخل سائلًا له:
- طب وانت يا بشمهندس، بتدلع خطيبتك ولا هي اللي بتدلعك؟
هم أن يجيبه ولكنه انتبه على رفض شهد الصامت، وهي تحذره بعينيها، بشكل اثار استغرابه، فرد ينهي بذكائه:
- والله يا استاذ ابراهيم، دي حاجة بيني وما بين خطيبتي، تقدر تعتبرها كدة اسرار، محبش يطلع عليها غيرنا.
رده كان قاطعًا لدرجة اجفلت أمنية التي تبادلت نظرة ساخطة مع خطيبها الذي افحمه الرد وزاد من ظلام قلبه وعينيه تتابع الجهة الظاهرة من وجه شهد، ونظرات الوله في أعين هذا الأحمق خطيبها المزعوم، وتلاعب كف يده الخبيثة في الأمام، والتي تحط على كفها كلما حانت الفرصة.
- وقف هنا خلاص.
هتفت بها شهد تفيقه من شروده، لتتابع موجهة الحديث نحوه:
- ابراهيم هينزل هنا عشان بيتهم اخر الشارع .
أجفلته بفعلتها ليضطر مجبرًا للترجل فور توقف السيارة، تدخلت امنية بإصرار على حرق دمها:
- وينزل ليه؟ طب ما يجي يتغدى معانا، واهو بالمرة البشمهندس يدوق أكلنا.
قالت الأخيرة بمكر اشعل رأسها، همت أن تنفعل عليها ، ولكن حسن كان الأسبق بحكمته:
- الفرص جاية كتير ان شاءالله، بس احنا نكتب الكتاب الأول.
قال الأخيرة ليقفز ابراهيم على الفور بعدم تحمل، مودعًا بقوله:
- عن اذنكم .
نظرت في أثره امنية بقهر، تود القفز من خلفه لتلحق به، وظلت تحدج شقيقتها بنظرات نارية من مراَة السيارة، حتى أذا توقف حسن بالقرب من بنايتهم، ترجلت على الفور بعد أن اردفت بجلافة:
- حمد لله وصلنا، سلام يا بشمهندس.
طالعت شهد مرورها وهي تخرج زفيرًا من العمق بقنوط،
مما جعل حسن المنتبه على تبدل حالها أن يسألها:
- مالك يا شهد؟
تطلعت إليه بحيرة المغلوب على أمره، تريد البوح عما يقلقها، وبنفس الوقت تخشى القادم، ابراهيم وما أدراك ما ابراهيم، شقيقتها المجنونة وما اغبى منها ان تحدثت هي عن حقيقة خطيبها المتلون ورغبته الدفينة بها وفي أذيتها ، تعلم انها لن ترحمها، ان لم تسبب لها فضيحة من الهواء، فكيف السبيل للخلاص مع عقلية كهذه؟ والنجاة ممن يتربص بها؟
- يا شهد اتكلمي، مالك يا ماما؟
عاد حسن يسألها بإلحاح على المعرفة، فتبسمت برقة تنكر بدلال تأثيرها عليه:
- مفيش يا سيدي، مفيش يا سي سون سون.
❈-❈-❈
حينما خرج وقد كان في طريقه للمغادرة، وقعت عينيه على ابن عمه رجل الأعمال الهمام زوج البلوجر الشهيرة، التي رفضته قبل ذلك ولم تبالي بمشاعره نحوها.
وقد كان كارم يسبقه في الخروج نحو سيارته والحرس الخصوصي، الرجال الأشداء الذين تلقفوه كشخصية هامة ومؤثرة في المجتمع، ولكنه كان خارجًا من القسم،
ترى ما الذي أتي به إلى هنا؟ أهي زيارة ودية لأحد الأقرباء من العائلة الكريمة؟ أم هي زيارة بغرض مصلحة ما يبتغيها؟ يرجح الاَخيرة ولكن الفضول بداخله، يدفعه للتأكد،
توقف فجأة ينتوي العودة للداخل، حتى يبحث ويسأل، ولكنه تفاجأ من ناحية أخرى بوجه مؤلوف، هذه الجميلة ابنة الرجل الصعيدي التي كانت حاضرة خطبة أخيه وشهد، تقف من مسافة ليست بالبعيدة، بجوار امرأة يعرفها من كثرة التردد على القسم بصفتها..... محامية حقوقية في قضايا النساء.
بدون أي تردد أو تفكير في أسئلة تحرك باتجاههما ليرى ما المشكلة.
❈-❈-❈
كانت تقف بجوار سيارة المرأة التي عثرت على عنوانها من إحدى الجروبات وناقشتها بالأمس عن موضوع مودة وظرفها المادي الضعيف عن توكيل ما يدافع عنها، تفهمت المرأة الوضع وتطوعت للدفاع عنها، الفرصة التي تلقفتها صبا بكل ترحاب، رغم يأسها من نتيجة تذكر بعد هذه الشروط التي وضعتها المرأة على لسان عدي عزام.
كانت في هذا الوقت تتناقش معها عن بعض النقاط قبل دخول القسم:
- يا مدام انا فاهمة اني وضعها صعب، لكن مع ذلك لجألتلك يمكن تلاقي حل، بصراحة انا احترت واحتار دليلي وصعبان عليا يضيع مستقبلها.
جاء رد المرأة يسبقه تنهيدة بقنوط:
- والله يا صبا انا متطوعة عشان خاطرك وداخلة ادافع بضميري المهني رغم صعوبة القضية بعد حالة التلبس، لكن احنا بنعمل اللي علينا وربنا عليه التوفيق.
- السلام عليكم.
قالها لتلتف نحوه صبا فتوسعت أعينها بجزع، لظهوره المفاجئ لها، تمتمت ترد التحية بارتباك ملحوظ:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، اهلا يا سعادة الظابط.
إنتبه أمين على حالة الإجفال التي انتابتها، مع انسحاب الدماء من وجهها بزعر يتفهمه، فقال ملطفًا بلهجة بدت عادية، وقد امتدت يده لتصافحها:
- جايبة في إيدك مدام صفاء، أكيد جاية تدافع عن قضية نسائية كعادتها.
ضحكت المرأة معقبة وهي تبادله المصافحة:
- ومالها القضايا النسائية يا باشا، دا حتى هي اللي مشغلة القسم.
ضحك أمين بملأ فمه مع المرأة ليذهب عن صبا بعض التوتر، فتابع بمزاحه:
- لا بصراحة عندك حق، دا حتى المثل بيقول ابحث عن المرأة.
قالها بمناكفة للمرأة التي ردت رافعة حاجبها بتحفز:
- اشعر ان خلف جملتك الاخيرة بعض التلميح المبطن، والغير مريح يا سعادة الباشا
تابع بضحكه للمرأة حتى لمح طيف ابتسامة على وجه صبا جعلته يتشجع ليسألهما:
- يعني الموضوع فيه واحدة ست، طب قولولي بقى يمكن اساعد.
تراقصت مقلتي صبا تتنقل بين الأثنين بتردد وقد تلجم لسانها من الحرج، رغم رغبتها القوية لتقبل مساعدته، فهي في أشد الحاجة إليها، لكن جرأة المرأة قصرت عليها الطريق:
- بصراحة هي فعلا قضية نسائية، بس دي حالة انسانية واحنا داخلين فيها بقلبنا تطوع، على أمل اننا نلاقي حل.
ظهر الإهتمام على وجهه ليتوجه بخطابه نحو الاثنتين قائلًا بجدية:
- خلاص مدام كدة، تعالوا معايا المكتب جوا عشان اعرف منكم بالتفصيل.
❈-❈-❈
بعد قليل
وباهتمام غير عادي كان يطالع الأوراق التي في الملف، وبنفس يستمع إلى حديث مودة وتعقيب المرأة الحقوقية، مع تذكره لملاحظات الضابط الملكف بالقضية، زميله عصام، حتى تكمتل الصورة برأسه، ليردف بسؤال سبقه العديد من الأسئلة الأخرى:
- يعني انتي متأكدة انك لقتيها على الأرض، مش انتي اللي فتشتشي ولا سرقتيه؟
ردت مودة بدفاعية جعلت صوتها يخرج ببحة مختنفة:
- والله ما كنت قاصدة اسرق، دا انا كنت قابضة مبلغ حلو وعايزة اشبرق نفسي، طلعت مع ميرنا اللي دخلتني ع المول وسهلت عليا اشتري حاجات كتير بعلاقتها مع اصحاب المحلات، وانا كنت هطير من الفرحة والله لحد اما شوفت الفستان دا اللي لابساه دلوقتي في فترينة العرض، راحت مدخلاني ع الست النحس دي.......
قطعت لتستطرد ببكاء حارق:
- انا عارفة اني غلطت لما حطيته في جيبي، بس وحياة ربنا ما كنت اعرف ان قيمته غالية اوي بالشكل ده.
تحمحمت صبا التي كانت جالسة بالقرب منها أمام أمين لتقول بحرج مدافعة رغم كل شيء:
- انا آسفة في اللي هقوله، بس دي خصلة في مودة، ممكن نقول عليها زي المرض كدة، هي بتاخد الحاجات الخفيفة، ودا لظروفها المادية الصعبة والحرمان اللي عاشت فيه، أنا مش ببرر، لكن هي عمرها ما خدت حاجة غالية، لأنها ما تقدرش.
علقت المرأة بلمحة من الفراسة:
- بس انت مش واخد بالك يا فندم، ان خاتم بالقيمة دي ويكون مرمي ع الأرض، إنها حاجة غريبة ومش مفهومة، يعني فرضنا وقع من صاحبته؟ محستش بيه؟
اهتزت رأسه بإماءة خفيفة معبرة عن اقتناعه، ليضيف عليها:
- لا دا كمان الهانم مكتشفتش السرقة غير بعد ساعات!
خيم الصمت على ثلاثتهن بتفكير جاد في جملته، فتابع بسؤاله لصبا:
- إنتي قولتي من شوية إن الست عايزة ضمان من مودة عشان تتنازل وتخليها تخرج تدور عليه، هو انتي اتفاوضتي معاها؟
هذه المرة جاء ردها مباشر دون تردد وقد توسمت فيه الخير:
- مش انا اللي بتفاوض، دا انا كلمت مدير الفندق بتاعنا، اصلي عرفت انه يبقى صاحب المول من كلام مودة.
قاطعتها ميرنا تتدخل في قولها:
- دي ميرنا هي اللي قالتلي، انا مكنتش اعرف إن يملكه.
- ميرنا دي هي نفس البنت اللي دخلت معاكي المحل.
قالها بتركيز شديد، لتضيف على قوله مودة:
- ايوة، ما هي اللي قالتلي اخلي صبا تكلم عدي باشا يضغط ع الست.
- عدي مين؟
- عدي عزام.
- عدام عزام يدخل لك انتي؟
قالها بريبة وصلت في البداية كامتهان لها، فتابع يصحح قوله الغير مقصود:
- انا مش قصدي اقل منك انا بس مستغرب.
بزفرة مشبعة بالأحباط قالت صبا توضح:
- ما احنا شغالين موظفين عنده في نفس الفندق، انا بصراحة رغم ان الطلب كان تقيل على قلبي، اضطريت افاتحه وهو حر بقى لو مش عايز يوافق، لقيته بيقولي ان الست عايزة مودة تمضي على وصل بتمن الخاتم، يا اضمنها أنا .
- نعم!
- والله زي ما بقولك كدة.
- طب وانتي إيه دخلك؟
قالها باستهجان ورأسه تدور بالأفكار المتناطحة بحيرة من هذا الأمر، وردت صبا بعدم معرفة:
- بصراحة مش عارفة ايه وجهة نظرها في انها تورطني معاها، دي صاحبتي وانا عايزة اساعدها، ايه المشكلة في كدة؟
- وانت كان رأيك ايه يا صبا؟
سألها مباشرة أمام مودة التي احتجت بعفويتها المعتادة:
- لا طبعا، مينفعش صبا تتحمل المسؤلية معايا، انا ممكن امضي على الوصل عشان اخرج، وان شاء الله هقلب البيت لحد اما الاقيه، ما هو بالعقل كدة هيكون راح فين يعني؟
- ربنا يستر وتلاقيه، لتزيد عليكي مصيبة الوصل كمان.
عقبت بها المحامية المدافعة، فجاء رده بحزم:
- لا هي هتمضي ولا صبا هتضمنها، انا هلاقيلها صرفة .
- صرفة ايه؟
خرجت بلهفة على ألسنة الثلاثة في نفس الوقت، فرد يذهلهن بعرضه:
- انا هخرجها واروح معاها البيت على مسؤوليتي، مع فرد أمن تبعي يدور معاها كمان، عشان نشوف الخاتم ده اللي قالب الدنيا يا ست مودة.
ابتسامة سعيدة ارتسمت على وجوه الثلاثة، وقد استطاع بحنكته رفع الهم الذي أثقل ظهورهن، وهللت مودة ببهجة الشعور بقرب الفرج:
- ربنا يخليك يا سعادة الباشا، اللهي يارب ما يوقعك في ضيقة ابدًا، ويرزقك بكل اللي بتتمناه.
❈-❈-❈
- أنا كنت بنت وحيدة لوالدتي، مكانتش امي مثالية وبرضوا مكنتش وحشة، ربتني لوحدها ودا لأنها كانت زوجة تانية، لراجل ميعرفش واجباته غير في الصرف على البيت وتأدية حقه الشرعي معاها وكأنه واجب مفروض عليه، يعني حاجة تجرح كرامة أي ست، مهما كانت قوية وادعت الا مبلاة بتكسرها، لذلك انا كنت بغفر لها كل قسوتها معايا ومهما عملت كنت بديها عذرها، لكن عمري ما سامحت والدي رغم انه مكانش مأثر معايا نهائي كأب.
كنت بتقهر لما اشوف نظرة الحب في عيونه لمراته التانية ، وشه اللي بينور مع كل كلمة تقولها، يسمع منها ويشاركها الرد بحماس، عكس امي اللي كان بيستخسر فيها حتى النظرة العادية، او بالأصح ما بيطقش يقعد ولا يسمع لها، لدرجة انه لما كان يقعد معانا ع السفرة، بُقه مكانش بيتحرك غير للأكل، ونادر أوي ما تطلع منه كلمة.
ذنبها الوحيد هو انها كانت بنت عمته اللي فرضوها عليه بحكم انها اتربت في بيتهم،
شعور الفرض والغصب بيجعلك تكره الشيء حتى لو كنت بتحبه، الشعور ده أنا فهمته كويس أوي لما عيشت التجربة.
لما اتجوزت جوزي الأول، كمال عز الدين، منتج الأفلام المعروف واللي شافني وسط مجموعة من الوجوه الجديدة اللي كان بيختبرها المخرج، انا كنت ساعتها متخرجة جديد من المعهد وكلي أمل أحقق طموحي في التمثيل، لو حد بس اداني فرصة، كل اللي كنت محتاجاه كان فرصة، والفرصة مع واحدة في حالتي عمرها ما كانت بتيجي غير بدفع التمن، او واسطة معروفة تزوقك في المجال، مكنتش املك الواسطة ولا الحظ النادر في ان الاقي اللي يقتنع بيا، يعني مكانش قدامي غير دفع التمن، يا إما من كرامتي وشرفي ودي حاجة كنت افضل اموت ولا انها تحصل، لا إما بزوجة تانية من المنتج اللي عمره كان وقتها خمسين وانا يدوب تلاتة وعشرين، على أمل الفرصة وافقت ان اكرر دور أمي كزوجة تانية بعد البيبان ما اتقفلت في وشي من كل ناحية.
اجبرت نفسي على واحد مكنتش شايفة فيه أي قبول، احساس اتطور بعد الجواز لكره وبغض شديد لما اكتشفت عيوبه، انسان مقرف لا يعرف انسانية ولا أي رحمة في التعامل مع واحدة ست من وجهة نظره هي اداة للمتعة اشتراها بفلوسه......
توقفت فجأة لتبكي لأول مرة بتذكرها للجحيم الذي عايشته مع هذا الرجل،
ظلت الطبيبة صامتة تتابع نهنهاتها الموجعة بتأثر تخفيه بجمودها حتى تمكنت من إخراج الكلمات بصورة صحيحة مخاطبة الطبيبة:
- عارفة يعني أيه تكرهي انسان مغصوبة عليه وع العشرة معاه؟...... يعني تكرهي السرير اللي بيشاركك فيه، تكرهي الطبق اللي أكل منه، تكرهي هدومه تختلط بهدومك، تكرهي نفسك وتتمني الموت بعد ما يتقفل قدامك كل طريق للخلاص.
حتى الفرصة اللي كنت بحلم بيها اكتشفت انها كانت الخدعة عشان اقع في المصيدة، الدور اللي اخدته في الفيلم اللي دفعت تمن فرصته من عمري كان دور واحدة تافهة، فرحانة بجمالها ولبسها، يعني حاجة كدة تعدي قدام الناس من غير ما يحسوا بيها، التمثيل الحقيقي كان مني انا قدام المخرج وجمع الممثلين، اضحك وانا بتحرق جويا من القهر.
صبرت على أمل ان الاقي الحل بس اثناء الصبر ده حصل اللي مكنتش اتمناه ابدًا:
التفت فجأة برأسها نحو الطبيبة قائلة
- تعرفي بقى اني حملت وسقطت نفسي من كمال تلت مرات.
- تلت مرات يا نور؟
قالتها الطبيبة كاستفسار لتجيبها الأخرى بإماءة من رأسها ودموع أصبحت تنهمر كالسيل دون توقف وهي تردف بحرقة:
- مكانش ينفع احتفظ بطفل يربطني في العذاب مع بني ادم زي ده ويدفع معايا تمن غلطتي، انا جربت احساس الكره بين ابويا وامي، يعني عارفة كويس بالماَساة اللي كان هيعشها ابني أو بنتي، طفل يجي بالغصب من جوازة بالغصب، دا لا يمكن يبقى سوي.......
سألتها الطبيبة لاستفسار أكثر:
- وكنتي بتسقطي الجنين بعلمه؟
حركت برأسها نافية وقد تقلصت تعابيرها لتردف بصوت مبحوح:
- لأ ، أو كنت أظن.... مش عارفة، لكن اللي كنت متأكدة منه، هو انه مكانش بيهتم غير بالعلاقة اللي برضوا كان بيجبرني عليها، بس........
قطعت وصوت أنفاسها ازدادت حدتها، مع الصعود والهبوط بصدرها بتسارع مريب جعل الطيبة تعاود بسؤالها:
- بس إيه يا نور كملي.
التفت رأسها فجأة بحدة تقول:
- ممكن أكمل في وقت تاني عشان مش قادرة.
❈-❈-❈
في مخزن القصر الذي جعله مقر له بصحبة رجال حراسته، الذي زاد بعددهم لمواكبة الظرف الجديد في البحث وتأديب من تجرأ على أسرته، وقد كان في هذا الوقت يتحدث على هاتفه بانفعال:
- يعني ايه مش لاقينه؟ يعني إيه مش لاقينه؟....... مش عايز اعذار، الواد ده يتجاب زي البهيمة ولو من تحت طقاطيق الأرض......... وزع رجالتك، شوية في البحث في الأماكن اللي كان بيروحها، وشوية تراقب سكنه وسكن اهله، متسيبش خرم ابرة من غير ما تدور، تقب وتغطس تجيبه....... مش عايز رغي تاني واقفل بقى؟
انهى ليتخصر زافرًا أنفاسه بخشونة، قبل أن يستدير بجسده نحو الرجل المقيد على كرسيه، وهو يكاد أن يموت من الرعب، ورجال بأجسام مخيفة تحيطه من كل جهة، تقدم نحوه ليضع قدمه على الكرسي المقابل له يتابع التحقيق معه:
- كمل بقى وقولي يا عم كريم، ايه كان بيحصل وانتوا بتوصلوا الهانم؟
بجسد يرتجف وصوت يخرج بارتعاش ردد الرجل برجاء يقارب البكاء:
- والله يا باشا انا ما كنت فاهم ايه اللي بيحصل، انا كنت بلاقيها فجأة توقفنا وتزعق من غير سبب ان في حد بيراقبها، ينزل الزفت حامد يدور ويرجع يقول مفيش، انما ايه اللي بيحصل والله ما اعرف.
قرب رأسه بأعين صقرية زادت من جزع الرجل ليسأله بهدوء مريب:
- يعني انت مشوفتش أي تصرف من اللي اسمه حامد ده وخلاك تشك فيه؟
اهتزت رأس الرجل بتشنج ينفي:
- لا والله، او يمكن مكنتش فاهم، واحد متولي حراسة الهانم بنفسها، أنا هشك فيه ازاي بس؟ وانت الباشا اللي مأمنه على حياتها وحياة البيه الصغير .
ارتدت رأسه للخلف بإجفال، فكلمات السائق البسيط على قدر عفويتها، على قد ما اصابت الهدف بداخله، هو من أخطأ، وعليه الاَن تصويب الخطأ.
- كارم باشا.
هتفت بها أحد الرجال من خلفه قبل أن يقترب منه هامسًا:
- الهانم مرديتش تروح معانا.
هدر به معنفًا بغضب:
- يعني إيه مرديتش تروح معاكم؟ ما اديتهاش ليه التليفون اللي باعته معاك؟ انت نفسك متصلتش بيا ليه تبلغني؟
- يا باشا ما هي مرديتش تاخد التليفون، كنت هاوقفها ازاي بس وامنعها؟
زمجر بوحشية يدفع الرجل من أمامه، ليخرج ذاهبًا بخطواته السريعة مغمغمًا:
- بتتحداني وتتحامى في اختها وجوز اختها، على أساس اني هسمح ولا اديها فرصة للبعد أصلًا!
❈-❈-❈
- نورتي اوضتك يا رورو .
قالتها كاميليا وهي تضغط على قابس المصباح الكهربائي، ليُضيء الغرفة بأكملها، دلفت بداخلها رباب لتفاجأ بكم الصور الكثيرة لها بأحجام مختلفة تزين الحوائط، مع العديد من متعقاتها القديمة كالدمى، والهديا العديدة لها، اقتربت من إحدى الزوايا، تتناول دمية قماشية كانت الهدية الأولي من شقيقتها بعد اول راتب تحصلت عليه من عملها، ضمتها بتأثر لتنقل بنظرها نحو كاميليا قائلة:
- هو انتي كنتي عارفة اني راجعالك؟
ردت شقيقتها التي كانت متكتفة بذراعيها، بابتسامة واثقة:
- وكنت متأكدة كمان، ولا انتي فاكرة يعني ان الأوضة دي جهزتها للذكريات وبس.
- طب ازاي؟ إذا كنت نفسي......
توقفت فجأة بأعين غائمة تناظرها باضطراب وتردد، فتابعت كاميليا تكمل لها:
- انتي نفسك مكنتش مقررة ولا عاملة حسابك على ده، اننا نرجع تاني لبعض.
اكتنفها شعور بالخزي حتى لم تقوى على مواجهتها حتى بالنظر، لتطرق برأسها نحو الدمية، أشفقت كاميليا لتلطف الحديث بحكمتها:
- هوني على نفسك يا قلبي، أنا قولتلك ان مهمها حصل ما بينا ، عمر الدم ما هيبقى مية ، ومهما انتي بعدتي ولا سافرتي، برضوا مكانك هيفضل وسطنا، والأوضة دي هتفضل على حالها مستنياكي .
تعلم أنها صادقة في محبتها ولن تحنث بوعد حتى لو غير منطوق، وهذا ما يزيد عليها، ويجعلها ساخطة على كل السنوات التي مرت عليها وهي منبوذة باختيارها، وحيدة، حمقاء، دمية كالتي تحملها الان.
شعرت بها كاميليا فلم تنتظر الإذن لتقترب منها وتضمها إليها، تلقفت الأخرى الدعوة لتضغط بذراعيها حولها، تذرف الدموع بلوعة اشتياق كانت تنكره؛ خلف كبرياء زائف ، الحاجة المؤلمة للدفء وحنان الأشقاء، وقد افتقدته كثيرًا، كثيرًا جدًا.
قبلتها كاميليا على جبهتها قبل أن تتنبه معها على طرق باب الغرفة والخادمة تقول بلهاث::
- طارق باشا بيتخانق مع واحد تحت بيقول انه جوز الهانم .
❈-❈-❈
حينما عادت صبا إلى منزلهم وقد غمر قلبها بعض الارتياح، بعد تأكيد الضابط أمين على اخراج مودة والذهاب بها الى منزلها، للبحث عن الخاتم، رافعًا من ظهرها هم لا قبل له، كانت شاردة لدرجة جعلتها لم تشعر بهدوء المنزل سوى بعد فترة من الوقت، هتفت بصوتها تنادي علّ أحدا يجيبها:
- يا أهل الدار، انتوا فين يا جماعة؟
خرج إليها صوت زبيدة والدتها من غرفة النوم:
- تعالي هنا يا بت انا جاعدة
دلفت إليها على الفور، لتفاجأ بها جالسة على ركبتيها فوق الفراش، تحاول غلق سحاب حقيبة السفر المفتوحة، بعد أن حشرتها بالملابس الكثيرة.
- بتكومي في شنطة سفر ابوي ليه ياما؟
قالتها من قبل حتى القاء التحية، مما جعل زبيدة ترد بغيظ:
- طب ارمي سلام ربنا الأول، معلموكيش خالص في المدارس؟
ضحكت لها معقبة بمزاح:
- لا يا ست زبيدة معلمونيش، المهم بس جاوبني، هو ابويا عنده سفر ولا ايه؟
ردت والدتها وهي تهبط بقدميها عن السرير، لتبحث في ادرجة الكمود عن جوارب القدم لزوجها:
- أبو جوز عمتك فوزية اتوفى، ابوكي مسافر يحضر العزا وبالمرة يطل على اخواتك.
رددت صبا خلفها بعدم استيعاب:
- ابو جوز عمتي! يا لهوي ياما الراجل اللي عنده مية سنة ده، ما متش غير النهاردة؟
- يخرب مطنك.
تفوهت بها زبيدة باستهجان لتردف بتوبيخ:
- عيب عليكي يا بت، دا عند ربنا دلوك، اترحمي عليه تاخدي صواب.
بابتسامة لم تقوى على كتمها:
- ماشي يا ست الكل، الله يرحمه، المهم بجى، حضرتي الغدا ولا لسة؟
تقلص وجهها بيضيق تجيبها:
- حضرته يا جلعانة، روحي غيري هدومك على ما خلصت اللي في يدي يكون ابوكي جه، وناكل احنا التلاتة مع بعض.
بتفكير سريع استدارت عنها لتقول بعجالة:
- طب مدام كدة، يبجى اروح اطمن انا على رحمة اصلها كانت تعبانة امبارح .
قالتها وتحركت على الفور لتغادر نحو الشقة المقابلة، ضغطت على جرس المنزل بخفة، وانتظرت قليلًا قبل أن ينفتح الباب أمامها، تخيلت أن تجده، ولكنها تفاجأت بامرأة غريبة تقف أمامها تسألها، وكأنها من أهل المنزل:
- نعم مين حضرتك؟
ردت بسؤال إندفع بريبة منها:
- انا صبا، انتي اللي مين؟
وقبل أن تجيبها المرأة اتى صوت شادي من الداخل يهتف سائلًا:
- مين اللي ع الباب يا سامية؟
الفصل الحادي والثلاثون
من وقت عودتها من زيارة الطبيبة وهي داخل غرفتها ولم تبارحها قط، تضم بذراعيها نفسها وكأنها تلمتس حنانًا تفتقده، محتجزة داخل ماضيها القبيح والذكريات المؤلمة تنعاد متوالية متكررة دون رحمة، كانت تظن نفسها نجت، حتى وهذه اللعنة لا تفارقها، على الأقل نجت بجسدها، رغم خسائرها الفادحة، يكفيها سنوات العذاب والمحاولات الحثيثة منها في التخلص من هذا الزواج البائس، يكفيها الأطفال التي ضحت بهم اجل الخلاص، وهي الآن تتمنى ظفر أحدهم، حتى وهي نجمة محاطة بمحبة الجمهور وقد من الله عليها بأعظم الرجال وتقريبًا أنجحهم.
بكاء عنيف لا تستطيع التوقف عنه، مع كل لمحة سوداء تمر بعقلها، من تعنيف وجرح في الكرامة وتلذذ بعذابها، ثم هذا الصراخ الذي يفتك بأسماعها:
- زي ما حرمتيني من ولادي، هتعيشي انتي كمان محرومة منهم، انا هخرج من الدنيا وحيد من غيرهم، وانتي كمان، هتفضلي كدة يا نورهان، مش انا بس، انتي كمان يا نورهان.
زاد صوت شهقاتها بنشيج حارق، حتى لم تعي بالغرفة التي انقشع ظلامها وهذا الذي دلف فجأة ليقتلعها من الهاوية التي كانت ماكثة بها، وقد ضمتها ذراعيه بعنف يشدد عليها تستفيق وتعود إليه:
- نور، نوور ، فوقي يا نور انا معاكي، فوقي يا حبيبتي، اسف اني كنت السبب في اللي انتي فيه دلوقتي، سامحيني يا حبيبتي سامحيني.
ظلت على بكائها، وهو يزيد بضمها لمدة ليست قليلة من الوقت، حتى توقف، وقد اكتنفها دفئه، غمرها عطر أنفاسه التي كانت تلفح وجهها في كل قبلة على جبهتها او بين بصيلات شعرها في الأعلى، وكلماته الرقيقة تطن في أذنها:
- بس يا قلبي انا معاكي، اهدي يا نور عيوني، مفيش حاجة تزعلك تاني طول ما انا موجود، انا جمبك يا روحي، انا جمبك.
تنهدت ببعض الراحة وذراعيها التفت حول خصره، ليخرج صوتها اَخيرًا:
- أنا بحبك اوي يا مصطفى، وعمري ما ازعل منك، انت نعمة ربنا عليا ورحمته رغم كل ذنوبي.
تنهيدة طويلة خرجت من العمق، سبقت رده على كلماتها:
- محدش فينا خالي من الذنوب يا نور، احنا مش ملايكة ماشية على الأرض.
صمتت قليلًا داخل احضانه، ثم قالت بدون أن ترفع عينيها إليه:
- الدكتورة قالتلك ع اللي الكلام اللي حكتهولها؟
ابعدها بيده ليواجها قائلًا:
- لأ يا نور مقالتش، الدكتورة ست محترمة مبطلعش اسرار المرضى بتوعها، حتى لأقرب ماليهم، الا اذا كان في تفاهم عن كدة.
- يعني انت ميهمكش تعرف؟
سألته والشك يدور برأسها، وكان رد قاطعًا:
- عمر ما هسأل ولا هبحث عن حاجة انتي مش عايزة تقولي عليها، كل كلامي مع الدكتورة بيتلخص في المطلوب، واللي انتي محتاجاه، كانت شكوتها دايما انك رافضة العلاج وبتعتبري الجلسات فرض مكروه عليكي .
بنظرة خاوية اعتدلت تعقب بلمحة من السخرية ومعالم الغضب تعتلي قسماتها:
- ودلوقتي بعد ما اتكلمت وجعلتني ارجع لذكريات....
انا مش طايقاها، رايها بقى اني كدة حلو.
ندمت على اندفاعها فور رؤيتها لتغيرًا سريعًا يطفو على تعبيراته، ليقول بعتاب:
- للمرة الألف بقولك لو مش عايزة تكملي مع الدكتورة انتي حرة، انا مش بغصبك على حاجة يا نور، تحبي اتصلك بالدكتور حالًا ابلغها قرارك؟
- لا يا حبيبي متعلمش.
توقفت برهة، ثم تابعت وكأنها تحدث نفسها:
- برغم كل الوجع اللي حسيته بعد ما اتكلمت بس انا...... بقى عندي شيء غريب جوايا دلوقتى بيدفعني اكمل، حتى والكلام بتعبني برضوا عايزة....... افضفض، على الرغم ان الكلمة دي مكنتش مقتنعة بيها نهائي قبل كدة.
❈-❈-❈
بخطوات متسارعة وكأنهن في سباق من تهبط الدرج اولا لتلحق بهذان المتناحران وصوت شجارهم يصل إلى خارج المنزل:
- احترم نفسك يا كارم ، وراعي اني مستقبلك في بيتي ومش عايز اغلط فيك.
هتف بها طارق يواجه خصمه الذي كان يقف متخصرًا، بشر يفوح من كل خلية بجسده، ورد بلهجة تفيض بالكره:
- وانا مش طالب استقبالك، ولا عايز ادخل بيتك من أساسه، انا عايز مراتي، اقولها كام مرة عشان تفهم.
وصلت كاميليا، فكان صوتها بقوة لم تغب عنها حتى بعد مرور هذا العدد من السنوات:
- مراتك تبقى اختي يا استاذ انت، يعني مهياش في بيت غريب ولا مع ناس غربا عشان تتعامل معانا بالشكل ده.
رد موجهًا كلماته لها بتهكم واستفزاز:
- كدة في يوم وليلة بقت اختك وصاحبة بيت كمان!
هذه المرة جاءه الرد منها نفسها:
- ايه لزوم الخناق يا كارم؟ اختي وجوزها محدش فيهم غلط فيك.
- إنتي كمان هتقولي اختك وجوزها؟
صاح بها بصوت عالي كالزئير، ليجفلها بهذه النظرة العدائية نحوها، وكأنه لا يصدق قولها، لا يطيق أن تصدر العبارة منها هي، بعد كل ما فعله من أجلها.
ارتدت بأقدامها للخلف خوفُا وهلعًا منه، حتى التفت كفي شقيقتها حول أكتفاها بحماية ترد على كلماته:
- أيوة اختها يا كارم، ومهما حصل وفرقتنا الأيام كان مسرينا برضوا هنرجع لبعض، رابطة الدم اقوي من أي شيء في الدنيا، مهمها انت انكرت وبالغت في تضخيم الفرقة ما بينا.
سمع منها وازداد تطرفه حتى اندفع فجأة يجذبها من كفها قائلًا بتملك:
- تعالي يا رباب نتفاهم في بيتنا وسيبك من الكلام الفارغ ده......
هتفت به كاميليا وبيديها أمسكت بشقيقتها توقفه:
- سيب البنت، دي مش طريقة تفاهم دي.
طارق هو الاَخر تصدر بجسده ليصير حاجزًا بينه وبين رباب قائلًا بخشونة:
- انا لحد دلوقتي ملتزم معاك ضبط النفس، ما تخلينش اعاملك باللي تستاهله.
- طب وريني هتعمل ايه؟
هدر بها يخرج سلاحه الناري المرخص من جيب بنطاله الخلفي يصوبه للأعلى مهددًا:
- ما تخلونيش اعمل مجــ زرة دلوقتي، وانتوا عارفيني مجنون ولا ها يهمني.
- مجنون على نفسك.
صرخت بها كاميليا وهم زوجها ان يرد بغشم يماثل فعل الاخر ولكن رباب كانت الأسبق بترويضه، رغم الرعب الذي زحف بقلبها:
- بلاش يا كارم العنف، مفيش حاجة تستدعي اساسًا.
رد بغضب وطاقة العنف بداخله تنشر ذبذباتها في الأجواء:
- خلاص يبقى تعقلي وتيجي معايا من غير كلام.
لهجته المتسلطة استفزت كاميليا حتى جعلتها على وشك الهجوم لتقتص منه غير مبالية بالتوابع ولكنها تفاجأت بفعل شقيقتها التي ردت برقة تقارب الرجاء:
- يا كارم انا اعصابي تعبانة، عايز اغير جو يمكن اعود لطبيعتي، ولا انت ناسي اللي حصلي، ولا باللي كان هيجرالي؟
بلهجتها اللينة استطاعت التأثير به، حتى ارتخت يده عن مسكها ورد بلهجة خفت حدتها عن السابق:
- وان شاء الله تغير الجو ده هياخد قد ايه؟ خلي بالك انا معنديش صبر.
خرج الرد من كاميليا التي كانت على وشك الأنفجار:.
- هي جارية اشترتها، افهم بقى بتقولك تعبانة، يعني تخلي عندك دم وتديها وقتها ع الأقل .
عاد لشراسته مرة أخرى، حتى هم أن يستعيد عنفه السابق ولكن زوجته منعت نشوب الحرب من أولها، وخاطبته بمهادنة:
- هحاول متأخرش يا كارم، بس انت كمان متضغطش عليا، وابقى شاكرة اوي لو تجيبلي الولد.
ردد خلفها بحدة متسائلًا:
- انتي كمان عايزاني اجيب الولد هنا يا رباب؟
ردت كاميليا تزيد من حنقه:
- وماله هنا بقى؟ هو داخل عند ناس اغراب؟ دا بيت خالته على فكرة.
اضاف على قولها طارق ببعض اللطف مرحبًا:
- وانت برضوا لو حبيت تزورها، البيت مفتوح لك في أي وقت يا كارم.
بقول الاَخير كانت نهاية النقاش، نفض كارم سترته بعنف بعد ان وزع انظاره على الثلاثة، ليذهب ساحبًا شياطين غضبه معه، وتبقت رباب برفقة طارق وشقيقتها التي خرج صوتها بغضب نحوها:
- ممكن افهم بقى، ايه الضعف اللي بتتكلمي بيه مع الراجل ده؟ هو اشتراكي؟ ما تفوقي يا بنتي وخليكي قوية قدامه.
صمتت قليلًا رباب قبل أن تفاجأها بردها:
- كارم مش وحش هياكلني، دا جوزي، وعلى فكرة بقى، هو مش سيء اوي لدرجادي يعني.
بللت شفتيها تراقب رد فعل كلماتها على وجه شقيقتها التي عصف بها الذهول حتى لجم لسانها عن الرد، وطارق الذي غلفت صفحة وجهه لتُصبح غير مقروءة على الإطلاق، وتابعت مخاطبة الاثنين رغبة في الذهاب:
- عن اذنكم بقى اروح اريح شوية في اوضتي.
ردد طارق من خلفها:
- ماشي يا رباب، روحي ارتاحي على ما يجي وقت العشا نندهلك بقى عشان تدوقي أكلنا.
اومأت له برأسها وغادرت بعد أن خطفت بنظرة نحو شقيقتها التي تسمرت محلها، ثم ظلت تراقبها وهي تصعد الدرج اللولبي المؤدي للطابق الثاني من المنزل حتى اختفت، لتوجه سؤالها نحو زوجها:
- دي لسة بتدافع عنه؟
رد بابتسامة تخلو من المرح وهو يستدير عنها نحو مقاعد البهو:
- بتقولك انه مش وحش ولا هياكلها، خلاص بقى يا كاميليا.
❈-❈-❈
- سامية! سامية مين؟
قالتها صبا مرددة الأسم بتساؤل، وعينيها تمشط الفتاة من حجاب رأسها في الأعلى الذي كان عائدًا لنصف شعرها الناعم، ثم زينة وجهها المتقنة بحرفية جعلتها تبدوا غاية في الجمال، ثم ملابسها العصرية بأناقة لا تخلو من ضيق على بعض المناطق من جسدها، لتظهرها بوضوح فج، حتى وصلت لحذاء قدمها في الأسفل، بتأمل مكشوف؛ جعل الفتاة تميل برأسها لتسألها بضيق:
- وانتي مالك؟ بتسألي ليه، انتي مين أصلًا؟
اندفعت الدماء برأس صبا، شاعرة بالإهانة فهذه الفتاة تعاملها بعجرفة وكأنها وارثة مع أهل المنزل،
همت ان تقارعها بعنف، لتريها من هي صبا، ولكن الاَخر كان قد أتى على الصوت، يحمل ابنة شقيقته فوف ذراعه، فقال مرحبًا بوجهه البشوش كعادته:
- صبا، واقفة ليه عندك؟ ما تدخلي.
انتهزتها فرصة لتصب سخطها نحو هذه الفتاة:
- الهانم اللي واقفة معوجة جدامك دي، هي اللي منعاني وبترد عليا من فوق مناخيرها.
شهقت الفتاة ضاربة بكفها على صدرها تخاطب شادي بدفاعية:
- والله ما عملت حاجة، دا هي اللي واقفة متنحة قدامي، وانا بسألها عن اسمها.
سمعت منها لتبرق عينيها بشراسة جعلت لسانها ينطق بلكنة الجنوب وبانفعال قلما يصدر منها:
- يخرب بيت ابوكي، مين يا بت اللي متنحة؟
- يا لهوي ياما، هو انتي هتاكليني ولا ايه؟
هتفت بها المدعوة سامية، أما عن شادي فقد اخفى بصعوبة ابتسامته ملحة، ليتصنع الجدية في قوله:
- مفيش داعي للنرفزة يا صبا، ادخلي الأول بدل وقفة الباب .
ردت بتحدي ادهشه:
- مش جبل ما اعرف مين دي؟
تخصرت الفتاة ترد بميوعة قاصدة كيدها؛
- لتاني مرة بقولك، انا سامية يا حبيبتي، انتي بقى اللي مين؟
تحول غضبها نحوه هو متسائلة ببعض من الحلم قبل أن تفتك بها:
- شايف الاستفزاز، يعني اخلص عليكي دلوك؟
هذه ألمرة لم يقوى على كبتها، فتبسم بعرض فمه، ليزيح بخفة سامية عن المدخل، قبل أن يجذب الأخرى من كفها حتى ادخلها واغلق الباب ، ثم رد يجيبها:
- دي تبقى سامية، بنت خالي وبنفس الوقت تبقى عمة ولاد اختي .
قالها قبل ان يصل صوت الأخرى:
- متقولش كدة يا شادي لتفتكرني كبيرة وانا أصلًا تلاقيني اصغر منها.
افتر فاه شادي لثانية وقد كان على وشك الرد ليُفحمها، فهو الأعلم بعمر كل واحد منهن، ولكنه عاد لعقله محدثًا صبا التي كانت على حافة الإنفجار:
- بقولك إيه يا صبا، انتي جاية تسألي على رحمة صح؟ ادخلي هتلاقيها في أوضتها.
خطفت نظره حانقة نحو الفتاة قبل ان تذعن لقوله مرددة:
- عشان خاطر رحمة بس، عن اذنكم.
❈-❈-❈
- الف سلامة عليكي يا رحوم، مالك بس؟
قالتها صبا ممسكة بيد الأخرى، والتي كانت مستلقية على ظهرها فوق الفراش، وردت ممازحة رغم تعبها:
- اتقلب حالي يا ختي، اهي دي جزاة الست اللي تقل عقلها وتحمل بعد ما تخلف عيلين.
بضحكة شقية من صبا ردت تناكفها:
- بجى على عيلين وفرهدتي، امال امي انا اللي مخلفة ستة قبلي تعمل ايه، ولا عمتي فوزية، اللي ابو جوزها مات النهاردة، دا دي لوحدها مخلفة تسعة ما شاء الله يسدوا عين الشمس .
- يا اختي اللهم بارك، بس ناس زمان كان عندها صحة، مش زي صاحبتك، اللي من عيلين بس فرهدت وسلمت نمر، بقى من الشهر الأول انام على ضهري، وانا لسة قدامي شهور.
قالت صبا بمشاكسة وابتسامة تداعب ثغرها:
- ولما انتي عارفة كدة مش كنتي تاخدي بالك، حرصي بجى ع العيل المتعب ده، وخلي بالك لا تعمليها تاني.
هتفت رحمة بصوت أضحكها:
- يا ختيييي اعمل فين تاني كمان؟ توبة من دي النوبة اسمع لكلام المنيل جوزي، كل اللي عليه، عايزين نخاوي العيال، ووقت الجد بشيل انا الهم وحدي.
ربتت صبا على كفها برقة تدعمها:
- معلش يا ستي ربنا يقدرك ويقومك بالسلامة، ما هي العيال رزق برضوا.
اومأت رحمة باقتناع ولكن قد خبأت ابتسامتها لتقول:
- مكدبش عليكي انا بهزر اه، بس ربنا بس هو اللي عالم بحالي، اصلي رقدتي دي زودت على اخويا، يعني مش كفاية مسؤلية امي عشان ازود عليه انا بهمي
- متقوليش كدة، بعد الشر عليكي من الهم.
قالتها صبا ثم عادت بإدراك مردفة:
- طب معلش يعني في السؤال، هي البت اللي اسمها سامية دي، لازمتها ايه هنا في البيت؟
رحمة وابتسامة عابثة لاحت على صفحة وجهها مع تفكير افقدها تركيزها في الرد:
- هي ملهاش لازمة.... قاصدي يعني...... خلتيني اتلخلبطت يا صبا، سامية بتيجي تطل عليا وعلى ولاد اخوها، اصلها بقت تقريبًا ساكنة مع جوزي في شقتنا، توضب الشقة تحت وتحضر حاجته، قبل ما تطلع هنا وتطل عليا، وو كتر خيرها يعني بتحاول تشوف اللي محتاجاه.
رددت صبا خلفها متسائلة بامتعاض:
- وايه بجى اللي انتي محتاجاه والهانم بتعملهولك؟
زاد اتساع ابتسامتها في الرد بمكر:
- يعني مثلًا في مشاوير الدكتور، ورعاية الولاد ولو عاملة اكلة حلوة تيجي تجيبها وتدوقني.
خرج صوت صبا بحدة على غير ارادتها:
- مشاوير الدكتور دي حاجة واجب عليها على فكرة، مش اخت جوزك، وحتى حكاية الولاد برضوا، رغم ان انا شايفة شادي دلوكت هو اللي شايل البت مش هي.
زادت رحمة بخبثها:
- لا ما هي مش فاضية دلوقتي، اصلها دخلت المطبخ تروق المواعين بعد العزومة، اصلها جابت صنية اكل عملاها كلها بنفسها.
- عزومة وصنية أكل كمان؟ ليه هي كانت عاملة ايه بالظبط؟
تسائلت بفضول وملامح وجهها تقلصت بغيظ، وردت رحمة بابتسامة مستترة:
- لا هي كانت عاملة كتير صراحة، رقاق باللحمة المفرومة وفرخة مشوية، دا غير المحاشي.
غمغمت صبا تردد داخلها الاصناف المذكورة، وشيء من الحقد يكتنفها، أن تجيد هذه الفتاة صنع ما تفشل فيه دائمًا، بالإضافة لهيئتها المبالغ فيها من الأهتمام بالنفس، وكأنها.......
- ساكتة ليه يا صبا؟
سألتها رحمة حين طال صمتها، وتحمحت هي تجلي حلقها، في محاولة للرد بزوق لتخفي هذا الشعور بداخلها:
- لا يعني....... اصلك لما جيبتي سيرة الأكل فتحتي نفسي إنا كمان، اجوم احصل ابويا زمانه وصل عشان اتغدى معاه انا وامي.
- يا ريتك قدمتي، كنتي اكلتي معانا.
قالتها رحمة بتسلية وقد اعجبها الوضع، وكان رد صبا أن أومأت لها بابتسامة صفراء زادت من مرح الأخرى، وقالت على مضص:
- معلش ما ليش نصيب ادوق انا الأكل الحلو ده، بألف هنا وشفا.
ضحكت رحمة مرددة قبل أن تلتفت على طرق باب الغرفة
- الله يهنيكي.
همت صبا أن تغادر ولكن اقدامها توقفت فور ولوجه الغرفة حاملًا الإبنة الصغرى لشقيقته، يردد بمزاج رائق:
- تعالي يا رحمة شوفي بنتك، بتقول انها هتعيش معايا دايمًا وخلاص استغنت عنكم .
استجابت رحمة تشهق متصنعة العبوس مرددة:
- اخص عليكي بت، بقى بتبيعي. امك وابوكي في اول ملف،
ضحكت الصغيرة تدفن رأسها في حضن خالها، حتى اقتربت منها صبا تداعبها بعفوية:
- اخص عليكي انتي يا ست رحمة، دي شوشو دي احلى فيها جلة الأصل، ولا ايه يا شموسة، تيجي معايا شوية نلعب مع بعض ع التليفون.
سمعت الطفلة لتومئ رأسها بحماس وارتمت بعفوية على صبا التي تلقفتها من ذراعي شادي الذي انتفض وكأن ماس كهربائي صعقه فور أن تلامست كفيه بكفيها دون قصد، ومن هذه المسافة بهذا القرب، ارتد على الفور عن الإثنان متحمحمًا حتى يجلي حلقه عائدَة للمزاح:
- يعني خلاص يا ست شمس، نسيتي خالك.
تطلعت إليه الصغيرة مبتسمة بدلال قبل أن تريح رأسها على كتف صبا التي ضحكت لعفوية الطفلة، فعقبت والدتها:
- شوفت اهي باعتك، عشان متشوفش نفسك عليا تاني.
تطلع شادي نحو الصغيرة ذات الثلاث سنوات، متجاهل النظر نحو من تحملها، ليمرر كفه الكبيرة على شعرها القصير بحنان قائلًا:
- معلش يا ستي انا راضي، حبيبة خالها بتلف تلف وترجعله.
قطبت صبا مندهشة العبارة، ثم التفتت للطفلة الصغيرة وشددت بضمتها قائلة بحب حقيقي لها:
- شموسة بتدلع عشان عارفة غلاوتها عندنا كلنا، واللي يلاقي الدلع ميدلعش ليه؟
- على رأيك والله.
قالتها رحمة قبل أن تفاجأ بشقيقة زوجها تقتحم الغرفة، بعد طرقها للباب على عجالة، لتلج حاملة بيدها صنية عليها عددَا من أطباق الحلوى قائلة:
- انا جيت ادوقوا بسبوستي، ما هو الأكل ميحلاش من غير الحلو ، ولا إيه يا شادي يا ابن خالي؟
قالتها وهي تقترب منه بالطبق الممتلئ، ف ارتد بجزعه يعترض بزوق:
- متشكرين يا سامية على زوقك، بس للأسف، أنا مليش في الحلو اوي، عن اذنك اشوف الشغل اللي ورايا.
قالها وخرج سريعًا، لتلتف هي نحو رحمة تقول بعتب:
- عاجبك كدة، طب حتى يجاملني بحتة صغيرة.
ردت رحمة بابتسامة ضعيفة:
- ما انتي عارفة أكله خفيف اساسًا، يعني مش هيتحمل تاني على الأكل التقيل.
اضافت صبا على قولها باستغلال للموقف:
- دا غير انه جالك ان ملهوش في الحلو، هيبلع بعافية يعني؟!
❈-❈-❈
وفي إحدى الكافيهات
كان جالسا على طاولة وحده في انتظارها، وقد اتخذ موقعه مقابلًا للمدخل، حتى لا تجد صعوبة في البحث عنه، بوقاره المعتاد، واضعًا قدمًا فوق الأخرى بأريحية، غير ابهًا بأي شيء، يغمره الحماس لمقابلة هذه المجنونة ومشاكستها، بعد أن استطاع بحيلة ماكرة منه أن يتخذ موعدًا معها.
صدح الهاتف بمكالمة واردة، اعتقد انها منها قبل أن يخيب ظنه ويجد الأسم الاَخر، تناوله بيأس يستجيب بالرد هامسًا بغيظ:
- ايوة يا ماما، عايزة ايه؟
- ايوة يا نور عيني عايزة اعرف هي معاك ولا لسة ؟
- لا إله إلا الله، موصلتش يا مجيدة اهمدي بقى.
- لييييه بقى؟ يكونش رجعت في كلامها؟
- يا ستي لو رجعت كانت هتبلغني، اقفلي بقى يا ماما، انا مش عايز صوتي يعلى.
- ماشي يا أمين هقفل بس بشرط، تبلغني بكل اللي يحصل بعد ما تخلص المقابلة.
- ويعني انت حد يقدر يخبي عنك يا ماما، دا انت استدرجتيني ولا أجدعها وكيل نيابة، وسحبتي مني كل اللي انتي عايزاه.
- لا يا حبيبي لسة فيه حاجة ناقصة.
- ايه تاني يا ماما؟
- عايزة اسألك، ناوي تديها حاجتها النهاردة ولا هتأجل؟
- ااجل ليه؟ طبعًا هديها حاجتها .
- يا بن الخايبة كدة على طول؟ مش تصبر شوية على ما تاخد وتدي معاها.
- اخد ولا ادي ايه بس يا ماما؟ هو انتي تعرفي عني الاخلاق دي برضوا؟ اقفلي الله يخليكي، ولا اقولك هقفل انا.
انهى المكالمة ثم اغلق الهاتف مدمدمًا:
- وادي التليفون كله كمان يا ست مجيدة عشان اجننك أكتر، ست مفترية بجد.
قال الأخيرة ورأسه ارتفعت نحو التي ولجت لتستحوز على اهتمام معظم الموجودين من أشخاص حوله، من رواد وحتى عمال، على الرغم من هيئتها العملية بملابس محتشمة كموظفة عائدة من عملها، تسير غير مبالية وشعرها يتطاير معها متناغمًا مع خطوتها، تتقدم باتجاهه بصورة تحبس الأنفاس في الصدر، ليتمتم على غير إرادته قبل أن تصل إليه:
- يا وعدي.
- مساء الخير يا حضرة الظابط.
وقف يستقبلها مرحبًا وقد امتدت كفه لمصافحتها:
- مساء الخير يا لينا عاملة ايه؟
- حمد لله .
دمدمت بها وهي تجلس على المقعد المقابل له، وعاد هو لمحله وشعور بالارتباك المفاجئ طفى عليه، ليردف بعدم تركيز:
- ااا يارب تكوني بخير، تحبي بقى اطلبلك حاجة تشربيها؟
ردت بحدة تجفله:
- هو الطبيعي ان اخد حاجتي وامشي، بس انا راجعة من شغلي مفرهدة، اطلبلي أي حاجة بقى ابل بيها ريقي، عصير ولا مية حتى عشان ما كلفكش.
بانشداه لقولها المباغت، ظل فاهه مفتوحًا لعدة لحظات قبل أن يستجمع نفسه، ليرد بأريحية وقد رفعت عنه شعور الحرج:
- لا يا ستي ما يهمكيش، الجيب عمران والحمد لله، اطلبي اللي انتي عايزاه يا لينا.
أومأت برأسها، قبل أن تلتف إلى النادل تشير إليه ليصل إليها وتأمره بالمشروب الخاص بهذا المقهى المشهور، وهو يراقبها صامتًا وكأنه يدرسها، حتى إذا انتهت من مطلبها وذهب الشاب التفت إليه قائلة:
- ها بقى فين حاجتي؟
عقب ساخرًا وقد ادهشه عمليتها:
-- كدة على طول؟ طب خدي نفسك الأول حتى.
طالعته صامتة لبرهة ثم تبسم ثغرها تقول بنبرة حيرته بعض الشيء:
- وادي نفسي وخدته خلاص، ياللا بقى طلع السلسلة .
بادلها الإبتسام ليوميء برأسه لها مستجيبًا:
- ماشي يا لينا هطلعها.
ادخل يده في جيب بنطاله ليخرجها بعد ذلك بالسلسال الذهبي، ليرفعه أمام عينيها قائلًا:
- هي دي حاجتك يا لينا.
شهقت تختطفه من يده هاتفة بزعر:
- هي دي اه سلسلتي، بس غايب منها اهم شيء.
بوجه مقلوب يدعي المفاجأة قائلًا بدفاعية:
- ازاي يعني؟ إنتي قولتي ع السلسلة عيار واحد وعشرين واهي قدامك اهي، بالكف الفضي والعين الزرقا عشان الحسد زي ما انا شايف، ايه اللي ناقص بقى؟
- ناقص القلب، دا اهم حاجة فيها.
- يا نهار أبيض، هي فيها قلب كمان؟
- أيوة طبعًا، دا احلى حاجة فيها.
- اممم
زم بفمه متصنعًا العبوس ليقول بتفهم:
- ايوة بس انا دورت في العربية ف لقيتهم متنطورين، جمعتهم وافتكرت ان كدة تمام .
بتأثر ملحوظ اعتلى قساماتها، رددت مرة أخرى بحزن:
- طب والقلب يا أمين؟
- أدورلك عليه من تاني يا لينا.
قالها بشهامة يدعيها قبل أن يشير للنادل ويده على الشيء المفقود في جيب بنطاله، قائلًا:
- يا بني هاتلي انا كمان عصير زي الاَنسة.
❈-❈-❈
في الملهى الذي يجتمعان به كلما سنحت الفرصة للقاءهم، ولج كارم بوجه متجهم ليأخذ مكانه على الطاولة المخصصة لهما، القى التحية على عجالة، يعلو الوجوم ملامحه، وهيئته المتخفزة لا تبشر أبدًا بالخير، انهى عدي حديثه السريع مع إحدى مدراء فندقه يلقي عليه بعض التعليمات قبل أن يصرفه ويعطى انتباهه للآخر:
- إيه يا كارم، شكلك ولا اكنك خارج من خناقة.
شبك الاَخر كفيه ليطقطق اصابعه بعنف قائلًا:
- إنت بتقول فيها، دي بتوجعني اساسًا عشان كدة، عايز افش غليلي واستريح بقى.
فهم عدي مقصده، فسأله بصوت جعله منخفضًا:
- هو انت لسة ملقتش الواد اياه ولا الست اللي كانت معاه؟
رد كازًا على أسنانه:
- ابن الكلب اختفى ولا اكنه فص ملح وداب، لا عند قرايبه ولا أي واحدة من اللي كان ماشي معاهم، ولا الحقيرة التانية كمان، طفشت وسابت أولادها لجوزها واخته يراعوهم، بس مسيريهم هيقعوا في أيدي، انا مش ههدى غير لما اخلص عليهم.
اومأ عدي رأسهِ بتفهم قبل ان يبوح عما يفكر به:
- حقك طبعًا تعمل فيهم اللي انت عايزه، بس انا اللي مستغربله، اللي اسمها جيرمين دي تعمل معاك كدة ليه؟ عايزة تنتقم من مراتك بالشكل البشع ده، هي لدرجادي كانت بتحبك ولا انت هببت معاها ايه بالظبط؟
تغير وجه كارم ليردف بأنفعال غير قادر على السيطرة عليه:
- يعني هكون عملت ايه بس يا عدي؟ انا مكانش بيني وما بينها علاقة حب، وحتى لو كان، هي كانت عارفة بأخرها عندي، ولا عمري عشمتها بحاجة، دا غير انه اصلا ما ينفعش عشان هي متجوزة نجيب؛ اللي هو اساسًا بحالة صحية مش ولا بد، يعني في أي لحظة ممكن يموت وتورث بقى فلوس ماليها عدد، وساعتها تتجوز من تاني بشاب يناسبها واصغر كمان.
اربت عدي بكفه على ذراع كارم في محاولة لتهدئته:
- خلاص متحرقش اوي كدة في نفسك، اللي انت عايزه هيكون، الست دي او الراجل اللي معاها مهما اختفوا اكيد هيتجابوا، ان مكانش من رجالتك، يبقى بالبوليس، او رجالة جاسر وطارق.....
- لا طبعا انا مش عايز حد يجيبهم غيري.
هتف بها مقاطعًا بحدة، ليردف مشددًا على كلماته:
- ما حدش هيجيبهم غيري، انا بس اللي يخصني الأمر، لا جاسر ولا طارق، ولا أي زفت في الكون .
هذه المرة تناول المشروب الذي أمامه يخاطبه بمهادنة:
- ماشي يا سيدي زي ما تحب، خد بس اشرب وانا هطلب لي واحد تاني .
تناول منه ليرتشف محتويات الكأس بجرعة واحدة ثم يدفعها على سطح الطاولة بعنف قائلًا:
- واطلبلي واحد تاني كمان، انا لسة دمي بيغلي وعايز اهدى عشان افكر كويس.
اذعن عدي ليشير للنادل حتى يأتي بطلبهم، ثم عاد إليه سائلًا:
- طيب ورباب، هي عاملة ايه دلوقت؟
اشتدت ملامحه ليرد كازًا على أسنانه:
- رباب افتكرت ان ليها اخت دلوقتي يا عدي، بتقولي ان اعصابها تعبانة وعايزة تقعد عندها، بتسيبني أنا في الظرف الزفت ده .
رفر عدي واهتزت رأسه بسأم يعقب على كلماته:
- طب وفيها ايه بس؟ ما هو شيء طبيعي ان اعصابها تتعب، اللي اتعرضتلوا مش هين برضوا، خليها تبعد شوية على ما تهدى.
هتف بعصبية ازدادت حدتها:
- وما تهدى وهي معايا، تبعد عني ليه؟ انا اللي اقدر اهديها وانا اللي اقدر اجيبلها كل اللي هي عايزاه، انا اكتر واحد فاهمها، دي مش مراتي وبس يا عدي....... دي .......
توقف يمرر بكفه على شعر رأسه للخلف، مغمضًا عينيه بتعب، رمقه الاَخر لعدة لحظات صامتًا، يرى الجانب المخفي من كارم، هذا الجانب الذي لا يستطيع الفرد كبته مهما حاول ومهما كان متحكمًا او حتى مستبدًا، تفضحه مشاعره مع اول اختبار، جانب ذكره بأمره وهذه الفتاة التي استحوذت على كل تفكيره، فجعلت كل تركيزه منصبًا حول الوصول إليها مهما كان الثمن، طرد كتلة كثيفة من الهواء من صدره ليعاود النظر في سجل هاتفه، والحيرة تعصف برأسه، لماذا التأخير في الرد حتى الاَن؟ ألم يعد يهمها أمر صديقتها؟!
❈-❈-❈
في اليوم التالي صباحًا
خرجت شهد من غرفتها بعد أن تجهزت للذهاب إلى عملها كالعادة، القت تحية الصباح نحو المجتمعين على مائدة السفرة بدون انتباه وقد كان ذهنها مشتت ما بين اتصلاتها بمساعدها للاطمئنان على حالة العمل، والإتمام بحقيبتها على بعض الأوراق الهامة التي سوف تحتاجها اليوم في المقابلة بخصوص التقديم لإحدى المشروعات الحكومية، بمساعدة حسن الذي لا يكف عن استعجالها الاَن:
- يا عم والله نازلة اهو ، روح انت المصلحة بتاعتك واسبقني....... ايوة ما انا بقولك تسبقني هناك عند المدير المسؤل عن المشروع، ظبط معاه لحد اما اجيلك......
قطعت بضحكة مرحة كعادتها كلما ألقى على اسماعها كلمات الغزل بخفة ظله التي باتت تعشقها، لتعقب بيأس:
- انت مفيش فايدة فيك، الست مجيدة دي طلعت فاشلة في تربيتها معاك......... ماشي ماشي يا مؤدب، طب استناني بقى مش هتأخر عليك.
انهت المكالمة والتفت نحو الجالسات أمامها يتناولن وجبة الفطور، لتبادرها رؤى بغمزة وتشاكسها:
- ايوة يا عم المشغول، عقبالنا يارب.
استجابت لها بابتسامة قبل أن ينعقد حاجبها متسائلة بفضول:
- دي أمنية كمان لابسة النهاردة، وراكي مشوار؟
ضحكت المذكورة لتنهض عن مقعدها قائلة:
- هو انتي نسيتي ولا ايه؟ مش انا قولتلك ان انا جاية اشتغل معاكي، وهامسكلك الحسابات بصفتي خريجة تجارة.
- انتي بتتكلمي بجد؟
سألتها شهد بعدم تصديق، فهي الأعلم بطبيعة شقيقتها الكسولة والإتكالية في كل ما يخصها من أمور، وعلى نفس القناعة تدخلت رؤى ايضًا قائلة بتهكم:
- يا نهار ابيض، اختي أمنية هتشتغل، دا باين الدنيا اتقلب حالها يا جدعان.
- اخرسي انتي.
هتفت بها أمنية نحو شقيقتها قبل أن توجه خطابها لشهد:
- لما اتكلمت امبارح معاكي مكنتش بهزر، عشان انا مصممة اتحمل المسؤلية زيك، ولا انتي فاكرانا هنتسنى لما تتجوزي ونتوحل في الهم لوحدنا، أو نستنى فضلتك علينا .
ليست كلماتها ولا تفكيرها، هذا ما استنبطته شهد على الفور، وهذا التحفز من ناحية الأخرى نحوها بتصميم على فعل ما تريد، بالطبع لو واجهتها الاَن بما يدور بعقلها، سوف تستغل بغباءها وتضخم الأمر، وهي ليست بالحمقاء حتى تعطيها الفرصة هي ومن يدفعها لذلك.
اثناء صمتها تدخلت نرجس تلطف كعادتها:
- معنى كدة انها عايزة تساعدك يا شهد ، ربنا يخليكم لبعض ما انتوا اخوات وهي عايزة تشيل عنك.
بابتسامة جانبية ساخرة ردت توزع انظارها بين الاثنين :
- فعلًا، يعني انتي هتشيلي عني المسؤلية بجد يا أمنية؟
ردت بثقة الحافظ بعدم فهم :
- ايوة طبعًا امال ايه ؟ لا اهو انتي فاكراني غبية يعني، ولا مقدرش اتحمل زيك مثلًا.
- لا العفو طبعا يا حبيبتي.
قالتها شهد لتتابع بتحدي:
- وانا قبلت يا قلب اختك، ومش هشغلك معايا في الحسابات وبس، لا دا انا هدخلك معايا في كله
- يعني ايه؟
سألتها وقد ارتسمت علامة استفهام كبيرة على ملامحها، تجاهلت شهد لتردف بحسم وحزم:
البسي شنطتك يا للا وحصليني، انا هسبقك تحت اسخن العربية، ياللا
❈-❈-❈
في مقر عملها بداخل الحجرة التي تجمعها برئيسها في القسم، والذي لا تعلم سر تغيره هذه الفترة معها، كانت تعمل وعينيها تتجه نحوه كل دقيقة، صامتًا بوجوم، بتركيز شديد على حاسوبه او الملفات الورقية التي امامه على سطح المكتب، كأنه لا يراها، حتى ان تطوعت وسألته يجيبها باقتضاب بدون أن يكلف نفسه حتى بالنظر إليها ، لا ترى منه هذا الإهتمام الذي كانت تلتمسته على أقل شيء، تدخله الدائم في أي امر يشغلها بحمائية منه، تتقبلها منه بترحاب لا تعلم سببه، ترى ما الذي غيره نحوها؟
- سامية؟
لم تشعر انها اردفت بالأسم بصوت واضح سوى بعد ان التفت إليها سائلًا:
- انتي بتكلميني يا صبا؟
نفت بهز رأسها:
- لا لا دا انا افتكرت حاجة كدة .
اومأ ليعود لعمله وكأن شيئًا لم يكن، وتعود هي لأحباطها قبل ان يلتفت الإثنان على اقتحام إحدى العاملات بالفندق، تنادي بإسمها
- اَنسة صبا.
- نعم.
قالتها كسؤال وجاء رد المرأة:
- مستر عدي رئيس الفندق عايزك.
- ايه؟
- بقولك مستر عدي مستنيكي في مكتبه، عن اذنك.
قالتها المرأة وخرجت، تتركها في تخبطها، وقد أجفلتها بهذا الأمر المستفز أمام شادي رئيسها والذي ادعى انشغاله دون أن يهتم بسؤالها حتى، لتبتلع ريقها باضطراب، ثم تنهض صاغرة، تردف بالإذن قبل ان تذهب:
- انا هروح اشوف المدير عايز ايه؟ عن اذنك يا مستر.
- تمام .
قالها ويده تدون بالقلم سريعًا على احد الملفات، بارتباك شديد تحركت تجبر اقدامها لتنهي هذا الأمر الثقيل، مقررة عدم تكرار خطئها والتدخل في هذه الشئون مرة أخرى.
وظل الاَخر على وضعه حتى إذا اختفت من الغرفة، خرج عن شعوره ليدفع القلم بطول ذراعه، ثم يضرب بكف يده على سطح المكتب بقوة جعلت معظم الاروق تسقط على الأرض، زافرًا بخشونة وحريق قد شب بصدره، لا يعلم كيف له أن يطفئه
❈-❈-❈
وفي الجهة الأخرى بداخل قسم الشرطة وقد كان جالسًا مع زميله يتباحث في أحد الأمور الخاصة بعملهم، ليفاجأ بإجابة السؤال الذي شغله بالأمس، بعد رؤيته الغريبة لابن عمه في طريق مغادرته، قبل أن ينشغل بموضوع صبا وصديقتها، ثم الاَن وقد علم الأمر برمته، بشيء من صدمة اعتلت ملامحه عاد بالسؤال مرة أخرى:
- انت متأكد من الكلام دا يا عصام؟
رد الاخير بثقة كاملة:
- يا فندم ما انت عارف انا مش بجيب حاجة من دماغي، دي كلها تحريات وشهادة شهود اولهم اخو الضحية، دا غير الكاميرات، وهروب الست المتهمة والراجل الحارس، كلها دلائل مُثبتة.
باضطراب غير عادي مرر كفه على أطراف فكه بتفكير عميق، عقله لا يستوعب ان يحدث هذا الشيء مع فرد من عائلته الكريمة، خصوصًا هذا الشق المتعجرف بها، فرع الأغنياء والمناصب الهامة، لا بل وأهمهم على الإطلاق، كارم رجل الأعمال ابن اللواء حمدي فخر، والأكثر من هذا هو ان الأمر يخص زوجته، اول فتاة أحبها وأول من جرحته في كرامته، بعد أن استهانت به وكأنه لا يستحق حتى النظر إليه، هذا الأمر الذي جعله يظل لفترة طويلة من الوقت صارفًا النظر عن النساء والزواج عامة، الأمر الذي ذهب بظن والدته وشقيقه ان عقدته كان بحبها، ولم يصل إليهم ان الجرح كان في كرامته، عزة نفسه التي منعته حتى بشرح وجهة نظره لهم، كاتمًا ما يألمه داخل صدره، حتى لا يزيد عليهم.
- امين باشا، هو انت سرحت ولا ايه؟
قالها عصام ليقتلعه من افكاره البائسة، فرد ممازحًا:
- يعني وما اسرح يا سيدي براحتي، هو انت مراتي وهتشك فيا؟
ضحك الاَخير قائلَا بأدبه المعتاد:
- لا يا باشا طبعًا وانا اقدر، تحب نكمل اللي علينا .
اعترض ينهض عن مكتبه منهيًا الجلسة بقوله:
- لا بقى خليها وقت تاني، انا معايا مشوار مهم .
- مشوار ايه؟
تسائل عصام قبل أن يفاجأ برئيسه الذي هتف على احد الرجال العاملين معهم:
- عسكري مدبولي، تعالي هنا بسرعة.
دخل الرجل على الفور يؤدي التحية العسكرية، قبل ان يأمره أمين:
- روح ع الحجز وهاتلي السجينة اللي اسمها مودة، وجهز نفسك عشان انت رايح معانا مشوار