رواية مهمة زواج الفصل الرابع عشر14والخامس عشر15بقلم دعاء فؤاد


رواية مهمة زواج الفصل الرابع عشر14والخامس عشر15بقلم دعاء فؤاد
بينما كانت ندى تجالس السيدة تيسير يتمازحان و يضحكان على مواقف من الطفولة حين كانت ندى طفلة صغيرة تعيش بينهم قبل اغتيال والدتها و انتقالها مع أبيها الى الولايات المتحدة، تفاجئا بأدهم يخرج من غرفته ركضا مرتديا بنطال چينز أسود و قميص أسود ينتعل حذائه، فركضت اليه ندى تسأله بقلق: 
ـــ أدهم انت بتجري كدا ليه؟!.. ايه اللي حصل و رايح فين؟! 
أجابها باستعجال و هو يعقد رباط حذائه: 
ـــ لسة مكلم آسر دلوقتي بعد ما جاتلي رسالة انه تليفونه متاح.. و قالي ان خطيبته عملت حادثة و في المستشفى بين الحيا و الموت. 
شهقت السيدة تيسير حين استمعت لذلك و أخذت تردد: 
ـــ لا حول و لا قوة الا بالله... حبيبي يا آسر... ربنا ينجيهاله يابني.. خلي بالك من نفسك يا أدهم و انت سايق عشان خاطري.. و ابقى طمنى يابني. 
أومأ عدة مرات ثم فتح باب الشقة سريعا و هبط الدرج ركضا ثم استقل سيارته متجها الى مشفى الدكتور رؤف... 

بعد حوالي نصف ساعة وصل أدهم الى طابق العناية المركزة ليلفت انتباهة تلك المشاجرة القائمة بين آسر و حماه في ركن ما بالطابق.. 
ـــ يا عمي قولتلك سيب ميريهان هنا و أنا هفضل جنبها مس هسيبها... 
صاح بها آسر بانفعال بالغ و هو يلوح بيده و يبدو أن الشجار قائم منذ فترة و قد احتدم بينهما للغاية، فمن ثم رد محمد بانفعال أشد: 
ـــ دول بناتي أنا.. و انت مالكش الحق تقرر عني.. أنا هاخد بناتي الاتنين و هسافر شئت أو أبيت.. و رأيك ميهمنيش و مش مستني اخد الاذن منك. 
استنفرت عروق آسر بغضب جامح ليصيح بصوت حاد: 
ـــ أنا مش هسيبها.. انت عارف ان بينها و بين الموت شعرة... ليه تبهدلها في السفر.. سيبها تموت هنا قدام عيني. 
أخذ محمد يلوح بيده موجها حديثه لوالد آسر: 
ـــ ما تلم ابنك يا سعيد... أنا حر في بناتي أنا الوحيد اللي هنا صاحب القرار... هو مالهوش أي صفة.. خطيبته خلاص ماتت... خوده بقى و امشو من هنا.. 
التمس سعيد العذر لمحمد و لم يعاتبه أو ينجرح من كلماته اللاذعة، فجرحه غائر و يبدو من مظهره الغاضب أنه يموت في اللحظة ألف مرة، فأي شخص في مكانه لما تحمل ما يتحمله الآن... 
بينما كان أدهم يتابع المشاجرة بذهول... فهل حقا ميريهان ماتت؟! 
نفض رأسه سريعا ثم تدخل ليجذب آسر من ذراعه بعيدا عن حماه فلا الوقت ولا المكان مناسبان لتلك المهزلة.. 
ـــ آسر ميصحش تزعق قصاد حماك بالطريقة دي... 
أوشك آسر على البكاء ليقول بمرارة: 
ـــ ميريهان خلاص مخها مات و كلها ساعات و القلب يقف و السر الالهي يطلع...ياخودها يعالجها برا ليه يا أدهم و العقل بيقول ان حالتها مالهاش علاج. 
ربت أدهم على كتفه بمواساة و هو بالكاد يسيطر على حزنه الذي أثاره صديقه بداخله ليقول بجدية و هدوء في ذات الوقت: 
ـــ الله يكون في عونه يا آسر... محدش حاسس باللي هو فيه... سيبه يعمل اللي يريضيه طالما كدا هيكون مرتاح.. مش كفاية الابتلاء اللي هو فيه؟! 
رد عليه بنبرة قاطعة: 
ـــ مش هقدر اسيبها...سفرها ألمانيا مالوش أي لازمة.. ليه عايز يبعدها عني الشوية اللي فاضلين في عمرها!! 
أقبل عليهما سعيد والد آسر ليقول موضحا: 
ـــ اللي انت متعرفهوش يا أدهم ان مودة هي كمان حالتها خطيرة و محتاجة تدخل جراحي في اقرب وقت و محمد هيسفرها المانيا و هياخد ميري نفس المستشفى... أب و عايز بناته معاه أيا كانت حالتهم ايه.. مالناش أي حق اننا نعترض على قراره. 
هز أدهم رأسه عدة مرات ثم تطلع لآسر بعتاب: 
ـــ لا يا آسر مالكش حق في وقفتك و اعتراضك.. الراجل في البلاء الشديد دا و انت عمال تقاوح معاه؟!... يا أخي سيبه يعمل اللي في مصلحة بناته.. دا بدل ما تقوله اللي تشوفه يا عمي انا معاك فيه؟! 
أطرق رأسه بحزن و ضيق و هو يكاد يختنق من فرط الضغط سواء من أدهم أو من أبيه ليقول بأسى: 
ــــ محدش حاسس بيا...ميري واخدة روحي معاها.. مش هقدر أسيبها... مش قادر. 
جذبه أدهم الى حضنه ليربت على ظهره يواسيه، فأطلق آسر لعينيه العنان ليفرغ ما بقلبه من حزن.. أسى... انكسار.. علاوة على ذلك الخواء الذي خلفته تلك المسكينة في قلبه ليهتز جسده من شدة البكاء. 
ـــ اصبر يا آسر... أومال ابوها يعمل ايه... هو دا عمرها.. محدش بياخد ساعة زيادة عن عمره اللي ربنا كاتبهوله... ان شاء الله يا حبيبي تقابلها في الجنة. 
بدأ يهدأ رويدا رويدا إثر كلمات أدهم التي نزلت على قلبه كالماء البارد، فاستخرج منديل من جيبه أعطاه له فأخذه آسر منه و أخذ يجفف عينيه و هو يردد بصوت متحشرج من أثر البكاء: 
ـــ إنا لله وإنا إليه راجعون... 
ـــ ادخل ودعها و بص عليها للمرة الأخيرة قبل ما الاسعاف ياخدها. 
أومأ بخضوع ثم ابتعد عن صديقه ليسير بلا روح الى العناية المركزة يستأذن الطبيب ليودعها الوداع الأخير في حين كان محمد ينهي اجراءات سفره بابنتيه. 

صدح أذان الفجر في سماء القاهرة حين أقلعت الطائرة المُجهزة بوحدة عناية مركزة متحركة تُقل مودة و ميريهان و والدهما و الدكتور رؤف و معهما فريق طبي لاحتمالية حدوث أي أمر غير مرغوب فيه أثناء نقل المريضتين. 
و بمجرد أن أقلعت الطائرة نزل آسر على ركبتيه على أرضية المطار و بكى و كأن روحه تَصّعد في السماء... لا يصدق أن هذا نهاية طريقة مع من استحوذت على قلبه و ملكته بلا منازع. 
نزل أدهم الى مستواه ليحيط كتفيه بذراعه و تركه يُفرغ ما بنابضه... فقد امتلئ القلب حتى فاض بالحزن. 

بينما ندى لم تنم ليلتها قلقا على أدهم، فقد أدت صلاة الفجر و قرأت وردها و ها هي الشمس قد أوشكت على الشروق و لم يعد بعد. 
خرجت لتجلس في صالة الاستقبال المقابلة للباب حتى تراه حين يعود لعل قلبها يطمئن. 
غفت على الأريكة دون أن تشعر و قد كانت لازالت بملابس الصلاة، و في تلك الأثناء عاد أدهم و علامات الارهاق متجلية على ملامحه ليقابل ندى و هي غافية على الأريكة. 
ـــ ندى.. ندى. 
فتحت عينيها بصعوبة لتقول بصوت ناعس: 
ـــ أخيرا رجعت يا أدهم؟! 
ـــ انتي ايه اللي منيمك هنا؟! 
اعتدلت لتأخذ وضع الجلوس ثم أجابته بصوت متحشرج من أثر النوم: 
ـــ قلقت عليك لما اتأخرت... فصليت الفجر و قعدت أستناك هنا. 
حانت منه ابتسامة باهتة ثم انحنى ليجذبها من يدها لتقف قبالته ثم قال:
ـــ طاب ادخلي نامي بقى... انا قدامك اهو كويس. 
هزت رأسها ثم سحبت يدها من يده و من ثم سارت باتجاه غرفتها، و حين تبين له ذلك سار خلفها ليستوقفها بقبضة يده على يدها و هو يقول: 
ـــ انتي رايحة فين؟! 
أجابته ببراءة: 
ـــ رايحة أنام في قوضتي.. 
أدارها لتقف في مواجهته ثم رفع يديه لمستوى رأسها ليقوم بفك حجابها و هو يقول: 
ــــ احنا مش اتفقنا اننا هننام في قوضة واحدة؟!.. و شعرك دا ميتغطاش قدامي؟! 
أطرقت رأسها بخجل: 
ـــ انت مقولتش اننا هننام في قوضة واحدة. 
صدرت منه ضحكة بسيطة ثم قال بمكر: 
ـــ أومال احنا هنتجوز ازاي؟!.. هنتجوز عن بعد مثلا؟! 
احمرت وجنتيها خجلا و هي تنظر له بجحوظ ثم تهربت بعينيها من النظر بعينيه، فازدادت ضحكاته أكثر من ذي قبل، ثم رأف بحالة التوتر التي أصابتها بالتزامن مع خجلها الزائد و أخذها من يدها و سارا سويا باتجاه غرفته و قد سارت معه بلا اعتراض. 
ــــ أنا هدخل الحمام أخد شاور و اتوضى عشان أصلي وانتي خودي راحتك.. اعتبري نفسك لوحدك في القوضة. 
أومأت بصمت و بمجرد أن اختفى عن ناظريها، خلعت اسدالها لتظهر تلك البيچامة البيضاء من الستان التي أظهرت ذراعيها، ثم تمددت على أقصى طرف الفراش و تدثرت جيدا بالغطاء الخفيف بعدما ضبطت درجة حرارة المكيف على البارد، و دون أن تشعر هوت في سبات عميق... فأحداث اليوم لم تكن بالقليلة ما جعلها تهرب من تلك البداية الجديدة بالنوم. 

بعد عدة دقائق خرج أدهم من المرحاض مرتديا ملابس النوم، فتفاجئ بها نائمة بأقصى الفراش و كأنها على حافة السقوط ليضحك بسخرية و هو يهز رأسه بيأس، ثم قام بفرد سجادة الصلاة ليؤدي صلاته و بعدما انتهى تمدد بجوارها، ثم أخذ يتأملها قليلا و صديقه آسر و فقدانه لحبيبته مازال يحتل تفكيره، واتته مشاعر غريبة لم يختبرها من قبل حين تخيل أنه يمكن أن يفقدها، شعر بأن قلبه يكاد ينخلع من موضعه ان حدث معه ذلك... فأغمض عينيه يستعيذ بالله من تلك الوساوس.. و دعى ربه بألا يذيقه مرارة الفقد... فمذاقها أمر من الحنظل. 
مسد على شعرها الذي لم يعشق منها سواه حتى الآن، ثم انحنى ليزيح تلك الغرة الكثيفة التي غطت جبينها حتى حاجبيها ليظهر له ذلك الجرح الصغير ثم لثم جبينها ببطئ، وأخذ يتمتم بهمس و هو مازال يمسد على شعرها: 
ـــ ربنا يخليكي ليا يا ندى.. 
ترك شعرها ثم عاد لينام بالطرف الآخر تاركا بينهما مسافة مناسبة احتراما لرغبتها... أو يمكننا القول رأفة بخجلها... فهو يدرك جيدا مدى حيائها و أنها لم تعتاده بعد.    

انقضى يوما حافلا بالأحداث المصيرية ليأتي يوما جديدا ينتظر أبطالنا ربما تنقلب به الموازين... 

في محافظة سوهاج.... 
استيقظ معتصم بعد ليلة قضاها في نوم متقطع لا يشبع ولا يسمن من جوع، فقد سيطرت ريم على تفكيره و احتلت كيانه بالكامل... رُغما عنه كان يتذكر أحداث تلك الليلة حين كانت بين ذراعيه و حين نزل على ركبتيه أمامها.. شخصيته الصارمة التي تحولت إلى شخص آخر لا يعرفه.. لا يدري متى ظهر ذلك الجانب الحنون منه.. و لما ظهر لها هي بالذات!.. لم تكن الأولى بحياته... فقد مررن به الكثيرات و من هن أشد منها جمالا... فحتى زوجته رغم جمالها الفتاك و قوامها المثير لم تحرك فيه ما حركته تلك القطة المتمردة...ماذا فعلت به و من أين ألقاها عليه القدر... 
ــــ كنتي مستخبيالي فين يا ريم.... أنا كنت عايش و مزاجي حلو ولا كان في دماغي حب و لا شوق ...جيتي قلبتيلي كياني كله.... يا ريتني ما شوفتك ولا عرفتك. 

و كانت تلك آخر فكرة واتته ثم بعدها غفى حتى أشرقت الشمس و تسلل نورها عبر ستائر غرفته لتداعب جفنيه اللذان استجابا سريعا لها و استيقظ و كأنه لم ينم قط. 

بعد حوالي نصف ساعة كان معتصم يجلس بجوار أمه بأريكتها المفضلة يقص عليها ما حدث ليلا أثناء نومها و بالطبع أخبرها بوجود ريم و مارتينا بالمضيفة.. 
ـــ أباااه يا ولدي... كيف جلبهم طاوعهم يسرِجوا ضيوف الكبير...كانهم مفكرين راح ينفدوا بعملتهم الواعرة.. 
ربت معتصم على فخذها و هو يقول: 
ـــ باينهم أغراب يامايا...ماهو محدش من البلد يتچرأ يعمل العملة دي...بس أني هعرف كيف أتوبهم. 
قاطع مجلسهم الخفير سمعان مقبلا عليهما و هو يلهث و بيده حقيبة سوداء ثم قال بنبرة مفتخرة: 
ـــ ربطهم في مزرعة المواشي مع البهايم كيف ما أمرت يا كبير. 
حانت من معتصم ابتسامة واثقة ثم هتف بقوة: 
ـــ و فين اللي سِرجوه؟! 
ركض سمعان اليه واضعا تلك الحقيبة على الطاولة الرخامية أمام كبيره: 
ـــ دياتي يا كبير... الدهبات و الفلوسات و حتى التلفونات... كله رچعته يا كبير. 
أومأ معتصم بفخر: 
ـــ عفارم عليك يا سمعان... انت اكده صوح دراعي اليمين... عدي ع المزرعة انت و الرچالة اللي كانو امعاك و كل واحد فيكم يختارلو نعچة على كيفه.. و خود الفلوسات دي فرجوها علي بعضيكم.. 
قالها و هو يستخرج رزمة من المال من جيب جلبابه، فأخذها سمعان و هو يقبل يد معتصم، فسحبها سريعا و هو يقول: 
ـــ استغفر الله.. دي حجك انت و الرچالة اللي تعبت.. يلا روح و متنساش تسيب حد عينه على الكلبين دول.. و فيشي أكل ولا شرب لحد ما افكر هعمل ايه وياهم. 

أومأ سمعان و هو يكاد يطير من الفرح بتلك الغنيمة التي حصل عليها، بينما السيدة ام معتصم أخذت تتطلع الى ولدها بفخر و اعجاب ثم ما لبثت أن قالت بتأثر: 
ــــ كاني شايفة الحاچ حمدان البدري الله يرحمه هو اللي جاعد جدامي دلوق... مخابش ظن ابوك يوم ما جالي انك خليفته من بعده في البلد دي. 
ابتسم معتصم تأثرا بإطراء أمه ثم انحنى يقبل ظهر كفها و هو يقول: 
ـــ ربنا يخليكي ليا يامايا...أني دايما أجولك هذا الشبل من ذاك الأسد.. و بعدين أني من غير وچودك چاري مسواش حاچة.. 
مسدت على شعره بحنو ثم أخذت تدعو له بدعواتها التي تدمع العين من شدة اخلاصها و خشوعها و هو يؤمن خلفها. 
عم عليهما صمتا وجيزا قطعه معتصم بقوله: 
ــــ بجولك يا امايا... يعني لما الضاكتورة ريم تصحى واچب تجعدي وياها و تعزميها هي و زميلتها على شبكة حمد و صافية الليلة طالما هيشرفونا في الدوار اليامين دول. 
ابتسمت السيدة بمغذى فهي قد لمست اعجابه بها رغم عدم اظهاره لذلك، ثم قالت بجدية: 
ـــ من غير ما تجول يا ولدي.. اني كنت ناوية على اكده.. زي ما جولت ده واچب.. و احنا الواچب ميفوتناش واصل. 
تنهد بارتياح ثم استل هاتفه لكي يوقظ شقيقه... فاليوم حافل و لا بد من تجهيز الدوار استعدادا لتلك المناسبة الهامة. 
بدأت ملامح والدته بالعبوس و كأنها تذكرت شيئا سيئا ليهتف بها معتصم بقلق بعدما استشعر حزنها المفاجئ: 
ـــ مالك يامايا؟!... انتي شربتي دوا الضغط النهاردة؟! 
أومأت و هي تقول بملامح واجمة: 
ــــ متخافيش يا ولدي... أني زينة. 
ـــ لاه يامايا... شكلك ميطمنش واصل. 
تطلعت إليه و قد غشت الدموع عينيها الأمر الذي جعل قلبه يكاد ينخلع من موضعه، ثم قالت بصوت متحشرج: 
ـــ كان بدي الخطوبة دي تكون خطوبتك انت... انت ولدي البكري و أول فرحتي.. كيف يعني الصغير يتچوز جبل الكبير.. اني مخبراش راسك اللي كيف الحديد دي عتلين ميتى يا مِعتِصم. 
أغمض عينيه يهدئ من ضربات قلبه التي تسارعت من فرط القلق ثم أخذ نفسا عميقا بعدما رسم بسمة مصطنعة على شفاه ثم قال بمزاح: 
ـــ يا وَلية وجعتي جلبي في رچليا.. بس اكده؟!... بجى هو ده اللي خلى الهم يغير ملامحك الزينة دي؟! 
تطلعت إليه بحنق، فهو دائما ما يقلل من أهمية ذلك الأمر، فضحك اثر تلك النظرة المغتاظة ثم حاوط كتفيها بذراعه و هو يقول بنبرة مقنعة: 
ــــ ياما انتي خابرة إني مفاضيشي للچواز و مسؤلياته... أني ملاحجش على المزارع و الاراضي و مشاكلها اهنيه دا غير مشاكل أهل البلد و الجعدات العرفية اللي كل يوم و التاني بنعملوها في المضيفة.. غير بجى شركتي و مصنعي اللي ف بحري... مين اللي هتحمل دي كله يامايا...
همت لتقاطعه بينما هو سبقها ليقول: 
ـــ اني خابر ان دي مش حچة.. بس على الأجل استني هبابة يكون حمد اتچوز و اهو بدأ يشيل عني كَتير في الشغل اهناك... يعني خلاص هانت يامايا. 
جففت عينيها ثم تحدثت بنبرة جاهدت أن تبدو صارمة: 
ـــ هستنى هبابة يا معتصم... بس مش راح استنى كتير... نفسي أشيل ولدك جبل ما أجابل وچه كريم.. 
احتضنها بحب و هو يردد: 
ـــ بعيد الشر عنيكي يامايا.. و الله جريب(قريب)... جريب جوي يا تاچ راسي. 
وعدها و حينها تمثلت أمام عينيه صورة ريم و كأنها أتت لتقول له أنا قدرك، فابتسم بحالمية شاردا بها و مازال يسند رأس أمه الى صدره. 

بعد قليل ترك أمه و ذهب الى المزرعة حيث اللصان اللذان احتجزهما هناك... 
قام بجلدهما على ظهرهما العاريان بالسوط بقسوة حتى أخذا يعتذران منه بتوسل و لكنه أبى أن يطلق سراحهما، ثم تركهما مربوطي الأيدي و عاد مرة أخرى إلى الدوار، ليجد ريم تجلس بمكانه بجوار أمه و مارتينا تجلس بكرسي قريب منهما. 
أقبل عليهم محاولا الحفاظ على صرامته أمامها، فيبدو أنه قد فقد الكثير من هيبته أمامها بالأمس الأمر الذي أثار ضيقه البالغ.. 
بمجرّد أن اقترب منهم هبت ريم واقفة لتقول برقة قبل أن يتفوه بأي شيئ: 
ـــ معتصم بيه أنا متشكرة أوي على ضيافتك لينا و انك رجعتلنا الحاجات اللي اتسرقت مننا... بس بعد اذنك عايزة الموبايل بتاعي عشان أكلم أدهم عشان أعرفه اني راجعة القاهرة النهاردة. 
قطب جبينه باستنكار ثم سألها بثبات: 
ـــ و مين جال انك هتعاودي القاهرة النهاردة؟! 
بدأت أعصابها تثور فيبدو أنه سيعاندها أو سيجبرها على أمرا لا تريده ثم صاحت بحدة طفيفة: 
ــــ أنا اللي قولت..و افتكر قولتك امبارح اني مش هقعد في البلد دي تاني..
رد عليها بنفس نبرة صوتها: 
ــــ و انا مجولتش انك هترچعي القاهرة... أنا استجبلتك اهنيه في الدوار لحد ما أرچعلك حجك.. و شغلك في الوحدة هتكمليه. 
ـــ مش من حقك تقرر اذا كنت أكمل شغلي ولا لأ. 
ـــ لا من حجي... أني كبير البلد دي.. و مفيش حاچة بتتم من غير موافجتي..
ـــ أنا لا يمكن ادخل المكان دا تاني...بعد اللي حصل مستحيل. 
ـــ معناته ايه الكلام ده؟!..مفيش مخلوج في البلد عرف باللي حوصل... و مش هسمحلك تشوهي شكلي وَسط ناسي... انتي لو سيبتي الوحدة الكلام هيكتر في البلد.. عايزة تچرسيني وَسطيهم؟!.. عايزاهم يجولو الكبير مجادرش يحمي ضيوفه؟!   
ربعت ذراعيها أمام صدرها لتقول بنبرة ذات مغذى: 
ـــ آاااه قول كدا بقى... انت كل اللي هامك شكلك و منظرك في البلد.. انما أنا عايزة ايه أو هكمل شغل ازاي في مكان مش حاسة فيه بالأمان دي مش مشكلتك... مش كدا؟! 
سكت معتصم يريد أن ينفي ما تقوله.. يريد أن يُقر لها بأنه يخشى فقدانها... أنه سيفتقدها بعدما امتلكت قلبه... أنه سيشتاق لها ان ابتعدت عنه....، و لكن نهوض أمه من مكانها أنقذه.. فقد قامت تربت على كتف ريم تهدئها و هي تقول: 
ـــ يا بتي احنا اتعودنا عليكي و فراجك يعز علينا.. و بعدين لو على الأمان معتصم هيأمن الوحدة و هيدج حديد على الشبابيك و الابواب و هيسيبلك هناك غفر يحرسوها كمان بالليل و بالنهار. 
همت لتعترض لكن مارتينا لم تعطيها الفرصة، فقد أحبت وجودها معها في الوحدة لتقول باستعطاف: 
ـــ خلاص بقى يا ريم... أنا واثقة و متأكدة ان اللي حصل دا مش هيتكرر تاني.. معتصم بيه قد الدنيا و استحالة يسمح بحاجة زي دي تتكرر... و بعدين انتي عايزة تمشي و تسيبي اختك الغلبانة لوحدها؟!
عبست ملامحها بضيق لتقول:
ـــ مارتينا أدهم لو عرف اللي حصل استحالة يوافق اني أكمل هنا...هو أصلا من الأول مكانش راضي أستلم شغلي في الصعيد و كان بمعارفه قادر ينقلني في أي مكان أختاره بس أنا اللي أصريت أخوض التجربة...و يا ريتني كنت سمعت كلامه من الأول.
ضربت ام معتصم على صدرها بخفة لتقول بعتاب:
ـــ باه يا ضاكتورة...و هو احنا جصرنا وياكي يا بتي؟!..دا احنا الود ودنا نشولوكي فوج راسنا.
عادت لتقول باعتذار:
ـــ لا طبعاً يا حاجة انتو مقصرتوش أبداً..أنا بس خايفة أخويا ياخد مني موقف لو عرف.
تدخل معتصم ليقول بنبرة قاطعة:
ــــ مالكيشي صالح بخيك.. أني هكلمه اعتذرله عن اللي حوصل وياكي ليلة امبارح و متحمليشي هم حاچة واصل.
تنهدت ريم بقلة حيلة لتهز رأسها بإيماءة بسيطة كناية عن استسلامها لكلامهم، فاتسعت بسمة الحاجة ام معتصم، و كاد معتصم أن يبتسم فرحا بذلك و لكنه جاهد نفسه لاخفائها، و تنهد بارتياح كبير و كأنه أنجز أحد أصعب مهماته... تلك العنيدة المتمردة يبدو أنها ستذيقه الويلات حتى يُخضعها له. 


الحلقة الخامسة عشر
رغم نومه عند شروق الشمس الا أنه استيقظ باكرا في موعده المعتاد للذهاب الى مقر عمله بالعمليات الخاصة، فحتما آسر لن يستطيع الحضور بعد تلك الليلة العسيرة التي مرت عليه أمس، و بذلك فهو لا يتثنى له التغيب عن العمل.
استطاع أن يعد ملابسه الميري بصعوبة ثم ارتداها و هو يتحرك في الغرفة بهدوء حتى لا تستيقظ ندى، فهي ايضا قد قضت ليلتها مستيقظة في انتظاره.
انتهى من تلك المهمة الشاقة ثم وقف أمام المرآة يمشط شعره و ينثر عطره النفاذ عليه بغزارة، ثم تمم على سلاحه و من ثم تحرك بخطى بطيئة ناحية حافة الفراش التي تنام عليها، ثم برك على ركبتيه ليكون رأسه بمستوى رأسها و أخذ يمسد على شعرها و هو يتأملها بحالمية... ثم انحنى ليزيح غرتها الغزيرة عن جبينها و لثمه ببطئ، فداعبت رائحته الذكية أنفها لتبتسم و هي بين الحلم و اليقظة و قامت بلف ذراعها حول رقبته، و هي مغمضة العينين دفنت رأسها بالقرب من عنقه الذي يفوح منه عطره الذي يُسكرها لتتنفسه باستمتاع، و كان أدهم مستسلما لها تماما لتفعل به ما يحلو لها، بقيا على ذلك الوضع ثوانِ قليلة ثم سرعان ما سكنت ندى تماما و ثقل ذراعها على رقبته، فادرك أنها كانت تحلم أثناء نومها. 
لم يتحرك أدهم ايضا و ظل متسمرا هكذا يحاول السيطرة على ضربات قلبه المتسارعة اثر فعلتها المباغتة، فاغمض عينيه يلملم شتات نفسه ثم تنهد بعمق و قام بابعاد ذراعها عن رقبته ليضعه بجوارها بهدوء ثم نهض و هو يخلل أصابعه بين خصلاته الطويلة كناية عن توتره... لم يرد بخياله أنه سيقع أسيرا لها بتلك السرعة.. لقد انقلب كيانه بالكامل منذ أعلنها لنفسه زوجة و كأن قلبه كان رهن اشارة منه ليقع بحبها... أحبها؟!... هل حقا هذا ما يسمونه الحب؟! 
لا يدري ماهية هذه المشاعر و كيف يكون الحب... حقا لا يدري.. 
انتعل حذائه الميري ثم خرج من الغرفة و بداخله ثورة من المشاعر و هو لا يريد أن ينجرف نحوها.. 

داخل مبنى العمليات الخاصة... 
دلف مكتبه لتقابله سحابة من الدخان ليتفاجأ بوجود آسر يجلس بالكرسي المقابل للمكتب بملامح بائسة و يدخن السجائر بشراهة...
ـــ انت ايه اللي جابك يا آسر؟!..
وقف أمامه تماما ثم استرسل كلامه بحدة:
ــــ انت رجعت تاني للهباب دا؟! 
نظر له بخواء ثم عاد يستكمل تدخين السيجارة، فسحبها منه أدهم بحدة ثم ألقاها على الأرض ليطفئها بحذائه بينما آسر كان يتابعه بلامبالاة و كأنه مغيب أو بعالم آخر... 
جلس أدهم في الكرسي المقابل له ثم قال بعتاب: 
ـــ بقى هو دا الدعاء اللي بتدعيهولها...فاكر ان السجاير هي اللي هتهون عليك فراقها؟!.. مالك يا آسر فوق كدا و سيبك من شغل الصياعة دا..
صاح بعبارته الأخيرة بحدة بالغة أجفل منها آسر ثم نهض بعصبية و هو يصيح بانفعال: 
ـــ أصلك متحرقتش من النار اللي حرقتني.... أنا سايبهالك و ماشي يا عم الحكيم...
ثم غادر آسر تاركا صديقه ينظر في أثره بذهول... هل قسى عليه الى هذا الحد؟!.. هل حقا لا يشعر بالنيران المستعرة بصدره؟!..
تنهد أدهم بضيق ثم استغفر ربه و دعى لصديقه بالصبر، فحتما مصابه جلل و يهذي بما لا يعي من فرط غرقه في دوامة الحزن. 

بعدما قام بالإطلاع على بعض تقارير المأموريات الخاصة بعمله و بينما هو في خضم انشغاله أتاه اتصال هاتفي من شقيقته ريم، و رغم كل ما به من زحام ابتسم بسعادة من مجرد رؤية اسمها يزين شاشة هاتفه.. 
ـــ ألو... حبيبي اللي واحشني و مش سائل فيا.. 
ضحكت ريم بملئ فمها و كانت آن ذاك تجلس الي جوار مارتينا بالمضيفة ثم قالت بدلال: 
ـــ و مين اللي يسأل على التاني يا سعادة الباشا. 
ـــ الناس اللي رايقة زيك تسأل على الناس اللي محتاسة زيي.
ضحكت مرة أخرى ثم قالت بسخرية:
ـــ اه رايقة اوي... ما انت لو تعرف اللي حصلي امبارح مكنتش قولت كدا.
سألها بقلق أثاره عبارتها: 
ـــ خير يا بنتي ايه اللي حصل.. 
ابتلعت ريقها بصعوبة لتسرد له بنبرة متوترة ما حدث لها من سرقة باختصار شديد حتى لا تثير قلقه ثم أشادت له بموقف معتصم و ما فعله باللصوص و اعادته لمتعلقاتهم المسروقة، و في النهاية قالت بنبرة يشوبها الحماس:
ـــ بس يا سيدي...بس بصراحة معتصم بيه راجل ذوق اوي و استضافنا في المضيفة بتاعته و محافظ علينا و مصمم أكمل شغل في الوحدة كأن مفيش حاجة حصلت. 
سكت مليا يفكر بموقف ذلك الرجل ثم اردف بجدية: 
ـــ أنا من الأول قايلك بلاش تبعدي عننا انتي اللي صممتي على رأيك... وادي النتيجة. 
ردت عليه باستعطاف: 
ـــ دي مجرد حادثة كانت ممكن تحصل في اي مكان يا دومي. 
ـــ طيب و ناوية على ايه؟! 
ـــ هكمل بقى و خلاص... معتصم بيه عين حراسة ع الوحدة.. يعني الدنيا بقت أمان.. هو بس كان عايز يكلمك يطمنك يعني ان مفيش حاجه هتحصل تاني. 
هز أدهم رأسه بملامح متجهمة ثم أضمر في نفسه أمرا ثم قال: 
ــــ ماشي ابقي اديله رقمي.. 
اجابته ببسمة واسعة: 
ـــ تمام يا حبيبي.. هسيبك بقى تكمل شغلك عشان معطلكش. 
ـــ تمام مع السلامة.. 
أغلق الهاتف و هو يتأفف بضيق ثم جلس مستندا بظهره الى ظهر الكرسي ممسكا بأحد أقلامه يطرق بها على سطح مكتبه و هو يفكر بشرود فيما قالته ريم  ليحدث نفسه بخفوت: 
ــــ معتصم بيه!... يا ترى حكايتك ايه و بتعمل كدا معاها ليه؟!.. مش مرتاحلك يا سي معتصم... بس هجيب قرارك. 

أغلقت ريم المكالمة ثم خرجت تبحث عن معتصم لتطلب منه محادثة أخيها يستأذنه لبقائها بالبلدة، فدلتها نعمة الخادمة على مكانه حيث استطبل الجياد في الجهة الخلفية للدوار.. 
في تلك الأثناء كان معتصم يقف بجوار مهرة صغيرة جذابة للغاية في مظهرها، فقد فضل أن يختلي بنفسه بعيدا عن ضجيج الاحتفال بالدوار و عن أعين الناس بملابسه البيتية التي يفضلها دائما حيث كان يرتدي بنطال قطني أسود يأخذ شكل الساقين و يعلوه تيشيرت أسود أيضا و ينتعل حذاء رياضي من اللون الاسود، فكان مظهره جذاب للغاية... من يراه لا يصدق أن هذا هو معتصم بيه كبير البلدة.. 
و كان يتمم على إجراءات خطبة أخيه عبر الهاتف، أنهى لتوه مكالمة مع حمد يخبره فيها أنه قد اشترى الذهب و بصحبته شقيقته عائشة او عيشة كما يدعونها و زوجها هشام...
تنهد بتعب من كثرة المكالمات الهاتفية ثم أدار كامل انتباهه الي تلك المهرة الرقيقة التي تذكره في رقتها بـ "ريم"..
أخذ يمسد على شعرها الناعم و هو يحدثها و كأنها تفهمه:
ـــ قوليلي أسميكي ايه؟!..بجد محتار...الود ودي أسميكي على اسمها..ما انتي اصلك جميلة زيها بالظبط...بس خايف اتفضح...
قال تلك الكلمة ثم ضحك و كأن تلك المهرة تضحك معه.....
في تلك الأثناء وجدته ريم لتراه من بعيد يقف أمام تلك المهرة الجميلة و لكن استرعى انتباهها تلك الملابس التي تراه بها لأول مرة لدرجة أنها قد ظنت أنه ليس هو.. لولا أنها انهت مكالمة لتوها مع شقيقها لظنته هو أدهم شقيقها..أخذت تخطو نحوه بهدوء و كأنها تريد أن تستكشفه حتى سمعته يتحدث بلكنتها مثلها تماما...بحق الله هل هذا معتصم؟!
  
  ــــ أقولك أنا تسميها ايه؟! 
التفت على ذلك الصوت الذي يعرفه تمام المعرفة ليتطلع اليها بذهول...تُرى منذ متى و هي واقفة هنا؟! 
أومأ دون ان يتحدث، فقد اصبح في حيرة من أمره... أيحدثها بلكنته الصعيدية أم أنها سمعت لكنته القاهروية و انكشف الأمر.. 
اقتربت لتقف قبالته ثم أخذت تمسد على شعر المهرة و هي تقول بابتسامة جميلة: 
ـــ سميها ريمان...انا بحب الاسم دا اوي.. 
رمقها بشبه ابتسامة و أيضا لم يتحدث، فسألته بترقب: 
ـــ ايه رأيك في الاسم دا؟! 
سكت مليا يفكر بأي طريقة سيتحدث معها و لكنه قال أخيرا: 
ـــ جميل...عشان مشتق من اسمك. 
انفرج ثغرها بابتسامة واسعة لتقول بذهول: 
ـــ أنا كنت عارفة انك بتتكلم زيي بس مكنتش متأكدة..كنت مفكرة اني كان بيتهيألي من حالة الصدمة اللي كنت فيها ساعة حادثة السرقة..بس دلوقتي اتأكدت و على فكرة بقى سمعتك و انت بتكلم المهرة من شوية.
هز رأسه بايجاب و هو يتأملها بوَلَه...كل مرة يراها فيها يتأكد أنه قد وقع بحبها..أن حبه لها يتحول الى عشق أو ربما هيام لا يدري..و لكنه حقا لا يريدها أن تتوقف عن الحديث...يستمتع كثيراً بسماع صوتها..طريقتها في الكلام..نبرتها الحماسية و انفعالها احيانا..
حين اومأ لها مؤكدا ظنونها سألته بحماستها المعتادة:
ـــ طاب قولي بقى...ازاي بتتكلم بطريقتين..و ليه مخبي عن الناس شكلك و كلامك دا..
رد و هو مازال يتأملها بابتسامة:
ـــ دي حكاية طويلة أوي.
ـــ احكي..انت وراك حاجة؟!
ـــ لأ..
ـــ و أنا كمان موارييش حاجة..
صدرت منه ضحكة بسيطة ثم بدأ الحديث عائدا بذاكرته للخلف:
ـــ أبويا الله يرحمه كان عايز يعلمني أحسن تعليم...لأن ناس البلد و البلاد اللي حوالينا بيعملو الف حساب لأصحاب الشهادات و المناصب و النفوذ و هو كان عايزني أكون كبير البلد من بعده...عمتي كانت متجوزة راجل غني اوي في القاهرة بس مخلفتش منه...كانت عايشة معاه في فيلا طويلة عريضة لوحدهم...أبويا بعتني ليها لما تميت ٦ سنين عشان تقدملي عندهم في مدرسة خاصة و هي طبعا رحبت جدا و كانت طايرة بيا من الفرحة...المهم علمتني اللهجة بتاعت الناس اللي هناك عشان محدش يتنمر عليا من زمايلي...ماهي مدرسة انترناشونال بقى و كل اللي داخلينها ولاد ذوات و رجال اعمال و سياسيين و ناس تقيلة اوي..بصراحة تعبت معايا لحد ما نستني لهجة الصعيد.... و اللي ابويا عمله معايا عمله مع حمد...بس حمد بقى محاولش يغير كلامه..بس بيعاني طبعاً و هو بيتكلم قدام امي عشان متزعلش...
ضحكت ريم و هي تقول:
ـــ اه أخدت بالي...اممم كمل.
ـــ و كملت بقى مع عمتي لحد ما دخلت الجامعة و كنت بنزل البلد في اجازة الصيف بس...امي طبعاً كانت بتزعل مني لما بتلاقيني بتكلم كدا بس لما كبرت بقيت احاول مزعلهاش و اتكلم زي ما هي حابة...مع اني كنت خلاص شربت اللهجة و الطبع و العادات بتاعت القاهرة و كان صعب عليا اوي أقلب من اللهجة دي للهجة دي لحد ما اتعودت بقى.
كانت ريم تستمع بتركيز شديد و حين انتهى سألته بفضول:
ـــ و انت خريج ايه بقى؟! 
ـــ اقتصاد و علوم سياسية. 
رفعت حاجبيها بذهول متمتة: 
ـــ واو.. لا بجد شابوه لباباك. 
ـــ و حمد خريج ادارة أعمال...و عيشة اختي بقى الحاج برضو  مقصرش معاها بس محبش يغربها عند عمتي بحكم انها بنت و اخدت الثانوية العامة منازل و دخلت ألسن جامعة عين شمس..
دراستي في المدارس الانترناشيونال عرفتني على أصدقاء كتير من الوسط الهاي كلاس و استغليت الموضوع دا في تأسيس شركة في المجمع التاني و بدأت الشركة تكبر شوية و بدأت أشارك ناس تقيلة و رجال أعمال كبار.. و شوية شوية اسست مصنع في ٦ اكتوبر و اهو شوية قاعد هنا و شوية في شركتي و الدنيا ماشية الحمد لله. 
هزت رأسها باعجاب واضح من مسيرته الناجحة ثم استرسلت أسئلتها الفضولية: 
ـــ بس انت بقيت كبير البلد ازاي و امتى؟..
اجابها و هو ينظر لتلك المهرة الجميلة يواري ناظريه عنها حتى لا ينكشف ولهه بها:
ـــ ابويا كان دايما بيقعدني معاه في القعدات العرفية و المقابلات اللي كان بيعملها مع كبار البلد و المأمور و ظباط المركز و كان دايما يشركني في المشاكل اللي بيناقشوها و بياخد برأيي... لحد ما دخلت ثانوية بقى هو اللي يخليني أدير القعدات دي و أكون انا صاحب الكلمة و الرأي لحد ما دخلت الجامعة و اتخرجت بقيت انا أساس القعدات العرفية و الاجتماعات لدرجة ان ابويا كان اوقات بيبعتلي ارجع من القاهرة مخصوص لو في مشكلة كبيرة عشان انا اللي احلها...اهل البلد كلهم بقوا شايفيني انا الكبير و بقوا بيتعاملو معايا على هذا الاساس تمام زي ابويا ما كان بيخطط...و كان لازم عشان افضل محافظ على المكانة دي أحافظ على عادات البلد و تقاليدها و التزم بلبسي و لهجتي كصعيدي..عشان افضل كبير في نظرهم دايما.
هزت ريم رأسها بتفهم عدة مرات ثم قالت باعجاب:
ـــ لا بجد أبهرتني يا معتصم بيه.
ضحك بملئ فمه ثم قال: 
ـــ بيه ايه بقى؟!... قولي معتصم بس. 
حانت منها ابتسامة خجلى ثم قالت برقة: 
ـــ اول مرة اشوفك بتضحك كدا... كنت فاكرة انك ضد الضحك.. 
أجابها بضحكة بسيطة: 
ـــ ما خلاص بقى الوجه الآخر للكبير انكشف و بان.. 
ابتسمت ثم قالت بلا تفكير: 
ـــ بس أحلى بكتير من الوجه الاولاني. 
دق قلبه بعنف اثر تلك الاطراءة و سكت يتأملها بحالمية حتى أخجلها من فرط تأمله لها، فهربت من مرمى ناظريه و هي تتحسس شعر المهرة و تسأله مغيرة مجرى الحديث: 
ـــ بس مش غريبة انك تجوز اخوك الصغير قبل ما تتجوز انت؟! 
اخذ نفسا عميقا و هو يفكر... ماذا لو علمت أنه متزوج بالفعل!.. و ماذا ايضا لو عرفت ملابسات تلك الزيجة و تفاصيلها؟!.. حتما ستشمئز منه و يسقط من نظرها ذلك الذي أبهرها منذ ثوان....ان كان قد ندم على زواجه بنرمين.. فلم يكن ندمه أشد من تلك اللحظة التي تقف فيها أمامه الآن. 
أخيرا تحدث و هو يتحاشى النظر في عينيها كناية عن كذبه:
ـــ مكنش عندي وقت للجواز... مشاكل و املاك هنا.. و شغل الشركة هناك.. غير اني مقابلتش اللي تخليني افكر حرفيا في الجواز. 
رفعت حاجبيها باستنكار: 
ـــ انت عايز تفهمني انك متعرفتش على بنات في حياتك؟! 
ـــ لا طبعاً عرفت كتيير جدا بحكم دراستي في الجامعة و خروجاتي اللي كانت اغلبها في السخنة و الساحل و شرم.. دا غير مجال شغلي.. يا بنتي دي البنات كانت بتتمنى بس نظرة مني.. 
قال عبارته الأخيرة بغرور مع غمزة من عينه، الأمر الذي اغاظها كثيرا، فسألته بتهكم:
ـــ اممم.... و مفيش بقى واحدة منهم لفتت نظرك؟!
ضيق عينيه بتفكير ثم قال بحالمية و دقات قلبه تتسارع معلنة عن هيامه بها:
ـــ في......بس مش منهم. 
من نظرته الهائمة و نبرته الحنونة التي تحدث بها فهمت أنه ربما يقصدها... ذلك الشاب اللعوب يبدو من غروره و وجهه الآخر الذي أظهره لها أنه يتلاعب بها أو ربما يريد أن يتسلى معها ليثبت لها أنه محط أنظار الفتيات كما قال لها... و لكن على من؟!.. فهي ليست صيدا سهلا كما يظن. 
انفرج ثغرها بغتة لتصيح و كأنها تذكرت شيئا ما: 
ــــ شوفت الكلام اخدنا و نسيت أنا كنت جيالك ليه اصلا. 
ابتسم بغموض فقد فهم ما يدور بخلدها و تهربها المقصود من ذلك الحوار الذي بدأته..... "حسنا فالأيام بيننا" 
ـــ خير؟! 
ـــ كنت جاية اديك رقم أدهم عشان تكلمه... انا كلمته و فهمته اللي حصل و قولتله انك عايز تكلمه.
أومأ ثم فتح هاتفه لتمليه الرقم و يقوم بحفظه على هاتفه، ثم استأذنت منه و غادرت من أمامه ليعود الى مهرته الصغيرة بحالة جديدة غمرته بها تلك القطة المتمردة...ريم.. 

  
  في أحد النوادي الراقية بالتجمع الخامس.. 
تجلس دارين مع صديقتها المقربة دنيا... 
ـــ اتفضلي يا قلبي... العمل المرادي مضمون مية في المية.. 
التقطت دارين منها زجاحة بنية صغيرة تشبه زجاحة الدواء ثم دستها سريعا في حقيبة يدها ثم قالت بنزق: 
ـــ شرب تاني يا دنيا؟!.. هو مفيش حاجة تانية غير الحاجات اللي بتتشرب دي؟! 
لوحت يدها لتقول: 
ـــ معرفش بقى يا داري.. هو انا هتشرط على الشيخ دا في دي كمان... انتي متعرفيش انا ببقى مرعوبة ازاي و انا بكلمه. 
لوت شفتيها لجانب فمها لتقول بتافف: 
ـــ أوف.. انا مش عارفه ازاي متأثرش بالعمل الأولاني زي ما انا عايزة..يا خسارة مالحقتش أفرح بنجاح الخطة. 
اقتربت منها برأسها لتقول بهمس: 
ـــ ماهو بيقول تأثير العمل كان ضعيف لأنه محافظ على صلاته و قريب من ربنا.. انما المرادي هو عمل حسابه و عمل سحر أقوى.. بس طبعاً انتي عارفة انه كله بحسابه.. 
هزت رأسها و هي تقول بلامبالاة: 
ــــ ميهمنيش الفلوس.. المهم يحصل اللي أنا عايزاه بالظبط. 
اومأت بتأكيد: 
ـــ هيحصل متقلقيش.. بس اهم حاجة يشرب منه معلقة على كوباية عصير. 
اومات دارين بشرود ثم سألتها دنيا بترقب: 
ـــ بس قوليلي هتقابليه ازاي و تشربيه العمل بعد ما قطع علاقته بيكي؟! 
اجابتها و هي تنظر في نقطة ما في الفراغ: 
هتصرف... في فكرة كدا في دماغي هحاول أنفذها

تعليقات



<>