رواية مهمة زواج الفصل الثالث3 بقلم دعاء فؤاد
أما في منزل أدهم...
عاد من عمله في ساعة متأخرة من الليل، فقد كان مشتتا طيلة اليوم، متعصبا لأقصى درجة، نادم كل من اقترب منه أو حاول التحدث معه في ذلك اليوم، فقد كان ينفعل و يصرخ لأتفه الأسباب.
استقبلته أمه بلين و هي تحاول امتصاص غضبه، فأيقنت أن حالته الرثة هذه بسبب مهمة اللواء سامي صبيحة اليوم.
أخذ حماما باردا و بدل ملابسه الرسمية بأخرى منزلية، و بعدما استرخى قليلا بفراشه و هو يفكر، سمع طرقات والدته فأذن لها بالدخول بعدما اعتدل احتراما لها.
أقبلت علبه ببسمتها المريحة و هي تحمل بيديها صينية صغيرة عليها وجبة عشاء خفيفة و كوب من اللبن الساخن.
ـــ لا لا يا أمي مش هقدر أكل أي حاجة... أنا مرهق و عايز أنام.
تقدمت حتى وضعت أمامه الصينية و هي تقول بحنو:
ــــ عشان خاطري يا حبيبي انت لازم تاكل كويس طالما مرهق و تعبان... مش معقول اهمالك في صحتك دا يا أدهم.
ـــ بصي أنا مش هشرب غير اللبن عشان خاطرك بس.
ـــ كدا برضو يا أدهم؟!
ـــ أنا آسف يا أمي مش هقدر صدقيني.
ربتت على كتفه بحنو و هي تقول:
ـــ مالك يا حبيبي فيك ايه احكيلي.
تنهد تنهيدة عميقة تحمل أثقالا، تنهيدة أخبرتها عن مدى ضيقه و تحمله مالا يطيق، فأشفقت عليه ثم قبضت على يده القريبة منها بلين قائلة:
ــــ يااا يا أدهم... قد كدا يا حبيبي تعبان؟!... احكيلي يا ابن قلبي يمكن ترتاح شوية.
أراح رأسه للخلف و هو يتأمل السقف قائلا بشجن:
ــــ أنا واقع في مشكلة و مش عارف أتصرف فيها ازاي ولا عارف اخد قرار.
تصنعت جهلها بالأمر هاتفة بقلق مصطنع:
ـــ مشكلة ايه يا حبيبي كفانا الله الشر.
بدأ يقص عليها أدهم الأمر برمته إلى أن انتهى بتهديد اللواء له و خشيته من تنفيذه.
بدى الثبات و الهدوء على وجه أمه الأمر الذي أثار حنقه و دهشته في آن واحد، و لكنها تنفست بعمق ثم قالت:
ـــ انت عايز رأيي يا أدهم؟!
ـــ طبعاً يا ماما
ـــ توافق على المهمة دي.
قطب جبينه باستنكار شديد هاتفا:
ـــ بالسهولة دي بتقوليلي وافق!!
استرسلت بمنتهى الهدوء و الثبات:
ـــ حبيبي أولاً شغلك و منصبك حساس جدا و طبيعي انك هتقدم تنازلات و تضحيات في سبيل إنك تعلى و ترتقي في منصبك و دا اللي والدك الله يرحمه كان بيعمله و دايما كان بيدرسهولك.. ثانيا البنت لو وحشة أنا كنت رفضت بغض النظر عن أي حاجة.. بس ندى دي انت متوعاش عليها لأنك كنت وقتها في الكلية و مش بنشوفك غير كل فين و فين... بس فعلا يا حبيبي بنت ولا كل البنات.. تربية ايدي و أضمنهالك بعمري كله.. هي دي فعلاً البنت اللي أدهم يستاهلها.
ــــ ماما حضرتك بتتكلمي و كأني مش مرتبط ببنت تانية بحبها و بتحبني.
ردت بعقلانية:
ـــ أكيد مش ناسية...بس دارين حساها نزوة سريعة كدا جات بسرعة و هتروح زي ما جات... أنا أكتر واحدة فاهماك و عارفة إن علاقتك بدارين مش علاقة حب أبداً... هي مجرد اعجاب حصل بعده وعد بالجواز و انت مش عايز تخلف بوعدك لأن دا مش من طبعك و لا من أخلاق رجولتك... أنا متأكدة إن قلبك لسة مدقش لبنت و لا الحب عرف طريق لقلبك يا أدهم... مش انت اللي واحدة تخطف قلبك بالسهولة دي.
بدأ يزدرد لعابه بتفكير و عينيه مسلطتان على نقطة ما في الفراغ و كأن أمه قرأت ما يحدث بقلبه تماماً.
و لكنه أصر على الإنكار متمتما:
ـــ لا يا أمي الكلام دا مش صح... أنا بحب دارين و متعلق بيها و مش متخيل موقفها لو دا حصل.
ربتت على كتفه و هي تقول بابتسامة متفهمة لما يدور بخلده:
ـــ حبيبي اللي انت بتمر بيه دا مجرد احساس بالذنب ناحيتها مش أكتر... يعني لو مكنتش خطبت دارين كانت الأمور هتكون أسهل كتير بالنسبالك.
ــــ تمام يا أمي...حطي نفسك مكانها...يرضيكي أكسر بخاطر انسانة ملهاش ذنب في أي حاجةعشان خاطر واحدة تانية..؟!
ـــ يا أدهم يعني نسيب البنت تموت؟!..مش كفاية الصدمة اللي حصلتلها و هي شايفة أمها بتتقتل قدام عينيها!!..ازاي يابني يكون في ايدك تنقذ حياة انسان و تسيبه..و بعدين دي مش أي حد..ندى دي بنتي اللي مخلفتهاش... و بعدين على الأقل دارين عندها أب و أم و عيلة هتهون عليها... إنما دي يتيمة ملهاش حد و أبوها يا عالم هتشوفه تاني ولا هيسيبها في الدنيا لواحدها.
ـــ يا أمي...
ـــ أومال فين كلامك عن التضحية و الآية اللي دايما بترددها ( و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)..ولا هي شعارات في الفاضي.
قالت عبارتها الأخيرة بحدة نوعا ما حين لمست صلابة رأيه، فنظر لها بلوم و هو يقول:
ـــ أنا برضو بتاع شعارات يا أمي؟!
اقتربت منه أكثر و أخذت تمسد على شعره و هي تقول بليونة:
ـــ يا حبيب قلبي انت أشجع و أرجل ظابط شوفته...و أنا اللي بطلب منك يا أدهم انك توافق على جوازك من ندى و تتعهد لوالدها بحمايتها...مش عشان هي مهمة انت مكلف بيها...لا.. عشاني أنا و عشان أبوك الله يرحمه...ياما اتمنينا أنا و هو انكو تكونو لبعض لولا إن الظروف فرقتنا كلنا...اللي مات مات و اللي هاجر هاجر و الأخبار انقطعت بس مكانتها في القلب متغيرتش أبداً.
أخذ يخلل أصابعه بخصلات شعره الطويل في حركة ملازمة له حين يشعر بالحيرة و التوتر ثم تنهد قائلا بقلة حيلة:
ـــ من فضلك يا أمي سيبيني بس دلوقتي أفكر و أهيأ نفسي للحكاية دي...لأني بجد حاسس اني متلغبط و مش قادر اخد قرار صح.
ربتت على ظهره بحنو و هي تقول:
ـــ قوم يا حبيبي اتوضى و صلي صلاة استخارة و هي هتتحل بإذن الله بس انت استعين بالذي لا يغفل ولا ينام...و تبات نار تصبح رماد.
انحنى ليقبل يدها ثم قال ببسمة بسيطة:
ـــ حاضر يا أمي بس انتي ادعيلي.
ـــ داعيالك يا حبيبي...ربنا يريح قلبك و يجعلها من نصيبك يا ابن قلبي.
تركته أمه يحترق بنيران حيرته و شتاته و غادرت الغرفة ، بينما هو جلس يقلب الأمور في رأسه، لا يصدق أن أدهم برهام ضابط العمليات المخضرم،الذي لا تستعصيه مهمة، ولا يصعب عليه هدف، يقع في ذلك الفخ العويص ولا يستطع الخلاص منه.
في الأخير أخذ بنصيحة أمه و توضأ و صلى صلاة الإستخارة بقلب خاشع، قلب يريد الوصول لما فيه الخير له.
و بعدما انتهى نفض دماغه من أي أفكار إيحابيةً كانت أو سلبية، ثم غط في سبات عميق.
مرت الليلة ثقيلة على كل من أدهم و ندى، فكل منهما هائم في شتاته، غارق في بحر أحزانه، يخشيا ما ينتظرهما في الأيام القليلة القادمة.
في الصباح الباكر..
استيقظ أدهم و هو يشعر بقليل من الإرتياح،فقد أقر في قرارة نفسه أن يستسلم للأمر الواقع و ليضع نصب عينيه (و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)، فقد اقتنع بحديث والدته له و تأثر به.
قام بمهاتفة اللواء سامي قبيل موعد حضوره إلى العمل..
ـــ ألو...صباح الخير يا سيادة اللوا...بستأذن حضرتك عايز النهاردة طارئة.
ـــ خير يا أدهم انت تعبان ولا ايه؟!
لوى شفتيه بابتسامة متهكمة ثم قال بنبرة ساخرة رافعا احدى حاجبيه:
ـــ المفروض اني داخل على مهمة جواز و عايز أظبط أموري و أستعد كويس للمهمة دي.
اتسعت ابتسامة سامي بسعادة بالغة ثم قال:
ـــ عفارم عليك يا سيادة الرائد...كنت عارف إن ابن برهام باشا الكيلاني لا يمكن يخذلني أبداً...تمام زي أبوك الله يرحمه.
حانت منه نصف ابتسامة قائلا بثقة:
ــــ هذا الشبل من ذاك الأسد يا باشا.
ـــ ربنا يحميك يا أدهم... المهم حيث كدا بقى خود النهاردة أجازة و اعمل حسابك بكرة نروح نكتب الكتاب عند محامي بالتوكيل اللي أمور عاملهولي... و أنا هكلمه النهاردة أبشره و بالمرة يبعتلي الأوراق المطلوبة لكتب الكتاب.
ـــ أوامر سيادتك يافندم.
ـــ تمام يا سيادة الرائد... مع السلامه.
أغلق سامي الهاتف ثم قام قام باستدعاء آسر ليأتي إليه بعد دقائق مؤديا التحية الشرطية ثم جلس قبالته ليهتف اللواء سامي بسعادة بالغة:
ـــ أحب أبشرك يا سيادة الرائد إن أدهم برهام وافق على المهمة.
اتسعت بسمة آسر مرددا:
ـــ على بركة الله يا سيادة اللوا... الحمد لله انه اقتنع لوحده... حضرتك متعرفش طلع ميتيني ازاي امبارح و مكنتش لسة قولتله ولا كلمة..
قهقه سامي ثم سرعان ما عادت ملامحه للجدية و هو يقول:
ـــ المهم خليك حافظ دورك كويس... مش عايزك تسيب أدهم لحظة و من غير ما يحس بيك.... حماية أدهم مهمتك يا بطل.
أجابه بحماسة بالغة:
ــــ أوامر سيادتك يافندم... أنا حافظ و مذاكر كويس أوي... و ان شاء الله أكون عند حسن ظن سيادتك.
أومأ سامي متمتما:
ـــ إن شاء الله يا آسر... أنا واثق في إختياري ليك.
رد آسر بشيئ من التردد:
ـــ طاب حيث كدا يا باشا أنا طمعان في كرم سيادتك...عايز أروح بدري ساعتين.
قطب سامي جبينه باستنكار متمتما بضيق مصطنع:
ـــ انت بتستغل الموقف بقى ولا ايه؟!
ـــ لا لا أبداً يافندم مش قصدي ط.....
قاطعه سامي بضحكة بسيطة:
ـــ خلاص يابني موافق متتخضش كدا.
تنفس بارتياح متمتما بامتنان:
ــــ متشكر جدا يافندم... أي أوامر تانية؟!
ـــ لا اتفضل على مكتبك.
استأذن منه بالانصراف و بمجرد أن دلف غرفة مكتبه قام بالاتصال بخطيبته..
ـــ ألو.. ميري حبيبتي عاملة إيه
ـــ الحمدلله يا آسر
ـــ بقولك أنا عازمك النهاردة ع الغدا و هكلم عمو محمد أستأذنه
ـــ طاب و شغلك؟!
ـــ أنا أصلا واخد إذن ساعتين بدري...
ـــ لو بابا وافق فأنا موافقة بس انت طبعا عارف انه مش هيرضى يخلينا نخرج لوحدنا.
أجابها بانزعاج تلك المرة:
ـــ يعني مودة هتيجي برضو؟!
ـــ معلش يا حبيبي أنا مقدرش أخالف أوامر بابا... و بعدين انت عارف مودة بتسيبنا براحتنا و بتقعد بعيد ولا كأنها معانا أصلا.
ـــ تمام يا ميري مفيش مشكلة.. إجهزي بدري عشان منتأخرش..
ـــ حاضر يا أسور.
ـــ سلام يا قلبي.
أغلق الهاتف و البسمة الهائمة مرتسمة على شفتيه بتلقائية حالما يسمع صوتها فقط.
أما عند أدهم
أنهي المكالمة مع اللواء سامي و هو يتنهد بثقل، هو متعجب من نفسه أنه لم يطلب التحدث إليها أو أن يرى صورة لها، مقنعا نفسه بفقدان شغفه في ذلك الأمر لأنها لا تمثل له أي شيئ ولا تعنيه بشيئ... فقط مجرد مهمة و مصيرها للإنتهاء.
خرج من غرفته ليبشر أمه بقراره و يفكر كيف سينهي خطبته من دارين.
بالطبع تهللت أسارير السيدة تيسير بهذه البشرى و أسرعت بالاتصال إلى ابنتها روان لتقص عليها القصة كاملة لتشاركها الفرحة و التي بدورها قصتها على محمود زوجها، فهو ضابط أيضا برتبة رائد و لكن يعمل في شرطة المرور.
علمت ريم الشقيقة الصغرى لأدهم بذلك الأمر و رحبت به أيضا، فهى لم تحب يوما خطيبته دارين و كانت ترى دائما أن أدهم يستحق من هي أفضل منها، و لكنها كانت منشغلة في إنهاء أوراق استلام عملها كطبيبة في احدى الوحدات الصحية بقرية نائية بمحافظة سوهاج بصعيد مصر.
و جاءت اللحظة الحاسمة ألا وهي لحظة إنهاء خطبته بدارين...
اتصل بها ليأخذ معها ميعاد ليتقابلا بإحدى الكافيهات، فلم تصدق نفسها، فإنها المرة الأولى التي يطلب فيها الخروج معها منذ خطبها إن لم تطلب هي منه ذلك.
و بالفعل قُرب المغيب كانا جالسين بمقهى راقي و كان في قمة توتره رغم الثبات الظاهر عليه، طلب لهما مشروبا باردا ثم حمحم قائلا بملامح جامدة:
ـــ دارين أنا مش عارف أبدأ الموضوع منين... بس الحقيقة حصلت شوية ظروف كدا خارجة عن إرادتي، و بقى من الصعب إننا نستمر في خطوبتنا... أنا بجد آسف إني بقول كدا و طبعا كان نفسي أكمل معاكي للآخر بس....
قاطعته و هي تتنفس بانفعال قائلة بحدة:
ـــ بس ايه يا حضرت الظابط؟!.. مفيش داعي تقعد تخترع في أسباب مش موجودة... من الأول و أنا حاسة انك مبتحبنيش... بدليل انك ماقولتليش ولا مرة كلمة بحبك... ولا مرة قولتلي وحشتيني... ولا مرة طلبت مني نخرج سوا... كنت بحاول أقنع نفسي ان طبيعة شغلك مأثرة على شخصيتك و مش عارف تبقى رومانسي.. و اديت لنفسي أمل إننا لما نتجوز و تشوف حبي ليك هتتغير بس واضح اني كنت بحلم..
مد يده ليمسك يدها التي تلوح بها لعلها تهدأ قليلا هاتفا بها بهدوء:
ـــ دارين اهدي... انتي فاهمة غلط.
نفضت يده عن يدها و هي تصيح بانفعال أشد:
ـــ اوعى ايدك دي...انت حتى مفكرتش تمسك ايدي قبل كدا... و يوم ما تلمسها تقولي صعب نستمر في خطوبتنا؟!
غامت عينيه بغضب جامح من فرط انفعالها عليه و زمجر بها بحدة:
ـــ دارين متنسيش نفسك و صوتك دا مايعلاش عليا... مش معنى إني سايبك تتكلمي براحتك انك تتمادي و تكلميني بالطريقة دي.
أخذت تنظر له بمقت شديد، فكل معاني الخذلان قد تجسدت فيه الآن و احتلت الصدمة ملامحها بجدارة الأمر الذي ضايقه للغاية و جعل شعوره بالذنب يكاد يقتله.
فأشاح بناظريه عنها و هو يقول بنبرة متحشرجة من فرط الأسى:
ـــ الشبكة خليها معاكي اعتبريها هدية مني... و يا ريت توصلي اعتذاري لوالدك و والدتك... أشوف وشك بخير.
ثم هب من كرسيه مغادرا مخلفا ورائه قلبا ساخطا أقسم على الانتقام.
يتبع