رواية كرسيي لايتسع لسلطانك الفصل الرابع والاربعون44بقلم مريم محمد غريب


رواية كرسيي لايتسع لسلطانك
 الفصل الرابع والاربعون44
بقلم مريم محمد غريب


 صغيرتي _ :

فيلا "عزام"..

المكان هادئ.. لكن هناك شيء في الجو يوحي بالثقل.. "مالك عزام" يدخل من باب الفيلا بخطواتٍ متسارعة.. و كأنما يحاول الهروب من شيءٍ غير مرئي ..

خطواته تعكس ما يشعر به في داخله.. الاضطراب.. التوتر.. و اليقين بأن شيئًا ما في طريقه للظهور.. يلتفت خلفه لحظة.. ثم يُلقي نظرة على المكان و كأنما يبحث عن مهرب آخر ..

يدخل "نبيل الألفي" من ورائه.. بلا تأخير.. قدماه ثابتتان.. و الهدوء الذي يظهره يُخفي وراءه نارًا من الأسئلة ...

-مالك.. استنى عندك.. في كلام لسا ماكملنهوش !!

يرفع "مالك" حاجبيه في محاولة للتظاهر بعدم الاكتراث.. لكنه يعلم تمامًا بأن ساعة المواجهة قد حانت.. يلتقط أنفاسه ثم يتجاهل نظرته الحادة.. محاولًا إخفاء ارتباكه ..

رد عليه بتحفظٍ :

-فعلًا.. كلامنا كان عن ايه يا عم نبيل ؟ في حاجة حصلت ؟
 
ينظر "نبيل" في عينيه مباشرةً و يقول بحزمٍ دون أن يطرف :

-هالة كانت في الشركة… جت لك ليه ؟

يتنهد "مالك" قائلًا و هو يتصنّع البرود.. يحاول التملص :

-مكانتش جاية لي و لا حاجة.. كانت جاية لك انت.

قال "نبيل" بحدةٍ كمن يقطع عليه طريق الفرار من أسئلته :

-مش ده اللي وصلني.. هالة جت مكتبي في الشركة و سألت عنك.. عنك انت.. دي مكانتش زيارة عادية.. و انا حاسس ان في حاجة مش واضحة.. قولّي يا مالك ايه اللي بينك و بينها بالظبط ؟؟

يرد "مالك" باستنكارٍ حاد :

-ايه اللي هايكون بيني و بينها يا نبيل انت اتجننت ؟ و لا بتقول أي كلام ؟

يرتفع صوت "نبيل" قليلاً.. لكنه لا يزال هادئًا.. كأنما كل كلمة يخرجها من فمه هي حُكم :

-لا يا مالك ده مش اي كلام.. مافيش حاجة بتيجي بالصدفة و خصوصًا اللي حصل انهاردة.. و هالة مش من النوع اللي هاتيجي تسأل عنك و تطلع بدون سبب.. في حاجة غريبة هنا.. و انا مش هاخليها تعدي كده.

قال "مالك" بتنيهدة خفيفة.. يحاول إخفاء التوتر في صوته :

-انت مضخم المواضيع على الفاضي.. يعني ليه مصمم ان في حاجة مستخبية بيني و بين هالة ؟ انا عمري ما شوفتها غير مرة واحدة في فرحك انت و مايا.. و قلت لك انهاردة كانت جاية لك انت.. مافيش حاجة تانية غير كده.

يرمقه "نبيل" بنظراتٍ لا تخلو من الحزم.. يتنهد ببطءٍ قائلًا و هو لا يزال غير مقتنعًا :

-اللي انا شايفه دلوقتي ان في حاجة غريبة.. هالة.. او انت… في حد فيكم عايز يخبي حاجة.. و لو ما طلعتش منك.. هاطلّعها من هالة.. و ساعتها الموضوع هايوسع اكتر ..

يبتسم "مالك" ابتسامةٍ سطحية.. يحاول ألا يظهر تزعزعٍ :

-بقولك مافيش حاجة.. متبالغش في الموضوع.. الحياة مش كلها غموض.

بصوتٍ ثابت يرد "نبيل" و هو يستدير للرحيل :

-عمومًا انت مش هتقدر تخبي كتير.. هالة لو كانت مخبية حاجة.. هاعرفها.. وما تفتكرش اني هاسكت.. زي ما قلت لك.. لو مش منك.. يبقى منها.

و غمز له.. قبل أن يشيح بوجهه عنه مغادرًا ..

يتركه "نبيل" وراءه أخيرًا.. بينما "مالك" يقف في مكانه.. كأنما عالمه كله بدأ ينحدر نحو النهاية التي كان يعجّل بها لنفسه ..

يطول الصمت.. و هو يقف هناك وحيدًا.. عينيه تراقب الباب المغلق الذي رحل منه "نبيل".. بينما يشعر بثقل العالم على قلبه ...

**

مطار دبي.. مساءً ..

يخرج "عثمان البحيري" من المطار بخطواتٍ سريعة.. وجهه لا يظهر عليه أيّ نوع من التوتر.. و لكن عينيه تخفي وراءها الكثير.. يتجه مباشرةً إلى سيارة أجرة.. و يطلب من السائق أن يقوده إلى عنوانٍ مُحدد.. حيث العقار الشهير الذي تقع فيه شقة "هالة" و "فادي" ..

حركة المرور كانت سلسة.. فوصل أسرع مِمَا توقّع ..
______________

الجو مشحونٌ.. في مشهدٍ مأساوي.. "هالة" جالسة على الأريكة.. عينيها غارقتان في الدموع.. و الشعور بالعجز يملأ وجهها.. بينما "فادي" يقف على بعد خطواتٍ.. ملامحه تجمع بين الصدمة و الغضب.. يحاول أن يسيطر على نفسه.. لكن الغضب يطفو على سطحه ..

يدق جرس الباب.. فتظهر الخادمة لتفتح.. لحظاتٍ و يدخل "عثمان" إلى الشقة.. و كأن دخوله هو إعلان بداية مرحلة جديدة في الصراع.. نظرته باردة.. متجمّدة.. كأنما لا يرى إلا "هالة" برغم وجود "فادي" ..

يسألها بجفافِ شديد و هو يتجاهل "فادي" تمامًا :

-فين ملك ؟

ترفع "هالة" عينيها إليه.. مشاعرها تتصارع.. تشعر بالارتباك.. لكن الألم أكبر من أن تخفيه.. تبدأ بالكلام ببطءٍ.. و كأنها تروي القصة من جديد.. بينما "فادي" يظل صامتًا.. لكن انفعالاته تبدأ تتفجّر في كل حركةٍ مباغتة من جسده :

-انا قلت لك.. سيبتها في العيادة.. خفت ارجع بيها على هنا.. الدكتور قال ان في آثار اعتداء جسدي واضحة.. و في نزيف.. حالتها صعبة اوي يا عثمان.. مش بس جسديًا.. ملك تعبانة… مش عارفة اوصف لك ازاي !

يشيح "فادي" بوجهه.. يحاول أن يمسك بأعصابه.. الكلمات تتسلل إلى قلبه كالسكاكين.. هذا الحديث لأول مرة يسمعه بهذه التفاصيل.. و كأنما قلبه ينفجر من الداخل ...

ينبعث صوت "فادي" مرددًا بصوتٍ خافت مليؤه الغضب :

-و انتي كنتي مستنية عثمان عشان تقولي التفاصيل دي كلها ؟ ليه ما قولتليش كل ده لما سألتك ؟؟؟

لكن "عثمان" لا يلتفت إليه.. نظرته لا تخرج عن "هالة".. و لا مجال له ليتكلم مع "فادي" البتّة ...

-مفتاح عربيتك ! .. قالها "عثمان" بصوتٍ حاد.. دون تعبيرٍ.. و هو يمد يده لـ"هالة" ..

تفزع "هالة".. تدرك ما يريد فعله فتصيح بهلعٍ :

-لأ يا عثمان.. لو جبت ملك على هنا فادي هيئذيها.. بليز ماتروحش !!

يخرج "فادي" عن صمته مرةً أخرى.. يوجه نظرته الحادة لـ"عثمان" مغمغمًا :

-انا جاي معاك.. مش هاسيبك تروح لها لوحدك.

الجو يصير مشحونًا أكثر.. العيون تلتقي.. الألفاظ تتساقط كالرصاص.. عندما يلتفت "عثمان" نحو "فادي".. و بينما يتأمل فيه.. هناك غصّة واضحة في عينيه ..

يقول بهدوءٍ شديد.. و كأنما يهمس له :

-انت مش رايح لحتة.. و حسابي معاك لسا جاي.. اتقل و مافيش داعي تستعجل عليه.. لو فكرت تقرب من ملك تاني بدون إذني.. هاتندم بجد.. انت هاترفع ايدك عنها من اللحظة دي.. و بحذرك تاني لو فكرت تقرب منها.. هاتبقى انت السبب في اللي هايحصل.

يرتجف "فادي" من داخله.. لا يقدر على الرد.. كلمةً واحدة تكفيه ليدرك بأنه فشل.. و أنه غارقٌ في الخزي ...

يشيح "عثمان" عنه فجأةً ناظرًا إلى "هالة".. تعبير وجهه صار أكثر جفافًا و هو يقول لها بصوتٍ ثابت فارضًا عليها ارادته :

-افتحي تليفونك.. ابعتيلي عنوان الدكتور.. و بعدها امسحيه.. يلا و انا واقف دلوقتي.

تتحرك "هالة" بسرعة ملتقطة هاتفها من فوق الطاولة.. تمسح دموعها بكفّها و تفتح هاتفها على الفور.. تكتب العنوان و تبعثه لـ"عثمان".. بمجرد أن يتأكد "عثمان" من وصول الرسالة يلتفت مرةً أخرى صوب ابنة عمّه.. تومئ له برأسها مؤكدة حذفها للرسالة من هاتفها و مناولة إيّاه مفتاح سيارتها ..

بعدها يغادر "عثمان" الشقة.. دون أن ينطق بكلمة واحدة ..

يخرج إلى الشارع.. مشاعره متفاقمة.. غاضبة و متحفّزة.. و لكن هناك نوع من الانتصار في قلبه.. رغم التوتر الظاهر عليه.. إلا إنه يشعر بأنه اتخذ القرار الصحيح بإقصاء "فادي" عن طريقه نهائيًا ..

يقف قليلاً.. يلتقط أنفاسه قبل أن يتوجه نحو المرآب حيث دوى قفل سيارة "هالة" بضغطه على الزر.. استقلّ وراء المقود متجهًا إلى العيادة التي أودعت بها "ملك" ...

**

غرفة صغيرة في منزل "رامز الأمير".. الفضاء حوله يعمّه الظلام.. وجوده وحيدًا في الحياة كلها يشعره بثقل الوقت ..

يقف بجانب النافذة.. ينظر إلى الخارج كما لو كان يحاول الهروب من واقع يطارده.. الهاتف في يده.. و محادثة مراد عبر الخط المفتوح هي الشيء الوحيد الذي يعيده إلى واقعه ..

يتحدّث "رامز" بصوتٍ متعب :

-مش قادر اتنفس يا مراد.. كل يوم بيعدي و انا بفكر… هو ممكن يرضى ؟ ممكن في يوم هايفهم ؟ شمس بتحبني.. ليه مش قادرين نكون مع بعض زي اي اتنين طبيعيين ؟

يضع يده على جبينه في حركةٍ عفوية.. و كأن الأفكار التي تدور في رأسه تنهش عقله ..

يرد "مراد" بصوتٍ هادئ و حذر :

-انت عارف يا رامز ان عثمان عنده مبادئ.. مش اي حد يقدر يغيّرها.. بالنسبة له انت مش شخص مناسب لشمس.. و انت بنفسك اثبت له وجهة نظره اكتر من مرة.

يقول "رامز" بنبرةٍ متوترة.. و كأن الكلمات تخرج عنوة من فمه :

-مش مناسب ؟ يعني ايه مش مناسب ؟ ده انا جبتها لحد عنده.. عرفت اخطفها عشان نكون مع بعض و لما كلّمني رجعتها له.. شمس مش غلطة في حياتي يا مراد و لا انا غلطة في حياتها.. و عثمان ماكانش ليه حق يتدخل زي ما هو عاوز.. في كل مرة بيبعدنا عن بعض هي اول حد بيتأثر.. لازم يفهم ان محدش فينا يقدر يكمل منغير التاني.. انا استحملت منه كتير.. في الأول خدها مني.. و بوظ لي شغلي و حياتي شبه ادمرت.. رغم كل ده انا لسا عندي استعداد انسى له كل حاجة.. بس يرجع لي شمس ..

يضع يده على قلبه فجأة.. يحاول استيعاب مشاعره المتضاربة.. لكن الألم واضح في عينيه كما في صوته ..

-انا فاهمك يا رامز ! .. عقّب "مراد" بهدوءٍ.. و تابع :

-لكن عمرك ما هاتكسب عثمان لو ضغطت عليه كده.. هو بيشوف جوازك العرفي من اخته ده غلط في حقه كصاحبك.. و دهلوحده بيفقدك اي فرصة عشان تقرب منه او من شمس.. عايزك تبقى هادي شوية.. و تحاول تفكر بعقلك بلاش تهور.

يغلق "رامز" عينيه لحظة.. يشعر بثقل كلماته و كأنها تعصر قلبه.. عيناه تلمعان بشعور اليأس.. و كأن الأفق أمامه مغلق تمامًا ..

يردد بصوتٍ منخفض.. أكثر انكسارًا : 

-انا مش قادر اعيش منغير شمس.. أمها و عثمان بيلعبوا بيا يا مراد.. تعبت.. عايزها.. كل لحظة بعيدة عنها بحس اني مش عايش و لا حتى ميت.. انا متعلّق ..

ينظر إلى الصورة التي تجمعه مع "شمس" على الطاولة.. تعبير وجهه يتغيّر إلى حالةٍ من الضعف الداخلي.. عيناه تنعكس فيهما مشاعر الفقد و الحزن.. يتنهد بعمقٍ.. و تعلو وجهه ابتسامةٍ يائسة.. و كأن الكلمات التي قالها للتو هي آخر أمل له ..

أتاه صوت "مراد" أكثر جدية :

-انا هحاول مع عثمان تاني.. بس مش هقدر اوعدك بحاجة.. لو ضغطت اكتر من كده مش هاتلاقي نتيجة… هاتخسر شمس.. ف ابعد عن الصورة شوية كمان و سيبني اجرب معاه.

يترك "رامز" الهاتف بجانبه قليلاً.. يتنفس بعمق.. ثم يعود ليستأنف محادثته مع صديقه :

-انت عارف يا مراد اني مش هاستنى اكتر من كده.. لو عثمان مش هايراعي مشاعري.. و لا مشاعر شمس.. يبقى انا هاضطر ادافع عن الحب اللي بيني و بينها.. حتى لو فيها موتي.

يحذّره "مراد" بجدية :

-رامز.. خلّي بالك.. المرة اللي فاتت عثمان سابك تخرج من القصر على رجليك اكرامًا للعشرة و الصحوبية.. لكن في النهاية شمس دي تبقى اخته و هو دايمًا هايفضل يحميها.. ممكن اللي انت بتعمله يكون ليه عواقب مش هاتكون في صالحك.. اهدى.. انا هحاول معاه تاني.. و اوعدك اني هاتدخل بكل اللي اقدر عليه عشان اخلصك من القصة دي.

يغلق "رامز" عينيه بشدةٍ.. و يهمس بصوتٍ مرتعش :

-انا عايز شمس… بأي تمن.. بس لو مافيش حل.. مش هقدر اصبر اكتر من كده.

مراد بحزمٍ : قلت هحاول معاه.. بس خلّي بالك.. ماتاخدش خطوات متسرعة  ترجع تندم عليها.. انا كده كده في صف عثمان و انت عارف.. سواء في الحق او الباطل.. عثمان ده اخويا.. و انت صاحبي.. بس وقت الجد كفّته هي اللي هاتطّب.

يغلق "رامز" الهاتف بهدوءٍ.. ينظر مجددًا إلى الإطار الذ يحمل صورة "شمس" و هي بين أحضانه.. و يغرق في أفكاره ..

الأصوات في الخارج تتلاشى.. و يبقى هو وحيدًا مع مشاعره و تاريخه الملطخ.. و ذكرياته معها ...

**

عيادة الطبيب.. في إحدى الغرف الخاصة ..

الأجواء هادئة.. باستثناء الصوت الخفيف للأجهزة الطبيّة من حولها.. "ملك" مستلقية على سرير طبي.. أنفاسها ثقيلة.. و أيديها موصولة بمحلولٍ غذائي.. الضوء الخافت ينعكس على وجهها الشاحب.. و أطرافها الممدة في السرير تكاد أن تكون خالية من الحركة.. كما لو أن جسدها في حالة استسلامٍ تام ..

يدخل "عثمان" بهدوءٍ.. عينيه تلتقط "ملك" فورًا و يركز نظراته عليها فقط.. قلبه ينبض بسرعة مع كل خطوة يخطوها نحوها.. العواطف تتأجج داخله.. و بينما يقترب منها.. يشعر بألمٍ غريب يعتصر صدره.. كأن كل شيء حوله ضبابي ..

توقف بالقرب من السرير.. و حين نظر إليها.. أدرك تمامًا حجم الضرر الذي لحق بها.. شعر بالانقباض في قلبه.. لكن عينيه لم تغادر وجهها.. اقترب منها أكثر حتى أصبح على بعد خطوة واحدة فقط ..

ببطءٍ.. مالت يده نحو رأسها.. و مسح بكفه على شعرها بلطفٍ شديد.. كأنما يحاول أن يطمئنها.. أو ربما ليعوّضها عن كل لحظة قاسية مرّت بها بعيدًا عنه ..

تستيقظ "ملك" فجأة.. تتنفس بسرعة و تفتح عينيها بشكلٍ مفاجئ و جسدها يرتجف :

-انت… !؟

عينيها تجفل للحظة.. تظنّه حلمًا.. ثم اكتشفته.. "عثمان".. كان هو.. أمامها مباشرةً.. و كأن العالم بأسره توقف لحظة ..

تتراكم الصدمات على قلبها.. الدموع تبدأ في التكوّن بسرعة في عينيها و هي تردد بعدم تصديق :

-انت… انت هنا ؟

لا تستطيع السيطرة على نفسها.. تتحرك بشكلٍ مفاجئ.. ثم تتدفق الدموع بغزارةٍ ..

يرى "عثمان" كل هذا الألم.. و كل هذه الحيرة في عينيها.. الألم يطوّق قلبه بشكلٍ غير مسبوق ..

يقرّب وجهه منها.. يتأمل وجهها الحزين بعمق.. يشعر بقلبه يعتصر ...

-ماتخافيش يا ملك… خلاص.. انا هنا دلوقتي.. جنبك.

دون أن يفكر.. ينحني و يطبع قبلة دافئة على جبينها.. ثم يهمس في أذنها بصوتٍ منخفض.. كأنما يعيد لها الأمان الذي فقدته :

-محدش هايئذيكي تاني… مش هاسيبك.

تتشبث "ملك" به.. و كأنها تراه آخر ما يربطها بالعالم.. تتنفس بشكلٍ متقطع.. تبكي بحرقةٍ.. كأنما تخاف أن يختفي من بين يديها و هي تقول بصعوبةٍ :

-عثمان… ماتسيبنيش… بليز.. ماتسيبنيش ...

يضمها إليه بحنانٍ شديد.. يعانقها و كأنها الحياة كلها في هذه اللحظة.. يتنفس من خلالها.. يحاول أن يعيد لها الطمأنينة.. و يشعر بمدى حاجتها له ..

يهدئها بصوته الرخيم :

-مش هاسيبك يا ملك.. لا هاسيبك و لا هاخليكي تواجهي ده لوحدك.. انا هنا… جنبك طول الوقت.

ثم يطوّقها بذراعيه.. يضغط على جسدها و كأنما يريد أن يمحو كل الآلام التي عاشتها.. يشعر بحرارتها تتسرّب من جديد عبر جسده.. كأنما يريد أن يبعث فيها الحياة من جديد.. هو يعرف بأنها كانت وحيدة من دونه.. يعرف كم تألمت ..

لكن بدءً من هذه اللحظة.. هو من سيحمل عنها كل شيء ..

تتوقف "ملك" عن البكاء قليلاً.. لكن قلبها لا يزال يضطرب و هي تخبره.. كما لو أنها تشكو له :

-كل حاجة كانت… بتوجعني اوي.. كنت حاسة اني هاضيع… انا ضعت خلاص.. صح ؟

يهز "عثمان" رأسه متمالكًا رباطة جأشه بأقصى ما لديه من طاقة.. ثم يقول بصوتٍ خافت.. لكنه ملييء باليقين و الحب :

-لأ.. عمرك ما تضيعي و انتي معايا.. انا مستحيل اسمح بكده.. مهما كان اللى حصل.. هكون جنبك.. ودي النهاية لكل اللي حصل و انتي بعيدة عني.. خلاص… هانبدأ من جديد.. و انت مش هاتواجهي حاجة لوحدك تاني.. انا هنا.. مش هاخليكي تروحي لأي مكان تاني لوحدك يا ملك.

تظل "ملك" متشبثة به.. كما لو أن الحياة نفسها تتسرّب من بين أصابعها إذا تراجعت خطوة عنه.. يضمّها "عثمان" بشدة أكثر.. يحاول أن يطوّق روحها بأمانه.. و كأنما يريد أن يمحو كل أثر للألم الذي عاشت فيه ..

لحظة بعد لحظة.. تزداد "ملك" تمسكًا به.. و كأنها تتحدّى كل شيء يحيط بها.. و كأن وجوده بجانبها هو خلاصها الوحيد من العالم الذي حولها ..

تسمع صوته يخفف عنها شيئًا من آلامها :

-محدش هايقرب منك تاني.. و لا هايئذيكي خلاص.. هاترجعي معايا.. و كل حاجة هاترجع احسن من الأول.. اوعدك.

في تلك اللحظة.. بينما عيناها تغلقان ببطءٍ.. تشعر و كأنها أخيرًا في المكان الذي يجب أن تكون فيه.. تحت ذراعيه.. تجد ملاذها.. و تبدأ تهدأ.. تدريجيًا ..

و لكن لا تزال تلك الدموع في عينيها.. تحمل كل الحكايات التي لم تكتمل بعد ...

**

شقة "فادي" و "هالة" ...

الهواء في الشقة صار ثقيلًا جدًا.. بفعل شحنة التوتر الهائلة التي ملأت المكان لساعاتٍ.. الضوء الخافت بحجرة المعيشة ينعكس على وجهها الحزين.. "فادي" خرج منذ قليل بعد مشادة حادة بينه و بين زوجته ..

يبدو أنه لم يعد قادرًا على تحمل الضغط.. تركها وحيدة في مواجهة الأسئلة التي لا تريد الإجابة عنها.. في داخلها.. كان شعور "هالة" يضيق حولها.. و كأن قلبها يوشك على الانفجار ..

و فجأة.. يدخل "نبيل الألفي" من الباب في صمتٍ.. حتى إنها لم تسمع الجرس لشدة استغراقها في التفكير ..

خطواته ثقيلة.. و ملامحه مشدودة بعنفٍ.. هو ليس فقط مجرد خالها.. بل إنه رجل قديم الطراز.. لا يعترف بالتحضّر أو نمط الحياة المتحرر أكثر من اللازم.. ما حدث اليوم في الشركة داخل مكتب "مالك عزام" لن يمر دون توضيح من ابنة أخته.. لن يتركها حتى تفصح له عن سبب زيارتها له ..

دخوله للبيت يبدو كالديناميت الذي سينفجر في أيّ لحظة ...

-فين فادي ؟

انتفضت "هالة" لدى سماع صوته.. تطلّعت إليه لتصطدم بنظراته الحادة.. أخذ يجيل بصره من حوله كأنما يبحث عن زوجها ..

تبتلع "هالة" ريقها.. تحاول أن تظهر رباطة جأشها.. لكن عيونها تفضحها.. تجاوبه بلهجةٍ غير واثقة :

-فادي خرج شوية… لسا نازل من نص ساعة.. كان مخنوق و نزل يغيّر جو !

يقترب "نبيل" خطوة.. صوته يتصاعد قليلًا و هو يهتف بها :

-مخنوق ؟ اكيد.. انتي طبعًا هاتقوليلي ايه اللى حصل هنا ؟

تخفي "هالة" قلقها وراء ابتسامة ضعيفة.. تجلس على طرف الأريكة و كأنها تحاول الهروب من الموقف قائلة :

-مافيش حاجة يا خالو.. هو بس مضايق شوية.. كله تمام.

يتقدم "نبيل" نحوها خطوة أخرى.. عينيه تشتعلان و هو يعلّق بغضبٍ على كلماتها :

-تمام ؟ تمام ازاي ؟ مافيش حاجة تمام زي ما انا شايف قدامي.. كنتي في الشركة انهاردة ليه؟ و ايه اللي ودّاكي مكتب مالك عزام ؟ 

تتجنّب "هالة" نظرته.. تنظر إلى الأرض قليلاً.. ثم ترفع عينيها إليه ببطء و تقول بثباتٍ واهٍ :

-كنت جاية لك.. بس.. اتلخبطت و روحت مكتبه هو !

يقترب "نبيل" منها أكثر مجتذبًا إيّاها لتقف قبالته.. ثم قال من بين أسنانه محاولًا الضغط عليها أكثر :

-انتي بتكدبي عليا يا هالة.. زيارتك لمالك عزام كانت مقصودة.. اتكلمي و قوليلي.. ايه اللى انا مش فاهمه هنا ؟

يبدأ صوت "هالة" يرتجف.. تبعد عيناها عنه.. تحاول إخفاء الاضطراب الذي غمرها و هي تقول :

-مافيش حاجة يا خالو.. صدقني انا ماليش علاقة بيه اصلا.. الموضوع مش معايا.. بليز ماتضغطش عليا.

لكنه لا يتراجع.. لقد أعطته بالفعل طرف خيط.. يواصل ضغطه عليها بصوتٍ أكثر صرامة :

-اومال الموضوع مع مين.. قولي يا هالة.. انا مش عايز تفكيري يروح في سكة مش تمام !!

تنفصل "هالة" عن الواقع للحظة و تغلق عينيها.. و كأنها تسترجع مشاهد غير قابلة للحديث عنها.. لكن مع الضغط المتواصل من "نبيل" تعود للواقع ...

-هو مالك… مالك متوّرط في مشكلة تخص اهل فادي جوزي.. و انا روحت عشان اواجهه ..

ينظر "نبيل" إليها بترقبٍ.. صوته يزداد حدة و هو يسألها :

-مشكلة ازاي؟ قوليلي ايه هو نوع المشكلة دي بالظبط ؟؟

تحاول "هالة" أن تنفس عن الألم الذي يغلي بداخلها.. لكن العواطف لا تعطيها فرصة للتهرب.. فتنفجر فجأة رغمًا عنها معترفة بكل شيء :

-مالك… مالك اغتصب ملك اخت فادي.. اغتصبها و لولا اني لحقتها كانت راحت فيها ..

تتسارع أنفاسه في هذه اللحظة.. وجهه شاحبٌ من الصدمة.. وكل كلمة تقولها "هالة" تترك جرحًا عميقًا في قلبه ..

يبتلع ريقه بصعوبة و هو يحاول استيعاب ما سمعه ...

-إزاي؟ مالك ؟ .. مالك عمل كده في ملك ؟ .. اخت فادي و.. سمر.. الصغيرة دي !!؟؟

ترتجف "هالة".. ثم تنفجر دموعها أخيرًا و هي تجاوبه :

-الحيوان.. قدر يعمل فيها كده.. ده مش طبيعي.. لا يمكن يكون انسان طبيعي.. دي لسا بنت صغيرة.. لسا صغيرة اوي ..

يسحب "نبيل" نفسه بعيدًا عنها.. وجهه يبدو مشوّشًا و مغلّفًا بالغضب و الحيرة.. صوته يرتجف و هو يقول :

-انا.. انا مش قادر استوعب !!

تنهار "هالة" فوق الأريكة مجددًا.. همساتها تكاد تكون غير مسموعة.. تحاول أن تمسح دموعها لكن الألم أكبر من أن تخفيه :

-انت كده ماتعرفش التفاصيل.. البنت مدمّرة.. الحيوان ده دمرها و عمرها ما هاتقدر ترجع زي ما كانت.. بس عثمان.. عثمان مش هايسيبه.. انا متأكدة.. زمانه عرف كل حاجة من ملك.

تتسع عيناه من المفاجأة و الصدمة في آنٍ.. جسده يتوتر و هو يتنفس بسرعة معقّبًا :

-عثمان ؟ عثمان البحيري هنا ؟ .. مش معقول.. لازم.. لازم اكلم حسين يجي يلحق ابنه ...

لا يستطيع "نبيل" التحكم بمشاعره.. يلتفت نحو الباب و يركض مغادرًا دون أن ينطق بكلمة أخرى ..

تتساقط دموع "هالة" و هي تبكي بحرقةٍ هاتفة.. لكن لا تملك القدرة على إيقافه :

-نبيل… لو سمحت.. ما تروحش… ماتروحش ...

لكن "نبيل" لا يلتفت خلفه.. يخرج من الشقة بسرعة و يده تصل إلى جيبه ليأخذ هاتفه.. في لحظة.. يجري الاتصال بـ "حسين عزام".. لكنه لا يرد.. فيترك له رسالةً صوتية هادرًا و صوته محمّل بالغضب :

-حسيـن.. لازم تيجي بسرعة.. ابنك عمل مصيبة و انا مش هقدر اتدخل.. مستحيل اتجمع مع عثمان البحيري في مكان واحد تاني.. لازم ترجع فورًا.. عثمان مش هايسيبه !!!

**

قصر آل"البحيري" ..

الحديقة واسعة و هادئة.. أشجارها الكثيفة تتناثر حول البقعة الكبيرة المخصصة للجلوس.. يجلس كلًا من "حسين عزام" و "مراد أبو المجد" في جو مشبّع بنسائم باردة.. و أصوات خفيفة للرياح التي تتسلل عبر أوراق الأشجار ..

 الصمت لا يزال قائمًا بينهما.. "حسين" شاحب الوجه.. و عيناه محمّلتان بشيءٍ من القلق المستمر.. أمامه فنجان من القهوة لم يلمسه منذ فترة.. بينما "مراد" يجلس على المقعد المقابل له.. ينظر إلى الأرض لبعض الوقت.. ثم يرفع رأسه و ينظر إليه ..

يقول بصوتٍ هادئ.. لكنه محمّل بالجدية :

-عارف يا حسين.. لو كنت في مكانك.. كنت هاعمل زيك بالظبط.. لمى بالنسبة لي مش مجرد بنت مراتي.. دي بنتي.. انا مقدّر لهفتك عليها.

يتنهد "حسين" بثقلٍ.. يحرّك فنجان القهوة ببطءٍ دون أن يشرب و هو يقول :

-انت عارف اني مش هقدر اشوفها زي ما انت بتشوفها.. لكني لسا عايز اعرفها.. عايز اشوفها لو حتى مرة في السنة.. اقضي معاها شوية وقت.. قبل ما العمر ينقضي و ماكنش سبتلها أي ذكرى حلوة تفتكرني بيها.

يبتسم "مراد" بحذر.. يحاول أن يخفف التوتر بينهما قائلًا :

-احنا نقدر نعمل كده.. ماتقلقش.. طالما هي اقتنعت و وافقت تدي لك مساحة في حياتها يبقى لا انا و لا ايمان هانعترض على قرارها.. انا اقدر ارتب لك زيارات في الاجازات.. سواء تسافر لها او هي تيجي لك.. مش هامنعك.. انت بردو جدها.

ينظر إليه "حسين" مبتسمًا بامتنانٍ.. يقول محاولًا إخفاء مشاعره المتضاربة :

-انا عارف انك بتعتبرها زي بنتك.. و صدقني.. انا سعيد جدًا ان ربنا عوّض لمى بأب تاني زيك.. يمكن ابوها لو كان عايش ماكنش حبها و اهتم بيها اوي زيك كده.. انا مش عارف اشكرك ازاي.. بجد على كل حاجة عملتها مع لمى.

رمقه "مراد" بنظراتٍ ثابتة.. و قال بهدوءٍ :

-مافيش داعي تشكرني يا حسين.. انا مش بعتبر لمى بنتي.. لأ هي بنتي فعلًا.. يمكن ماجتش من صلبي.. لكن انا اللي ربّتها.. فهي بنتي.

تلتمع عينيّ "حسين" بطبقةٍ بسيطة من الدموع.. في نفس اللحظة يدق هاتفه فوق الطاولة لجزء من الثانية.. يشير "مراد" بيده إلى هاتفه المحمول قائلًا :

-الماسدج دي جاية من عندك… ممكن ترد مافيش مشكلة.

يتنهد "حسين".. ثم يلتقط هاتفه.. ينقر على الرسالة الصوتية التي تصل إليه من رقم "نبيل" شريكه و زوج ابنته ..

الصوت يبدأ يظهر ببطء.. ثم يتضح جليًا في لحظة : "انت فين يا حسين.. رد عليا.. كلّمني فورًا لما تسمع الرسالة.. ابنك حياته في خطر.. ابنك اغتصب بنت.. و مش أي بنت.. فاكر عثمان البحيري اللي حكت لك عنه زمان ؟ البنت دي تبقى اخت مراته.. عثمان هنا في دبي.. تعالى إلحق ابنك يا حسين" ...

استمع "حسين" إلى الرسالة بصمتٍ.. عينيه تتسعان بصدمة ما إن يسكت صوت "نبيل".. بينما "مراد" الذي صادف و تمكن من سماعها برفقته حاله لا يقل ذهولًا عن الأخير ..

الموقف يصبح مشحونًا بشكلٍ مفاجئ.. "حسين" يقف فجأة من مكانه.. يده ترتجف و هو يضع الهاتف بجيب سترته ..

أما "مراد" يشعر ببطنه يلتوّي من هول الخبر و استعادت جزء خاص من ماضيه مع ذات الشخص.. الذي اعتدى على "ملك".. "ملك" ابنة "عثمان البحيري" ...

يتطلّع "مراد" إلى "حسين" قائلًا بصوتٍ خفيض :

-المرة اللي فاتت ابنك رجع لك مسجون.. لكن المرة دي صدقني.. ابنك ميت يا حسين.

يبتعد "حسين" عن الطاولة بسرعة كمن لدغه العقرب.. وجهه ملييء بالصدمة و الغضب.. "مراد" يظل جالسًا.. مشدوهًا.. يحدق في الهواء كما لو كانت الرسالة الصوتية التي سمعها لا تعني شيئًا حقيقيًا ..

كان "مراد" يتخيّل الموقف.. الآن فقط أدرك حقيقة سفر صديقه المفاجئ.. لكنه لم يستوعب الصدمة حتى الآن ...

 -لازم ارجع ! .. هسّ "حسين" من بين أسنانه.. و أكمل :

-مش هسمح لعثمان يعمل كده… و لا هاسمح لحد يمّس ابني !!!

ثم يبدأ في التحرك بسرعة.. يغادر القصر ركضًا.. بينما "مراد" يظل كما هو.. عاجزًا عن الحركة للحظة.. صدمته أكبر من أن يصدق ما سمعه.. انه بحاجة لبعض الوقت فحسب ..

يقف فجأة.. كأن الجسد يرفض استيعاب الواقع.. خطواته غير ثابتة.. و عقله يطير بين التفكير في "عثمان" و بين الاعتداء المريع الذي وقع على "ملك".. الطفلة البريئة ..

لقد دنّسها ذلك الوغد.. ما كان عليه أن يتركه حيًا فيما مضى.. هذه الغلطة تسبّبت اليوم بتدمير حياة فتاة لم تبلغ الحلم بعد.. الحقير ...

يرتجف "مراد" من قمة الغضب و هو يخرج هاتفه من جيب سرواله.. قلبه ينبض بسرعة.. و عقله لا يزال في دوّامة من الأفكار.. يداه تتعرقان و هو يضغط على رقم صديقهما الثالث و الذي كان ضلعًا في ذات الموقف قبل سنواتٍ خلت ..

 وضع الهاتف على أذنه في انتظار الرد.. بينما كل ثانية تمر تزيد من تعقيد الأمور في عقله ...

-افندم يا مراد ! .. رد "رامز" بلهجته اليائسة المتكاسلة

أجابه "مراد" بصوتٍ حاد و صارم في آنٍ :

-رامز.. عندك فرصة واحدة بس عشان تثبت لعثمان انك جدير بشمس.. لو مهتم.. قابلني بعد ساعة في مطار برج العرب !

**

في شقة فاخرة قام باستئجارها سلفًا ..

الأضواء خافتة تنير كل زاوية.. المكان نظيفٌ و لامع.. "عثمان" يدخل الشقة حاملاً "ملك" بين ذراعيه.. بينما هي متمسكة به بشدة.. و كأنها تجد فيه أمانًا بعد ما مرّت به من ألمٍ ..

أغلق الباب خلفه بركلة قدم.. خطواته ثقيلة على الأرض.. تحمل مشاعر مختلطة من الغضب و الألم و القلق ..

دخل الغرفة الرئيسيةعلى مهلٍ.. وضع "ملك" على السرير بلطفٍ.. نظر إليها لثوانٍ.. و كان قلبه يتألم من الداخل.. لكن وجهه كان مفعمًا بالقوة و التصميم ..

لقد أخرجها من عيادة الطبيب على مسؤوليته الشخصية.. لم يغامر بإبقائها حيث يمكن لـ"فادي" أن يجدها.. لن يسمح لمخلوقٍ بأن يمسّها ما دام هو حيًا و يتنفس.. "ملك".. التي كانت شاحبة الوجه.. و عيناها مليئتان بالدموع.. لا تستطيع حتى أن ترفع عينيها إليه.. كانت خجلة.. و كأنها تحمل عارًا لا يستحق أن يتعامل هو معه نيابةً عنها ..

أحسّ "عثمان" باضطرابها.. فقال بصوتٍ خافت.. لكنه ملييء بالعزم :

-ماتخافيش يا ملك.. انتي هنا معايا في امان..يومين بالكتير و هانرجع مصر.. و محدش بعد هايقدر يلمسك او يقرب منك.

يمسك يدها بحذرٍ.. ثم يقبّل كفّها بأبوّة.. كأنه يريد أن يطمنها أكثر.. "ملك" رغم أنها كانت مكسورة.. إلا أن لمسته كانت مثل طوق نجاة لها.. و مع كل قبلة على يديها.. كانت تهدأ قليلاً.. لكن دموعها لم تتوقف ..

فجأة.. تنهار بالبكاء.. يخرج منها صوتٍ مكتوم و كأنها تحمل كل الألم في قلبها ...

-انا آسفة ! .. غمغمت "ملك" بصوتٍ ضعيف.. و تابعت :

-آسفة اني خيّبت املك فيا… اول مرة بالطريقة اللي سبتك بيها قبل ما اسافر.. و مرة تانية دلوقتي لما حصل اللي حصل… و انا مش عارفة ارجع كل حاجة زي ما كانت ...

ينخفض "عثمان" بجسده بجانبها.. يمسح على شعرها برفقٍ.. و كأن قلبه يعتصر من الألم.. هو نفسه يتألم من داخله.. لكنه يحاول أن يكون القوة التي تحتاجها هي الآن ..

يهمس لها بصوتٍ هادئ.. ملييء بالعطف :

-دي مش غلطتك يا ملك.. ده غلطتي انا في الاول.. انا اللي سيبتك.. و انا اللي فكرت انك ممكن تكوني في امان بعيد عني… و فكرت ان اخوكي هايحميكي و ياخد باله منك.. و دي كانت غلطة كبيرة مني.. دي كمان غلطته هو… غلطته بالنسبة اكبر لانها هي اللي دمرتك ...

مسح على شعرها مجددًا.. كان يحاول أن يخفف عنها.. كأن كلمة واحدة منه قد تكون مفتاحًا لتخفيف معاناتها ..

يردد بصوتٍ حاسم :
-لكن حقك مش هايروح.. انا مش هاسيب حقك.. مهما كان التمن.. هاجيبلك حقك.

تظل "ملك" تبكي في صمتٍ.. كانت مشاعرها مختلطة.. لا تعرف كيف توازي بين الألم و الراحة التي وجدتها في وجوده.. لكنها كانت بحاجة للكلمات.. و كانت تحتاج لوقت لتستجمع نفسها ..

اقترب "عثمان" منها أكثر.. وضع يده على ظهرها بهدوءٍ ليحتويها في حضنه.. كأن جسده أصبح الحاجز بينها و بين كل شيء سييء مرّت به ..

همس في أذنها مطمئنًا :

-شششش.. كفاية بكى.. ماتخافيش.. انتي معايا هنا.. و محدش يعرف مكانك.. و محدش هايمسّك تاني طالما انا موجود.. كل حاجة هاتكون تمام.. وعد مني ..

في تلك اللحظة.. بدأت "ملك" تشعر بالطمأنينة التي كانت تفتقدها.. كلمات "عثمان" كانت كالملاذ الذي تحتاجه.. و حضنه كان يشعّ بالأمان.. رغم إنها كانت لا تزال تتألم جسديًا و معنويًا.. لكنها بدأت تهدأ.. و أخذت وقتًا لتستعيد قوتها ..

يستطرد "عثمان" بصوتٍ جاد.. فيه لمحاتٍ من الهدوء :

-لازم تحكيلي كل حاجة يا ملك.. انا محتاج منك تحكيلي.. معاكي واحدة واحدة.. مش هاسيبك قبل ما اعرف كل التفاصيل.. انتي سمعاني ؟ .. معاكي طول الليل ...

برغم الألم الذي لا يزال يعتصر قلبها.. شعرت "ملك" بثقل الطلب.. لكن وجوده بجانبها بدأ يمنحها الشجاعة ..

ترفع عينيها إليه.. تلامس نظرته بحذرٍ.. ثم تغمض عينيها.. و تحاول أن تسيطر على دموعها ..

و تبدأ تسرد ما حدث ! .
تعليقات