رواية كرسيي لايتسع لسلطانك الفصل الثاني والاربعون42بقلم مريم محمد غريب


رواية كرسيي لايتسع لسلطانك الفصل الثاني والاربعون42بقلم مريم محمد غريب




 _ شظايا الروح _ :

تقف أمام المرآة تحاول أن تلبس ملابسها.. و لكن التعب الشديد كان ظاهرًا عليها.. وجهها شاحبٌ.. و عينيها مغلقتان قليلاً.. و كأنها لا تستطيع الوقوف على قدميها أكثر من ذلك.. كل حركة منها كانت بطيئة و ثقيلة.. و كأن جسدها يرفض أن يتحمل هذا العبء ..
  
شعرت "ملك" بدوّار مفاجئ اجتاحها.. و كان رأسها يدور و كأن الأرض تميل تحت قدميها.. حاولت أن تستند إلى الطاولة لتفادي السقوط.. لكنها فشلت في ذلك.. شعرت بأن قوتها تنفد بسرعة ..

في تلك اللحظة.. تلج "هالة" إلى الغرفة.. عيناها التقطتا على الفور مشهد "ملك" و هي تكاد تنهار.. فزعت بشكلٍ مفاجئ و هي تهتف مغلقة الباب ورائها باسراعٍ :

-مالك يا ملك ؟ ايه اللي حصل ؟ إنتي مش قادرة تقفي و لا ايه ؟؟

ركضت "هالة" نحوها بسرعة.. وضعت ذراعها حول كتفيّ "ملك" لدعمها.. بينما كانت ملامح وجهها تحمل قلقًا عميقًا ..

قالت "ملك" و هي تتشبث بها بضعفٍ حاد :

-مش قادرة.. هالة.. حاسة اني هاقع …

كانت الكلمات تخرج بصعوبة من فمها.. و كأن كل نفس تأخذه كان يؤلمها.. قبضت "هالة" عليها بشدة.. تحاول أن تثبتها على قدميها قائلة :

-لازم تتحملي شوية يا ملك.. هاتبقي كويسة.. بس لازم نخرج دلوقتي.. لو فادي حس بحاجة غريبة هايسأل… و احنا مش عايزينه يعرف حاجة عن اللي حصل.

حاولت "هالة" بشتّى الطرق إخفاء القلق في صوتها.. فهي لا تريد أن تفقد السيطرة.. كانت تهمس في أذن "ملك".. تحاول أن ترفع من روحها المعنوية.. رغم إنها هي الأخرى  ما زالت كانت تشعر بثقل ما حدث لها ..

-مش قادرة… كأن رجليا فيها هوا… و جسمي تقيل ..

لكن "هالة" لم تسمح لها بأن تسقط.. بل تمسكت بها أكثر و هي تشجعها بصوتٍ ثابت على الرغم من توتر أعصابها :

-طيب خدي نفس عميق.. ملك.. هاتكوني تمام.. انا معاكي.. احنا لازم نطلع دلوقتي… اخوكي.. فادي مش لازم يحس بأي حاجة !!

أومأت "ملك" برأسها بصعوبةٍ.. و شعرت بأن هناك شيئًا في قلبها يدفعها إلى الصبر.. مع إنها كانت تتمنى لو يمكنها أن تختفي من هذا الموقف.. من الحياة بأسرها ..

باشرت "هالة" محاولاتها بأن تحرك "ملك" برفقٍ.. في حين كانت أفكارها تدور حول ضرورة إخفاء أيّ شيء عن "فادي" خوفًا من أن يكتشف الحقيقة التي لا يمكن أن يعرفها.. على الأقل الآن ! 

كانت تلك اللحظة دقيقة جدًا بالنسبة لـ"هالة".. فهي لا تريد أن تفقد سيطرتها على الأمور ...

-يلا يا ملك.. شوية كمان… احنا خلاص قربنا ..

و كانت كلمات "هالة" في تلك اللحظات تحمل نوعًا من القوة المشبّعة بالقلق.. و كانت تضع كل قوتها في محاولة جعل "ملك" تتحمّل حتى تخرج من البيت دون أن يشعر "فادي" بأيّ شيء ..

ساعدتها على الخروج من الغرفة بصعوبةٍ.. بينما كانت "ملك" تحاول أن تبدو و كأنها قادرة على الوقوف بشكلٍ طبيعي.. على الرغم من أن جسدها كان يصرخ من الألم و الإعياء ..

و لكن عندما خرجتا من الغرفة تصادف وجود "فادي" في الرواق ..

لمحت عيناه على الفور تعب أخته الذي كانت تحاول إخفاءه.. كانت تحاول أن تسند نفسها على "هالة" و عينيه انعدمت فيهما معالم الراحة.. شعر بشيء غريب في الجو.. لم يكن يعلم ما هو.. لكن الأكيد أن شيئًا ما كان غير طبيعي ..

ينظر "فادي" إليهما بقلقٍ.. و صاح متوّجهًا نحوهما بسرعةٍ :

-ايه يا هالة في ايه ؟ مالها ملك ؟ ليه مش قادرة تمشي كده ؟

و نظر إلى شقيقته متسائلًا باهتمامٍ بالغ :

-مالك يا حبيبتي ؟ انتي تعبانة للدرجة دي !؟؟

بذلت "هالة" جهدًا لكي تبقى هادئة.. لأنها تعلم بأن "فادي" لو شعر بأيّ شيء غريب سيسأل الكثير من الأسئلة و لن يسكت حتى ينتزع الحقيقة.. و لا شيء غيرها.. فحاولت أن تدارك الموقف سريعًا ...

-مافيش حاجة يا فادي.. ملك تعبانة شوية زي ما قولتلك.. شكل معدتها خدّت برد جامد مش قابلة أي اكل و لا شرب.. انا هاخدها للدكتور عشان يشوفها و يطمنّا.

ينظر "فادي" إلى وجه أخته الصغيرة.. شعر بقلقٍ أكبر.. لكنه حاول أن يظل هادئًا و هو يقول بجدية :

-انا كنت حاسس انها تعبانة و قولتلك يا هالة.. خلاص استني هنا معاها هاروح اخرج العربية من الجراج بسرعة .. 

تمالكت "هالة" نفسها جيدًا و صوتها كان حاسمًا عندما ردت عليه قبل أن يتحرّك من مكانه :

-انا هاخدها بنفسي و هاكون معاها لحظة بلحظة.. بس انت لو مشيت معانا دلوقتي مين هاياخد باله من سليم ؟ عنده كلاس سباحة بعد ساعتين في النادي و لازم حد يوصله و يهتم بيه طول الوقت.. انت عارف كويس ان مافيش حد غيرك يقدر يعمل ده لما انا بكون مشغولة.

توقف لحظة.. و كأنه يحاول أن يوازن بين قلقه على شقيقته و بين مسؤولياته الأخرى.. ظلت عيناه على "ملك" التي كانت تبدو ضعيفة لدرجة أنه لم يكن يصدق بأنها قادرة على الخروج على تلك الحالة ..

يقول "فادي" بعد تفكيرٍ قصير و هو يتنفس بصوتٍ مرتفع و قد ركّز نظره على زوجته :

-ايوه… عندك حق.. طيب خديها.. و انا هاودي سليم التمرين.. بس لو احتاجتي أي حاجة كلميني فورًا.. انا هابقى مستني أي خبر.

ابتسمت "هالة" له ابتسامة مطمئنة.. لكنها كانت تحمل في طياتها بعض القلق و قالت :

-حاضر يا حبيبي.. هاطمنك اول بأول و ان شاء الله تكون كويسة ماتقلقش.

يرمق "فادي" شقيقته بنظرة مطوّلة أخيرة.. ثم يهز رأسه قائلاً بحنانٍ جمّ :

-يارب.. يارب ماشوفش فيها سوء ابدًا !

**

كانت ردهات الفندق خالية إلا من صوت خطوات عثمان المتسارعة.. مشاعر الغضب و الألم كانت تعتصر قلبه.. لكن هذه المرة لم يكن أمامه سوى "صالح" ليواجهه ..

وقفت يده على الباب للحظة.. كأنها تعبّر عن حجم الألم الذي يحمله في قلبه.. لا يتخيّل شعوره ما إن يرى ابن عمّه.. بل ابن عدوّه و عدو أبيه.. كلّما تذكره تشتعل النار بصدره تمامًا كما يحدث الآن.. ليركّز على تلك اللحظة فقط .. 

قبل أن يطرق الباب مباشرةً.. شعر بشيء داخل قلبه يتأجج.. و لا شيء يمكنه إيقافه الآن ..

طرق الباب بعنفٍ.. ثوانٍ قليلة.. ثم فتح له "صالح" الباب ببطءٍ.. كأنما كان ينتظره !

وجهه ملييء بالارتباك.. كما لو كان يدرك بأن اللحظة الحاسمة قد حانت ..

و عندما التقى نظره بعينيّ "عثمان" فُجّر غضبٌ مكبوت لساعاتٍ.. كانت اللكمة الأولى من "عثمان" بمثابة تعبير عن كل ما عاشه خلال الساعات الماضية التي مرّت عليه و كأنها دهورًا.. كانت لكمة سريعة فاجأت "صالح" و ألقت به إلى الوراء.. لكنه لم يصرخ.. فقط سقط على الأرض و هو يحاول أن يستجمع قواه ..

-رفعت.. ابوك.. الخاين !!! 

هتف "عثمان" و هو ينقض على "صالح" مرةً أخرى.. يوجّه له لكمةً أخرى.. و كأن كل كلمة تخرج من فمه تحمل جزءًا من الغضب الذي كان يختزنه طوال الوقت ...

-رفعت الو**.. طعن شرف العيلة… شرف اخوك… شـرف أمـــي.. شـــرفـــــــــــــــــي ...

على الرغم من الألم الذي يتسرّب من جسده "صالح في تلك اللحظات لم يحاول الرد.. لم حتى يصدّ أي ضربة.. فقط شعر بكلمات "عثمان" تقتلع منه كل شعور بالكرامة.. و كان ينكسر أكثر مع كل ضربة ..

يديه معلقتان إلى جانبه في حالةٍ من الاستسلام العميق.. بينما يواصل "عثمان" ضربه في صمت.. ضربات لم تكن فقط جسدية.. بل كانت تعبيرًا عن مشاعر الجرح.. الانكسار.. الخيانة.. التي كان يعيشها في قلبه.. و كأن كل لكمة كانت محاولة لتفريغ تلك الشحنة الضخمة من الألم الداخلي.. الذي سبّبه هو له بتعدّيه على شقيقته في بيته.. ثم اكتشافه لجريرة أبيه في حق أمه و حق العائلة كلها.. و كأن الاب و الابن وجهان لعملةٍ واحدة.. و كأنهما لا يختلفان عن بعض شيئًا ..

و فجأة.. يشعر "عثمان" بشيءٍ غريب.. في وسط غيوم الغضب بدأ يلاحظ ملامح "صالح" التي تذكّره تمامًا بملامح عمّه.. "رفعت البحيري".. كل ضربة كانت تزداد قوة.. لكن الندم كان يراوده.. هذا الوجه.. الذي كان نسخة طبق الأصل عن "رفعت" جعل مشاعر الانتقام تتصاعد مجددًا في صدره مُبددة أيّ شعور بالندم تجاه "صالح" ..

توقف "عثمان" لثوانٍ.. يلهث.. محاولًا أن يستجمع أنفاسه.. بينما كان "صالح" لا يزال على الأرض.. ينزف من فمه.. عينيه مشدودتين إلى الجدران كما لو كان يحاول الهروب من نفسه.. دموعه تتساقط في صمت و هو يستشعر بأن قلبه قد تحطّم في تلك اللحظات ..

ينهض "عثمان" عنه بغتةً.. يراقب "صالح" بعينين غاضبتين.. لكنه كان يشعر في داخله بأشياء أخره.. كان هناك صراع داخلي.. رغبة في الانتقام ممزوجة بشعور بالذنب ..

هل يستحق "صالح" كل هذا العذاب ؟ هل هو حقًا جزء من تلك الخيانة ؟ أم أنه كان ضحيّة مثلما الجميع ؟

لكن حتى و هو يواجه نفسه في تلك اللحظة.. لم يستطع أن يهرب من فكرة أن الانتقام قد لا يجلب له الراحة.. كان يعرف في أعماقه بأن هذه التصرفات لن تعيد "رفعت البحيري" إلى الحياة.. لن تمكنه من الانتقام.. انتقامه الحقيقي الذي ضاع بموت النذل الحقير ...

-تخيّل يا صالح يبقى ابوك رفعت ! .. قالها "عثمان" هادئ يناقض العنف المحتدم في نظراته.. و تابع :

-انت ازاي مستحمل نفسك ؟ من زمان و انا نفسي اسألك السؤال ده.. ازاي مستحمل حقيقة انك ابن رفعـت !!؟؟؟

لا يزال "صالح" لا يرد.. و قد كانت كل كلمة تخرج من فم "عثمان" تجعله يشعر بثقل خيانة والده الذي لا يستطيع أن يهرب منه.. من نسله و اسمه.. كل حرف كان يُنزل شيئًا من كرامته.. و كانت عيناه مليئتان بالدموع.. لكنه لم يستطع حتى البكاء ..

يخرج "عثمان" عن طوره من جديد بشكلٍ مفاجئ.. يجثم فوق "صالح" ساحبًا إيّاه من تلابيبه.. محدقًا في وجهه المُدمى بنظراتٍ عنيفة ..

الحقيقة تستفزه.. تضغط عليه ليقترف جرمًا.. "صالح" حقًا نسخة من أبيه.. و كأنه ينظر إلى "رفعت البحيري".. كانت ملامحه تشبهه تمامًا.. و كان ذلك يُجدد في "عثمان" نار الانتقام.. تلك النار التي عرف بأنها لن تخمد أبدًا ..

لكن شيئًا غريبًا بدأ يحدث و هو ينظر إلى "صالح" بينما الأخير لا يتحرك.. كانت تلك اللحظة أقوى من أيّ انتقام قد يحاول تنفيذه.. كان "صالح" مهزومًا.. لم يبدِ أيّ مقاومة.. لكنه بدا و كأن روحه قد انكسرت.. كأن كرامته قد تم سحقها تحت وطأة الخيانة التي يحملها على عاتقه عن أبيه.. و لم يكن لديه ما يدافع به عن نفسه ..

الآن.. يشعر "عثمان" بموجة من الندم تعصف به.. يراوده شعورٌ غريب و هو يرى "صالح" أمامه مكسورًا.. ضائعًا.. دموعه تتساقط على وجهه بينما يرفع يديه في استسلامٍ.. ليس فقط لجروح جسده.. و لكن أيضًا لمشاعر الخزي التي ما برحت تتسرب إلى قلبه ..

يعقد "عثمان" حاجبيه بشدة.. اقترب منه أكثر.. ثم همس في أذنه :

-ابوك خاين.. و انت ضحيته انا فاهم.. لكن انت شايفني ازاي يا صالح ؟ .. هه ؟ شايفني ازاي !؟؟

يرد "صالح" فقط بهزة من رأسه.. بينما كانت دموعه تتساقط بغزارة على خديه ..

 ينهار تمامًا.. و كأن روحه تحترق.. لم يكن قادرًا على الوقوف بعد الآن.. فردد مستجديًا و هو يقبض على يديّ ابن عمّه :

-خلاص يا عثمان.. خلاص انا ماعدش ليا قيمة و لا لازمة بعد اللي سمعته.. بعد اللي عرفته.. خلّصني من العار ده.. انا مش قادر أعيش.. مش قادر اكمل.. ارجوك.. ارجوك ..

دموعه لا تتوقف عن التساقط.. تنهار بصمتٍ بينما يتركه "عثمان".. يبتعد عنه خطوتين.. لا يعرف كيف يواجه هذا المشهد أكثر.. كان عقله يصرخ بالعنف و يحضّه عليه.. بينما قلبه يعجز عن اتخاذ القرار ..

هل حقًا يستحق الجميع كل ما يحدث لهم ؟

و مع انهيار "صالح" المتزايد يشعر "عثمان" فجأة بالفراغ في قلبه.. يغادر أخيرًا مخلّفًا إيّاه ورائه بقايا انسان ..

حتى هو نفسه لم يُعد كما كان قبل نهارٌ واحد.. كأن كل شيء تلاشى.. لم يكن هناك انتصارٌ حقيقي ...

**

في عيادة الدكتور.. كان المكان هادئًا بشكلٍ غريب.. يبعث على الراحة الظاهرية.. لكن داخل قلب "ملك" كان هناك ضجيجٌ هائل ..

كانت تجلس على سرير الكشف النسائي الذي لا يُلائم سنّها البتّة.. مُحاطة بذراعيّ "هالة" التي كانت تحاول أن تواسيها قدر استطاعتها.. بينما الدكتور بدأ يُعد الأدوات ببطءٍ.. يحاول أن يكون لطيفًا قدر الإمكان ...

جسدها مشدودًا و كأن خيوطًا غير مرئية تربطها بالسرير.. حتى أن الهواء الذي كانت تتنفسه كان يبدو ثقيلاً.. مليئًا بالذكريات المؤلمة التي تتسلل إليها في كل لحظة ..

تذكّرها بكل شيء عن تلك اللحظة المظلمة التي عاشتها.. عن يديه و لمساته الثقيلة على جسدها.. عن نظراته المتسلّطة التي اقتحمت أعماقها.. جعلها تشعر و كأن جسدها لا يخصّها.. كل لمسة كانت تُعيد لها الصور.. أصواته.. ضغطه.. و قسوته.. و كلّما اقترب منها الطبيب.. كان الألم يُعيد نفسه في قلبها.. و عينيها تتناثر فيهما دمعاتٍ تكاد تمزّقها ..

الطبيب الأربعيني الذي لاحظ ترددها مرارًا.. قرر أن يكون أكثر رفقًا.. لكنه في الوقت ذاته كان يدرك بأن هذا الموقف يتطلّب الشجاعة.. شجاعة هائلة من "ملك" أن تواجِه ما مرّت به ..

تحدّث إليها بلطفٍ :

-ملك.. لازم تسمحيلي أكشف عليكي.. و ده مش هايحصل منغير ما ايدي تلمسك.. انا عارف ده صعب عليكي.. لكن من فضلك ساعديني ..

تلقائيًا اتجهت عينيها إلى "هالة" التي لا تزال تقف بالقرب منها.. وجهها يعكس القلق و الخوف.. لكن "ملك" لم تكن قادرة على التواصل معها أو حتى أن تطلب منها أيّ مساعدة.. كانت تشعر بأنها أسيرة داخل جسدها.. و أن هذه اللحظة مهما حاولت أن تتركها خلفها.. لا تزال تطاردها.. و ستظل ..

تنهد الطبيب الذي كان يدرك صعوبة الموقف.. بدأ يتحدث ثانيةً بهدوء أكثر :

-انا حاسس بيكي.. و عارف انتي بتمري بإيه.. مش هاضغط عليكي.. لكن لو تقدري على الأقل تقوليلي.. توضحي.. اللي حصل ده كان على أي وضع ؟ هابسّطهالك جدًا.. هو كان في وشك.. و لا وراكي ؟

رباه !

كانت تحاول أن تهرب من هذا السؤال منذ طرحته عليها "هالة".. لا تصدق بأنها مضطرة لتأكيده مرةً أخرى.. لكنه بدا ضروريًا.. عساها تُغلق كل أبواب الماضي الذي يطاردها بعد ذلك.. ربما !!

قلبها كان ينبض بشدة.. لكن لسانها كان ثقيلًا.. و كأن كل كلمة كانت تخرج من فمها تجرّ خلفها آلامًا لا حدود لها ..

جاوبت "ملك" بصوتٍ ضعيف مُغلّف بالدموع :

-و.. ورايا ..

كأنها أعلنت بصوتها الضعيف تلك الحقيقة التي حاولت كثيرًا أن تدفنها داخل قلبها.. و من بين شفتيها تسرّب الأنين.. فكان كما لو أن جسدها كان يصرخ في صمتٍ.. كانت الدموع تتساقط على خديها و تغرق وجهها دون أن تستطيع التوقف عن البكاء ..

نظر الطبيب إليها بتفهمٍ.. ثم نظر إلى "هالة" التي كانت تحدق في "ملك" بحزنٍ عميق.. كان واضحًا بأن الحقيقة كانت أشدّ من أن تتحملها "ملك".. لكن الطبيب كان يعلم بأنه يجب أن يستمر ..

تنهد بلطفٍ و هو يتحاشى الضغط على "ملك" قائلًا :

-طيب يا ملك.. انا عايزك تهدي خالص.. بصي اوعدك مش هاطول عليكي.. انا لازم اكشف بنفسي.. و كل ما كان اسرع كان احسن عشان نطمن عليكي و نساعدك تبقي كويسة و بخير ..

لكن "ملك" برغم محاولاتها الهروب من واقعها.. ظلّت محاصَرة داخل نفسها.. داخل جسدها الذي أصبح عدوًا لها.. كل لمسة همّ بها الطبيب كانت ترد لها الذاكرة.. و خاصةً ذكرى الألم الذي عاشته.. لا يمكن أن يُمحى بسهولة ..

شعرت كما لو أن جسدها لا ينتمي إليها.. و كأنها لا تستطيع أن تتحمل المزيد من اللمس ..

تراقبها "هالة" بعينين مليئتين بالحزن.. قامت بتقوية قبضتها على يدها.. تتمنّى أن تمنحها قوتها.. ثم تقول بصوتٍ هادئ و هي تقترب منها أكثر :

-ملك.. انا هنا معاكي.. مش هاتكوني لوحدك.. خدي نفس.. و كل حاجة هاتعدي.

إلا إن "ملك" لم تشعر بأيّ راحة.. كلمات "هالة" تتلاشى في أذنها كأنها هبة ريح.. و كأن لا شيء يمكن أن يُخفف عنها.. في كل مرة كان الطبيب يقترب منها.. كان جسدها يُظهر مقاومته.. كلّما لمسها.. تتذكر لحظات الاعتداء.. و كل لمسة كانت تعيد لها الذاكرة في شكل موجاتٍ من الألم العاطفي و الجسدي.. شعرت بأن جسدها لا يتحمل هذا الفحص.. و كأنها تحاول الهروب من كل لحظة ..

ودّت أن تصرخ.. أن تطلب منهم أن يبتعدوا.. لكنها لم تقدر ..

و بينما بدأ الكشف و اضطر الطبيب بأن يستعين باثنتان من طاقم الممرضات خاصته ليمسكوا بها و يثبتونها جيدًا.. كانت "ملك" في صراعٍ داخلي شديد.. كل حركة كان الطبيب يقوم بها.. كانت تشعر و كأنها تعيد تذكيرها بكل شيء.. الألم.. و الإحساس بالضعف و الانتهاك.. لا تستطيع أن تشرح شعورها.. جسمها يصرخ في صمتٍ.. و الأنين يتسلل عبر شفتيها دون إرادتها ..

-انا.. مش عايزة حد يلمسني.. مش عايزة.. سيبوني.. حرام عليكوا.. سيبوني بقـى ...

يتمزّق قلب "هالة" عليها في هذه اللحظات.. تراقبها بحزنٍ عميق.. تقترب أكثر منها.. مُمسكة بيدها بقوة أكثر.. كانت تشعر بكل شيء يحدث لـ"ملك".. تتفهم آلامها.. و كل دقيقة تمر كانت تزيد من تفاقم حالتها النفسية سوءًا ...

أخذت "هالة" تمسح على شعرها الذهبي مرددة بلهجةٍ حانية لكنها حازمة :

-معلش يا حبيبتي.. استحملي شوية كمان.. انا معاكي و مش هاسيبك.. انا مستحيل اخلّي حد يئذيكي يا ملك.. خليكي قوية عشان خاطري .. 

الطبيب الذي ارتسمت على وجهه علائم الأسف بينما كان يواصل فحصها.. تألم قلبه لأجلها.. فرفع يديه عنها لوهلةٍ قائلاً بهدوء :

-خلاص يا ملك.. قربنا نخلص.. استحملي شوية كمان.. محدش هايقرب لك تاني بعد كده.. اوعدك ..

لم تكن تسمعه.. فقط تنتحب بحرقةٍ و هي تشعر بالعجز مجددًا.. و كم كانت ترغب في أن تختفي في تلك اللحظة.. أن تنسحب من كل شيء حولها.. لكن ما زالت "هالة" هنا.. مُمسكة بها.. تدعمها بكل قوتها.. تحاول أن تجد الكلمات التي يمكن أن تطمئنها بها.. و لكنها لم تجد شيئًا يكفي لتهدئتها ..

بعد انتهاء الكشف.. عاد الطبيب إلى مكتبه و قد رافقته "هالة" تاركة "ملك" في عهدة الممرضات ..

جلس الأخير ليأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يتحدث مع "هالة".. كان واضحًا بأن الحالة التي كانت بين يديه للتو صعبةٌ جدًا :

 -ملك عندها تمزّق حاد في المستقيم.. ده تسبب في نزيف داخلي.. و ده كان ممكن يتجنب لو كانت جت بسرعة.. للأسف ماحصلش فهي دلوقتي محتاجة رعاية طبية عاجلة.. انا وقفت النزيف.. بس تحسبًا لأي مضاعفات هاتسيبيها عندي في العيادة هنا يومين تحت الملاحظة.

تشعر "هالة" بأن الأرض تكاد تبتلعها.. تراجعت في مقعدها ببطءٍ إلى الوراء.. و كأن كلمات الطبيب التي قالها منذ لحظاتٍ كانت تضغط عليها حتى كادت تختنق.. و قالت بصعوبةٍ :

-ملك ! .. نزيف.. للدرجة دي !!؟؟؟

يرد الطبيب و هو يهز رأسه بحزنٍ :

-انا مقدّر صدمتك يا مدام هالة.. و بطمنك بصفتي دكتورك و صديق للعائلة.. كل حاجة تمت هنا هاتكون سرية تمامًا.. اللي حصل ده فظيع انا معاكي و مايتسكتش عليه.. بس دلوقتي لازم نركز على علاج ملك.. نطمن على صحتها الأول.. دي اهم حاجة.

تستمع "هالة" إليه و هي تكاد تفقد توازنها.. نظرت إليه في صمتٍ.. و لم تستطع الرد على الفور.. كان سؤال واحد فقط يطاردها في تلك اللحظة همست به لنفسها و هي تمسك رأسها بين يديها : 

-هارجع منغيرها ازاي ؟ ازاي هقول لفادي ؟ ازاي هقوله عن اللي حصل ؟ ازاي هقوله ان اخته الصغيرة اتعرضت لده… ؟

كان سؤالًا بلا جواب.. و كان الوقت يمر ببطءٍ و كأن الأرض تدور حولها بلا توقف.. كان الألم يتضاعف في قلبها.. و لم يكن أمامها سوى أن تواجه الواقع بكل صعوبة ...

**

في مكتب "مالك عزام" بشركة أبيه ..

الجو هادئًا من حوله.. و الضوء الخافت الذي يتسلل من النوافذ العريضة يترك أثرًا باهتًا على الأرضية اللامعة.. بينما كان هو جالسًا خلف مكتبه.. مغمورًا في أفكار لا يعرف كيف يطردها ..

كان اليوم يسير ببطء.. و مهام العمل التي أمامه لا تشغله في هذه اللحظة.. ذهنه كان مشغولًا بشيء آخر.. شيء اختطفه من كل ما حوله ..

صور "ملك" تتردد في ذهنه.. لحظات لم ينسها أبدًا.. أحيانًا كانت تأتيه فجأة.. و أحيانًا أخرى كانت تلاحقه بإصرارٍ.. حتى أصبح صدى صوتها و أنينها جزءًا من تفكيره ..

كان يسترجع ما حدث بدقةٍ.. يتذكر كيف كانت تحاول الهروب ما إن صار الأمر جديًا و أكثر عمقًا.. كيف كانت تصارع بأيديها و رجليها.. و لكن في النهاية.. كانت تقاوم بلا جدوى.. في لحظةٍ ما أصبح لديها يقين داخلي بأنها لا تملك القوة للمقاومة ..

شعر بشيءٍ غريب يعتصر قلبه الآن.. كان التأنيب في داخله يهمس.. و كأن جزءًا منه يندم.. لكن جزءًا آخر كان منتشيًا.. منتشيًا لأنه نجح في كسرها.. لأنه في النهاية كان قد حصل على ما أراده : إنها خضعت له ..

يبتسم "مالك" بخبثٍ و هو يمرر يده على ذقنه.. يسترجع لحظات ضعف "ملك".. تذكر كيف كانت عيناها ملؤها الخوف و الرفض في البداية.. كيف كانت تتوسل إليه أن يتركها.. أن يتوقف.. كانت الكلمات تخرج منها بصعوبةٍ.. تتكسر تحت وقع الألم و الذل.. لكن في النهاية.. كانت كلها تختنق في حلقها.. كأنها أدركت بأن مقاومته محكومٌ عليها بالفشل ..

تذكر كيف بدأ الشعور بالتحكم يتسلل إليه.. كيف أصبحت كل حركة لها تحت سيطرته.. ثم جاءت اللحظة التي استسلمت فيها.. لحظة عندما تراجعت كل دفاعاتها الداخلية و صار جسدها الذي كان يقاومه.. خاضعًا له تمامًا.. كل دمعة كانت تتساقط من عينيها كانت تذبح قلبه.. لكن بطريقة غريبة كانت تمنحه شعورًا بالقوة التي لا حدود لها في آنٍ ..
____________

كأنها عصفورٌ محاصر داخل قفص.. كلّما حاولت التحليق كلّما وجدته هو هناك.. يضغط على جناحيها و يمنعها من الفرار.. مشاعرها تدفقت في كل الاتجاهات.. الألم.. الخوف.. الضعف.. كلها تتداخل في صراعٍ داخلها.. و "مالك" الذي لم يكن يشعر بالذنب حينها.. كان يعيش لحظة من النشوة الغريبة ..

كان يراقبها.. يراقب جسدها المتشنّج.. نظراتها المتشتتة.. يراها تحاول أن تمسك بنفسها.. لكن كل نفس تسحبه كان تتخبّط به داخل صدرها.. في محاولة يائسة للهرب من اللحظة.. و لكنها لم تكن قادرة على الهروب بينما هي محتجزة بين المقعد و بين جسده.. كل جزء في جسدها كان ينبض بالألم.. و عندما اقترب منها أكثر.. كان الألم يزداد بعمق ..

و كأن كل حركة منه تجعلها تفقد كل ما تبقى لها من كبرياء.. كل شيء تحاول أن تحتفظ به أصبح مجرد كسر آخر في ملامحها.. في روحها.. في جسدها ..

-"بليز… خلاص…" .. كانت كلماتها تتساقط.. متكسّرة.. كأنها تود أن تفرغ بعض الألم من نفسها

كانت تكافح لتحتفظ بأيّ شيء لها.. حاولت أن تحرك يديها.. لكن يداها بالكاد تتحركان ببطءٍ.. كأنها تثقلها أصفادٍ غير مرئية.. و كانت أصوات أنينها تتناثر بين الزفير الطويل الذي كان يصدر عن صدرها ..

كان هو يراقب باهتمامٍ بالغ.. لا يفوّت شيئًا.. عيناه لا تُظهر سوى البرودة.. اللامبالاة.. كان يستمتع بتلك اللحظات.. بتلك الآلام التي تخرج من "ملك" بشكلٍ غير مرئي لكنها كانت واضحة له.. كان يراها تُذبل.. تُمحى.. و كأنها لا تملك أيّ مساحة للدفاع عن نفسها.. بل هي كذلك بالفعل و قد حرص على أن تكون ...

-"انتي ضعيفة جدًا.. مش قادرة تتحملي شوية ألم ؟".. همس و هو يضغط عليها أكثر

بينما كان يراها تندفع في رغبتها نحو الخلاص.. في سعيها للاستغاثة بشيءٍ مجهول.. كان يرى كيف أن كل محاولة كانت فاشلة.. كل كلمة كانت تتساقط من فمها و تنكسر ..

يكاد يضحك عندما كانت تسحب نفسها بعيدًا عنه بكل قوتها.. لكنها في الحقيقة لا تبتعد إنشًا واحدًا.. لأنه كان في كل جزء منها.. تبكي بيأسٍ.. جسدها يذبل أكثر.. تحاول أن تغلق عينيها لتفر من الواقع على الأقل.. و لكن الألم كان يلاحقها في كل زاوية.. في كل نفس تتنفسه.. في كل حركة منه ...

-انا آسفة… انا آسفة… خلّي ده يخلص بليز…" .. كانت هذه كلماتها.. تتساقط بمرارةٍ

و كأنها تود أن تعود إلى الوراء.. إلى أيّ لحظة كانت فيها في أمانٍ.. و لكنها كانت محاصرة.. محاصرة بين يديه ..

-"خليكي شاطرة و مطيعة عشان احبك يا ملاك…” همس "مالك" بحرارةٍ و لمس خصلات شعرها المتناثرة بحركةٍ ناعمة.. و كأن لمسته تترك ندبة في قلبها

بدأ الأمر يزداد كثافةٍ غير محتملة.. زاد الضغط عليها.. و شعرت بأن حركاتها تصبح أكثر هشاشة.. أصوات أنينها كانت تتسرّب من بين شفتيها بشكلٍ غير إرادي.. حاولت أن تمنع الصوت من الخروج.. لكنها فشلت.. فكان يخرج منها بترددٍ.. ثم يتسارع أكثر و أكثر.. كأن الألم يتغلغل فيها أكثر مع كل لحظة ..

تنفست بشكلٍ ثقيل.. و كأن كل نفس كان يخرج منها على أنقاض جسدها.. كل دمعة تسقط من عينيها كانت تسرد لها حجم الذل الذي عاشته ..

تناثرت كلماتها في الهواء مرةً أخرى..غير مفهومة.. مكسورة.. و كأن الألم سيبتلعها : "ممكن… خلاص.. انا تعبت… كفاية بليز...".. كانت كلماتها عبارة عن همساتٍ قادمة من مكانٍ مظلم.. مكان كانت تحاول فيه إخفاء ذلّها.. لكنها كانت تغرق فيه أكثر ..

لو علمت الحقيقة.. بأن هذا بالضبط ما ينشده.. و أنها تمنحه مزيدًا من القوة و هي تعبّر عن معاناتها أكثر من صمتها ..

كل حركة منها كانت بمثابة دعوة للاقتحام.. دعوة لتركيز المزيد من الألم عليها.. لأن ذلك كان يملأه بشعور غريب من التفوق.. كان يراها تنزف من الداخل.. و لم يكن بإمكانها فعل شيء سوى الاستسلام ..

على العكس تمامًا.. لم يمنحها ما تريد.. بل مضى ليحطّم ما تبقّى منها.. و حتى لا يعد يشك في قدرته على تحطيمها أكثر .. و كان هذا هو الدمار النهائي لها .. 

راحت "ملك" تلتقط أنفاسها بسرعة.. و تنتفض معها عروقها.. كانت عيناها تنغلقان تدريجيًا.. و شفتيها تتحركان بشكلٍ غير منتظم.. و كأنها في حالة شبه غيبوبة من الألم ...
_____________

يخرج "مالك" من شروده.. عينيه ثابتتين على الفراغ أمامه.. الآن عقله يسبح في دوامة من الأفكار شديدة الوطأة ..

في البداية كان الشعور في قلبه كما لو أنه انتصر على كل شيء.. على كل مقاومة كانت تبديها الفتاة الصغيرة.. شعورٌ بالقوة.. بالتحكم.. بالزهو… كان الأمر كأنه تأكيد لعظمته.. كأنها لحظة كسر تلك البراءة التي ظن بأنها كانت فقط مجرد ضعفًا ..

لكنه لا يعلم لماذا يساوره بعض التوتر مع مرور الوقت.. شعور بارد يدب في قلبه… شيء يشبه الندم.. لكن ليس الندم الكامل.. كان أشبه بتأنيب خفيفٍ على شيء ما.. على تصرف كان بمقدوره أن يفعله بطريقةٍ مختلفة.. ربما بطريقة أقل قسوة.. أقل تدميرًا ..

فهي رغم كل شيء لا تزال.. صغيرة.. جدًا ..

لم يكن يصدق كيف يمكن للحظة تفكيرٌ عقلاني واحدة أن تهز كل شيء بداخله.. و كأنه عاد إلى الواقع.. إلى الوعي الذي فاته.. و رغم ذلك.. لم يكن لديه أيّ رغبة في العودة إلى الوراء ...

**

تدخل "هالة البحيري" مقر شركة "عزام للمقاولات" بتصميمٍ واضح على وجهها.. و قوة تعكس إصرارها الواضح ..

وصلت بسهولة إلى طابق مكتب "مالك عزام".. قبل أن تستطيع السكرتيرة أن تتحدث أو تعترض.. تقف "هالة" على باب مكتب الاستقبال بوجهٍ مشدود.. نظرة حازمة في عينيها.. و تخطو إلى الداخل مباشرةً ..

وسط دهشة و عدم تصديق السكرتيرة التي اندفعت باتجاهها هاتفة :

-يا مدام.. من فضلك ده مكتب مستر مالك… يا مدام مايصحش كده ...

دون أن تعير السكرتيرة أيّ اهتمام.. تتابع طريقها و كأنها لم تسمعها.. تقتحم مكتبه و كأنها عاصفة مدمّرة ..

ترتبك السكرتيرة و تشعر بمزيدًا من التوتر و هي تنظر إلى مديرها الذي يجلس هادئًا.. ينقل نظره بينها و بين الزائرة و قد بدا عليه بأنه يعرفها فعلًا ..

 يدير "مالك" وجهه نحو السكرتيرة و يشير لها بيده لتغادر الغرفة قائلًا :

-سيبينا يا هاجر لو سمحتي.. لو احتجتك هاطلبك.

تتردد السكرتيرة للحظة.. ثم تخرج من المكتب بخطواتٍ سريعة.. بينما "هالة" تقترب من "مالك" بثباتٍ ..

لم يتغير وجهه.. يظل جالسًا في كرسيه خلف المكتب الكبير.. يراقبها بعيون تحمل مزيجًا من اللامبالاة و الازدراء ...

-مالك عزام !! .. نطقت "هالة" اسمه من بين أسنانها المطبقة بشدة

يرفع "ملك" حاجبًا ببطء و هو يدير نظره إلى "هالة" بعد خروج سكرتيرته التي حاولت منعها من الدخول عبثًا.. تصرّف ببرودٍ شديد و كأن دخولها المفاجئ لا يعني له شيئًا.. يضع يده على مكتبه و يستند إلى الكرسي في راحةٍ تامة ..

يتكلم ببرودٍ و هو ينظر لها باستمتاعٍ غير مبالي :

-دي اكيد حاجة مهمة اللي خلّتك تشرفيني في مكتبي يا مدام هالة.. اتفضلي.. قولي ايه الموضوع ؟

تلتهب عينيّ "هالة" بالغضب الذي لا تستطيع تحمّله أكثر.. لكنها تظل متماسكة.. و تخطو خطواتٍ ثابتة نحو طاولة مكتبه.. تعمد إلى اقتحام المسافة بينهما ..

تقول بغضبٍ مكبوت.. و عيناها تحدقان في عينيه مباشرةً :

-امور الاستعباط دي مش هاتيجي معايا من أولها يا مالك عزام.. انا مش جايّة هنا عشان اسمع منك لف و دوران.. ملك قالت لي كل حاجة !!!

لا يتسرّع "مالك" في الرد.. يكتفي بابتسامةٍ شبه خافتة و نظراته تراقبها ببرودٍ و كأنه يستمتع بهذا الصراع .. 

يرفع كوب قهوته ببطءٍ ليرتشف منه القليل.. ثم يضعه على الطاولة أمامه.. و يقول بهدوءٍ محاولًا إثارة استفزازها :

-كل حاجة ؟ اكيد ملك كانت مبسوطة جدًا و هي بتحكي لك عني.. بس يا ترى أي جزء من اللي حصل بينّا حسيتي انه عجبها اكتر ؟

تتنفس "هالة" بعنفٍ.. متوترة و لكن غاضبة أكثر.. فجأة تتحول ملامح وجهها إلى تعبيراتٍ ناطقة بالشراسة و هي تدير ظهرها له ببطءٍ.. ثم تعود إليه من جديد مغمغمة بصوتٍ منخفض و لكنه ملييء بالتهديد :

-لو كنت مفكر انك هاتقدر تهددها او تخوفها.. يبقى انت اكيد غلطان.. ملك حفظي دي مش لوحدها.. لو حد عرف انت عملت ايه فيها.. لو اخوها فادي عرف.. او لو عرف عثمان البحيري اللي هو بيعتبرها بنته أصلا.. انت مش هاتعيش عشان تشوف صبح جديد.

يرفع "مالك" عينيه عن الطاولة و يحدق بها للحظاتٍ.. وجهه الآن مشوش بين الاستهانة و الاهتمام بما تقوله.. يتنهد قائلًا بصوتٍ بارد و هو يشير بيده بخفة :

-بصراحة ماكنتش اعرف اني شخص مهم للدرجة دي بالنسبة ليكي عشان تيجي لحد عندي و تهدديني بالاصرار ده.. تحبي تشربي حاجة ؟ 

ضحك على تكشيرتها الضارية ردًا على كلماته.. و أكمل بأريحية تامّة :

-هدّي اعصابك يا مدام هالة.. انا من اول لحظة لا فكرت اهددك و لا اهدد ملك.. انا بس عايز اقولك ان كل واحد بيختار الطريق اللي بيمشي فيه.. و اللي حصل حصل.. و في حاجات ماينفعش نرجع فيها.. ملك كانت عارفة كويس هي فين و مع مين و بتعمل ايه.. كل اللي حصل كان اختيارها.. و لو قررت انها تفتح الموضوع ده معاكي او مع غيرك هاتكون هي المسئولة عن عواقبها.. مش أي حد تاني.

تشعر "هالة" بنيران الغضب تتصاعد بداخلها.. على الرغم من البرود الظاهر على "مالك" هذا الشخص يبدو بأن لديه حقدٍ دفينٍ بعتمل بصدره ضد الآخرين.. الأمر غير محصور في "ملك" وحدها ..

تزداد كراهيتها له مع كل كلمةٍ يتفوّه بها.. تحاول أن تظل هادئة.. لكنها لا تستطيع كبح مشاعرها بشكلٍ كامل ..

تقترب من مكتبه أكثر صائحة بغضبٍ مستطير :

-انت بتقول ايه ؟ انت فاكر انك هاتعيش في سلام بعد كل اللي عملته ؟ دي بنت.. مجرّد بنت صغيرة.. و انت سافل و حيوان.. انا هاخلي حياتك جحيم انت فاهم ؟ هاتدفع تمن اللي عملته في ملك مابقاش هالة البحيري ان ما خلّيتك تندم !!

يتنهد مرةً أخرى و هو يحدق في عينيها نحوها بثباتٍ.. و ترتسم على شفتيه ابتسامة باردة.. لا يبدو أنه متأثر بأي تهديدات منها.. يبدو و كأن كل شيء بالنسبة له مجرد صفقة معقّدة يجيد التعامل معها ..

يرد "مالك" بهدوءٍ مستفز دون أن يمحو ابتسامته :

-من غير تهديدات.. انتي بتضيّعي وقتك معايا يا مدام هالة.. مافيش حاجة تثبت اني غصبت ملك على أي حاجة.. هي نفسها اكيد قالت لك انها سليمة.. انا ماقرّبتش منها ..

هتفت باستنكارٍ فجّ :

-ماقرّبتش منها ؟ لا انت كده بتستعبط بجد.. انت عارف كويس انت عملت فيها ايه.. و انا من اول ما شوفتك قلت لك انها حكت لي كل حاجة.. ماتحاولش تتلوي عليا في الكلام انا بحذرك ..

يرمقها "مالك" بتحدٍ واضح في عينيه و يقول بابتسامةٍ مائلة :

-انتي مصرّة تدخلي في موضوع مايخصكيش يا هالة.. اسمعي طيب اخر اللي عندي.. انا مأجبرتش ملك تيجي معايا في أي مكان لوحدها.. هي اللي قررت تزوغ من المدرسة و تيجي معايا ..

و تابع عاقدًا ذراعيه أمامه في وضع استرخاء تام :

-من الاخر انتي اللي عندك مشكلة.. ملك لو كانت عايزة تعمل حاجة كانت عملت من نفسها.. لكن ده بردو مش موضوعي.. ملك مش طفلة صغيرة و هي عارفة هي اختارت ايه كويس اوي.. اما انا.. لو عايزة تهاجميني و خلاص هكون مستعد.. بس مش هاتلاقيني ضعيف ابدًا !

في هذه اللحظة ..

يدخل "نبيل الألفي" إلى المكتب بلا مقدمات.. تبدو على وجهه علامات الدهشة عندما يرى "هالة" في المكتب مع "مالك"..  لم يتوقع أن يجدها هنا مطلقًا و بالنظر إلى الجو المشحون هنا فهي تبدو كأنها قد جاءت لترى "مالك" تحديدًا.. لا تراه هو خالها ... 

-هالة ! .. هتف "نبيل" مستغربًا.. و تابع متوجهًا نحوها على مهلٍ :

-ايه الحكاية ؟ ايه اللي جابك هنا ؟ هالة.. مالك يا حبيبتي ؟

لا ترد "هالة" عليه.. يراها تنظر نحو "مالك" فقط و انفعالاتها العنيفة تظهر بارتجافة يديها ..

ينظر "نبيل" صوب "مالك".. ليبتسم له الأخير ابتسامة عريضة و هو ينهض من مكانه بهدوءٍ..  و يشير إلى الكرسي بجانبه لـ"نبيل" كما لو كان يريد أن يريحه ...

-تعالى اقعد يا نبيل ! .. قالها "مالك" بابتسامةٍ باردة.. يعرض على "نبيل" الجلوس

و تابع :

-الظاهر هالة كانت جايالك بس اتلخبطت و دخلت لي.. مافيش مشكلة انا ممكن اسيب لكوا مكتبي عشان تقعدوا براحتكوا ..

و همّ بالذهاب فعلًا.. ليمسك "نبيل" برسغه قائلًا :

-استنى بس ..

و عاود النظر إلى "هالة" متسائلًا :

-في ايه يا هالة !؟

تبقى "هالة" واقفة.. عيونها تتألق بغضبٍ مكبوت.. و تسمع كل كلمة.. لكنها لا تستطيع أن تتحمّل النظر إلى "مالك" أكثر.. تشعر بأن هذه المواجهة لم تنتهِ بعد.. و أن هذه المعركة ستظل عالقة في ذهنها لفترةٍ طويلة.. بل أنها سوف تصعّدها لتعلق بالواقع نفسه ..

-مافيش حاجة ! .. قالتها "هالة" بلهجةٍ جافة.. و أردفت باقتضابٍ :

-هابقى اكلمك يا خالو.. باي.

و تنظر إلى "مالك" للحظة.. ثم تخرج من المكتب دون أن تقول كلمة إضافية.. فهي ليست مستعدة الآن لمواجهة أخرى.. و لن تفضح "ملك" أبدًا حتى و لو أمام خالها ..

تستقلّ سيارتها متنفسة الصعداء.. تستلّ هاتفها من حقيبتها لترى عشرات المكالمات و الرسائل الصوتية الفائتة من "فادي".. لكنها تتجاهلها كلها و تجري الاتصال بدون أدنى تردد به ..

بـ"عثمان البحيري" نفسه.. ابن عمّها ..

حاولت مرة و إثنان و عشرة.. لكنه لم يفتح الخط مطلقًا.. فزفرت بقوة ضاربة المقود بقبضتها.. فكرت لثوانٍ.. ثم قرّبت الهاتف من فمها لتبعث له برسالةٍ صوتية :

-كلّمني فورًا يا عثمان.. الموضوع يخص ملك.. مالك في مصيبة.. و انا خايفة من فادي.. بليز كلّمني ...

و أنزلت الهاتف سامحة لدمعة واحدة بأن تفرّ من عينها.. مسحتها بسرعة.. ثم شغّلت محرّك السيارة و انطلقت عائدة إلى المنزل ..

بدون "ملك".. حيث عليها أن تواجه "فادي" 

تعليقات